إسلام ويب

وفاة الرسول صلى الله عليه وسلمللشيخ : أحمد القطان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إنه نداء إلى من عظمت مصيبته في موت حبيب من أحبابه؛ ليذكر مصيبته في المصطفى صلى الله عليه وسلم، يوعك عليه الصلاة والسلام كوعك رجلين، ومع ذلك ما يمنعه أن يمتثل أمر ربه في أن يودع أصحاب البقيع ويستغفر لهم، ولا يمنعه مرضه في أن يوصي أمته بوصايا مهمة في مرض موته، ثم بعد ذلك يختار الرفيق الأعلى، وقد قرت عينه بإبلاغه لأمته الوصايا المهمة في دين الله.

    1.   

    النبي صلى الله عليه وسلم يودع أهل البقيع ويستغفر لهم

    الحمد لله رب العالمين،الحمد لله بالإيمان والإسلام والقرآن،الحمد لله الذي سقانا الغيث على ذنوبنا، دعوناه فأجابنا،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم،وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والصحابة أجمعين، ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    عباد الله: إني أوصيكم ونفسي بتقوى الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] .

    عباد الله: إن أحبكم في الله، وأسأل الله أن يحشرني وإياكم في ظل عرشه ومستقر رحمته.

    اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين.

    اللهم أحسِن ختامنا، وارزقنا الشهادة في سبيلك مقبلين غير مدبرين بعد طول عمر، وحسن عمل، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

    اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

    يَخْرُج النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل وتتبعُه أم المؤمنين عائشة، ويتبعه خادمه أبو مويهبة : (إلى أين يا رسول الله؟ فيقول: أُمِرْتُ أن أستغفر لشهداء وموتى البقيع، ويصل إلى مواقع الشهداء، ويرفع يديه إلى الله يدعو دعاءً طويلاً في ظلام الليل، ثم يقول: لِيَهْنِكُم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه) يهنئ الشهداء بما أصبحوا، أصبحوا وأرواحُهم في حواصل طير خضر ترتع في أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، هناك عند أرحم الراحمين: (لِيَهْنِكُم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه ...).

    بماذا أصبح الناس؟

    أصبح الناس بهموم هزيلة، وآمال مقطوعة يقطعها الأجل، ومعظم أهل القبور يموتون وهم مشغولون في الدنيا، لم يحققوا الآمال، ولم يصلوا إلى الطموحات.

    أما الشهداء فقد بذلوا الروح والدم لله رب العالمين، هم الذين حققوا ما يريدون.

    بماذا أصبح أهل الدنيا؟!

    تنافُسٌ وتصارُعٌ وتحاسُدٌ وتباغُضٌ وتدابُر، أصبح أهل الدنيا في مؤامرات، أصبح أهل الدنيا أرحامهم مقطوعة إلا من رحم الله.

    وبماذا أصبح الشهداء؟! (للشهيد عند الله سبع خصال:

    يُغْفَر له عند أول دفعة من دمه.

    ويرى مكانه في الجنة.

    ويُجار من عذاب القبر.

    ويأمن الفزع الأكبر.

    ويُوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما عليها.

    ويُزَوَّج باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين.

    ويُشفَّع في سبعين من أقاربه) .

    هذا الذي جعل الشباب الفلسطيني يخرجون من بيوتهم في ظلام الليل وهم أطفال، الأم تستحوذ على فلذة كبدها خلف الباب وهو يتفلت:

    أَيْ بُنَي! يقتلك اليهود، ممنوعٌ التجوُّل، الحظر من السادسة إلى السابعة صباحاً، إن خرجت قتلوك.

    قال: دعيني، أنا أريد القتل في سبيل الله، ليس من أجلي فقط، بل من أجلكِ أنتِ حيث أن الشهيد يُشَفَّع في سبعين من أهله وأقاربه، وستكونين أول من أشفع له بإذن الله رب العالمين، يا أماه! إن الروح روحي، فدعيني أبذلها في سبيل ربي.

    الأطفال كيف تقنعهم وهم الذين تتعلق قلوبهم بحذاء جديد، وبثوب جديد، وبقطعة حلوى؟!

    كيف سَمَت هممهم وتطلعت أشواقهم إلى الله وما عند الله، وكأن واقع حالهم يقول: وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك؟!

    كيف تستطيع أن تقنع الطفل بهذا إلا أن تعطيه شيئاً أعظم من الدنيا وزخارفها، وهو ما عند الله من نعيم.

    طفل لم يستمتع في الحياة، يعلم أن ما مر من عمره قصير، وأمامه زمن طويل فيه ما فيه من الآمال والأشواق والطموحات والملذات والأنس، حتى هذه اللحظة لم يكوِّن أسرة، ولم يستمتع بدنيا، ولم يستلذ بنساء، إنه ينتظر مستقبلاً باهراً زاهراً يريد أخذ الشهادات والمؤهلات، ثم يقطع هذا كله ويستعجل: إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى، لا بد أن تعطي مثل هذا الطفل شيئاً أعظم من الدنيا وما عليها.

    هذا هو السر!

    قال: (... أُمِرْت أن أستغفر لشهداء البقيع ...) إنه يودع الدنيا بالاستغفار للشهيد، يعطينا المسار الحقيقي، الهم الذي ينام عليه الناس ويستيقظون عليه لقمة الخبز، والهم الذي ينام عليه المجاهد أعظم من هذا بكثير.

    سألتُ أحد المجاهدين والقصف فوق رأسه قلت له: عبِّر عن شعورك.

    فقال: إن شعوري الآن ليس في الدنيا، إن شعوري الآن على باب من أبواب الجنة، أنتظر أن أقرع بجمجمتي أحد أبوابها الآن.

    من أين جاء هذا الشعور؟!

    جاء بهذا الدافع: (من قاتل المشركين اليوم صابراً محتسباً فقُتِل أدخله الله الجنة، قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) بهذا الدافع تتحرك الجيوش، وتنتصر الأمم، ويوجد في نفوسها من الهمم العظام ما تتضاءل وتصغُر قمم الجبال عندها.

    1.   

    تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين الخلود في الدنيا ولقاء الله وجنته

    ثم ماذا يقول؟ (... أقْبَلَت الفتن كقطع الليل المظلم -وهو يدعو للشهداء يحدث من حوله- أقْبَلَت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرُها أولَها، وآخرُها شر من أولِها، يا أبا مويهبة! إنني خُيِّرت بين الخلود في الدنيا وكنوزها، وبين لقاء الله والجنة، فاخترتُ لقاء الله ...) هذا هو الاختيار الحقيقي، اختيارك لقاء الله ليس بالأمر السهل، وخاصة عندما تتلفت حولك فترى صبياناً صغاراً يفتحون أفواههم ينادون الخبز، عندما تنظر أمامك فترى أموالاً تريد تنميتها، عندما تلتفت خلفك ترى زوجة تقف لك في الباب حاملاً تقول: لِمَن تدع هذا الجنين؟ الأموال والأولاد مجبنة مبخلة، أما أصحاب الكراسي والمناصب والزعامات والرئاسات فهم عن هذا الشعور في واد سحيق.

    عند ذلك تقول عائشة : (... وارأساه يا رسول الله!) تشكو من الصداع، ماذا سيعطيها الآن من الدواء؟! وكثيراً ما تشكو النساء! وما أكثر هموم النساء! أعطاها دواءً ناجعاً، الشفاء فيه مضمون (قال: لا عليك يا عائشة، إن مُتِّ غَسَّلْتُكِ بيَدَيَّ، وكَفَّنْتُكِ بيَدَيَّ، وصليتُ عليكِ، ودفنتُكِ ...) شرفٌ ما بعده شرف، منـزلة ما بعدها منـزلة، تهون أمامها الآلام والأحزان والمصائب!

    من ينال التغسيل بيد الطاهر المطهَّر محمد صلى الله عليه وسلم؟!

    من يستطيع أن يَصِلَ لكي يُصَلِّي عليه الحبيب المحبوب؟!

    أي صداع سيبقى بعد الآن؟! وأي حزن سيتم في النفس على فراق دنيا؟!

    وسَبَقَ أن جاءته فاطمة تسأله خادماً: (انظر يا رسول الله! أَكَلَتِ الرحى يدَيَّ، قال: ألا أعطيك خيراً من الخادم؟ إذا أويتِ إلى فراشكِ سبحي الله ثلاثاً وثلاثين، واحمدي الله ثلاثاً وثلاثين، وكبري الله أربعاً وثلاثين، فظلت تفعلها وزوجها إلى أن ماتا) هكذا تعالَج القضايا المادية التي لا يستطيع الإنسان تحقيقها، ويعجز أمامها بعطاء روحي إيماني؛ فإذا الحياة إشراق، وإذا الدنيا جمال، وإذا القلب معلق في بيوت الله، يتسابق إلى الصالحات، ويحارب المنكرات، وهل هناك أطيب من حياة الراضي بقضاء الله؟!

    ثم يقول: (... بل أنا وارأساه -يخفي حقيقة لا يشكو إلى أحد- بل أنا ورأساه يا عائشة ...) حيث إنه يحس بصداع يكاد يفلق رأسه؛ ولكنه لا يشتكي، ما منعه الصداع من الخروج في جوف الليل وتلبية أمر الله، والدعاء للشهداء، وزيارة الموتى، بل والله يراه الناس يتلبط على الأرض فهو بشر، يحزن، يمرض، يجوع، يتعب، ينام، ينصَب، فهو بشر، لا يوجد في ديننا تقديس الأشخاص: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف:110] الفرق بيني وبينكم: يُوحَى إِلَيَّ فسُحقاً للحكام الذين يريدون أن يقدَّسوا، وأن تصفق لهم الجماهير على تفاهاتهم، وعلى عهود ووعود منقوضة! وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [الأعراف:102].

    1.   

    وصايا النبي لأمته في مرض موته

    (... ويعود إلى البيت صلى الله عليه وسلم ويقع طريح الفراش. إنك لَتُوْعَك وعكاً شديداً يا رسول الله! فيقول: نعم، إنني أُْوْعَك وَعْكَ الرجلين منكم .. نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاءً ثم الأمثل فالأمثل ...) أيها الدعاة! في أقبية السجون، في الزنازين الانفرادية، في الظلام الدائم الدامس، لا تمارسون أدنى حقوق الإنسانية: عزاؤكم محمد صلى الله عليه وسلم، يُوْعَك وَعْك الرجلين.

    من وصاياه صلى الله عليه وسلم النهي عن اتخاذ القبور مساجد

    (... ويقع طريح الفراش، وأمهات المؤمنين حول رأسه يسرِّين ويخففن عن ألمهن بحديث ...) ما الحديث؟!

    النساء عندما يردن التسلية يتحدثن عن الفساتين، يتحدثن عن سعر الأسواق، عن كماليات البيوت، إلا من رحم الله من المجاهدات الداعيات الآمرات المسلمات المؤمنات.

    إنهن يتحدثن عن قضية عقيدة وتوحيد، عن كنيسة وما فيها من تماثيل وتصاوير وما فيها من خرافات وانحرافات، وقد تآمر اليهود على دين النصارى فحرَّفوه، كان دين توحيد فجعلوه وثنياً، الأب والابن وروح القدس، أقانين عجيبة! كيف يكون إلهاً ثم يكون مذبوحاً؟! وإذا ما قص الإله أظفاره أيُلقي بعضه في الأرض؟! وكيف يتآمر اليهود على شنقه ووضع الشوك على رأسه وهو ابن إله، وابن الإله إله مثله، والفرع يعود للأصل؟!

    إن قالوا: ذُبِح فيه الناسوت -أي: الجانب البشري- فإن جانب اللاهوت الإلهي يعلم بذبحه لأن الإله يعلم الغيب، فكيف اللاهوت يسكت عن ذبح الناسوت؟! تناقض عجيب! وخرافات بعضها على بعض.

    وبينما هو يسمع أحاديث التصاوير والتماثيل والقبور والأضرحة المقدسة فَتَح عينيه وهو في مرض الموت ثم قال: (لعن الله اليهود والنصارى إذا مات فيهم الرجل الصالح صوروا له التصاوير، ومثَّلوا له التماثيل، وجعلوا قبره مسجداً، وأوقدوا عليه السُّرُج، ألا لا تجعلوا قبري مسجداً، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ...) والحمد لله أنه ما دفن في مسجد، إنما دفن في بيته في غرفة عائشة ، وظلت منعزلة عن المسجد حتى تمت التوسعة، فدخلت غرفته وبيته داخل المسجد، فهو الآن في غرفته وفي بيته وليس في المسجد؛ حقَّق الله أمنيته وطلبه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

    من وصاياه صلى الله عليه وسلم الأمر بالمحافظة على الصلاة

    ... ويأمر بإحضار الوضوء، فإذا استطاع أن يتوضأ ويصلي في الناس صلَّى، أو قال: (مروا الناس فليصلوا، مروا أبا بكر فليصل بالناس، فإذا اشتد عليه الكرب وضع يده في الماء البارد، ويمسح وجهه ويقول: اللهم أعني على كُرَب الموت وسكراته، الصلاة.. الصلاة.. وما ملكت أيمانكم ...) التوصية بعمود الدين، إذا سقط العمود سقطت الخيمة على مَن تُظِل ومن تحمل، الصلاة! ماذا بقي للمسلمين اليوم؟! لا يدفع الزكاة إلا أقل القليل، والحكم بما أنزل الله مهجور، والمناكر تفشت، ولم يبق إلا الصلاة عباد الله، وصية محمد صلى الله عليه وسلم.

    من وصاياه صلى الله عليه وسلم الإحسان إلى النساء

    ... وتمر اللحظات عليه وهو في فراشه -ماذا يقول؟! وبِمَ يوصي؟!- (استوصوا بالنساء خيراً ...) إذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، وتنفس الدين، ووجد المجال للتطبيق، والأسرة مركزها الأم فالأم مدرسة.

    من وصاياه صلى الله عليه وسلم ألا يجتمع دينان في جزيرة العرب

    ويوصـي ألا يَبْقَيَنَّ دينان في جزيرة العرب ، والآن في جزيرة العرب أكثر من مائة دين: (... لا يَبْقَيَنَّ دينان في جزيرة العرب ...) ولو تفحصتَ قلوبَ أهل جزيرة العرب على المستوى الرسمي والعامي لوجدت قلباً على دين (الكِرِمْلِن) وقلباً على البيت الأبيض جلله الله بالسواد.

    أين تنفيذ الوصية؟! وأبلغ ما يُكرم الموصَى وصيَّه بعد موته: أن ينفذ وصيته. (... لا يَبْقَيَنَّ دينان في جزيرة العرب ...) أعْطَيْنا كلَّ الأديان قلوبنا وولاءنا وعواطفنا ومشاعرنا، إذا التفتنا إليهم ابتسمنا، وإذا التفتنا إلى أهل ديننا عَبَسَت وجوهنا، وإذا رأينا الخبير الخبيث قد جاء يحمل المؤامرة في حقيبته قلنا: أهلاً وسهلاً بالصاحب، وإذا تخرج المسلم الملتزم وضعناه في أقل المناصب! هُزال روحي، وتبعية، ولا عز لنا إلا بالعودة إلى وصايا الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على أمرين لن تضلوا بعدهما أبداً: كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم).

    اللهم أعنا على حفظهما وفهمهما والعمل بهما والدعوة والجهاد لهما إنك على ذلك قدير، اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء حزننا، وذهاب همنا إنك على ذلك قدير.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    إلى الرفيق الأعلى

    الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لهذه الأمة.

    أيها الأحباب الكرام: ويضع الحبيب المحبوب رأسه على صدر عائشة ، بين سَحْرها ونَحْرها، وتسمعه يهمس قائلاً، ينادي: (مع الرفيق الأعلى، مع الرفيق الأعلى. فتقول: فعلمتُ أنه لا يختارنا ...) ينـزل عليه جبريل يُخَيِّرُه فيختار الرفيق الأعلى: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69] هذا هو الرفيق المنشود، لا أولئك الرفقاء الحمر، الرفيق الأعلى يختاره محمد في آخر لحظاته صلى الله عليه وسلم. (... فيتفصَّد العرق من جبينه، ويخرج رذاذ بارد من فمه، ويميل رأسه على صدر الصديقة بنت الصديق ، وتفيض روحه إلى الله).

    1.   

    حال الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم

    وتخرج عائشة تخبر الناس والصحابة ينتظرون في المسجد لا يذهبون إلى بيوتهم من الحزن، فلما بلغهم الخبر بكوا، وسقط عثمان على الأرض يتلبط، وابن مسعود وعمار يبكيان بكاءً حاراً، وأبو بكر لشدة ملازمته ذهب لحظةً يتفقد أهله، فجاءه الخبر وهو في بيته، وعمر يحمل السيف يقول: [ما مات رسول الله -إنه لَيَقْطَعَنَّ رقاب الكافرين والمنافقين- لا تقولوا: مات، مَن قال ضربتُ عنقَه بهذا السيف].

    وجاء الصديق هادئاً شامخاً ثابتاً، وكشف عن وجه الحبيب فقبَّله بين عينيه وقال: [طبتَ حياً وميتاً يا رسول الله، طبتَ حياً وميتاً يا رسول الله].

    أما طيبه حياً فقد شهدوه جهاداً وثباتاً وصبراً وجوداً، يسمعون الصيحة في الليل المظلم والشتاء القارس، أسدٌ يزأر، فيخرجون في الظلام يتدافعون ويتشجعون وإذا به يعود إليهم على صهوة جواده، ينفض فروتَه، تبرق عيناه، تبسُم شفتاه، والسيف معلق على صدره، ويقول لأمته: (لن تُراعوا، لن تُراعوا، فقد كُفِيتم) الآن يودعونه في الثرى، الآن يدفنونه بأيديهم.

    يُقَبِّلُه: [طبتَ حياً وميتاً يا رسول الله].

    أما طيبه حياً فما صحبناه وأما طيبه ميتاً فقد جاءنا خبره وسيرته وجهاده، وجاءنا شوقه يوم أن قال: (واشوقاه إلى إخواني، فقالوا: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، إخواني من يأتون من بعدي فيؤمنون بي، عمل أحدهم كخمسين منكم) يشتاق إلى إخوانه ونشتاق إليه، نشتاق إلى لقائه، نشتاق إلى حوضه، نشتاق إلى لوائه، وإلى الصراط الذي يعبره، وإلى باب الجنة الذي يقعقعه، نشتاق إلى زيارته في الفردوس الأعلى، كيف لا والحديث يتكلم عن رؤيا يراها المسلم في المنام ثم يتمنى لو فقد أهله وماله وولده برؤيا منام يراها في النبي صلى الله عليه وسلم؟!

    ويتقدم الصديق ويرتقي المنبر ويقول: [أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] .

    فيقول الفاروق: أهذه آية في كتاب الله يا أبا بكر؟!

    فيقول: نعم.

    قال: لكأني أسمعها الآن!

    وخَرَّ جاثياً على ركبتيه، وسقط السيف من يديه، وتيقن الناس أن رسول الله قد مات].

    ثم تقدموا يختارون قائداً للأمة، لم تمنعهم الأحزان على أن يجتمعوا على قلب رجل واحد، اختاروا الصديق لدنياهم؛ لأن الحبيب اختاره لدينهم.

    ثم بعد ذلك بعد توحيد الكلمة، والقيادة، والمنهج، والصف، تقدموا على الحبيب يُصلُّون عليه أفواجاً وأفواجاً، ثم دفنوه في مكانه الذي مات فيه، وفاطمة تقول: [كيف طابت نفوسكم وأنتم تحثون التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!] وعمار وبلال يقولان: [والله ما إن دفنا رسول الله حتى أحسسنا بنقص الإيمان في قلوبنا].

    ودعوه وانطلقوا يجاهدون في سبيل الله، الوحي الذي كان ينزل عليه توقف، والمعجزات التي تتفجر بين أصابعه نضبت، وبقيت معجزة خالدة إلى يوم الدين: كتاب الله، وسنة رسوله.

    عباد الله: في هذه اللحظات ترتقي أمة محمد صلى الله عليه وسلم في مصابها من آلام الحزن إلى مقام العمل والمسئولية، إنها أمة جهاد، إنها أمة عمل، لا تثبطها الأحزان ولا المصائب، وهو يقول: (من أراد أن تهون عليه مصيبته فليتذكر مصيبته فيَّ، فإنها من أعظم المصائب) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35].

    قال الصحابة: [يا ليتنا متنا قبله، ولم نشهد موته، فقال معن بن عدي : أما أنا فما أحببت أن أموت قبله بل أحببت أن أموت بعده! قالوا: لِمَ يرحمك الله؟! قال: لكي أصدِّقه ميتاً كما صدَّقته حياً] صدِّقوه ميتاً يرحمكم الله، دوروا حيث يدور، الزموا منهجه، جاهدوا جهاده، قولوا أذكاره، دافعوا عنه، أحبوه، وحُبُّه: باتباعه لا بالابتداع: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

    اللهم إنا نشهدك على حب نبيك، وأصحابه، وأمهات المؤمنين.

    اللهم اجعلنا ممن يحل حلال الإسلام، ويحرم حرامه.

    اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام.

    اللهم انصر المجاهدين في فلسطين .

    اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان .

    اللهم انصر المجاهدين في أريتيريا.

    اللهم انصر المجاهدين في أرومو .

    اللهم انصر المجاهدين في الفليبين .

    اللهم انصر المجاهدين في أرض لبنان .

    اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، انصر المجاهدين، وأكرم الشهداء، وثبت الغرباء، وفك المأسورين والمسجونين من إخواننا المسلمين.

    اللهم عجِّل فرجهم، وفُك قيدهم، واحقن دماءهم، وسلِّم عقولهم، وصُنْ أعراضهم.

    اللهم إنا نسألك أن ترينا في أعدائك وأعدائنا عجائب قدرتك، احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا يا أرحم الراحمين!

    اللهم إنا نسألك لأمتنا في مشارق الأرض ومغاربها قائداً ربانياً، يحكم بكتاب الله وتحرسه، لا يخضع للبيت الأبيض، ولا يركع للبيت الأحمر، شعاره:

    نحن الذين بايعوا محمداً     على الجهاد ما بقينا أبداً

    هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان.

    رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:127-128].

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    إِنَّ اللَّهَ يَأْمُـرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَـانِ وَإِيتَـاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

    اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767573056