قال المؤلف في الفقرة التي قبل هذه: (ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، فأراد المؤلف رحمه الله الرد على الرافضة الذين يجيزون نكاح المتعة؛ لأن نكاح المتعة لا يكون بولي وشاهدي عدل, ونكاحهم نكاح مؤقت, فيتفق الرجل مع المرأة وقد لا يتفق مع وليها, وكذلك الأحناف الذين يقولون: إنه يصح النكاح بدون ولي, وهو يشير إلى حديث: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) وفي حديث آخر (أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل) وفي الحديث الآخر: (لا تزوج المرأة نفسها، ولا تزوج المرأة المرأة، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها).
فلا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وكذلك لا تحل له بعد طلاق الثلاث؛ لقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] ثم قال بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَهَا يعني: الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا [البقرة:230] فإذا أبقاها عنده بعد الطلاق الثلاث فإن نكاحه يكون زنا والعياذ بالله؛ ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله النكاح بولي وحكم الطلاق.
ثم قال: (ولا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا بإحدى ثلاث: زان بعد إحصان, أو مرتد بعد إيمان, أو قتل نفساً مؤمنة بغير حق فيقتل به), يشير بهذا إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة) فنفس المسلم معصومة إلا إذا ارتكب واحدة من هذه الثلاث، والإحصان المراد به الزواج، فالمحصن هو الذي تزوج في عمره ولو مرة واحدة، فإذا زنى وكان قد تزوج ولو مرة في العمر ولو لم يكن معه زوجة ولو ليلة واحدة دخل بها على امرأته فيسمى محصناً، فإذا زنى فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت, أما إذا زنى وهو بكر ولم يتزوج فإنه يجلد مائة جلدة ويغرب عاماً عن البلد.
(أو مرتد بعد إيمان): وهو التارك لدينه المفارق للجماعة، فإذا ارتد المسلم فإنه يقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه).
والثالث: (إذا قتل نفساً مؤمنة بغير حق فإنه يقتل به), فهذه الثلاث إذا ارتكب المسلم واحدة منها أحل دمه, وما عدا ذلك فهو معصوم الدم والمال؛ ولذلك قال المؤلف: (وما سوى ذلك فدم المسلم على المسلم حرام أبداً، حتى تقوم الساعة).
(وكل شيء مما أوجب الله عليه الفناء فإنه يفنى)؛ لقول الله سبحانه وتعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]؛ ولقوله سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]؛ ولقوله سبحانه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]؛ ولقوله سبحانه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30-31]فكل شيء يفنى ممن أوجب الله علية الفناء إلا الأشياء التي كتب الله لها البقاء، وهي ثمانية أشياء، ذكر المؤلف منها: الجنة والنار، فهما دائمتان مخلوقتان لا تفنيان، والعرش والكرسي، واللوح والقلم والصور، والمقصود بالصور الأرواح إذا خرجت، إذا خرجت روح الميت نقلت إلى الجنة ولها صلة بالجسد، وروح الكافر تنقل إلى النار ولها صلة بالجسد، والبدن يفنى ويدخل التراب ثم يعيده الله خلقاً جديداً ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور فتعود الأرواح إلى أجسادها مرة أخرى، فالأرواح باقية إما في نعيم أو في عذاب, وقد ذكر المؤلف سبعة أشياء، والثامن هو عجب الذنب وهو آخر فقرة في العمود الفقري، فقد جاء في الحديث: (كل ابن آدم يفنى إلا عجب الذنب منه خلق ابن آدم ومنه يركب)؛ ولهذا يقول النووي :
ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي نار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
وهذه الأشياء باقية بإبقاء الله لها, والجهم بن صفوان يرى أن الجنة والنار تفنيان, وقد أنكر عليه أهل السنة وبدّعوه وضللوه وكفروه.
(ثم يبعث الله الخلق على ما ماتوا عليه), وجاء في الحديث أن كل إنسان يبعث على ما مات عليه, فمن مات على الخير يبعث على الخير, ومن مات على الكفر يبعث على الكفر, ثم يبعث الله الخلق على ما ماتوا عليه يوم القيامة ويحاسبهم بما شاء, وجاء في الحديث: (أن الله يحاسب الخلائق في وقت واحد, لا يلهيه شأن عن شأن) فيحاسبهم في وقتهم كما أنه يخلقهم ويرزقهم ويعافيهم ويجيب سؤالهم في وقت واحد.
لكن المخلوق ضعيف، فلو كلمك اثنان أو ثلاثة أو كلمتهم لما استطعت، ولكن الله سبحانه وتعالى يفرغ من حسابهم بقدر منتصف النهار, ثم ينتقل أهل الجنة إلى الجنة في وقت القيلولة ويقيلون فيها، قال الله عز وجل: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24].
(يحاسبهم بما شاء، ففريق في الجنة، وفريق في السعير, ويقول لسائر الخلق ممن لم يخلق للبقاء: كونوا تراباً) جاء في الحديث: أن البهائم تبعث يوم القيامة ويقتص من بعضها البعض حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء, إذا كانت الشاة التي لها قرون نطحت أختها الشاة التي ليس لها قرون, تأخذ حقها منها، فإذا أخذت حقها منها قال الله لها: كوني تراباً، فتكون، وحين ذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].
وهذا مما يجب الإيمان به, فيجب الإيمان بالقصاص بين الخلق كلهم يوم القيامة، وأن الله تعالى يقتص للخلائق بعضهم من بعض, سواء من بني آدم ومن غير بني آدم ومن السباع والهوام، وحتى للذرة من الذرة إذا اعتدت عليها فيأخذ الله عز وجل لبعضهم من بعض، وفي الحديث: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) حتى ماتت جوعاً, فالعدوان على الحيوانات فيه إثم، والمرأة دخلت النار بسبب هرة اعتدت عليها وربطتها حتى ماتت جوعاً.
وهذا معنى قول المؤلف: (الإيمان بالقصاص)، أي: يجب على المسلم أن يؤمن بالقصاص يوم القيامة, وأن الله تعالى يقتص للمظلوم من الظالم سواء كان من بني آدم أو من السباع والهوام وحتى للذرة من الذرة, وحتى يأخذ الله عز وجل لبعضهم من بعض فيأخذ لأهل الجنة من أهل النار.
فإذا كان هناك حق لواحد من أهل النار على واحد من أهل الجنة فإنه سيأخذ حقه منه, وإذا كان هناك حق لواحد من أهل النار على واحد من أهل الجنة فسيأخذه منه، فاليهودي والنصراني غير الحربي مثلاً لا يجوز قتله ولا أخذ ماله بغير حق؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) ودمه معصوم، فإذا اعتدى مسلم عليه وقتله أو أخذ ماله أو سرق منه، أو اقترض منه قرضاً ولم يعطه حقه فإن المعاهد يقتص من المسلم يوم القيامة، فدم الكافر حلال وماله حلال إذا كان محارباً وبيننا وبينه حرب وقتال، أما إذا كان ذمياً وليس بيننا وبينه حرب فهو معصوم الدم والمال لا يجوز قتله ولا يجوز أخذ ماله؛ ولهذا قال المؤلف: (حتى يقتص لأهل الجنة من أهل النار, وأهل النار من أهل الجنة, وأهل الجنة بعضهم من بعض, وأهل النار بعضهم من بعض). وأهل النار كل يأخذ حقه ممن اعتدى عليه من أهل النار، وأهل الجنة كل يأخذ حقه ممن اعتدى من أهل الجنة، وأهل الجنة يأخذون حقهم ممن اعتدى عليهم من أهل النار، وأهل النار يأخذون حقهم ممن اعتدى عليهم من أهل الجنة؛ ولهذا إذا تجاوز المؤمنون الصراط أوقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، وقد قيل إنها طرف الصراط، فيقتص لأهل الجنة بعضهم من بعض، وكل واحد يأخذ حقه قبل أن يدخل الجنة، فإذا اقتص بعضهم من بعض نزع الله الغل من صدورهم، ودخلوا الجنة في غاية من الصفاء وغاية من سلامة الصدور، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
يجب إخلاص العمل لله، وهذا شرط في صحة العمل، فلا يصح أي عمل إلا بالإخلاص، فإذا لم يخلص الإنسان عمله لله صار شركاً، وفي الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه يقول الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) وقال سبحانه وتعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] فالعمل لا يصح إلا بشرطين: الشرط الأول: أن يكون خالصاً لله فإن لم يكن خالصاً صار شركاً.
والشرط الثاني: أن يكون صواباً على هدي وسنة رسول الله، فإن لم يكن صواباً صار بدعة, وقد جمع الله بين هذين الشرطين في قوله: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110] وهذا شرط الصواب، وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] وهذا الإخلاص، وقال سبحانه: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22] وإسلام الوجه هو إخلاص العمل لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125] الإحسان: أن يكون العمل صواباً موافقاً للشرع، ودل على الإخلاص أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ودل على صواب العمل قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه الشيخان وفي لفظ لـمسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
يستحب للإنسان أن يرضى بقضاء الله، ويجب أن يصبر على حكم الله، والصبر عند المصيبة معناه: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عما يغضب الله، وهذا هو الواجب، فلا يلطم الإنسان خداً ولا يشق ثوباً ولا ينتف شعراً، وهذا من النياحة, فالصبر على أقدار الله واجب، أما الرضا فهو مستحب.
(والإيمان بما قال الله عز وجل), كذلك يجب الإيمان بشرع الله ودينه، والإيمان بالأوامر والنواهي.
(الإيمان بما قال الله عز وجل وأخبر به في كتابه وعلى لسان رسوله، والإيمان بأقدار الله كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها).
والإيمان بالقدر له مراتب أربع لا بد منها: المرتبة الأولى: العلم. والإيمان بأن الله علم كل شيء، فعلم الأشياء قبل كونها في الأزل، وعلم ما يكون منها في المستقبل والحاضر، وعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
والمرتبة الثانية: الإيمان بأن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] وهو اللوح المحفوظ، وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22]، وفي الحديث: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء).
والمرتبة الثالثة: الإيمان بإرادة الله الشاملة لكل شيء, فكل شيء في هذا الوجود شاء الله وجوده.
والمرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد. وهي الإيمان بأن الله خلق كل شيء، قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2].
(قد علم الله ما العباد عاملون) وهذه المرتبة الأولى وهي مرتبة العلم.
(وإلى ما هم صائرون) فقد علم الله ما العباد عاملون في المستقبل، وإلى ما هم صائرون في الآخرة إما إلى جنة أو إلى النار، وهم لا يخرجون من علم الله.
(لا يكون في الأرضين ولا في السموات إلا ما علم الله عز وجل) قال الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وهو اللوح المحفوظ، اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8].
قوله: (وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، هذا من الإيمان بالقدر، ولا يجد الإنسان طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه, وأن الشيء الذي أصابك لا يمكن أن يخطئك وأن تسلم منه ما دام مكتوباً عليك، والشيء الذي يخطئك وتسلم منه لا يمكن أن يصيبك؛ لأن الله قدر ذلك, ولا خالق مع الله عز وجل؛ لقول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، فمن قال إن هناك خالقاً مع الله فهو مشرك، وقد أشرك في ربوبية الله.
ثبت في صحيح البخاري : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى
جاء هذا من قول الحسن بن قتيبة والحسن البصري، وذلك أن الله تعالى وكل بالقطر ملكاً وهو ميكائيل، وجبريل موكل بالوحي، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، فهؤلاء الأملاك الثلاثة هم رؤساء الملائكة وهم مقدمون عليهم؛ ولهذا توسل النبي صلى الله عليه وسلم بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة في حديث عائشة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل استفتح بهذا الاستفتاح: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
قال العلماء: توسل النبي صلى الله عليه وسلم بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة؛ لأن كل ملك موكل بما فيه الحياة, فجبريل موكل بالوحي الذي فيه حياة القلوب والأرواح, وميكائيل موكل بالقطر والمطر الذي فيه حياة الأبدان والنبات والحيوان, وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي فيه إعادة الأرواح إلى أجسادها فتعود الحياة إلى الأجسام.
وهذا ثابت في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أهل القليب) وهم الكفرة الذين قتلوا يوم بدر وسحبوا بعد موتهم، وألقوا في بئر بعد أن ظهر نتنهم، فجاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وناداهم بأسمائهم فقال: (يا
فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! كيف يسمعون؟ وفي لفظ آخر قال: ما تنادي من قوم هلكى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا)، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب أي: في بئر هناك.
فلا بد أن يؤمن الإنسان بأن النبي صلى الله عليه وسلم حين كلم أهل القليب يوم بدر-أي المشركين- أنهم كانوا يسمعون كلامه، وهذا مستثنى من كون الميت لا يسمع، فالأصل أن الميت لا يسمع، قال الله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22] فالميت لا يسمع إلا ما دل الدليل على أنه يسمع، وكذلك ما ورد أن الميت إذا دفنه المشيعون له وتولوا عنه فإنه يسمع قرع نعالهم إذا تولوا, فهذا سماع خاص, وكذلك ثبت أنه يشرع أن يسلم على الميت، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام) وما عدا ذلك فالأصل أن الميت لا يسمع كلام الناس ولا يدري عن أعمال الناس ولا عن أحوالهم، وكذلك ما جاء في بعض الأحاديث أن الميت تعرض عليه أعمال أقاربه، وأنه إذا رأى خيراً حمد الله، وإذا رأى سيئاً استغفر, وكذلك عرض أعمال أمة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وكل هذا جاء في أحاديث ضعيفة.
لا بد من الإيمان بأن الإنسان إذا مرض فإن الله يأجره على مرضه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل تصيبه مصيبة إلا كفر الله من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها) فالمرض كفارة للذنوب، والأمراض تحط الخطايا عن المسلم كما تحط الشجرة ورقها.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض في حياته أصابه وعك شديد من حمى فجاءه بعض الصحابة فقالوا: (يا رسول الله! إنك لتوعك كما يوعك رجلان، قال: أجل، قالوا: أذلك أن لك أجرين، قال: نعم، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم).
فالمرض والمصائب والهموم والكفارات والأسقام والمصائب كلها كفارات، ولما نزل قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] قال أبو بكر : يا رسول الله! هذه الآية يقول الله: كل شيء نعمله نجزى به؟ إذاً هلكنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا
ومن الآيات التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فجاء الصحابة وجثوا على ركبهم وقالوا: (يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم-ظنوا أن الظلم هو المعاصي- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس الذي تعنون ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]) فالمراد بالظلم الشرك.
وتفسير الآية: (الذين ءامنوا) أي: وحدوا, (ولم يلبسوا): لم يخلطوا, (إيمانهم): توحيدهم, (بظلم) أي: بشرك، أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك من خلال الآية الأخرى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
لا شك أن الشهيد يأجره الله على القتل, وأجره عظيم, فقد جاء في الحديث أن الشهيد يكفر الله خطاياه إلا الدين, وإن قتل في سبيل الله لم يصب من شدة وألم الموت إلا كما تصيب الإنسان حر القرصة من العقرب, والشهيد يأمن من الفتن في قبره قيل: يا رسول الله! ألا يفتن الميت في قبره؟ قال: (كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة)، وجرى عليه رزقه إلى يوم القيامة.
المسلم لابد أن يعتقد ذلك، قال الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171] .
وقال سبحانه: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:95-96] فللمجاهدين والشهداء فضل عظيم.
لا شك في أنهم يألمون والله تعالى له الحكمة البالغة في كون الأطفال يألمون، وكذلك الحيوانات تألم, وهي غير مكلفة، فلله الحكمة في ذلك.
ومن الحكم أن والد الطفل يبتلى بطفله الذي يمرض أو الذي يموت، فهل يصبر أو يتسخط.
يقول المؤلف: (وذلك أن بكر بن أخت عبد الواحد قال: لا يألمون، وكذب).
وبكر هذا يقولون: إنه من رءوس المبتدعة، ولم يذكر المؤلف ما شبهته، ويحتاج هذا إلى مراجعة كتب الفرق والنظر في شبهته، ولماذا قال لا يألمون، هل معنى ذلك لأنهم غير مكلفين فلا يألمون، والمقصود أن قول بكر بن أخت عبد الواحد لا أصل له؛ ولهذا قال المؤلف: (وكذب) أي: في قوله: إنهم لا يألمون، فالطفل يألم، فكما أن الكبير يألم فالصغير كذلك يألم.
قال: (اعلم أنه لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله)، وهذا دليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
فدخول الجنة لا يكون إلا برحمة الله والأعمال سبب، فمن أتى بالسبب نالته الرحمة، ومن لم يأت بالسبب لم تنله رحمته ولم يدخل الجنة برحمة الله.
وسبب الرحمة: التوحيد والإيمان، فمن أتى بالسبب وهو التوحيد والإيمان نالته الرحمة، ومن لم يأت بالسبب-وهو التوحيد والإيمان- لم تنله الرحمة، قال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] والباء سببيه, أي: بسبب أعمالكم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)الباء للعوض، أي: لن يدخل أحدكم الجنة عوضاً عن عمله، وليس كما تقول المعتزلة: إن المؤمن يستحق الثواب على الله كما يستحق الأجير أجرته، وهذا قول باطل, فدخول الجنة برحمة الله، والسبب هي الأعمال الصالحة والتوحيد.
(ولا يعذب الله أحداً إلا بقدر ذنوبه)؛ لأن الله تعالى أخبر بذلك، فلا يظلم الله سبحانه وتعالى أحداً؛ ولهذا قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولو عذب الله أهل السماوات وأهل الأرضين برهم وفاجرهم, عذبهم غير ظالم لهم, لا يجوز أن يقال لله تبارك وتعالى إنه ظالم وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، والخلق خلقه، والدار داره ما لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يقال: لم؟ وكيف؟ لا يدخل أحد بين الله وبين خلقه ].
يقول المؤلف: (لو عذب الله أهل سماواته وأهل الأرضين برهم وفاجرهم عذبهم غير ظالم لهم), هذا مأخوذ من حديث: (لو عذب الله أهل السماوات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم) والمعنى: أن الله لو وضع عدله في أهل سماواته، وأهل أرضه، وحاسبهم على أعمالهم وعلى نعمه عليهم لصاروا مدينين له, وحينئذ لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، فلو يحاسب الإنسان بنعم الله عليه وعمله فإنه يكون مديناً وحينئذ يعذب؛ لأن نعمة البصر قد تعدل عمل الإنسان كله فينتهي العمل فيعذب، لكنه سبحانه يحاسبهم بأعمالهم.
ولا يجوز أن يقال عن الله تبارك وتعالى إنه ظالم , فالظلم هو وضع الشيء في غير موضعه, وهذا هو التعريف الصحيح لا كما عرفه الجبرية، والله تعالى حرم الظلم على نفسه, ولم يحرمه عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد، كما أنه كتب على نفسه الرحمة، ولم يكتبها عليه أحد، وحرم الظلم على نفسه، وقد جاء في حديث أبي ذر القدسي يقول الله تعالى: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا).
والظلم يقدر عليه الله، لكنه تنزه عنه, فلا يقال: إنه لا يقدر عليه؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17]، وقال: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112] ولو كان الظلم غير مقدور له لما أمّن الإنسان من خوف الظلم.
وقالت الجبرية من الأشاعرة والجهمية: إن الظلم هو الممتنع المستحيل الذي لا يدخل تحت قدرة الله كالجمع بين النقيضين, فالظلم لا يقدر عليه الله؛ لأنه ممتنع عندهم، وقالوا: الظلم هو تصرف المالك في غير ملكه أو مخالفة الآمر للمأمور.
والله تعالى كل شيء ملكه فهو يتصرف في ملكه, فلو عذب أهل السماوات وأهل الأرضين لكان غير ظالم، فالظلم كما عرفوه هو أن يتصرف المالك في غير ملكه, وهل هناك شيء يخرج عن ملك الله؟ فلو فعل أي شيء لا يكون ظلماً.
وقالت الجبرية: يجوز لله أن يقلب التشريعات والجزاءات, فيجعل العفة محرمة والزنا واجباً والعياذ بالله, ويجوز على الله أن يحمل الأبرار والأنبياء أوزار الفجار والكفار ويعذبهم ولا يكون ظالماً لهم؛ لأنه تصرف في ملكه، وهذا من أبطل الباطل, فالله تعالى حرم الظلم على نفسه وهو قادر على الظلم, ولو كان غير قادر على الظلم فما الفائدة من التحريم؟
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولو عذب الله أهل السماوات وأهل الأرضين برهم وفاجرهم, عذبهم غير ظالم لهم, لا يجوز أن يقال لله تبارك وتعالى. إنه ظالم، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له، والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، والخلق خلقه، والدار داره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون, ولا يقال: لم؟ وكيف؟ لا يدخل أحد بين الله وخلقه ].
قوله: (وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له) هذا الكلام يتماشى مع مذهب الجبرية, القائلين بأن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، والصواب الذي عليه أهل السنة أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأن الله تعالى لا يظلم لكمال عدله لا لعجزه وقد حرم على نفسه.
وقوله: (لايسأل عما يفعل) لكمال عدله ولكونه حكيماً عادلاً, والجبرية يقولون: لا يسأل عما يفعل لكونه يتصرف في القدرة والمشيئة وينكرون الحكمة, وكان ينبغي على المؤلف أن يقرر مذهب أهل السنة والجماعة ويقول: وإنما يظلم من يضع الشيء في غير موضعه كأن يحمل أحداً وزر غيره أو يمنعه من حقه, أما قوله: (وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له) فهو يتماشى مع مذهب الجبرية. (والله جل ثناؤه له الخلق والأمر، والخلق خلقه، والدار داره) فإذا تصرف فيهن بما يشاء فلا يكون ظلماً.
قوله: (ولا يقال: لم؟ وكيف؟) لا يقال لم في أفعال الله، ولا يعترض أحد على الله، فلا يقال: لم فعل كذا, ولا يقال: كيف في الصفات، ولا يسأل: لم؟ لأنه حكيم يضع الأشياء في مواضعها, لا لأنه يفعل بالقدرة والمشيئة فقط، فلابد لطالب العلم أن يفرق بين مذهب أهل السنة في الظلم وبين مذهب الجبرية.
يقول المؤلف رحمه الله: (إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار) وهي: الأحاديث والآثار عن الصحابة وعن التابعين ومن بعدهم, فإذا سمعت رجلاً يطعن في الأحاديث ويطعن في أخبار الصحابة والتابعين ولا يقبلها، أو ينكر شيئاً من أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم فاتهمه على الإسلام, فإنه مشكوك في إسلامه؛ لأن هذا دليل على ضعف إسلامه.
ولهذا قال المؤلف: (فإنه رجل رديء القول والمذهب) أي: مذهبه ضعيف, (وإنما طعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنه إنما عرفنا الله، وعرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا القرآن، وعرفنا الخير والشر، والدنيا والآخرة بالآثار).
وبين المؤلف ما هو السبب في ذلك فقال: لأننا عرفنا الله وعرفنا رسوله وعرفنا القرآن وعرفنا الخير والشر والدنيا والآخرة بالآيات القرآنية والأحاديث, وعرفنا الله ورسوله بالقرآن وبالسنة وبالآثار، وعرفنا الخير -وهو التوحيد وسائر الطاعات- من القرآن ومن السنة ومن الآثار، وعرفنا الشر -وهو الشرك والمعاصي- من القرآن ومن السنة, وعرفنا الآخرة بالقرآن وبالسنة، فالذي يطعن في الآثار -وهي النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة- فهو رجل رديء القول والمذهب ضعيف الإيمان؛ لأنه حينما يطعن في الآثار إنما طعن في الرب، وطعن في الرسول، وطعن في القرآن؛ لأن النصوص إنما هي من كلام الله وكلام رسوله, وهذه علامة على الشخص المتهم في دينه، وهي الطعن في النصوص وردها وعدم قبولها.
وهذا القول مأثور عن مكحول الشامي رحمه الله، ومشهور عن الأئمة, فقد قال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - وقد سئل عن الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب، فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله إن السنة قاضية على الكتاب, وإن السنة تفسر الكتاب وتبينه، وهذا ذكره ابن عبد البر، وهو الصواب؛ لموافقته قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44].
فقوله: (القرآن إلى السنة أحوج من السنة إلى القرآن), أي: أن القرآن يحتاج إلى إيضاح, والذي يوضح معاني القرآن هي السنة, فتخصص عموم القرآن وتقيد مطلقه.
قال بعض السلف: إن السنة قاضية على الكتاب، أي: تبين وتوضح وتفسر معناه، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه، وقال بعض السلف: ما أجسر أن أقول: إن السنة قاضية على الكتاب! لكن أقول: السنة تفسر الكتاب, فقال بعض السلف: لا ينبغي أن يقال إن السنة قاضية على الكتاب فهذه كلمة صعبة، لكن نقول: السنة مفسرة وموضحة ومبينة للقرآن، ولمعانيه، ومخصصة لعمومه، ومقيدة لمطلقه كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].
والمعنى: أنه لا بد من العمل بالقرآن والسنة, والسنة وحي ثان، فمن قال: إنه لا حاجة إلى السنة وأنكرها فقد كفر؛ لأن السنة وحي ثان، قال الله تعالى عن نبيه الكريم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر