أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَالَتْ يَا أَيهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِن الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزةَ أَهْلِهَا أَذِلةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِني مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:32-35].
كان القارئ فتح الله عليه يقرأ مرتين من أجل أن يستفيد المستمعون، ورأى بعض الصالحين أن تكون القراءة مرة، وبعد نهاية الدرس مرة ثانية؛ للتذكير بما سمعنا في الآيات. وهو رأي حسن، وسنعمل به من الليلة إن شاء الله.
قال جل ذكره: قَالَتْ يَا أَيهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي [النمل:32]. القائلة هذه هي بلقيس ملكة سبأ في الديار اليمانية، وهي تبعد عن صنعاء بعدة أميال. وقالت بلقيس هذا لأنها قرأت كتاب سليمان، كما درسنا البارحة، وكان كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله سليمان بن داود إلى فلانة. فقالت لرجالها وهم الوزراء والعسكريون وأرباب المال وأهل الدولة، وهم الملأ، والملأ: من إذا نظرت إليه ملأ عينيك بكماله وقوته، فقالت لهم: يَا أَيهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي [النمل:32].
فهذه الملكة -وعليها ألف سلام؛ لأنها أسلمت، ولكن كانت في هذه الأيام ما زالت كافرة؛ لأنها ورثت الملك من أبيها- لا شك أنها كانت ذات بصيرة وذات معرفة، وذات خبرة وذات حياة كاملة، وإلا لما ملكت.
فينبغي على المسئولين أن يكونوا كـبلقيس ، سواء كانوا ملوكاً أو وزراء، أو مديرين أو رؤساء بلديات، فيجب أن يأتسي بها رئيس البلدية، فيجمع أعيان القرية أو الحي ويستشيرهم فيما يريد أن يقول، والوزير كذلك، ووزير التعليم كذلك. وهذه سنة الله في الخلق. وأما الاستبداد وأخذ الرأي وحده بدون استشارة فصاحبه دائماً ساقط هابط. وهذه هداية الله عز وجل. وقد قص الله هذا القصة علينا والله من أجل أن ننتفع بها، ولنعتبر ونقوي إيماننا، ونهذب آدابنا وأخلاقنا، ونرشد سياستنا؛ لأننا من أولياء الله، وهو لن يخذلنا الله ونحن أولياؤه.
فهنا بلقيس قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32]. وأصلها: تشهدوني، فحذفت الياء، والأصل: تشهدونني، فحذفت النون أيضاً للنصب؛ لأن حتى ناصبة كأن.
من اللطائف التي ذكر عبد الله بن عباس ونقلها عن بني إسرائيل: أن أحدهم كان إذا ركب الفرس وضغط عليه وجرى بقوة يضغط عليه الرجلين فيقف ويجلس من قوته. فقد كان الراكب للفرس يدلي رجليه ويدفع الفرس إلى أن يسرع ويجري ويشتد لذلك، فإذا أراد أن يوقفه ما يقول له: قف، بل يضغط عليه فخذيه فلا يستطيع أن يتحرك من شدة القوة، ولذلك قالوا: نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ [النمل:33]. والبأس يكون في الحرب، فإذا قاتلنا وحاربنا يشاهدون بأسنا وقوتنا. وَالأَمْرُ إِلَيْكِ [النمل:33] يا ملكة! وهكذا خاطبوها، مع أنهم قد يكونون أكمل منها. ولكن سنة الله أننا إذا بايعنا أحداً وملكناه يجب أن نجله ونكبره ونعظمه. فإذا عيناك رئيساً على المدرسة أو على كذا فنحترمك، وإلا فليس هناك فائدة في هذا التعيين، ولأن الفوضى ممنوعة في الإسلام، وكلها شر.
وهذا هدي أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فقد قال: ( إذا سافر ثلاثة ) من بلد إلى بلد سواء في البر أو البحر ( عليهم أن يؤمروا أحدهم ). وليس هناك سياسة أعظم من هذه. فإذا أمروه فواجبه أن يستشيرهم ولا يستبد عنهم، وواجبهم أيضاً أن يشيروا عليه، ويقبلوا إشارته، وهذا في سفر. ومن باب أولى ألا يقبل الفوضى في أمة كاملة وشعب كامل وإقليم كامل.
فهؤلاء الرؤساء رجالات الحرب والبلاد قالوا: وَالأَمْرُ إِلَيْكِ [النمل:33] يا بلقيس ! فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل:33]. ونحن معك، فكري وانظري ماذا تريدين، ونحن نوافق عليه.
فهم إذا دخلوا بالقوة ولم يكن هناك مصالحة ولا مهادنة فلابد أن يغيروا البلاد رأساً على عقب. وهذه كلمتها قبلها الله وكتبها ونزلها علينا، فقال: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34].
وقوله: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا [النمل:34] جمع عزيز، وأذلة: جمع ذليل. وهذه طبيعة البشر، فهم لما يدخلون بالقوة ويدمروا الجيش الذي قاتلهم يغيروا البلاد رأساً على عقب. وهذه سنة الله. وهذا كلام حكيم.
ثم قالت: وكذلك يفعل هؤلاء إذا دخلوا دياركم، أي: سليمان وجيشه، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]. فهيا نفكر كيف نتخلص منهم، ولو قلنا: القتال وقاتلناهم فلو انتصروا علينا استحلونا ودمرونا وقضوا علينا، ولكن هيا نبحث عن طريق رشيد؛ حتى نخلص من الفتنة والدمار والخراب. فقد كانت ذات عقل. وهذا عجب.
والآن كاد الغربيون يسوون بين لباس المرأة والرجل، وأصبحت المرأة حتى في المدينة تلبس البنطلون كالرجل.
واحر قلباه ممن قلبه شبم
فزي المرأة يجب أن يثبت كما هو، وزي الرجل يجب أن يثبت كما هو، وفي الحديث: ( من تشبه بقوم فهو منهم ). والديوث أو المخنث هو الذي يلبس لباس المرأة، ويتزيا بزيها، بل هو ذلك الذي يحلق شاربه ووجهه حتى يكون كالمرأة.
فهذه الملكة عجب، فقد بعثت عدداً من الشبان والشابات في زي واحد، وكأنهم كلهم ذكور أو إناث، وقالت: نمتحن سليمان صاحب هذا الكتاب، وننظر، فإذا كان مؤمناً ربانياً ذا دين فهو لن يرضى بهذه الصورة أبداً، بل سيفصل الرجال عن النساء، وإذا كان مادياً هابطاً إلى الأرض فسيفرح بذلك ويغني.
وبالفعل ما إن رآهم سليمان حتى قال: افصلوهم، أي: افصلوا النساء على جهة وأبعدوهن، وما رضي بهذا. فرضي الله عنهما أجمعين!
والهدية هي أن تقدم لمن تحبه شيئاً؛ ليزداد حبه فيك، ولتزداد رغبتك في مواصلته والاتصال به، وفي الحديث: ( تهادوا تحابوا ). وأما أن يهدي هدية من أجل أن يفسد أو يثير فتنة بين الناس أو كذا فهذا لا يصح أبداً.
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يردها، ولا يقبل الصدقة أبداً ولا يأخذها. وهذه خصوصية للحبيب صلى الله عليه وسلم، وليست عامة في الأمة. والآن مشروعية الهدية فقط.
وقوله: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ [النمل:35]، علمنا ما قال ابن عباس من أنها لبنة من الذهب، أي: طوبة من الطوب من اللبن، وأنها بعثت له ذاك الجيش.
وقوله تعالى: فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:35]. سوف يأتي هذا إن شاء الله، ونعرف بما رجع سليمان عليه السلام، أو بما رجع رجالها إليها.
قال: [ معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم عن حديث قصر الملكة بلقيس ] والقصر معروف [ وها هي ذي تقول لرجال دولتها ما حكاه تعالى عنها بقوله: قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي [النمل:32]، أي: أشيروا علي بما ترونه صالحاً ] نافعاً [ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا [النمل:32]، أي: قاضية باتة فيه ] ولا أقدر على أن أبت فيه [ حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32]، أي: تحضروني وتبدوا فيه وجهة نظركم. فأجابها رجالها بما أخبر تعالى به عنهم: قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ [النمل:33] عسكرية من سلاح وعتاد وخبرة ] وهذا الذي يجب أن يكون للدولة الإسلامية ائتساء بـبلقيس ، لا أن يكون الجيش مهدداً محدوداً، أو عير مدرب ولا عاملاً، ولا أن يكون جيشنا ممزقاً، بل يجب أن يتحد المسلمون تحت راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويبايعون إماماً واحداً، وأن تكون أقطارهم وأقاليمهم كلها تابعة للخلافة، وكلها مقاطعات وولايات لها، وأن تطبق الشريعة الإسلامية فيها على الصغير والكبير، وأن تكون أمة الإسلام كلها موصولة بالملكوت الأعلى، وإذا كنا هكذا فما هي إلا ساعات وقد دخل الناس في دين الله أفواجاً. ولو يتحد المسلمون ويبايعون إماماً لهم، ويطبقون شرع الله آداباً وأحكاماً، وأخلاقاً وقضاء والله لارتعد الغرب والشرق، ودخلوا في الإسلام.
قال: [ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ [النمل:33] ] أي: وأصحاب بأس شديد [ عند خوضنا المعارك ] فنذيق العذاب لمن يقاتلنا [ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل:33] ] فالأمر إليك يا ملكة! فانظري أنت ماذا تأمرين [ به فأمري ننفذ ] ونفعله كما شئت [ إنا طوع يديك ] واستجابوا لها، وقالوا: قولي وأمري نفعل كما شئت [ فأجابتهم ] أي: الملكة بلقيس [ بما حكاه الله عنها: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً [النمل:34]، أي: مدينة عنوة بدون صلح ] بل دخلوها بالقوة بالعنوة، وليس بالصلح والمهادنة [ أَفْسَدُوهَا [النمل:34]، أي: خربوا معالمها، وبدلوا وغيروا فيها ] وهذا شأنهم [ وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34] بضربهم وإهانتهم، وخلعهم من مناصبهم التي كانوا عليها. ويقع هذا كله. وهذا قطعاً هو الواقع [ وَكَذَلِكَ [النمل:34] ] أي: [ أصحاب هذا الكتاب يَفْعَلُونَ [النمل:34] ] وصاحب الكتاب سليمان بن داود عليهما السلام، أي: وكذلك أصحاب هذا الكتاب الذي وصلني يفعلون [ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:35]، أي: الذين نرسلهم من قبول الهدية ورفضها ] وماذا يقولون، وماذا شاهدوا، وماذا سمعوا، وماذا قال لهم هذا الملك. وقد عرفتم أنها امتحنته لتعرف هل هو ملك دنيوي أو ملك رباني ونبي من أنبياء الله، فعرفت أنه نبي الله.
قال: [ وعلى ضوء ذلك نتصرف، فإنهم إن قبلوا الهدية المالية فهم أصحاب دنيا، وإن رفضوها فهم أصحاب دين، وعندها نتخذ ما يلزم حيالهم. ولا شك أن هذه الهدية كانت فاخرة وثمينة ] وقد قال ابن عباس : كانت لبنة من الذهب.
[ من هداية الآيات:
أولاً: تقرير مبدأ الشورى في الحكم ] وقد وسعنا هذا كما سمعتم. فعلى كل مسئول أن يستشير من معه، سواء كان مسئولاً في البلدية .. في المدرسة .. في الوزارة .. في المصنع؛ لأن الإنسان إذا استبد فقد يهلك ويهلك غيره، فلا بد من التعاون، وحسبنا قول ربنا لمصطفاه صلى الله عليه وسلم: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]. ورسول الله كان يشاور أبا بكر وعمر وعثمان . وهذا أمر الله.
وقد ذكرت لكم أن الإمارة ضرورية، وأنت في بيتك أمير، فإياك أن يفسد أولادك وبناتك، أو أن تلبس البنات البنطلونات، أو يرتفع في البيت الصياح والضجيج، أو أن يبقى الأولاد يعبثون طول الليل ويصرخون في الشوارع. فيجب على رب البيت وولي الأمر أن يرعى هذا البيت، ولا يترك بناته وأولاده يعبثون طول الليل أمام التلفاز، ثم ينامون من الغد بلا صلاة ظهر ولا صبح ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء. وهذا والله وقع عندنا، ووا أسفاه! فعليك يا ملك! أن ترعى بناتك وأولادك وزوجتك وأمك في بيتك رعاية كاملة، وأن تؤدبهم وتعلمهم، وأن ترزقهم ما هو كمال وسلام وسعادة، لا أن تعطيهم أوساخ الدنيا وأوضارها.
[ ثانياً: مشروعية إبداء الرأي بصدق ونزاهة، ثم ترك الأمر لأهله ] فنحن لما يبدو لنا شيء نرفع إلى المسئولين ما رأيناه، ونترك الأمر إليهم، فإن رأوه صالحاً فعلوه، وإن لم يروه صالحاً تركوه. ونحن يجب علينا أن نبدي الرأي، والملكة أبدت رأيها لرجالها، وكذلك أنت ارفع ما تراه حقاً أو خيراً أو صالحاً للأمير .. للمسئول .. للمدير .. لكذا، وهو بعد ذلك يرى ما يرى. وهذا من باب: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]. لأنه قد يكون ناسياً .. غافلاً .. غالطاً لا يدري.
[ ثالثاً: مشروعية إعداد العدة وتوفير السلاح، وتدرب الرجال على حمله واستعماله ] وتدريب الأفراد على القتال أمر واجب في كل العالم، والكفار فازوا بهذا، والمسلمون نصيبهم قليل في هذا، وسلاحهم قليل، ورجالهم قليلون، وقل ما شئت في هذا. فهم ما أخذوا بهذه الآية، وما سمعوها طول حياتهم، ولا قرأوها، وإلا لعلموا أن رجال بلقيس قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ [النمل:33]. وطرحوا الأمر لها؛ لأنها الحاكمة والملكة.
[ رابعاً: دخول العدو المحارب الغالب البلاد عنوة ذو خطورة، فلذا يتلافى الأمر بالمصالحة ] فإذا أرادت أن تحاربنا بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا ننظر، فإن كنا قادرين على دفعها وهزيمتها؛ لأن سلاحنا كسلاحهم، ورجالنا كرجالهم، فنقاتل ونهزمهم ونسبيهم، وإذا عرفنا أننا ما نقوى على قتالهم فمن الخير أن نصالحهم وأن نهادنهم، وأن نعطيهم شيئاً، ولنا مثل نبوي كريم نسيتموه، ففي غزوة الخندق جاء المشركون فعرض الرسول على اليهود أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة؛ من أجل ألا يعلنوا حرباً، وألا يقاتل المسلمون ويقتلون، إلا أن سعد بن معاذ ما رضي، وقال: لن نعطيهم. ولكن الرسول استشار، وكان قد رضي بأن يعطيهم ثلث الثمر.
[ خامساً: بيان حسن سياسة الملكة بلقيس وفطنتها وذكائها، ولذا ورثت عرش أبيها ] ووليت الحكم، وبايعها الناس، لأنها كانت مع أبيها غاية من غايات الكمال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر