إسلام ويب

شرح كتاب الإبانة - ذكر افتراق الأمم وعلى كم تفترق هذه الأمةللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الافتراق سنة ماضية في الأمم إذا ابتعدت عن شرع الله عز وجل ونهجه، فقد افترق اليهود من قبل إلى فرق متناحرة متحاربة، ثم افترق بعدهم النصارى، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق أعظم مما افترق اليهود والنصارى، وأنه لا نجاة من ذلك إلا بالتمسك بهديه صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    باب ذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    وبعد:

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر افتراق الأمم في دينهم، وعلى كم تفترق هذه الأمة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لنا بذلك].

    هذا الباب من أهم أبواب الاعتقاد، وهو ذكر افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وفي حديث معاوية بهذا السياق رضي الله عنه: (وإنه سيخرج في أمتي أقوام يهوون هوىً، فيتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا دخله).

    وهذا الحديث من الأحاديث التي تجعل المؤمن على حذر ووجل من أن يكون في فرقة من هذه الفرق الضالة، وهذا يستلزم محاسبة العبد لنفسه دائماً، هل هو على منهاج أهل السنة والجماعة وهم الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة؟ أم أنه -من حيث لا يشعر- ضمن فرقة من هذه الفرق التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها في النار.

    فاليهود افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة، والنصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمون افترقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة، وهذا بإخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

    والناظر إلى هذا الحديث يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين). ثم لو توقف عند هذا الحد فسيقول: إن تكملة هذا الحديث هو أن المسلمين لا يفترقون قط؛ لأن المسلم الأصل فيه أنه ليس صاحب هوى، وإنما هو صاحب اقتداء واتباع، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن اتباع الأهواء في هذه الأمة أعظم من بقية الأمم، بل إن هذه الأمة تزيد فرقة عن أصحاب الأهواء والبدع في أمة اليهود والنصارى.

    وقد جعل هذا الباب لبيان هذه الفرق الضالة وبعض علاماتها، والحكم عليها بأنها في النار، وسنتعرض لبيان مذهب الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وبيان بعض علاماتها وأماراتها، وأنها ما سميت أو وصفت بالناجية إلا لنجاتها من النار، وما نجت من النار إلا لاتباعها سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

    [قال الشيخ: قد كتبت في أول هذا الكتاب ما قصه الله عز وجل علينا في كتابه من اختلاف الأمم، وتفرق أهل الكتاب، وتحذيره إيانا كذلك، وأنا أذكر الآن ما جاءت به السنة، وما أعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم من كون ذلك؛ ليكون العبد على حذر من مجاراة هواه] أي: من إطلاق العنان لهواه، [ومتابعة بعض الفرق المذمومة، وكي يتمسك بشريعة الفرقة الناجية، فيعض عليها بنواجذه، ويضمها بجنبيه، ويلزم المواظبة على الالتجاء والافتقار إلى مولاه الكريم في توفيقه وتسديده ومعونته وكفايته، فإنا قد أصبحنا في زمان قل من يسلم له فيه دينه ]. فـابن بطة يقول: إننا قد أصبحنا في زمان قل من يسلم له دينه، فما بالك لو أنه بعث في زماننا؟

    قال: [ والنجاة فيه متعذرة صعبة، إلا من عصمه الله وأحياه بالعلم ]، ونحن دائماً نؤكد على قضية العلم.

    فالعلم حياة للقلوب.

    شرح حديث (ستكون فتن يصبح الرجل بها مؤمناً ويمسي كافراً)

    قال: [عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون فتن يصبح الرجل بها مؤمناً ويمسي كافراً، إلا من أحياه الله بالعلم)]. هذا الحديث بهذه الزيادة: (إلا من أحياه الله بعلم) فيه ضعف، والمحفوظ: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، أي: يبيع دينه بأقل القليل وأقل المتاع، وهذا في آخر الزمان.

    وبعض أهل العلم حسن هذه الزيادة: (إلا من أحياه الله بالعلم).

    وفتن آخر الزمان تتقلب فيها القلوب وتغلي كغليان الماء في القدر على النار، بحيث لا يستقر القلب على حال واحدة، فيصبح الرجل مؤمناً موحداً ويمسي على الكفر البواح الذي ليس بعده كفر، أو يصبح كافراً ويمسي مؤمناً.

    وإذا علمت أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها سبحانه وتعالى كيف يشاء، زادك هذا معرفة بشدة حاجتك إلى الله عز وجل لأن يعصمك ويثبتك، والثبات على الإيمان أعظم من الإيمان نفسه، وأهم من الإيمان، ولذلك قال الله تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، ولو أن الله نصرنا ولم نذكره تعالى بعد هذا النصر لكان هذا سبب الهزيمة، ولا قيمة لنصر تعقبه هزيمة، ولكن النصر المؤزر الثابت الذي لا يتزعزع هو النصر الذي يدوم ويستمر.

    وقد كانت غزوة بدر مثار الحديث والإعجاب في العالم إلى يوم القيامة، وغزوة أحد رغم أنها كلها نصر إلا أن مخالفة الرماة رضي الله عنهم لأمر النبي عليه الصلاة والسلام ألحق الأذى والهزيمة بهم آخراً، ولهذا قال بعض أهل العلم: ليس في غزوة أحد أدنى هزيمة، لكن مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام من قبل الرماة تسببت في انهيار السهام عليهم من قمة الجبل -أي: جبل الرماة- مما أصاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأصاب أصحابه الكرام في سفح الجبل.

    فالدوام والثبات والاستمرار على النصر أولى من مجرد النصر الذي تعقبه هزيمة.

    وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال)، أي: أسرعوا بالأعمال الصالحة قبل قيام الساعة؛ لأنكم إذا كنتم في آخر الزمان ظهرت الفتن التي لا يصبر أمامها إلا من وفقه الله، ودليل ذلك: أنك تجد الرجل في معمعة الفتن يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، وغيره يمسي كافراً ويصبح مؤمناً، وهكذا تقلب القلوب في هذا الزمان، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ دائماً من الفتن.

    قال الإمام ابن بطة : [ جعلنا الله وإياكم ممن أحيانا الله تعالى بالعلم، ووفقه بالحلم، وسلمنا وإياكم من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن ].

    شرح رواية سعد بن أبي وقاص لحديث افتراق الأمة

    قال: [وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل افترقوا على بضع وسبعين ملة، ثم إن أمتي ستفترق على أو عن مثلها، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)].

    والفرقة الناجية هي الجماعة، وإذا علمنا أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن فرقة واحدة منها هي الناجية؛ فلنعلم أن هذه الفرقة الواحدة هم أهل السنة والجماعة، والطائفة المنصورة إما منهم وهو الراجح، أو أنهم هم هذه الطائفة أو هذه الفرقة بأسرها، وهذه الفرقة هم أهل الجنة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة)، أي: فهي في الجنة.

    شرح رواية عبد الله بن عمرو لحديث افتراق الأمة

    قال: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة)]، ثم بين أن هذه الواحدة [(ما أنا عليه اليوم وأصحابي)]. وهذه تسمى الفرقة الناجية، وهي التي تمسكت بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين المنهج الذي من سلكه كان من الجماعة، وهو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام.

    ولذلك يقول بعض أهل العلم: الإجماع المعتبر هو إجماع الصحابة؛ لأنهم معصومون بمجموعهم، ولأنه لم تظهر فيهم البدع، وإنما ظهرت فيمن أتى بعدهم.

    وابن سيرين عليه رحمة الله كان يقول: ما ابتدع عالم قط، أي: أن البدعة إنما أتت من الجهال، فالجاهل بالله عز وجل هو الذي أحدث الاختلاف في الدين، أو الاختلاف في الإلهية والربوبية، حتى أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، إما في ذات الله، أو في أسمائه وصفاته، وإما في النبوة والرسالة، بل حتى في الكعبة، فتجد بعض الفرق الضالة يقولون: نحن نؤمن بالله، ولكنا لا نعرفه، ونحن نؤمن بالرسول، وما دمنا لم نره فإنه لا يلزمنا اتباعه، إنما نؤمن به إذا لم نره، يعني: أنهم آمنوا به بمجرد النظر، ولكن هذا لا يلزمهم العمل بما أمروا به، هكذا يقولون، ويقولون: نؤمن بالقبلة والكعبة، ولكنا لا ندري أهي التي في مكة، أم في بلد غير مكة؟ وهؤلاء بلا شك كفار، وإن لم يكونوا كفاراً فلا أدري من يكون كافراً.

    قال: (كلها في النار إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي)، أو ما أنا عليه اليوم وأصحابي، فبين المنهج لهذه الفرقة الناجية، وأنهم المتمسكون بكتاب الله عز وجل على مراد الله، وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة فهموا كلام الله على مراد الله، وفهموا كلام النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لهم أهواء ولا بدع.

    إشكال حول عدالة الصحابة والجواب عليه

    البعض يقول: كيف نحكم بعدالة الصحابة جميعاً، مع أنهم ينسون كما ينسى غيرهم من البشر ويبتدعون كما ابتدع من أتى بعدهم، بدليل أن البدع إنما ظهرت في زمن علي بن أبي طالب ، بل وفي زمن عثمان ؟

    وأقول: إن نسيان الصحابة أقل ما يكون، ولذلك أجمع النقاد على أن الثقة يهم أحياناً، وأن الضعيف يتقن أحياناً، فإذا وافق الراوي الضعيف في روايته أحد الثقات دلت موافقته على أنه ضبط هذا الحديث وأتقنه.

    وكذلك الثقة يهم أحياناً كما أن الضعيف يضبط أحياناً.

    والنسيان في طبقة الصحابة أقل ما يكون، وهذا أمر لا يجرح العدالة ألبتة، وهذا بإجماع أهل العلم.

    الأمر الثاني: إن القول بأن الصحابة قد ابتدعوا في دين الله عز وجل، والاستدلال على ذلك بظهور البدع في زمن علي بن أبي طالب ، وفي زمن عثمان رضي الله عنهما، كبدعة الخوارج والشيعة مثلاً، وهذه من أصول البدع بالإجماع، وقد ظهرت في الزمن الأول، وفي الحديث أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن أتيا إلى مكة وقالا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام نسأله عما ظهر في زمننا بالبصرة، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف بالكعبة، قال حميد : فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فظننت أنه سيكل الكلام إلي، قلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم -وفي رواية: يتفقرون العلم- والمعنى: أنهم يطلبون العلم طلباً حثيثاً، ويتفقهون في العلم بأنفسهم لا على يد عالم، وإنما يطلبون دقائق المسائل، حتى استحقوا التعمق، يعني: كانوا في غاية التنطع في طلب العلم، فهم يطلبون دقائق المسائل ويتركون عظامها، ويقولون: إن الأمر أنف، وفي رواية: إنه لا قدر، وأن الأمر أنف.

    قال: أوقد قالوها؟ يعني: هؤلاء قد ظهروا؟ قلنا: نعم، قال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني..

    فهذه بدعة القدرية ظهرت على يد معبد الجهني في زمن الصحابة، لكن هذه الروايات لم تصرح أن هؤلاء المبتدعة هم من أصحابه عليه الصلاة والسلام، وليس في الرواية تصريح بأن البدعة وقعت في الصحابة، وإنما وقعت في التابعين ومن أتى بعدهم، والصحابة هم الذين تصدوا لنبذ هذه البدعة وقمعها، وبيان أنهم كانوا على غير ذلك، وبينوا معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بكل بدعة على حدة.

    والصحابة رضي الله عنهم معصومون في مجموعهم بعصمة الله تعالى لهم، كيف لا والله تعالى أحبهم ورضي عنهم ورضوا عنه، وكيف يرضى الله تبارك وتعالى عن قوم قد غيروا دينه وبدلوا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يذاد أناس عن الحوض فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك -أي: ما بدلوا وما غيروا- فأقول: سحقاً سحقاً -أي: بعداً بعداً- لمن بدل بعدي).

    فالتبديل والإحداث إنما ظهر في غير الصحابة، وإن كان هذا التغيير والنفاق قد ظهر في زمن الصحابة.

    وأصول البدعة هي بدعة الخوارج، وقد ظهرت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أتى رجل وقال: (يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعطوا هذا الرجل حتى يرضى، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئي هذا من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). والخوارج كلاب النار، كما جاءت بذلك الأخبار عن السلف رضي الله عنهم.

    فبعض البدع ظهرت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما على جهة الخصوص، ولم تظهر في زمن أبي بكر ؛ لانشغال أبي بكر بالردة، ولا في زمن عمر رضي الله عنه، فـعمر قمع هذه الفتن كلها، وما استطاع أحد أن يظهر بدعته؛ لشدة عمر وقوته، فقد كان عمر يؤدب من يخرج عن الجادة بضربه على أم رأسه بالجريد والنعال، فلما علم المبتدعة بذلك كل دخل جحره، ولم يخرجوا إلا في فترات الضعف والوهن والتفرق والشتات والشذوذ، فزمن القوة حافظ لدين الأمة بأسرها، وزمن الضعف مهين لأفراد الأمة كلها.

    وقال عبد الله بن عمرو : قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل)، يعني: مثل التفرق الذي وقع في بني إسرائيل من اليهود والنصارى تماماً بتمام، وسواء بسواء.

    قال: (حذو النعل بالنعل، فإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة أو ملة، قال: وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، أي: التمسك بالهدي الأول، ونحن نحفظ قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إياكم والتعمق والتنطع والتبدع، وعليكم بالعتيق). وهذا العتيق هو الذي أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام هنا بقوله: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، أي: الأمر الأول الذي لم يقع فيه خلاف ولا تفرق.

    شرح رواية معاوية بن أبي سفيان لحديث الافتراق

    قال: [وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وكذلك سعد بن أبي وقاص قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الأيام والليالي حتى تفترق أمتي على مثلها، ألا وكل فرقة منها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة).

    وعن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال: (حججت مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا مكة أخبر بقاص يقص على أهل مكة من بني مخزوم، فأرسل إليه معاوية فقال له: أمرتك بهذا القصص؟ قال: لا، قال: فما حملك على أن تقص بغير إذني؟ قال: ننشر علماً علَّمَنَا الله. فقال معاوية : لو كنت تقدمت إليك قبل مرتي هذه لقطعت منك طائفة -أي: لقطعت منك جزءاً- ثم قام حين صلى الظهر بمكة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني: الأهواء، وأنها كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة. وقال: إنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)]، أي: تدخل تلك الأهواء في جزء من أجزاء أبدانهم، حتى ما تدع عرقاً ولا مفصلاً إلا دخلته وتمكنت منه، ثم شبه النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأهواء بكلب عض إنساناً فدخل فيه أثر عضة الكلب، وهذا الداء يسمى الكلِب بكسر اللام، يصيب المعضوض بسبب عضة الكلب، وإذا تمكن هذا الداء من هذا الإنسان فلا يخرج منه إلا بالموت، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تتجارى بهم تلك الأهواء)، أي: تدخل في كل أجزاء أبدانهم وعقولهم وأفكارهم وقلوبهم حتى تتمكن منها تمكن الكلِب من صاحبه، حتى يبدو منه في كل عرق ومفصل، أو لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً.

    فهذه الأهواء والمحدثات في الاعتقاد -على جهة الخصوص- إذا تمكنت من العبد تمكناً على هذا النحو فإنه لا ينجو منها قط، إلا إذا شاء الله تعالى له النجاة، كما شاء الله تعالى نجاة بعض المتكلمين والفلاسفة وأصحاب المذاهب الهدامة والأفكار القبيحة الرديئة، كما هو الشأن في أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى الذي تاب من أشعريته، وبقي أصحابه على أشعريتهم؛ ظناً منهم أن الأشعرية هم أهل السنة، وأن الأشعرية هي السنة، وليس الأمر كذلك، بل الأشعرية انحراف عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي مناقضة لما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام في العقيدة.

    قال: [(وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلِب بصاحبه، فلا يبقي منه عرق ولا مفصل إلا دخله، ثم قال معاوية : والله يا معشر العرب! لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به)].

    يعني: إذا تهاونا وتكاسلنا نحن العرب عن حمل دين الله عز وجل، وعن أن نأمر فيه بالمعروف وننهى فيه عن المنكر بشروطه المعروفة عند أهل العلم، وأن نحمل هذا الدين، ونغير به الأرض كلها؛ حتى يدخل هذا الدين في كل بيت وبر أو مدر؛ فمن يحمله؟ أيحمله العجم الذين لا يحسنون لغة العرب والقرآن؟ وقد اختار الله عز وجل نبيه من العرب، واختار أصحابه من العرب، وقلَّ أن يكون أصحابه من العجم، مع أنه لا فرق بين عربي وعجمي، ولا أحمر ولا أبيض، ولا أسود ولا أبيض إلا بالتقوى، كما أخبر الله تعالى في كتابه، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام في سنته.

    فنشر هذا الدين يقع على عاتق العرب لأول وهلة، ولا مانع أن ينصر الله تعالى هذا الدين على يد رجل أعجمي، أو على يد مولى من الموالي لا على يد حر، وكل هذا إنما يتم بقدر الله عز وجل وقدرته، لكن كلف العرب أولاً أن ينشروا دين الله عز وجل، فإذا هم نفروا عن ذلك فغيرهم أولى بهذا النفور.

    شرح روايات أنس بن مالك لحديث افتراق الأمة

    قال: [وعن أنس بن مالك في حديث طويل له رضي الله عنه عن عمر قال: (تفرقت أمة موسى عليه السلام على إحدى وسبعين ملة، منها سبعون في النار وواحدة في الجنة)]. وهذه الفرقة هم الذين تبعوا موسى في رسالته وفي شرعه حتى جاء عيسى عليه السلام، وحتى بعث محمد عليه الصلاة والسلام، ثم لا يقبل من أحدهم بعد ذلك اقتداءً بموسى؛ لأن موسى عليه السلام لو كان حياً في زمن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام لما وسعه إلا أن يكون تابعاً لمحمد عليه الصلاة والسلام.

    وكذلك النصارى فالفرقة الناجية منهم من كان تابعاً في حياته وفي حياة عيسى لعيسى عليه السلام، أي: في مدة بقاء عيسى مع بني إسرائيل، ونحن نعتقد أن عيسى حي رفعه الله تعالى إلى السماء، وأنه حي في السماء الآن، وسينزل في آخر الزمان.

    قال: [(وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة: إحدى وسبعين ملة في النار، وواحدة في الجنة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: وتعلو أمتي على الفريقين جميعاً ملة واحدة)]، يعني: وتزيد أمتي في الافتراق على افتراق أمة اليهود وأمة النصارى بفرقة.

    قال: [(ثنتان وسبعون ملة في النار، وواحدة في الجنة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: الجماعة).

    قال يعقوب بن يزيد : كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:159]، ثم يذكر في أمة عيسى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:65-66].

    ثم ذكر في أمتنا: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181]].

    [وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن سلام!)]. وابن سلام هو عبد الله بن سلام ، وكان حبراً من أحبار اليهود في المدينة، قال: [(يا ابن سلام ! على كم تفرقت بنو إسرائيل؟ قال: على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة، كلهم يشهد على بعض بالضلالة)]. وهذه علامة وأمارة أصحاب الأهواء والبدع، فإنهم إذا اختلفوا كفّر بعضهم بعضاً، وضلَّل بعضهم بعضاً، وبدَّع بعضهم بعضاً، وفسَّق بعضهم بعضاً.

    وأما أهل الحق فإنهم يخطئ بعضهم بعضاً، وهذا قد قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده ابن القيم وغير واحد من السلف، فقالوا: أهل البدع إذا اختلفوا قال أحدهم لصاحبه: أنت كافر، وأهل السنة إذا اختلفوا قال أحدهم لصاحبه: أنت مخطئ، وشتان ما بين هذا وذاك. فإطلاق التكفير علامة على أن من قال ذلك مبتدع، إن لم يكن حكمه موافقاً للشرع.

    وأصحاب الكبائر عند الخوارج كفار، وغلاة الخوارج يكفرون بالذنب، سواء كان صغيراً أم كبيراً، يعني: أدنى معصية يفعلها العبد يكفر بها عند غلاة الخوارج.

    والمعتزلة لهم قول كذلك في مرتكب الكبيرة، فهم يقولون: مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، هذا حكمه في الدنيا، ولا أعرف كيف سيكون التعامل مع إنسان لم تبد هويته ولا يعلم أهو مؤمن أم كافر أم فاسق؟ وأما في الآخرة فإنهم يقولون: إنه مخلد في النار. والخلود لا يكون إلا للكفار الأصليين، أو الذين طرأ عليهم الكفر، أي: الذين بدلوا دينهم وخرجوا من ملة الإسلام، وهم حكموا عليه في الدنيا بأنه ليس كافراً، وحكموا عليه في الآخرة بأنه مخلد في النار، فوصلوا إلى هذا التخبط، وهذا الكلام لا تصدقه عقول العجائز وصبيان الكتاتيب، ولذلك قال غير واحد من السلف: عليك بدين الصبي في الكُتَّاب والعجوز في البادية، واله عما سواهما، يعني: لا يضرك من خالفهما، وهذا الكلام أحرى أن يكتب بماء الذهب، وكلام السلف عصمة لكل أحد، بل هو حجة على كل أحد، فإذا انحرف الشخص فلينحرف ما شاء، فإنه لا عذر له بعد سماع هذه النصوص بين يدي الله عز وجل إلا أن يأتي ربه بقلب سليم.

    قال: [(يا ابن سلام ! على كم تفرقت بنو إسرائيل؟ قال: على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة، كلهم يشهد على بعض بالضلالة، قالوا: أفلا تخبرنا لو قد خرجت من الدنيا فتفرقت أمتك على هذا)].

    يعني: يا رسول الله! قد أخبرناك عن بني إسرائيل، فأخبرنا أنت إذا متَّ وخرجت من الدنيا إلام تصير أمتك؟

    [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بني إسرائيل تفرقوا على ما قلت يا ابن سلام ! وستفترق أمتي على ما افترقت عليه بنو إسرائيل وستزيد عليها فرقة)]، أي: ستكون ثلاثاً وسبعين فرقة.

    [(لم تكن في بني إسرائيل)]، يعني: هذه الفرقة زيادة لم تكن في العد في بني إسرائيل.

    [وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا السواد الأعظم)].

    وبهذا نعرف أن الفرقة الناجية هي الجماعة، وهي السواد الأعظم، وهي الطائفة المنصورة، أو أن الطائفة المنصورة منها، وهم أهل الحديث وأهل العلم والاجتهاد، وهم الجماعة.

    شرح رواية عوف بن مالك الأشجعي لحديث افتراق الأمة

    قال: [وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال)].

    وقوله: (قوم يقيسون الأمور برأيهم) يدل على مخالفة هذه الفرقة الضالة لفرقة الحق الناجية في أصول الدين لا في فروعه.

    وهذه الفرق تخالف في الحلال والحرام، فتجعل الحرام حلالاً، وتجعل الحلال حراماً.

    والتفرق لا بد أنه واقع في الأمة، ولا حاجة إلى إثبات ذلك من قبل النقل؛ لأن النقل ثابت لا محالة بطرق متعددة كثيرة، والواقع يقول: إن التفرق قد حصل ووقع بالفعل، فلو لم يرد نص بإثبات وقوع التفرق في الأمة لآمنا بوقوع التفرق؛ لأنه قد وقع في المجتمع.

    فإذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بوقوع التفرق في الأمة فنقول: إن هذا من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر عن أمر غيبي سيكون فكان، وهذا يدل على أن ذلك من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام.

    الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار)، والكفر لا يطلق على فرقة بأكملها، وإنما يغلب الكفر البواح على بعض الفرق، ونحن نحجم عن إطلاق لفظ الكفر على بعض الفرق، ولكن في الغالب غلاة الفرق كفار مارقون عن دائرة الإسلام، وأما عامة الفرق فإنه لا يحكم عليهم بالكفر حتى تظهر لهم الحجج والبينات.

    والإمام الذهبي عليه رحمة الله يقول: والحمد لله أن عصمنا من هؤلاء وهؤلاء، وكنا في زمان غير زمانهم، يقصد زمن علي ومعاوية . يقول: فما ذنب من نزل بالشام طفلاً رضيعاً على حبمعاوية والمغالاة فيه، وذم علي رضي الله عنه، وما ذنب من نزل بالكوفة والبصرة طفلاً رضيعاً على حب علي رضي الله عنه والمغالاة فيه، وعلى ذم معاوية رضي الله عنه، أي: أنهم كالغنم السائمة أينما قيدت انقادت، لا علم لهم ولا فقه، وليس لهم عقل يميزون به بين الحق والباطل.

    فقوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار) يقضي بأن جميع هذه الفرق في النار، ولا يلزم من دخولها النار الخلود فيها، إلا إذا كانوا قد مرقوا وخرجوا عن دائرة الإسلام فإنهم يخلدون، وأما غيرهم فإن دخلوها -وهم لا محالة داخلوها؛ لخبره عليه الصلاة والسلام- فلا يلزم من دخولهم الخلود، وإن جاء في بعض الروايات أنهم يخلَّدون في نار جهنم؛ فإن الخلود في لغة العرب محمول على المكث الطويل، لا دخولاً أبدياً سرمدياً.

    وقوله: (كلها في النار) يلزم منه التفريق بين من كان كافراً وبين من كان عاصياً من أصحاب هذه الفرق، وكلهم يدخلون النار، ثم منهم من يخرج منها بعد أن يخلد فيها حيناً من الزمان، ومنهم من يمكث فيها أبداً، على حسب ما إذا كان قد كفر ببدعته أو لم يكفر ببدعته.

    الثالثة: أن الفرقة لا يمكن أن تطلق على كل مبتدع، سواء كان واحداً أو جماعة أو طائفة من الناس، إلا إذا خالفت في الأصول والقواعد والكليات العامة للدين الإسلامي.

    يعني: إذا خالف إنسان في فرع من فروع الشريعة فلا يقال: هو خارجي، أو شيعي، أو قدري، أو مرجئي، أو أشعري، ولا يقال ذلك إلا إذا خالف في أصل من أصول الشريعة، وكلية من كلياتها؛ فصارت هذه المخالفة علامة عليه وعلى منهجه وفكره، فهنا يستحق أن يلحق بإحدى هذه الفرق التي انتهج مخالفتها في هذه الكليات والقواعد العامة.

    فإذا وافق شخص القدرية في بعض الفرعيات فإنه لا يكون قدرياً، وأما لو وافقها في الأصول العامة والكليات العظمى التي خالفت فيها هذه الفرقة أهل السنة والجماعة؛ فإنه يكون قدرياً، فبناء على مخالفتهم في هذه القواعد العامة والأصول الكلية استحقوا أن يكونوا فرقة ضالة، ولو وافقهم أحد في هذه الكليات والقواعد العامة يكون منهم.

    إذاً: ليس كل من أحدث في الدين أو ابتدع بدعة في فرعية من الفرعيات يسمى فرقة، وإنما يعزر لأجل مخالفته أو يؤدب، وأما إلحاقه بالفرقة فلا.

    1.   

    منهج جماعة التكفير

    جماعة التكفير في هذا الزمان خالفوا في الأصول العامة والقواعد الكلية للشريعة الإسلامية، فاستحقوا أن يكونوا خوارج كأجدادهم؛ لأنهم تبنوا أصول أسلافهم من الخوارج في سالف عهدهم، فهذه الطائفة أولى بها أن تلحق بتلك الفرقة الضالة، فمنهم من يكفر ببدعته، ومنهم العامي الذي لا يكفر ببدعته.

    وقد انتشروا في هذا الزمان انتشاراً أنتم تعلمونه وتعلمون أماكنهم، وقد وجد هذا الفكر طريقه في وسط الأحياء الراقية.

    وهذا الفكر لا يزال إلى الآن مستمراً في إحياء منهج الخوارج، وإن زعموا أنهم قد تابوا، ولو أنا قبلنا منهم ذلك، فإن عملهم ومسلكهم الأخلاقي ينبئ أنهم لم يتوبوا من هذا الفكر، وهم يجمعون أنفسهم الآن، وقد دخل غيرهم في وسطهم، وهم لا يزالون على تنطعهم الأول في اهتمامهم بالفرعيات، وشغل الناس بها، وهذه المعاصي الظاهرة التي لا تعد من الكبائر يجعلونها من أعظم الكبائر، حتى قال أحدهم: إن الالتزام بالزي الإسلامي لازم لكل مسلم قبل إيمانه بالله، ولا أدري كيف يصدر هذا الكلام من إنسان له عقل، فضلاً عن تبني ذلك، فهو يقول: الالتزام بالزي الإسلامي أسبق في الوجوب من الإيمان بالله ورسوله!

    فلو كان هناك كافر مثلاً فهل نطالبه بأن يلبس الثوب والعمامة؟ وهل هذا كلام مقبول؟ فهؤلاء يضربون بالنعال، ولا يوقفهم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهم قد بدءوا الآن يرفعون عقائرهم مرة أخرى، فلا بد من ضبطهم وإثبات عوارهم وفسادهم الأخلاقي والعقدي في المجتمع؛ حتى يحذر الناس منهم.

    1.   

    شرح أثر علي بن أبي طالب في افتراق الأمة

    قال: [قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى تكون هذه الأمة على بضع وسبعين ملة، كلها في الهاوية وواحدة في الجنة].

    وقوله: (كلها في الهاوية) أي: في النار، (إلا واحدة)، وهي الجماعة، وهم أهل السنة، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وهم من كانوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، وهذا يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا واحدة)، وهذا يدل على أن الحق واحد غير متعدد، خاصة في هذه الأمور العامة الكلية التي أجمع أهل العلم باستنادهم على ثبوتها من دين الله ضرورة، والتي لا يسع المسلم الجهل بها.

    فمن قال من الناس -مثلاً- إن الله لم يفرض الصلوات الخمس، وإنما هما صلاتان في الصباح والمساء فقد كفر بذلك، ومن قال إن الله تعالى أمرنا أن نصلي إلى الكعبة، ونحن قد آمنا بالكعبة، ولكن لا أدري أهي التي في مكة أم أنها كعبة غيرها فقد كفر؛ لأن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولا يصح لأحد أن يدعي أنه يجهل ذلك، كمن يقول: أنا أعلم أن الله فرض علي صيام شهر في السنة، وهو شهر رمضان، ولكن لا أدري هل نحن في شهر رمضان أم لا؟ فهذا نعجز أمامه أن نثبت له أننا في رمضان. وإذا كانت الشمس ساطعة وقال: أنا مؤمن بأن الله تعالى خلق الشمس، وأنها تشرق من المشرق، وتغرب في المغرب، لكني لا أدري هل هذه الشمس هي التي خلقها أم غيرها؟ وهو يقول هذا الكلام في الظهر، فكيف نثبت له أن هذه شمس؟ لن نستطيع إثبات ذلك؛ لأنه فقد بصره وبصيرته، وعلى أم عمرو السلامة.

    فلو أنه نازع في أصل أصيل لا ينازع فيه أجهل الجاهلين فإنه لا حجة له عليه، وهذا يدل على أن الفرقة الناجية واحدة، وأن الحق الذي تستند إليه، والأصل الذي تتمسك به، والذي به نجت من النار ودخلت الجنة، هو كذلك واحد، وهو كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام وإجماع أهل العلم.

    فهم لا يجتهدون بعيداً عن القرآن والسنة وإجماع العلماء، ولا يتكلمون كلاماً من أهوائهم ثم يقولون: هذا كلامنا وهذا اجتهادنا، فالاجتهاد حتى يكون معتبراً مقبولاً لا بد أن يبنى على أصول صحيحة من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا كيف نعرف أن هذا المجتهد أصاب أو أخطأ إلا برجوعه في اجتهاده إلى هذه الأصول الثلاثة، وموافقته الكتاب والسنة والإجماع، أو نعرف أنه أخطأ إلا بمخالفته للكتاب والسنة والإجماع.

    فالخلاف نوعان:

    مذموم، واعتماده على الرأي.

    وممدوح، واعتماده على المصادر الأصيلة في الإسلام، وهي الكتاب والسنة والإجماع.

    فهذه الفرق فرق ضالة بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنها ضالة، وأن ضلالها يؤهلها إلى الدخول في النار، ثم منهم المخلد، وهو الكافر، ومنهم غير المخلد، وهو الفاسق. والخلود في لغة العرب يعني: المكث الطويل، والمجموعة المخالفة لما كان عليه السلف لا يمكن إطلاق الفرقة عليهم إلا إذا خالفوا في الأصول العامة والقواعد الكلية، وأما إذا خالفوا في فرع أو فرعين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، فلا يستحقون اسم الفرقة.

    وقال بعض أهل العلم: إذا بالغوا في مخالفتهم للفروع استحقوا اسم الفرقة؛ لتهديمهم بهذه الفروع معالم الشريعة، ولهذا الكلام وزن، يعني: يمكن أن يكون مقبولاً، لكن الكلام الذي لا نزاع عليه أنه إذا وقعت المخالفة في الأصول العامة والفرائض الكلية وكانت علماً على هذه الطائفة، استحقوا أن يكونوا فرقة.

    1.   

    الفرق بين الجماعة والفرقة

    الذي أؤكد عليه أن الفرق قائم وضروري بين الفرقة والجماعة، أو الطائفة من الناس، وكثير من الناس يقولون: إن هذه الجماعات الدعوية التي أخذت على عاتقها واجب إصلاح المجتمع الإسلامي في الشرق والغرب بعد سقوط الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك لعنه الله؛ فرق ضالة، وهذا الكلام في غاية الخطأ، وإن قال بعض أفراد هذه الجماعات ما قالته فرقة بعينها ألحق هذا الشخص بالفرقة الضالة التي تبنى هو أصولها، ولا أعتقد أن جماعة من هذه الجماعات الإصلاحية الدعوية على الساحة تتبنى مذهب الخوارج أو مذهب الاعتزال أو مذهب الإرجاء أو مذهب الرفض مثلاً، إلا الشيعة في إيران وغيرها.

    والجماعة التي وردت في النصوص هي جماعة الإمام الأعظم، وأما اعتبار هذه الجماعات فرقاً، فهذا من أعظم الظلم؛ لأنه ليس ثمة جماعة من هذه الجماعات تبنت أصول إحدى الفرق الضالة.

    1.   

    أصول الفرق الضالة ومرجعها

    هذه الفرق وإن كانت ثنتين وسبعين فرقة إلا أنها في أصلها ترد إلى أربع فرق أو خمس، وهي: الرافضة أو الشيعة، والخوارج، والجهمية، وبعضهم كـعبد الله بن المبارك يقول: إن الجهمية ليسوا من فرق الضلالة، وإنما هم كفار أصليون، لا علاقة لهم بفرق الإسلام.

    ولذلك لما سأله يوسف بن أسباط: ما هذه الفرق التي ذكرها ابن عمر في حديثه؟

    قال: الروافض، والخوارج، والمرجئة، والمشبهة.

    قال: يا أبا عبد الرحمن ! لم تعد الجهمية؟

    قال: وهل سألتني عن الكفار؟ إنما سألتني عن فرق الضلالة، وأما الجهمية فإنهم كفار.

    فهذا تصريح من عبد الله بن المبارك -وهو إمام الأئمة وسيد العلماء في زمانه- بأن الجهمية أتباع الجهم بن صفوان ليسوا من أهل الإسلام، وإنما هم من فرق الضلالة؛ لأنهم من أول يوم مرقوا وخرجوا عن الإسلام بالكلية. فمرد الفرق إلى هذه الأربع أو الخمس، ثم تفرقت كل فرقة منها إلى فرق متعددة، وبلغت كل فرقة منها فوق العشرين أو دونها، حتى أصبح مجموع هذه الفرق كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتاب الفتاوى قال: فهذه الفرق بلغت في صدرها الأول اثنتين وسبعين فرقة.

    1.   

    علامات الفرقة الناجية

    الفرقة الناجية واحدة، ولها علامات وأمارات، فهم ليسوا أقواماً تحزبوا في أماكن وانحازوا فيها، وإنما استحقوا ذلك باتباعهم للسنة ونقدهم للبدعة ومحاربتهم لها، ونصرتهم للحق الذي كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام.

    ولذلك قال سفيان لـيوسف بن أسباط : يا يوسف ! إذا سمعت برجل من أهل السنة في المشرق فأرسل إليه السلام، وإذا سمعت به في المغرب فأرسل إليه السلام؛ فإن أهل السنة قلة. أي: فإن علماء السنة الداعين لها المستمسكين بها قلة.

    ولذلك قال عنهم: (طائفة)، قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

    ولذلك سموا بالجماعة، وسموا أهل السنة؛ لأنهم متمسكون بالسنة، خاصة في الاعتقاد، والسنة هنا لا تعني حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هي في مقابلة البدعة في الاعتقاد، ولذلك يقولون: فلان سني وفلان بدعي.. وفلان على السنة وفلان على البدعة. فالسنة عند إطلاقها في باب الاعتقاد أو كتب الاعتقاد تعني القيام على عقيدة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، وسموا بالجماعة لأنهم اجتمعوا على هدف واحد.

    1.   

    من هم الفرقة الناجية والجماعة

    اختلف أهل العلم من هم الجماعة؟ فقيل: هي جماعة الإمام الأعظم، أي: جماعة الخليفة ومن معه من الناس، وقيل: هي السواد الأعظم من الناس، وقيل: هي جماعة العلماء والمجتهدين، سواء كان معهم العامة أو ليس معهم العامة، وقيل: هي جماعة الصحابة على جهة الخصوص؛ لأنهم معصومون بعصمة الله لهم من الوقوع في إحدى هذه الفرق الضالة، فلما كانوا معصومين على هذا النحو الذي ذكرت استحقوا أن يكونوا هم الجماعة الذين تتمثل فيهم القدوة والأسوة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: هم من كانوا على الحق وإن قلوا، ولذلك يقول ابن مسعود: الجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك.

    والنبي عليه الصلاة والسلام بمجرد أن أرسله الله عز وجل قبل أن يدخل أحد في دينه كان وحده هو الجماعة، وأحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه كان في زمانه وحده على الحق وهو جماعة، فقد كان الحكام والأمراء والعلماء وغيرهم من الكبار والصغار في زمن أحمد من المعتزلة، وقد حدا هذا ببعض أهل العلم أن يذهب إلى أحمد في بيته ويقول له: يا أحمد ! أنت تقول: إن ما نحن عليه هو الباطل، وأن ما أنت عليه هو الحق، فلو كان ما نحن عليه هو الباطل فلِمَ أظهره الله على الحق؟ فقال أحمد : ومن قال لك بأنكم ظاهرون؟ ألا تدري أن الظهور هو انتقال القلوب من الحق إلى الباطل؟

    قال: وقد انتقلت.

    قال: ومن قال لك إنها انتقلت؟ أما أنا فقلبي مطمئن بالحق الذي هو عليه.

    أي: يريد أن يقول له: ولو كانت القلوب كلها تحولت إلا قلباً واحداً فقط لم يتحول فإنه الحق، وإنه الجماعة.

    وهذه الفتنة كانت في القرن الثالث، والإمام أحمد مات سنة (241هـ)، فهو يريد أن يقول له: أنا وحدي على الحق، ثم سرعان ما زال الباطل ولم يصمد أمام رجل واحد، والذي حارب المعتزلة في زمان أحمد هو الإمام أحمد فقط، والأمة كلها اعتبرت الإمام أحمد هو الذي كان على الحق في زمانه، والأمة بأسرها أو في مجموعها كانت معتزلة، ومع هذا ثبت الله تبارك وتعالى أحمد رحمه الله حتى ظهر دين الله عز وجل.

    وقد جاءه شخص مشفق عليه يقول له: يا أحمد ! قل هذه، وما الذي تخسره؟ فنظر أحمد إلى الآلاف التي وقفت في المشهد، وقال له: إن هذه المحابر تنتظر هذه الكلمة، يعني: تنتظر أن تزل قدم أحمد في هذا الموقف، فضحى أحمد بنفسه لأجل سلامة أمة، فاستحق أن يكون الصديق الثاني للأمة كما سماه بعض أهل العلم.

    قال أحمد : فعبر رجل النهر ودخل علي، ولا أحد منهما يعرف الآخر، وفي طريقه إلى أحمد كان يسأل: أين أحمد ؟ فدلوه على الإمام أحمد في السجن، حتى وصل إلى أحمد فقال: يا أحمد ! اثبت؛ فإنك على الحق، وما هو والله إلا سوط واحد ولا تشعر بشيء بعده.

    فالقضية قضية دين ودعوة وشرع، وقضية أن تذهب بنفسك وتبقى أمة وتعلو راية، فلا تكن أنت أول من يسقطها، ولا أول من يضيع العلم، ولا أول من يضيع الأمة، وأنت لو ذهبت فإنك تذهب إلى رب كريم.

    أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    مدى صحة الروايات الوارد فيها خصائص الفرقة الناجية

    السؤال: ما صحة الروايات التي ذكرت في علامات الفرقة الناجية في أحاديث الافتراق؟

    الجواب: معظم الزيادات التي وردت -وليست كل الزيادات- في حديث الافتراق في بيان الفرقة الناجية وما هم عليه زيادات ضعيفة، وأنا أقر بذلك، ولكن هذه الزيادات أجمعت الأمة على أنها من خصائص أهل السنة والجماعة.

    التعريف بالماتريدية

    السؤال: وجدت في أحد المساجد كتاباً عنوانه: تأويلات أهل السنة من الماتريدية في الأسماء والصفات، وهو كتاب كبير، فمن هم الماتريدية؟

    الجواب: الماتريدية هم أتباع أبي منصور الماتريدي ، والماتريدية والأشعرية هما فرقتان، ولكن أدخلت الماتريدية مع الأشعرية أو مع المئولة؛ لأن أصولهم تكاد أن تكون واحدة.

    والأزهر الشريف يدرس الأشعرية والماتريدية على أنهما مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا الكلام في غاية التدليس، فلم يكن أهل السنة والجماعة أشعرية في يوم من الأيام ولا ماتريدية، وإنما الأشعرية والماتريدية فرقتان من فرق الضلالة. والله تعالى أعلم.

    حكم إجابة المستحلف، وحال نوال السعداوي

    السؤال: إذا استحلفك أحد بالله فهل ترد عليه؟

    الجواب: ليس من السنة الاستحلاف، والاستحلاف في طلب مثل هذا محل نظر عند أهل العلم.

    وعند ذكر أهل العلم تنزل الرحمات، وعند ذكر أهل المعاصي تتنزل اللعنات، وهذا مجلس علم، فإذا ذكرنا فيه الكفار والمجرمين فإن الله تعالى يحفظنا من اللعنات، حتى وإن كان بيننا شقي، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

    و نوال السعداوي كتبت في الأسبوع الماضي مقالاً تبين فيه أن ختان الرجال ليس من الدين.

    وأنا أرجو ممن نازع في ختان الإناث في السنوات الماضية والذين كانوا يقولون: لا داعي لمسألة ختان الإناث؛ لأن هذا إجرام، ويثبت ختان الرجال؛ أرجو منهم الرد عليها؛ لأنها منهم وهم منها، والرد المحلي أحسن من الرد الخارجي أو المستورد. فأرجو من شيخ الأزهر ومن معه ممن حاربوا ختان الإناث أن يردوا على نفسهم وابنة عمهم نوال السعداوي .

    و نوال السعداوي تتضايق جداً في هذا المقال وتقول: إنني أغضب غضباً شديداً حينما يقول لي شخص: يا حجة! ونحن والله لا نستحل أن نقول لها: يا حجة! حتى وإن حجت مراراً؛ لأنها لا علاقة لها بالإسلام، فكيف تحج؟ أو كيف يقبل منها حج؟ فهي مارقة خارجة، مستعدون لأن فـنوال السعداوي ومن معها لا علاقة لهم بالإسلام ألبتة؛ لأنها قد أتت من الأقوال والأعمال ما يجعلنا نكفرها.

    والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756510315