الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
وأشهد أن لا اله إلا الله وحد لا شريك له، أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأودع الكتاب الذي كتبه: أن رحمته تغلب غضبه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، نبي ما ترك خيراً إلا ودل أمته عليه، ولا شراً إلا وحذر أمته منه، ولا طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا وآتاه منه علماً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
خير من صلى وصام وأفطر، اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم عليه ما لاح برق وأمطر، اللهم وعلى آله وأصحابه أئمة الدين ومصابيح الهدى ومنارات الدجى، اللهم وعلى من تبعهم بإحسان وعلى طريقهم اقتفى إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المدينة التي أرادها الله أن تكون مأوىً ومثوىً لخير خلقه وصفوة رسله، من المدينة التي وصف الله أهلها بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9]، من المدينة التي صعد النبي صلى الله عليه وسلم منبرها وقال: (هذه طابة هذه طابة)، من مدينة خير الخلائق، من مدينة مَن أوضح الله به الطرائق قدمنا إليكم أيها المؤمنون! في مدينة جدة.
نقول هذا غير ممتنين به عليكم ولا على أحد، بل لله العظيم الحليم وحده المنة والفضل، ولكننا نقول من باب التشرف بالمدينة التي قدمنا منها، ومن باب الفرح بالوجوه الطيبة التي قدمنا إليها، وأي ساعة أجمل من لقاء الأحبة! وتدارس صريح الكتاب وصحيح السنة!
أيها المؤمنون! في هذه الليلة الطيبة المباركة وتحت العنوان الذي أُعلن تكون هذه المحاضرة بعنوان: (من نبأ المرسلين)، فإنه من باب التأصيل العلمي، وحتى نكون جميعاً على بينة فيما يقال فإن الحديث سيكون على جزأين:
الأول: في ذكر بعض الحقائق العلمية عن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والأمر الثاني: فيما يمكن أن نستقيه ونستفيده وندرسه من دروس وعبر من سيرة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بلا استثناء.
أما الجزء الأول: فإن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم وأهبطه إلى الأرض بعد الذي كان منه، وتاب عليه ربه وهدى، كان الناس ملة واحدة يعبدون الله وحده ولا يشركون به، ثم اجتالتهم الشياطين وانحرفت بهم عن طريق الحق، فتفرقوا أمماً وشيعاً، وأضحوا على عبادة الأوثان ومحاربة دين الرحمن، فكانت حكمة الله البالغة ورحمته بالعباد أن أرسل الرسل، قال الله جل وعلا: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213]، فكانوا على أمة واحدة -أي: على ملة واحدة- فكان أول رسل الله نوح عليه الصلاة والسلام.
فذهب جمع منهم إلى أن النبي: من أوحي إليه بوحي ولم يؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بأمر أو بوحي وأمر بتبليغه، وهذا وإن قاله جمع من العلماء رحمة الله تعالى عليهم سلفاً وخلفاً إلا أنه قد يكون بعيداً من الصواب، ولعل الصواب أن يقال: إن النبي هو من أوحي إليه ليقرر شريعة من قبله، وأما الرسول: فهو من أوحي إليه بوحي جديد على غير شريعة من قبله، وإن كان الأنبياء والمرسلون مجتمعين على لب الدعوة وهي الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
وقال الله جل وعلا عن عيسى ابن مريم: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75].
ومقتضى بشريتهم أيضاً أنهم يعملون ويشتغلون فيما جرت عادة البشر أن يعملوا فيه، فقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكباث -نوع من الثمر-، فقال لنا صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالأسود منه؛ فانه أطيبه، فقلنا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى الغنم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وهل من نبي إلا وقد رعاها).
فجميع أنبياء الله ورسله رعوا الأغنام فهذا يقتضي ويدلل على أنهم كانوا بشراً، وكلنا يعلم أن كليم الله موسى عليه السلام عمل أجيراً عند العبد الصالح على عفة فرجه وإشباع بطنه عشر سنين، ثمانية اتفاقاً وعشراً وفاء، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27]، فهذا مقتضى بشريته.
ومما ميز الله جلا وعلا به أنبياءه ورسله وحيه تبارك وتعالى إليهم، فوحي الله جل وعلا إلى أنبيائه ورسله هو الفرق بين جهد الأنبياء والمرسلين وبين جهد المصلحين من غير المرسلين، فإن رسل الله لا يعتري قولهم خطأ ولا كذب ولا افتراء، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
أما جهد المصلحين والأخيار على مرّ الدهور فإنه لا يمكن أن يسلم من الخطأ؛ لأنهم وإن كانوا مأجورين على ما فعلوه وعلى ما اجتهدوه إلا أن اجتهادهم قد يكون خطأ، وأما أنبياء الله ورسله فهم معصومون في التبليغ عن الله تبارك وتعالى.
والهيئة الثانية في الوحي: أن يكلم الله جل وعلا ذلك النبي من وراء حجاب، كما أخبر الله بصريح القرآن: أنه كلم نبيه موسى، قال الله جل وعلا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وكلم الله كذلك آدم عليه السلام، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم لما سئل عن آدم أنبي هو؟ قال: نعم نبي مكلم، وكلم الله جل وعلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج.
الهيئة الثالثة التي يكون عليها الوحي: أن يكون بواسطة الملك، فالملك يأتي بالوحي من السماء فيخبره ذلك النبي، وغالب من يقوم بهذه المهمة هو جبرائيل عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195]، فهذا وحي الله تبارك وتعالى إلى رسله وهو الأمر الأول والأعظم الذي ميز الله به الرسل عن سواهم من البشر.
ونبينا صلى الله عليه وسلم -وهو صفوة الرسل وذروتهم عليه الصلاة والسلام- معلوم أنه ردد عند موته كما روى الأئمة الثقات في كتب الأحاديث أنه كان يقول: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)، حتى روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت وهي تحكي قصة وفاته صلى الله عليه وسلم قالت: (فأخذته بحة شديدة ثم سمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)، قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (فعلمت عندها أنه كان يخير بين الحياة وبين الموت).
والأثر الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه في آخر حياته لما شعر بدنو أجله بعد عودته صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع كان عليه الصلاة والسلام يكثر من الذهاب إلى البقيع -مقبرة أهل المدينة- فقام ساعة من الليل ومعه مولاه أبو مويهبة فذهب إلى أهل البقيع ودعا لهم واستغفر لهم، وقال: (ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أضحت الفتن كقطع الليل المظلم، ثم قال: يا
ومما يستأنس به في هذا الخبر: أن الإمام الحاكم روى في المستدرك: (أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يسري بقومه من أرض مصر ضل الطريق، فقال للملأ من بني إسرائيل: ما هذا؟ فأخبره علماء بني إسرائيل أن يوسف عليه السلام قد أخذ عليهم العهد والميثاق أنهم إذا خرجوا من أرض مصر أن يحملوا عظامه معهم -وعظامه هنا من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل-، فقال: وأين قبره؟ قالوا: لا يعلم قبره إلا عجوز في بني إسرائيل، فقال: دلوني عليها، فأتوا بها بين يديه، فقال لها أين قبر يوسف؟ قالت: لا أدلك على قبر يوسف حتى تأتيني شرطي أو حكمي؟ قال: وما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة، فكأن موسى استثقل هذا في أول الأمر ثم قال لها: لك حكمك، فدلته على بحيرة وأمرتهم أن يجففوها، ثم حفروا فإذا بعظام يوسف عليه السلام -أي: جسده كاملاً-، فحملوه معهم قال صلى الله عليه وسلم: فإذا الطريق مثل فلق الصبح أو مثل ضوء النهار يسترشد به).
في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا ذي الكفل آدم بالمختار قد ختموا
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهؤلاء الرسل منهم أربعة فقط من العرب كما في حديث أبي ذر هم: هود وشعيب وصالح، قال صلى الله عليه وسلم: (هود وشعيب وصالح ونبيك يا
فهؤلاء الأربعة من العرب، وأما غيرهم فبعضهم من بني إسرائيل وهم الأكثر، وبعضهم من غير ذلك من الأمم التي سبقت الأمة العربية من أنبياء الله جل وعلا ورسله، وهذا التأصيل العلمي الذي ذكرناه كان لابد من القول به قبل أن نخوض في قضية الاسترشاد بأنبياء الله جل وعلا ورسله ونبأهم.
فنقول أيها المؤمنون! إن من أعظم ما يستقى وتتضح به المعالم، وتستنير به القلوب، وتستوضح به الدروب من نبأ المرسلين: إعظامهم وإجلالهم لله تبارك وتعالى.
إن تعظيم الله جل وعلا وإجلاله تباركت أسماؤه وجل ثناؤه أمر تقضيه الفطر السليمة، وجاءت به الشرائع القويمة، وإن الله تبارك وتعالى لا رب غيره ولا إله سواه؛ ولذلك كلما ازداد الإنسان بالله علماً ازداد لله تعظيماً وإجلالاً، فلما كان الرسل هم أعظم الناس علماً بالله جل وعلا كان أولئك المرسلون هم أكثر الخلق وأشد العباد إعظاما وإجلالاً لله تبارك وتعالى؛ لأنهم يعلمون صفاته العلى وأسماؤه الحسنى، ويعلمون ما لله من سلطة وقوة وجبروت لا تكون لأحد غيره سبحانه وبحمده تبارك اسمه وجل ثناؤه، وهذا التعظيم ورد على هيئة أمور عدة:
فمن ذلك: قال الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، وجاء في حديث ابن مسعود : (أن حبراً من أحبار اليهود قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إننا نجد في كتبنا أو في علمنا أن الله جل وعلا يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه؛ تقريراً وتصديقاً لما قاله الحبر اليهودي، فأنزل الله جل وعلا قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]).
ولقد فقه أنبياء الله ورسله هذه المسألة فقهاً عظيماً فكانوا يدعون أقوامهم ومن أرسلوا إليهم يدعونهم إلى تعظيم الله جل وعلا وإجلاله، تارة بذكر الضد كما فعل نوح عليه الصلاة والسلام لما قال لقومه: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح:13-18]، كل ذلك ليلفت انتباههم إلى تعظيم الله جل وعلا وإجلاله، وذكر ماله من عظمة وملكوت سبحانه تبارك وتعالى وبحمده.
ومن هنا تعلم أن غير المرسلين من أئمة الفرق الباطنية الضالة ومن أئمة الفرق التي تحارب أهل السنة تجد أن من صفاتهم التي يعرفون بها أنهم يدعون لأنفسهم حولاً وعلماً وطولاً لم يؤتهم الله جل وعلا إياه، وما آتاه الله لأنبيائه المقربين ولا لرسله المبشرين، ومع ذلك يزعم أولئك الأئمة من أئمة الضلال أنه لهم، أو يزعموا أنه لأئمتهم ظلماً وبهتاناً على أولئك الأئمة، يقول أحدهم من أئمة هذا العصر في كتابه الشهير (الحكومة الإسلامية) يقول في صفحة (57) منه: وإن من أصول مذهبنا: أن لأئمتنا منزلة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وربما كان هذا الأمر لـفاطمة الزهراء .
فتطاولوا على الأئمة كما تطاول النصارى على المسيح ابن مريم، فإن النصارى زعمت أن المسيح ابن مريم إله، وهو عليه الصلاة والسلام لم يقل هذا أبداً، لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، فكما تطاول النصارى على المسيح فقد تطاول أصحاب تلك الفرق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيت النبوة رضوان الله تعالى عليهم تطاولاً ليس من أولئك ذنب فيه ولا علاقة به، ولكنه من باب خداع الناس وتشعبهم في طرق الضلال.
وتعظيم الله جل وعلا وإجلاله أمر يسترشد من أنبياء الله ورسله، وأنا وأنت أيها المؤمن عندما نستقي من هذا المورد العذب من (نبأ المرسلين) يجب أن نفطن إلى مسألة تعظيم الله جل وعلا وإجلاله، فإن كثيراً من إخواننا العصاة -غفر الله لهم وعفا الله عنا وعنهم- مما يدفعهم إلى ارتكاب المحارم، ويحجم بهم عن فعل الطاعات أنهم يجهلون قدر الله تبارك وتعالى، ويغيب عنهم اطلاع الله تبارك وتعالى عليهم، ويغيب عنهم ما لله جل وعلا من عظمة؛ ولذلك من أفضل الطرق إلى قرع قلوب هؤلاء أن يذكروا بما لله تبارك وتعالى من عظمة وجبروت، وما لله تبارك وتعالى من سلطان وملكوت، قال الله تبارك وتعالى وهو يرشد إلى هذا: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:102-103]، وآيات القرآن المنثورة فيه كثير منها يقرع القلوب بذكر وحدانية الله جل وعلا، وعظيم سلطانه جبروته وملكوته.
إن الناس اليوم يقول بعضهم لبعض: إن الرجل القوي الشخصية يكون رجلاً عزيز الدمعة، أي: أن دمعته لا تقطر لأي سبب، وهذا القول وإن كان فيه شيء من الصحة إلا أنه خطأ على إطلاقه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ورسل الله من قبله هم أعظم الناس وأقوى الناس شخصية، وأكمل الخلق بلا مرية ولا شك، ومع ذلك تلك القلوب وتلك العيون لا تملك أمرها ولا تملك دمعها إذا تليت عليها آيات الله جل وعلا، يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ عليه القرآن، فقلت: يا رسول الله أأقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: اقرأه عليّ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فأخذ
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم صلوا ذات يوم الفجر وراء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه المعروف بقوة شكيمته، والمعروف بسلطته وهو أمير المؤمنين يوم ذاك، ومع ذلك لم يتبين الصحابة ما يردده وما يتلوه عمر من كثرة بكائه ونحيبه رضوان الله تعالى عليه، وذلك لما اخذ يقرأ آيات الله جل وعلا ويتلوها على مسمع ومرأى من المؤمنين، فالبكاء من خشية الله جل وعلا مزية كانت لأنبياء الله ورسله، وهي من المزايا التي ينبغي أن نسترشد بها.
وأما الناس اليوم! فمنهم شاعر غلب عليه الهيام والحب يفكر في حبيب طال سفره، أو غاب خبره، حتى قال قائلهم:
رهبان مدين والذين عهدتهم يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعاً وسجودا
فهذا الذي هداه إليه تفكيره، أو شخص يبكي على صفقة خاسرة، أو درهم أو دينار ضائع، وبعضهم يبكون على أدنى من هذا أو أعظم منه أو مشابه له، وأما المؤمنون الذين يعرفون ما أعده الله من الثواب وما أعده الله للعاصين من العقاب، والذين مر على أسماعه قول الصادق المصدوق لما ذكر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم يختم أولئك السبعة: (ورجل ذكر الله خاليا فاضت عيناه).
أيها المؤمن! تفيض العين لواحد من اثنين: إما أن يقرأ الإنسان وعيد الله جل وعلا وعظيم سلطانه فتذرف منه الدمعة؛ خوفاً وفرقاً مما سمعه، أو يقرأ العبد ما ينبئ عن وعيد مع وعد الله جل وعلا، يقرأ عن وعد الله جل وعلا، وما لله من صفات الجمال ونعوت الكمال، فتذرف الدمعة شوقاً إلى الله تبارك وتعالى ومحبة وانتظاراً لليوم الموعود الذي يبشر فيه المؤمنون، ويجزون برؤية ربهم جل وعلا، وكلا السببين داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ولذلك ينبغي للعبد إن لم يستطع البكاء أن يتباكى، فقد كان الربيع بن خثيم رضي الله تعالى عنه وهو أحد سلف هذه الأمة، كان يقوم الليل كله يردد قول الله جل وعلا وهو يبكي: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، وإنما نبكي إذا غاب عنا فضل الله ورحمته، ونبكي إذا حل علينا فضل الله ورحمته، نبكي في أول حسرة، ونبكي في الثاني فرحاً؛ ولذلك أحد ملوك بني العباس لما آلت دولة بني العباس إلى الضعف والانهيار في آخر أيامها أجبره القادة وأجبره الجنود على أن يتخلى عن الخلافة، ووصل بهم الأمر إلى إجراء القرعة في قضية يخلع أو لا يخلع.
فالشاهد: أن القرعة وقعت عليه بأن يخلع، فلما أخبره القاضي الموكل بإجراء القرعة قال له: يا أبا عبد الله أنع إليك الخلافة، أي: اترك الخلافة، فقيل: أن ذلك الخليفة قال كلمة والله تستحق أن توزن بمثقال الذهب، قال: اللهم إن كنت قد خلعتني من خلافتك فلا تخلعني اللهم من رحمتك.
وصدق الله العظيم القائل: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فلا يحسبن دمعتك نظر ناظر، ولا تعليق أحد، ولا سخرية مستهزئ، لكن احتسبها عند الحي القيوم فاطر السماوات والأرض، واعلم أن الله جل وعلا ما عنده خير وأبقى.
نقول: إن من تعظيم الله ألا تعظم من أهانه الله جل وعلا، والذين أهانهم الله هم أهل الكفر، فلا تعظم أهل الكفر؛ لأن تعظيم أهل الكفر مخالف لإجلالك لرب السماوات والأرض، وكيف ترفع من قَدْر رجل قد أهانه الله جل وعلا، بل هم: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، ولذلك هناك من الكتّاب والأدباء والشعراء من برزوا في هذا العصر في غير هذه البلاد، وطبقت شهرتهم الآفاق لأسباب لا تخفى على أحد، فأصبح أولئك الكتّاب وأولئك الشعراء يذكرون باللسان، ويشار إليهم بالبنان، ويُعَظمون رغم أنهم -والعياذ بالله- لا يفتأون يسخرون من الله جل وعلا ومن ذاته العلية، يقول أحدهم كشف الله ستره وأهانه الله جل وعلا:
الله في مدينتي مشرد طريد الله في مدينتي يبيعه اليهود!!
هذه أبيات شعرية تنشر وتقال في العالم العربي أو في العالم الإسلامي، ومثل هؤلاء لا ينبغي للمؤمن أن يجلهم، أو أن يعلي لهم قدراً، اللهم إلا أن يدرس أخبارهم وأمورهم غضباً لله، ودفاعاً عن الحق، ودفاعاً عن دين الله جل وعلا، كما أننا نتمنى من إخواننا اللاعبين عفا الله عنهم وغفر الله لنا ولهم، عندما تقليدهم أحياناً نشوة الفرح فيحملون المدربين على أعناقهم، رغم أن جُل أولئك المدربين قد يكونون من أئمة الكفر، أو قد يكونون كفاراً أصلاً وإن حملهم على الأعناق تعظيم لهم، وإنه لا ينبغي لمؤمن أن يعظم أقواماً لا يدينون بدين الحق.
فالله جل وعلا أخبر أن إبراهيم تبرأ من أبيه، ونوحاً تبرأ من ابنه: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، وأكاد أجزم أن إخواننا اللاعبين -عفا الله عنا وعنهم- إنما يفعلون هذا من باب الجهل دون العلم بالحكم، ولو بلغهم هذا الأمر لما فعلوه، وهذا حسن ظن منا بأولئك المؤمنين، فإن الأصل في المؤمن أن يظن ظناً حسناً بإخوانه المؤمنين أياً كانت منازلهم، وأياً كانت مراتبهم، قال صلى الله عليه وسلم يعلم أبا موسى ومعاذاً : (يسرا ولا تعسرا، بشرا ولا تنفرا، إنما بعثت مبشراً ولم أبعث منفراً)، صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه النبيين.
أما في حياتهم الخاصة فخذ مثلاً نبي الله يعقوب، فإنه ابتلي أولاً بفقد يوسف، ثم ابتلي بفقد بنيامين ، ثم ابتلي ببقاء بعض أبنائه في أرض مصر، وهو في كرب وهم وغم وحزن، وبعض بنيه حوله يخبرون عنه أنه شيخ هرم قد أصابه التخريف وأصابه الهذيان، ومع ذلك كان على ثقة بوعد الله جل وعلا في حياته الخاصة، وكان يقول لهم: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:83]، فهذه ثقة عظيمة بوعد الله تبارك وتعالى، ولقد صدق الله يعقوب وعده، فجمعه ببنيه، وأنزله المنزلة والمقام الكريم، وأدخله أرض مصر معززاً مكرماً، قال الله تبارك وتعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100]، وقال قبلها: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف:99]، فهذا من عظيم الثقة بوعد الله تبارك وتعالى.
ونبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لما لحقه فرعون وهامان وجنودهما وأصبحوا على مقربة منهما، وعاين أصحاب موسى الموت والقتل عياناً رأوا فرعون وجنوده ورأوا البحر، فإما ضرب الرقاب وإما الغرق، فقالوا إرجافاً كما أخبر الله: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] بقي حال النبي الكريم الواثق بوعد الله جل وعلا ونصره وعظيم الثقة بربه، قال: (كلا) أي: لن يكون ما ظننتموه، لِمَ يا موسى؟ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فلما كان على عظيم الثقة بنصر الله جل وعلا جاء الأمر الرباني والوحي الإلهي، قال الله جل وعلا له: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ، فضرب: فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] فنجى الله جل وعلا موسى ومن معه، وأغرق فرعون وجنوده؛ نصراً لنبيه وكليمه موسى، وتحقيقاً لوعد الله له، وإثباتاً أن موسى كان على حق عظيم عندما وثق برب الأرباب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب سبحانه وبحمده.
ونوح عليه السلام تكالب عليه قومه، فآذوه وفعلوا به ما فعلوا، فلما أيس منهم لجأ إلى الله جل وعلا، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، فهذه كلمة واحدة دعا بها مجموعة في ستة أحرف (فانتصر)كلمة لا غيرها، فلما قالها وهو على يقين بنصر الله قال الله جل وعلا: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا لِمَ؟ جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر:10-14] أي: نصراً لهذا الذي كذبه قومه، ووصفوه بالجنون وازدجروه وحاربوه، وحاربوا دين الله جل وعلا وآياته وما أوحى الله تبارك وتعالى به.
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يخبره من بعثه إلى أبي سفيان بعد غزوة أحد عند حمراء الأسد: أن أبا سفيان سيعود ليكرر الكرة عليهم، وليستأصل شفعتهم، فلما أُلقي عليه ذلك الخبر يقول صلى الله عليه وسلم وكما أخبر الله عنه وعن أصحابه: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، ولذلك روى البخاري في الصحيح أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (إن هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أراد قومه أن يلقوه في النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم لما قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم).
فمما يسترشد به من نبأ المرسلين ثقتهم بوعد الله، ونحن إن أخلصنا لله النية، وصدقنا لله العمل، وأخذنا بشريعة الله جل وعلا فلنكن على ثقة بنصر الله تبارك وتعالى، وليس شرط النصر أن يأتي في زمن أنا وأنت فيه، ولكنه يأتي لا محالة لمؤمنين ينصرهم الله تبارك وتعالى، والله قال وقوله الحق: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، وقال تبارك وقوله حق: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، فالثقة بوعد الله جل وعلا ونصره يجب أن تغرس في قلبي وقلبك، ويجب أن نكون جميعاً على عقيدة صافية أكيدة واثقة بنصر الله تبارك وتعالى، وإن تأخر النصر فلحكمة ربانية، فإن بعد الليل فجراً، فالله جل وعلا يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6].
فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ابن عمه وصاحبه وحبيبه علي بن أبي طالب ومعه زوجته زوجة علي امرأة فلذة كبد نبينا صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت محمد رضي الله عنها وصلى الله على أبيها، وقد أثر الرحى في يدها، فيطلبان منه خادماً من السبي يحمل الكل أو شيء من الكل عن فاطمة رضي الله عنها، فقال لهما صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكما على خير من خادم؟ إذا أتيتما إلى فراشكما وآويتما إلى مضاجعكما فسبحَا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم).
إن أباكما -يعني: خليل الله إبراهيم- كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق.
وفي هذا تربية للأبناء على التعلق بالله جل وعلا، فما الذي يمنعني ويمنعك وأنت المؤمن الغيور الذي لا نشك لحظة في أنك تتبع محمداً صلى الله عليه وسلم: أن تمسح بيديك على رأس ابنك أو ابنتك أو غيرهما ممن لك عليهما ولاية وتقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، ففي أول الأمر سيسألك ابنك يا أبت لما تقول لي هذا؟ فتخبره بفعل المعصوم صلى الله عليه وسلم، فيتعلق ذلك الابن الصغير بربه ويحب ذلك الابن الصغير نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنها وصية عظيمة في غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الأبناء، وفي غرس الهدي النبوي الكريم في نفوس النشء، وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة.
ومن تعلقهم بالله وثقة أولئك النبيين بإحالة الأمر إلى الله جل وعلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم في هجرته كما روى أصحاب السير كاد أن يدركه سراقة بن مالك ، فغاصت قوائم فرس سراقة في الأرض، وفي تلك الحال الكئيبة والنبي صلى الله عليه وسلم خارج طريد شريد من قومه ومعه دليله يتحسس الطرق إلى المدينة في غمرة ذلك الأمر يقول صلى الله عليه وسلم لـسراقة : (يا
ونبينا صلى الله عليه وسلم نفسه لما كان عنده عدي بن حاتم كان يدخل عليه الأعراب، فرجل يشتكي قطاع الطرق، ورجل يشتكي الفقر، ورجل يشتكي غير ذلك، وعدي يسمع، ويقول صلى الله عليه وسلم لـعدي : (لا يمنعنك من الدين ما سمعت)، ثم يخبره بأن هذا الدين سيظهره الله جل وعلا، فيقول له: (والله ليتممن الله دينه حتى تخرج المرأة من الحيرة حتى تأتي مكة لا تخشى إلا الله جل وعلا، وليغيضن المال حتى لا يجد من يأخذه، ولتملكن سواري
أيها المؤمنون! مما يستقى أيضاً من (نبأ المرسلين) أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر الدين، بل إنه بالنسبة لنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمر قيض الله الخيرية به، قال الله جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، فجعل من شروط خيريتها أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ ولذلك كان أنبياء الله ورسله يعملون بهذا الجانب العظيم، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولما كان إلا شراك بالله وعبادة الأوثان واتخاذ الأنداد دون الله هي أعظم المنكرات على الإطلاق، كان أنبياء الله ورسله يصرحون بهذا الأمر علانية: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85]، فكانوا ينهون الأمم وينهون أقوامهم أن يعبدوا مع الله شيئاً، وصدع نبينا صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا ودعا قومه الأقربين والأبعدين وقال: (قولوا: لا اله إلا الله)، وقال لعمه وهو على فراش الموت: (يا عماه! كلمة أحاج لك بها عند الله قل: لا اله إلا الله).
ولما انتشرت في قوم لوط فاحشة اللواط كان لوط عليه الصلاة والسلام ينهى عن هذا المنكر، ويقول لقومه علانية: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165].
ولما كان قوم شعيب رضي الله تعالى عنه قد بخسوا الكيل والميزان قال لهم شعيب ينهاهم عن ذلك المنكر: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود:84]، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قواعد ليس هذا مجال بيانها وشرحها.
أولاً: الدعاء لهم بأن يوفقهم الله ويسدد خطاهم، وأن يعينهم الله جل وعلا على ما حملهم من أمانة.
الثاني: حسن الظن بهم، فقد يقع بعضهم في الخطأ في معالجتهم لبعض الأمور إلا أنه من ذا الذي ما ساء قط.
والأمر الثالث: التطوع معهم ومساعدتهم فيما يأتونه من أمر بمعروف ونهي عن المنكر، عونهم بالكتابة، وعونهم بتوزيع الأشرطة النافعة المصرح بها، وعونهم في نشر ما يعين على أداء هذه المهمة إلى غير ذلك من المجالات التي لا يمكن حصرها في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولقد دعانا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر وبين أن مراتبه ثلاث: تغير باليد، وتغيير باللسان وتغيير بالقلب، وهذا يدلل على أن الناس تتفاوت منازلهم وقدراتهم ومراتبهم ووجهاتهم، فما أملك أنا تغييره لا تملكه، وما تملكه أنت قد لا أملكه، وقد أعرف أنا في ناحية وأجيدها ولا تجيد أنت تلك الناحية، والعكس صحيح.
المهم أن يرتدي الإنسان لباساً لا بد منه وهو لباس الحكمة، وهو وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، والاسترشاد بآراء أهل العلم وأهل الخبرة والثقات، بلغنا الله وإياكم الصواب والسداد في القول والعمل.
زانتك بالخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء
فإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو ان ما ملكت يداك الشاء
وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء
وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الأبناء
وإذا وفيت رأى الوفاء مجسماً في بردك الأصحاب والخلطاء
أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء
واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء
فنبينا صلى الله عليه وسلم جعله الله ذروة الذروة، وصفوة الصفوة صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها عائشة بنت أبي بكر ملهمة في قولها لما سئلت عن خلقه؟ قالت: أقرأت القرآن؟ قيل: نعم، قالت: كان خلقه القرآن.
فأتني بخلق قويم في القرآن لم يطبقه صلى الله عليه وسلم، وائتني بخلق نهى الله جلّ وعلا عنه كان فيه صلى الله عليه وسلم؛ بل هو عليه الصلاة والسلام المطهر من كل عيب ونقص بشري، والله جل وعلا فطره على الخلق العظيم، ونحن بإذنه جل وعلا أتباعه صلى الله عليه وسلم، والمقتفون أثره، والمتبعون هديه، فنحن أولى الناس به صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نسترشد بهديه، يقول عليه الصلاة والسلام: (الدين المعاملة)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فإن رأيت أخاً من إخوانك المؤمنين على معصية فلا تخاطبه وأنت كالشامت به، فإن الذي أضله قادر على أن يضلك، وأن الذي هداك قادر على أن يهديه، ولكن بالكلمة الطيبة، وبالابتسامة المقبولة، وبالقول السديد، إلا إن كان مجاهراً وقد نصح مرات وكرات، فهذا قد هتك ستر الله عنه أفتستر أنت عليه! ولكن إن رأيته لأول مرة وبخاصة أولئك الشباب الذين في مقتبل العمر، والحق أنه لا بد أن تؤمن وأؤمن أن للشباب شيئاً من المرح والفرح لا بد منه، والله جل وعلا ذكر أولاد يعقوب عليه السلام أنهم قالوا: يا أبانا! أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف:12]، وهؤلاء أولاد نبي، فكيف بولدي وولدك، لكن بالأسلوب الحسن وبالكلمة الطيبة، فربما شاهد مسلسلاً أو شاهد لاعباً أو شاهد فناناً فتأثر به لأول وهلة، لكنك إن جلست معه وأبنت له خلق المعصوم صلى الله عليه وسلم فهو خير، وأنا لا أظن أبداً أن مؤمناً يقول: لا اله إلا الله، تخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيستكبر أو يستنكف، إلا من طبع في قلبه النار، فائت الناس من باب هديه صلى الله عليه وسلم، ومن باب خلقه صلى الله عليه وسلم، ومن باب صفته صلى الله عليه وسلم، فالمسبل لا تقل له: أنت في النار مباشرة، بل قل له: يا أخي! لقد بلغنا عن المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ عن قدوتي وقدوتك؛ عمن بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، عمن أفنى عمره في الدعوة إلى الله أنه كان يقول: (لباس المؤمن إلى أنصاف ساقه)، فإن لم يستجب فستبقى في قلبه، فإن لم يكن اليوم يكن بإذن الله غداً، وإن لم يكن غداً يكون بإذن الله بعد شهر، وإن لم يكن بعد شهر يكون بإذن الله بعد سنة، أقل القيل يذهب وهو يراجع حساباته، لكن إن فاجأته بالنار لأول وهلة، وتخبره أنه من أهل النار فكيف تريد منه أن يخاطبك! وكيف تريد منه أن يكلمك ، سيكلمك بأفظع القول، وسيرد عليك بقول قد لا تقبله، ولا يعني هذا أن تحفظ أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم في الكتب ولا تقال للناس، معاذ الله أن نقول هذا، ولكن العلم العام شيء، والنصيحة الفردية شيء آخر.
ومن خلقه صلى الله عليه وسلم حسن معاملته لمن حوله، فلا يكون من حولك أشقى الناس بك، من أحبك لا بد أن تحبه، ومن أكرمك لابد أن تحسن إليه، وأولو الفضل يحتاجون إلى معاملة معينة، والضعفاء والفقراء من الناس تشبث بهم، فإنهم أقرب إلى الله من غيرهم إن كانوا مؤمنين، وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا [هود:31]، والله تبارك وتعالى يقول لنبيه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
فالمقصود أن الخلق القويم كان هو خلق الأنبياء والمرسلين، ولما كان الحديث عن الاسترشاد بخلقه كان حتماً ولزاماً علينا أن نسترشد بخلق النبيين، وبخاصة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذا الأمر ليس من المعقول أن نسعى إليه أو أن ندعو الله به، فإن هذا أمر قد مضى، والله جل وعلا لا يحب الاعتداء في الدعاء: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، لكن الأمر الذي يمكن إدراكه شرف إتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا بإذن الله إن أخلصت النية لله لا يمنعك مانع من اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فما الذي يصدك عن اقتفاء أثر الأنبياء والمرسلين وقد سمعت منه، وقد يهيأ الله لك رجلاً خيراً منا ينبئك خيراً مما قلنا؟ ما الذي يمنعك ويصدك أن تقتفي أثر الأنبياء والمرسلين؟ قال الله جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].
وهناك بشارة ولعلني مسبوق في توصيلها إليك، ولكن إن كانت قد سبقت إليك فاجعلها من التذكير، وإن لم تكن سبقت إليك فاجعلها من التبشير، خرج صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح إلى المقبرة ذات يوم -إلى البقيع- فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون ونحن اللاحقون، ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: وددت لو أني رأيت إخواننا، قالوا يا رسول الله! ألسنا إخوانك، قال: لا، بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني قوم لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض -أي سابقهم إلى الحوض-، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو كان لأحدكم خيل غر محجلة في خيل دهم بهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض).
فهذا باب رحمة مفتوح لكن أين المتبعون؟ وهذا باب رحمة مفتوح لكن أين المقتدون؟ وهذا سبيل المهتدين، وهو سبيل إلى رضوان الله جل وعلا فما لذي يمنعنا من أن نسلك طريق الأخيار؟ وما الذي يمنعنا من أن نسلك طريق الأبرار؟ إنها أخي! غمضة عين وتموت ثم إن أخلصت النية فالجنة، كان أبو حازم رحمة الله تعالى عليه يمر على السوق وهو أحد أئمة السلف الكبار فيقال له: يا أبا حازم هلا اشتريت لحماً؟ قال: ليس معي نقود حتى أشتري لحماً، قالوا: يا أبا حازم نصبر عليك حتى تملك النقود، قال: إن كانت المسألة مسألة صبر فأنا أصبر حتى أدخل الجنة.
ثقة بأن الله جل وعلا أعد الجنة للمؤمنين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108].
ختاما أيها المؤمنون! شكر الله لكم حضوركم، وشكر الله لكم إصغائكم، وأسال الله جلّت قدرته أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا.
كما أنني أود أن أنبه إلى أن هذه المحاضرة تقام ولا يخفى على أحد أحوال المؤمنين المسلمين المستضعفين في الأرض؛ في ألبوسنا والهرسك خاصة، وفي الشيشان، وفي أرض كشمير وفي غيرها من بلاد الله جل وعلا، ولا ريب أن لهؤلاء المؤمنين المستضعفين حقوقاً عظيمة علينا، ولا ريب أن من تلك الحقوق أن نصرع إلى الله جل وعلا ونفزع إليه أن ينصرهم، فإني داع دعاء الضعيف المسافر؛ عل الله جل وعلا أن يجعل من تأمين أحدكم أمراً يقبل به هذا الدعاء، عل الله أن يرفع عن إخواننا الضر.
اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت القوي العزيز، القاهر الغالب، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت في السماء عرشك، وفي الأرض سلطانك، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت نجيت نوحاً وإبراهيم، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت نصرت محمداً وصحبه، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت لا يخلف وعدك، ولا يهزم جندك، ولا يرد أمرك، سبحانك وبحمدك، نفزع اللهم إليك في هذه الساعة، نحن العباد الفقراء إلى عفوك ونصرك، نسألك اللهم لإخواننا المؤمنين في البوسنا والهرسك خاصة، وفي كل ديار العالمين يا رب العالمين أن تفرج كربهم وتنصرهم يا حي يا قيوم! اللهم كن لهم ولياً ونصيراً، اللهم كن لهم ولياً ونصيراً، اللهم كن لهم ناصراً ومغيثاً، اللهم كن لهم في هذا البرد القارس والشتاء الطويل رحمناً رحيماً، مغيثاً معيناً يا رب العالمين.
اللهم إنهم عبادك الذين بطش بهم أعداؤك، اللهم رد كيد الأعداء في نحورهم، اللهم اهزم أعدائك، واشفِ صدور قوم مؤمنين يا حي يا قيوم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.
الجواب: أقول: ما ذكرته في أن من زملائك في المدرسة شاب مسيحي فإننا نوصيك بما يلي:
أولاً: أما بدؤه بالسلام فهذا أمر قد جاء فيه نص بالنهي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا اجتهاد مع النص، فلا تبدأه بالسلام.
ثانياً: أن تنوي في قلبك دعوته، وأنما ستقوله وتخبره وملاطفتك إياه داخلة ضمن جهودك في دعوته إياه، ثم يعقب ذلك أن تحاول أن تجامله في القول، وأن تعطيه صورة طيبة عن دين الله جل وعلا العظيم، وأن تستغل أوقاتاً معيناً وفرصاً قد تتاح لك في التنبيه أو لفت النظر أو التركيز على مسألة بعينها تخبره من خلالها بما يشمل عليه هذا الدين من صفات ومبادئ قويمة لا تخفى إلا على من أغفل الله قلبه، ولكونه صغيراً في السن طالباً في المدرسة، ولكونه واحداً ضمن جماعة من المؤمنين فإن الغالب أن يقل تأثره عليكم؛ لذلك من الممكن أن تؤثروا أنتم عليه، ولا تقابلوه بالسخرية منه والاستهزاء به، ولا التحلق والتحزب ضده، ولكن يكون بالكلمة الحسنة، لكن الأهم في الأمر أن يشعر في كل كلمة تعطيه إياها أنك تفعل هذا لأن الدين الإسلامي يمليه عليك، قال الله جل وعلا: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ .. [الممتحنة:8] إلى آخر الآية، ومن ذلك: إهداؤه هدية، دعوته إلى منزلك، دعوته عن طريق الأشرطة النافعة خاصة أشرطة الفيديو التي فيها المناظرات القيمة وما شابه ذلك، التي تجلو بصيرته، وتنير قلبه؛ عل الله جل وعلا أن يرزقك أجر هدايته، والله تعالى أعلم.
الجواب: يا أخي! يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]، وإنه والله من أعظم ما يعقب الحسرة في القلب أن يوجد في بلاد مسلمة من لم يسجد لله جل وعلا سجدة، ومن لم يركع لله جل وعلا ركعة.
إن الله تبارك وتعالى يا بني! غني عنك وعن كل عباده، وإن سجودك وركوعك لله إنما هو عائد أجره لك أنت، قال الله جل وعلا: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46]، وما أضل كثيراً من الناس اليوم -والهداية بيد الله- إلا رفقاء السوء، وإن رفقاء السوء هم الذين نحّو بـأبي طالب عن الملة الحقيقية لما تكالبوا عليه عند وفاته، ولا ريب أن ضعف شخصيتك -مع اعتذاري إليك- هو الذي جعل هؤلاء الأقوام يتسلطون عليك، إنها يا بني أو يا أخي! نفس واحدة إما إلى جنة وإما إلى نار، قال الله جل وعلا: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، فإن كان هؤلاء الأقوام، وهؤلاء الأصحاب، وهؤلاء الكرماء، وهؤلاء الخلطاء أحب إليك من الله ورسوله، أو كانوا هؤلاء سيمنعوك من غضب الله وسخطه، أو كان هؤلاء يقدرون على أن يدخلوك الجنة فأنا أقول لك: اتبعهم واترك طريق الله، لكنك تعلم وأنا أعلم وغيرنا يعلم: أن الأمور كلها بيد الله جل وعلا: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ [الدخان:41-42].
فالله جل وعلا هو الغني بذاته، وهو الذي يمنعك منهم، ويمنعك من غيرهم، فاستعصم بالله جل وعلا، ولعله في قدومك هذا اليوم إلى هذا المسجد لشهود هذه المحاضرة رحمة الله من الله تبارك وتعالى بك، فقد عرفت فالزم ولا يصدنك الشيطان عن آيات الله.
وتقول: حدثني عن النار، هل أحدثك عما أعده الله جل وعلا من عذاب أليم وعقاب؟ لو حدثتك عما يعده مدرس لطلابه إذا تركوا الواجب لهالني وهالك الأمر، فكيف بما أعده رب السماوات والأرض! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:68-72]. وإني أسأل الله جلت قدرته في هذا المقام الكريم أن يجعلني وإياك والحاضرين والسامعين ممن ينجيهم الله جل وعلا في يوم الوعيد.
ثم يا بني! كما تخاف من النار فاطمع في الجنة، ألم تفكر يوماً من الدهر في لذة النظر إلى وجه رب العالمين، والله إنني الآن في حالة سفر، وإنني مشتاق لرؤية أبنائي، فكيف لا نشتاق إلى رؤية وجه رب العالمين تبارك وتعالى، أخرج مسلم في الصحيح من حديث صهيب رضي الله تعالى عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم. هو أعظم من رؤية وجه الله جل وعلا).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، والله تعالى أعلم.
الجواب: إنا لله وإنا إليه راجعون، أيها المؤمنون! إن المصارحة أحياناً أو دائماً هي السبيل لحل كل معضلة ومشكلة، وإن فاحشة اللواط قد كثرت وانتشرت -عياذاً بالله جل وعلا- رغماً عن كثرة الدعاة والعلماء والوعاظ، وعن الدولة جزاها الله تعالى خيراً التي تقيم الحدود، وعن كثرة حرص المربين والوالدين وغير ذلك إلا أنه مع ذلك ما زالت هذه الفاحشة فيها شيء من الانتشار، وإليك يا أخي وإلى المؤمنين جميعاً نقول: إن الله جل وعلا سخط على قوم لوط، وسلط عليهم العذاب الشديد من أجل هذه الفاحشة العظيمة، قال الله تبارك وتعالى في قصة قوم لوط: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83]، وإنه من أعظم الفواحش أن يأتي الرجل الرجل، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يفعل فعل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، وقديماً قلنا في محاضرة غير هذه: إن المفعول به هنا في قوله صلى الله عليه وسلم محمول على من فعلت به رضاً منه لا على من فعلت به كراهية واغتصاباً.
وإن مما ساعد على انتشارها قلة الورع، وإدمان النظر إلى الغلمان، وقلة الخوف من سخط الله جل وعلا وأليم عقابه، وصحبة الأقوام الذين لا خلاق لهم، والتأثر بما يشاهد في المجلات الماجنة أو في الأفلام الخليعة، وانصراف كثير من الشباب عن الزواج، وصرف تلك الشهوة إلى ما حرم الله جل وعلا إلى الزنا واللواط، فالله الله أيها المؤمنون! في أنفسكم وفي أولادكم وفي جيرانكم خيراً من أن يصيبهم هذا الداء العظيم، عافانا الله وإياكم من كل شر وكل سوء، وبلغنا الله وإياكم العفو والعافية، والله تعالى أعلم.
الجواب: هذا الذي ذكره الأخ السائل الكريم الحق أنه أحد مداخل الشيطان على الشباب الذين منّ الله تبارك وتعالى عليهم بالهداية، وحتى يكون الأمر على بينة، نقعد مسائل:
الأولى: ثق يا أخي! مهما بلغ صلاحك أنه يستحيل ألا ترتكب خطأ، فإن الأنبياء في قول بعض أهل العلم غير معصومين عن الصغائر، قال الله جل وعلا عن أبينا الأكرم -ونقول هذا من باب الدليل لا من باب غير ذلك-: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121].
فالإنسان جبل على الخطأ، أو يكون منه الخطأ على وجه الأصح، ولو لم يكن مني ومنك خطأ فلِمَ إذاً عفو الله؟! ولِمَ إذاً فتح باب التوبة إذا كان الناس لا يخطئون؟ لكن السؤال: ما يكون بعد الخطأ.
المسألة الثانية: أن الإنسان يجاهد نفسه ألا يغلبه الشيطان، وألا يرتكب أمراً محرماً قدر الإمكان، وتذكر وعد الله ووعيده، وتذكروا قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، فإن كان منه الخطأ فإن السبيل واحد لا ثاني له وهو: التوبة والاستغفار، قال الله جل وعلا عن عباده الخلص: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، ولقد جرت سنة الله في الخلق أن الخلق يخطئون، فالشيطان يأتيك ويقول لك: أنت غير ملتزم غير كامل، وأنت فعلت بالأمس كذا وقبلها فعلت وفعلت، فتقع هذه في النفس فيترك الشاب الدين بأكمله، والله جل وعلا يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ لِمَ يا ربنا؟ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].
فإذا غلبك الشيطان في أمر فاغلبه في أمر ثانٍ، وائت بالحسنة، وإذا غلبك الشيطان على سيجارة فعلتها بعد انقطاع طويل فادخل المسجد وصلّ ركعتين، علّ أثر تلك السيجارة تنمحي، وأما أن تذهب إلى قرين آخر وتخبره أنك أشعلت سيجارة فيقول لك بالعامية: هي خربانة خربانة، خذ واحدة ثانية، ويمشي الأمر حتى يفتر ما فيك من قوة، وحتى تبعد عن دين الله جل وعلا، لكن اكتم تلك المعصية في نفسك ولا تخبر بها أحداً، واجعل حسرتها في قلبك، وتضرع إلى الله جل وعلا في أن يغفرها لك، واجعلها دافعاً لك في كثرة التوبة إلى الله، وإن رأيت المسألة طالت: فخذ سيارتك واذهب إلى مكة -وهي قريبة من هاهنا- واعتمر وازدلف إلى الله بركعتين عند باب الكعبة، وتقرب إلى الله بالدعاء، في حجر إسماعيل إلى غير ذلك، عل الله جل وعلا أن يمحو ذلك الذنب، أما أن تأتي إلى نفسك، وتقول: متى أصلح؟ متى أكتمل؟ فهذا مدخل شيطاني دخل الشيطان به على كثير من إخواننا الذين منّ عليهم بالهداية.
نسأل الله أن يحيطهم علماً بهذه المسألة، ويجنبهم مواطن الزلل، والله أعلم.
الجواب: على العموم إنما نعظ بما وعظ الله به، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا في السر والعلن، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر