وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أما بعد: عباد الله! اتقوا الله واعلموا أن المحن محك لايخطئ، وميزان لا يظلم؛ يكشف عما في القلوب؛ ويظهر مكنونات الصدور؛ ينتفي معه الزيف والرياء؛ وتنكشف معه حقيقة الصدق بجلاء.
إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى معه غبش ولا خلل؛ إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه لولا المحن.
قد يظن الإنسان في نفسه قبل المحن التجرد والنزاهة؛ فإذا وقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، تميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط، عندها يدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، فمن الخير له أن يستدرك نفسه قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154].
بالمحن تستيقظ الضمائر، وترق القلوب، وتتوجه إلى بارئها؛ تضرع إليه وتطلب رحمته وعفوه معلنةً تمام العبودية والتسليم الكامل له، لا حول ولا قوة إلا به، لا مهرب منه إلا إليه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه، لا إله إلا هو
باقٍ فلا يفنى ولا يبيد ولا يكون غير ما يريد |
منفرد بالخلق والإرادة وحاكم جل بما أراد |
سبحانه وبحمده!
عباد الله: وصور المحن والمنح في السيرة كثيرة وجليلة، وجديرة بالتملي والتأمل، والحديث كما تعلمون بل كما تشعرون عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه، حديث تحبه وتجله النفوس المؤمنة، تأنس به قلوب بالإيمان هانئة مطمئنة، حبه في شغاف القلوب والأفئدة، وتوقيره قد أُشْرِبَتْ به الأنفس، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
صفحة مُلِئَت بأحداثٍ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب.
صفحة جسدت الصدق والإخلاص والقدوة في الصبر على الضراء والشكر على السراء تطبيقاً عملياً ماثلاً.
إنها صفحة بُدِئَت باستنفار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لملاقاة من؟
لملاقاة الروم يوم تحركوا بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم ليطفئوا نور الله بأفواههم: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
إنه استنفار وأي استنفار! في أيام قائظة، وظروف قاسية، في جهد مضنٍ ونفقات باهظة، طابت الثمار، واستوى الظلال، وعندها بدأ الامتحان؛ ليسطر في آيات الكتاب بإفاضة واستيعاب.
أفاضت آيات الله في أنباء الطائعين والمثبطين، واستوعبت أنباء المخلصين والقاعدين، فيالها من مشاهد وأحداثٍ في تنوع مثير!
يجيء المعذرون لِيؤذن لهم، ويقعد الذين كذبوا الله ورسوله، ويتولى الذين لم يجدوا ما يحملون عليه بفيض دموعهم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، ويرجف المرجفون: لا تنفروا في الحر ونار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون، والساقط في الفتنة يقول: ائذن لي ولا تَفْتِنِّي وفي الفتنة وقع، ( فر من الموت وفي الموت وقع).
وآخرون يلمزون ويسخرون من المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
ومنهم رجال تخلفوا عن ركب المؤمنين لا عن شكٍ ولا عن نفاق، لكن غلبتهم أنفسهم، وأدركهم ضعفهم البشري، مع سلامة إيمانهم ومعتقدهم رضي الله عنهم وأرضاهم على رأس هؤلاء صحابي جليل، مجاهد نحرير، لن يبلغ ألف رجل منا بالقول ما بلغه مرة واحدة بالفعل، لكنه بشر -تبقى له بشريته- غير معصوم.
لنقف مع صفحة من صفحات حياته، صفحة تتضمن قصة الخطيئة، وحقيقة التوبة؛ أهي قول باللسان، أم هي الندم الدافع لعمل الجوارح والأركان، والتأثر البالغ في النفس والجنان؟
صفحتنا مثبتة في الصحيحين ، راويها صاحب المعاناة فيها، فاسمع إليه عبد الله ،تجد كلامه يدخل الأذن بلا إذن، أصغ إليه وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا عن (سوف) كيف صنعت به، فيقول وقد تخلف عن تبوك : وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت راحلتان عندي قبلها قط، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزاة في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً وعدواً كثيراً، فجلىَّ للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد.
والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ؛ لا يكاد يجمعهم كتاب، فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل وحي الله فيه، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه.
قال: فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتدارك الغزو وفات، وهممت أن أرتحل فأدركهم -ويا ليتني فعلت- فلم يقدر لي ذلك ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها. ولسان حاله يقول:
ندمت ندامةً لو أن نفسي تُطاوِعني إذًا لقطعت خمسي |
عباد الله: إن كعباً رضي الله عنه يعيش كل يوم مع (سوف)، وهذه والله ليست مشكلة كعب فحسب؛ إنها مشكلة كبيرة في أمة الإسلام: مشكلة التسويف؛ استطاع الشيطان أن يلج إلينا من هذا الباب الواسع ونحن لا نشعر، حال به بيننا وبين كثير من الأعمال قد عزمنا على فعلها وقلنا: سوف نعملها ولم نعمل، كم من مذنب قال: سوف أتوب وداهمه الموت وما تاب! كم من باغ للخير عازم عليه وأدركه الموت ولم يستطع ذلك؛ حال بينه وبينه الموت!
كم من عازم على الخير سوفه، كم ساع إلى فضيلة (سوف) ثبتطه وقيدته، فالحزم الحزم في تدارك الأمور وترك التسويف! فإن (سوف) جندي من جنود إبليس
فاطرح سوف وحتى فإنهما داء دخيل |
يقول كعب : فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين أصحابه-: {ما فعل
يا أيها المسلمون: إن معاذاً رضي الله عنه لم يسعه السكوت وهو يرى من ينال من عرض أخيه المسلم فبادر بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكت كما يفعل البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}، {من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة} ويعلم أيضاً أن الساكت كالراضي والراضي كالفاعل؟!
والله -يا رسول الله- ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك
}.صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، لا التواء ولا مراوغة.
علم كعب أن نجاته في الدنيا والآخرة إنما هي بالصدق، وقد هدي ووفق إلى الرشد والصواب، والموفق من وفقه الله.
يقول كعب : فقمت وسار رجال من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك -يا كعب - قد أذنبت ذنباً مثل هذا، أوقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر له المخلفون؟ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: يقول: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي.
عباد الله: ما أشد خطر صديق السوء! كاد يهلك كعب بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق وهم يدفعون به إلى وادٍ سحيق من الهلاك، هلك فيه جمع كبير من المنافقين.
إنها مقالة ويا لها من مقالة! كثيراً ما تتكرر في مجالسنا! يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غِرٌ لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم! أرأيت هؤلاء عندما وصفوا الأمر لـكعب بأنها أول كذبة ولا ضير فيها، وسيعوضها استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل؛ يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر.
فمن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم |
وانظر أخي في الله كيف تكاتف المجتمع المسلم بكامله وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، نعم. إن الرقابة لله! حتى ولو كان ابن عمه، نعم. إن المراقبة لله! إن أضر شيء على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدوراً رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعة وازدراءً عاماً لكان دافعاً إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح.
انظر لذلك الأسلوب التربوي العميق المتمثل في تلك المقاطعة النفسية والاجتماعية التي شملت مختلف مجالات الحياة الاجتماعية في الأسواق وفي المساجد ومع الأصدقاء بل حتى مع بني العمومة بل مع الزوجة، فلم تترك منفذاً يمكن أن يخل بهذه المقاطعة أو يحول دون تحريك الغاية التربوية منها، كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتؤلف، وذلك عين الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقضي باللين في مكانه والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.
يقول كعب : فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل السوق: من يدل على كعب ؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً؛ ممن؟ من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: أما بعد: قد بلغني أن صاحبك -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ومضيعة؛ فَالْحَقْ بنا نُواسِك.
قال: فلما قرأتُها قلت أيضاً: هذا من البلاء -هذا من الامتحان- ثم تيممت بها التَّنور، فسجرته بها -أحرقها يا عباد الله- هذا هو ديدن أعداء الله يتحسسون الأنباء ويترصدون الفرص والأخبار، وكم من أقدام في مثل هذا زلَّت وانزلقت.
إن المسلم قد يخطئ لكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر؛ قد يخطئ فيتخلف عن الغزو في سبيل الله، لكنه لا يتبع هذا بخيانة الأمة وموالاة أعداء الله ومظاهرتهم على المؤمنين.
إن أداة المعصية حين تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرةَ بعد الكرةَ، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة، فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا هو الحل.
إن آلة المعصية التي توجد في المنازل وفي المكاتب وفي غيرهما حين تترك -بعد العلم بضررها والتوبة منها- مدعاة لأن يضعف أمامها يوماً ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها إلا من عصم الله، فلينتبه وليتخلص منها كما فعل كعب بالرسالة، يمم بها التنور فسجرها، ولا يزال البلاء والتمحيص بـكعب؛ حتى أمر باعتزال زوجته، فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
قال: فخررت ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفت أن قد جاء الفرج.
وجاء الفرج وانبلج الفجر بعد أن بلغ الليل كماله في السواد، وأدرك كعب عظم نعمة الله عليه بسبب صدقه، فقال بعد ذلك: والله ما أنعم الله علي بنعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأتي البشرى، وأيُّ بشرى يا عباد الله! بحسن العقبى، بشرى بالعودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون البشائر والجوائز.
يقول كعب : فلما جاءني الذي بشرني نزعت له ثوبَيَّ فكَسَوْتُه إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبيْن فلبستهما.
الله أكبر! ما أعظمه من تعامل للصحابة مع أخيهم! بالأمس القريب لا يتحدثون معه ولا يردون عليه السلام، واليوم يتنافسون فيمن يصل إليه أولاً ليبلغه نبأ التوبة.
إنه حب الخير لأخيهم كما يحبونه لأنفسهم، ولكن تحت ضوابط الشرع وأوامر الشارع.
قال كعب : فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وهو يبرق سروراً وجهه كأنه فلقة قمر: {أبشرْ يا
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118].
وفاز الصادقون بصدقهم، وحبط عمل الكاذبين، واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين.
وظهر الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، هؤلاء هم رجال الصدق، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تخرجوا من مدرسة النبوَّة، صِدْق في الإيمان، قوة في اليقين، صدق في الحديث، صدق في المواقف، صٌبر عند اللقاء، اعتراف بالخطيئة، كلمة الحق في الرضا والغضب من غير تنميق عبارات أو تلفيق اعتذارات: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً صادقين مخلصين يقولون الحق وبه يعدلون.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وعودوا معي -والعود أحمد- إلى كعب بن مالك صاحب القصة رضي الله عنه وأرضاه، فإن الأمر لم يقف عند بشارته بالتوبة وتهنئته بالقبول، إنما جلس كعب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم معلناً التأكيد لهذه التوبة والتمسك بها، قائماً مقام الذاكرين الشاكرين التائبين المخبتين، قائلاً: ( يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك).
ثم يعلن أخرى رضي الله عنه التمسك بالصدق سلوكاً ثابتاً في مستقبل حياته إذ بالصدق نجا، فيقول: ( يا رسول الله! إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت) حاله كحال الآخر الذي يقول: والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت.
يقول: فو الله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمَّدْتُ كذبة مذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، والله ما أنعم الله عليَّ نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. لم يا كعب ؟
قال: ألا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا شرَّ ما قاله لأحد، يوم قال سبحانه: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95-96].
عباد الله: الصدق فضيلة وطمأنينة وصفة من صفات المؤمنين فعليكم به، وليكن قدوتكم كعباً وصحبه ومن اقتدى به؛ فليس بينكم وبينهم حاجب.
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك |
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك |
تحرَّوْا الصدق، وإن رأيتم الهلكة فيه؛ فإن النجاة فيه، وإياكم والكذب، وإن رأيتم النجاة فيه؛ فإن الهلكة فيه وعظيم الفتنة به، وكم تركت الفتن من قلب مقلب وهوى مغلب، وكم سار في طريقها من كادح، فكثر الهاجي وقل المادح.
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فكن الحر وخذها بزمام |
واصدق حديثك إن المرء يتبعه ما كان يبني إذا ما نعشه حملا |
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين الصابرين الشاكرين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر