وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فمن الإيمان بالله عز وجل الإيمان بما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وأكاد أجزم بأن كثيراً من طلبة العلم، أو من يرتادون دروس العلم يحفظون هذه القيود الأربعة -التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل- ولا يعرفون معانيها.
والتحريف في اللغة: التغيير، يقال: حرفت الشيء أي: غيرت شكله ومضمونه، وهو إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى، والذي يلحق اللفظ إما أن يكون في نص الكلمة أو شكلها، مثل تحريف حمزة إلى جمرة، أو تحريف واصل الأحدب إلى عاصم الأحول، والعكس بالعكس.
فالتغيير والتحريف اللفظي يلحق الكلمة إما في شكلها وإما في ضبطها.
وهذا النوع اهتم به أهل العلم قديماً وحديثاً، حتى يضبطوا ويحرروا الألفاظ التي وردت إلينا في الكتاب والسنة، وقد تطرقنا إلى هذا النوع من قبل عندما تكلمنا عن تصحيفات بعض القراء لكتاب الله عز وجل.
وقد تطرق الحافظ ابن كثير وابن الصلاح وكل من صنف في علم المصطلح إلى التصحيف والتحريف، وكان الأقدمون لا يرون فرقاً بين ما هو تصحيف وبين ما هو تحريف، وأول من فرق بينهما الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله، فجعل التصحيف غير التحريف.
وقد وقع من ذلك شيء كثير لجماعة من الحفاظ وغيرهم ممن تزيا بزي المحدثين وليس منهم، وقد صنف العسكري في التصحيف والتحريف مجلداً، وأكثر ما يقع ذلك لمن أخذ من الصحف.
والتصحيف والتحريف يكون بكثرة عند من أخذ العلم من الكتاب دون الشيوخ وقد كان منهج أهل السنة والجماعة في العلم التلقي من شيخ حافظ.
وتصحيفات المحدثين منها ما يكاد اللبيب يضحك منها، كما حكي عن بعضهم أنه جمع طرق حديث: (يا
وكذا وقع لبعض مدرسي المدرسة النظامية في بغداد ففي أول يوم إجلاسه أورد حديث: (صلاة في إثر صلاة كتاب في عليين)، فتصحف عليه بدلاً من أن يقول: (كتاب في عليين) قال: كنار في غلس، فبدّل (كتاب) بقوله: (كنار)، وعليين ليس تحتها نقط، فتنطق عليين أو غلس أو علس أو شيء من هذا، فقال: كنار في غلس، فلما سئل عن معنى هذا الحديث، قال: هذا لمزيد الوضوح والإضاءة والبيان؛ لأن الغلس هو اختلاط الظلام بنور الصباح، فيكون الجو أغبش، فإيقاد النار في هذا الوقت تضيء المكان. وهذا كثير جداً عند المحدثين، وقد أورد ابن الصلاح عليه رحمة الله من هذا شيئاً كثيراً.
وهذا النوع يسمى عند أهل المصطلح بالتصحيف والتحريف.
فجعل تغيير شكل الكلمة مثل: كنار في غلس تحريفاً، وأما حمزة وجمرة فشكل الكلمتين واحد فيسميه تصحيفاً، والمتقدمون يعتبرون الأمرين شيئاً واحداً فيطلقون على التصحيف تحريفاً وعلى التحريف تصحيفاً، وهذا ما كان عليه الدارقطني والعسكري ، وغيرهما ممن صنفوا في هذا الأمر.
وقال غير واحد: أصل هذا أن قوماً كانوا أخذوا العلم عن الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التغيير والتحريف والتبديل، فكان يقال عنهم: قد صحفوا، فكانوا يطلقون التصحيف على التصحيف وعلى التحريف في الوقت نفسه، أي: أنهم رووا من الصحف، وهم مصحفون، والمصدر التصحيف.
والتصحيف والتحريف قد يكون في الإسناد أو في المتن، والسند هو سلسلة الرواة الموصلة إلى المتن، والمتن هو ما انتهى إليه السند من الكلام، وسواء كان هذا المتن من كلام النبي عليه الصلاة والسلام أو من كلام غيره ممن دونه.
وقد يكون التصحيف في السماع، فقد تجلس بجوار أخيك فيتكلم بكلام، فتسمعه مصحفاً، فتقول له: أنت قلت كذا؟ فيقول لك: إنما قلت كذا، ولم أقل ما سمعته أنت، فيكون هذا من باب تصحيف السماع، لا تصحيف الفهم ولا اللفظ؛ لأن اللفظ لابد أن يكون مكتوباً.
قال: وقد يكون أيضاً في المعنى. وهذا هو الذي يعنينا في أسماء الله وصفاته. فهو تحريف المعنى وصرف النص عن ظاهره.
وتحريف المعنى ليس من التحريف والتصحيف على الحقيقة، وإنما هو من باب الخطأ في الفهم.
ومنه حديث روي عن معاوية قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر)، فصحفه وكيع فقال: الحطب، فقال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الحطب تشقيق الشعر. وكان هناك بعض الملاحين فلما سمع ذلك قال: يا قوم! فكيف نعمل والحاجة ماسة؟
ومنه أيضاً ما ذكره بعض المؤلفين من تصحف خالد بن علقمة على بعض أهل العلم فقال: مالك بن عَرْفَصَة أو عُرْفُصة، وهذا تحريف؛ لأن شكل الكلمة نفسه تغير، وهذا يسمى عندهم تصحيف السماع أو تحريف السماع.
ومن أمثلة تصحيف السماع تصحف عاصم الأحول على بعضهم فقال: عن واصل الأحدب، وهذا تحريف في السماع.
قال ابن الصلاح : وقد ذكر الدارقطني أنه من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر؛ لأن تصحيف البصر يلزم منه أن ترى الاسم مكتوباً في الورق، وليس هكذا.
ومنه أيضاً: أن ابن لهيعة روى عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد، والصواب: احتجر بالراء وليس بالميم، ومعنى احتجر أي: اتخذ له حجرة في المسجد من حصير، والحديث عند البخاري ومسلم .
ومنه أيضاً: حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة)، وهي اسم قرية في بلاد نجد، واسم القرية عنزة بتسكين النون، ويطلق على فصيلة الشياه من المعز. وقوله صلى الله عليه وسلم إلى عنزة بفتح العين والنون والزاي، والعنزة: هي عصا كمؤخرة الرحل، كان النبي صلى الله عليه وسلم يغرزها أمامه فيتخذها سترة له إذا صلى في فضاء. ولما سمع بعض المحدثين من قرية عنزة من بلاد نجد هذا الحديث قال: الحمد لله نحن قوم لنا شرف، فقيل له: وما شرفكم؟ قال: وأي شرف بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا؟ أي: صلى إلى بلادنا، فتصحف عليه عَنَزة إلى عَنْزة وتصورها بلاده، فاشتبه عليه، وهو الحافظ أبو موسى محمد بن المثنى العنزي من قبيلة عنزة.
وكان أبو طاهر بن لوقا يحدث يوماً أو يقرأ على الإمام الطبراني أبي القاسم ذات يوم حديث: (كان صلى الله عليه وسلم يغسل حصى جماره)، وهو حديث ليس بثابت ولا أصل له، ولكنه موجود في الكتب، فتصحف على الحافظ أبي طاهر بن لوقا وهو يحدث الإمام الطبراني فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل خطى حماره، فانتبه إلى ذلك الإمام الطبراني وأدرك هذا التصحيف، فقال: وما أراد بذلك يا أبا طاهر ؟! أي: لماذا كان يعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ قال: التواضع يا أبا القاسم ! يعني: تكلف له تأويلاً، فتبسم الطبراني وقال: أنت ولدي يا أبا طاهر ! قال: وأنت كذلك يا أبا القاسم !
وعن رجل أنه حدث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال جبريل عن الله عن رجل، وكان حاضراً بعض المحدثين فاستنكر الأمر جداً، قال: فنظرت من ذا الذي يستحق أن يكون شيخاً لله! وإذا بها عن الله عز وجل، فتصحف عليه (عز وجل) إلى (عن رجل)، فقال: عن الله عن رجل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومما قال فيه: وأما تصحيف الفقهاء فهو كثير أيضاً، ومن ذلك: قال يوماً بعض المدرسين: ولا يكون النذر إلا في قرية، والصواب: أنه لا يكون النذر إلا في قربة، أي: قربة إلى الله عز وجل، فتصحف عليه قربة إلى قرية، وشاهد هذا الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه). فلابد أن يكون النذر في قربة لله عز وجل، فمن نذر أن يعصي الله عز وجل فليكفر عن يمينه ولا يعص الله عز وجل.
وقال بعضهم: ويكره القرع، ويحب الخيار، والصواب: ويكره القزع، ويجب الختان، والقزع هو حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر، أو ترك مقدم الرأس وحلق بقية الشعر، مثل ما يسمونه اليوم كبوريا.
وقال بعضهم يوماً: قال الشافعي : ويستحب في المؤذن أن يكون صبياً، فقيل له: ولم ذاك؟ قال: ليكون قادراً على الصعود في درج المئذنة، وقد كانوا يبنون المآذن في المساجد، فإذا أراد المؤذن أن يؤذن صعد عليها، وإنما قال الشافعي : ويستحب في المؤذن أن يكون صيتاً، يعني: ذا صوت جميل، فتصحف عليه صيتاً إلى صبي.
وقرأ يوماً بعض كتاب المأمون قصة فقال: أبا ثريد بالثاء، فقال المأمون: كاتبنا اليوم جوعان؛ لأنه يفكر في الثريد، أحضروا له ثريداً، فأكل، فقرأ بعد ذلك: فلان الخبيصي بدل الحمْصي، فقال: هو معذور، ليس بعد الثريد إلا الخبيص، أحضروا له خبيصاً، فأكل منه.
وكتب سليمان بن عبد الملك إلى ابن حزم أمير المدينة -وهو أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم ، وليس ابن حزم الفقيه المعروف- أن احص من قبلك من المخنثين، أي: عدهم، فصحف كاتبه -أي: كاتب سليمان بن عبد الملك - فقال: اخص بالخاء، فدعاهم الأمير وخصاهم أجمعين.
ويقول الصفدي : وحكى لي بعض الأصحاب أن الأمير علاء الدين الطنبغا نائب حلب جاءته رسالة من بعض الولاة يذكر فيها أنه وجد في بعض الأماكن شخصاً مقتولاً، وخرجه تحت إبطه، والصواب: وجرحه تحت إبطه، فصحف الجرح إلى خرج. إلى غير ذلك من التصحيفات التي وقعت في الكلمات سواء في شكلها أو في ضبطها.
ونحن نرى كثيراً من الناس المحققين يخرجون لنا عشرات بل مئات الكتب كل يوم، ويحكمون على النصوص بأنها تصحيف وتحريف، فيأتي المحقق يحقق كتاباً فيقف عند لفظة يخفى عليه معناها، بل ويستغربها ولا يهون عليه أن ينظر في معاجم اللغة أو الأدب أو غير ذلك، فيسرع إلى تخطئة هذا اللفظ ورمي المصنف بالتصحيف والتحريف، وقد كان العلماء يذكرون اللفظة كما هي، ثم يقولون: كذا في الأصل، ولا ندري معناه؛ لأن الذي خفي عليك معناه قد يظهر لغيرك، وقد حدث هذا مع كبار المحققين في هذا الزمان وقبل هذا الزمان.
فالتحريف اللفظي هو: تغيير الشكل أو النص، وهو غالباً يقع من الجهال، وهو غير التحريف المعنوي الذي وقع فيه كثير من الناس بعمد أو بغير عمد، بتأويل أو بغير تأويل، بدليل أو بغير دليل، وهو الذي يعنينا في أسماء الله عز وجل وصفاته.
وتغيير المعنى وتحريفه في أسماء الله وصفاته يسميه القائلون به تأويلاً، لأن التأويل منه ما هو سائغ ومنه ما ليس بسائغ، بل منه ما هو محمود وجيد وعليه دليل، ومنه ما ليس بمحمود ولا جيد وليس عليه دليل.
وتسميتهم له تأويلاً إنما هو هروب من رد كلامهم، إذ لو سموه تحريفاً لنادوا على أنفسهم ببطلان كلامهم ورده، ولذلك سموه تأويلاً؛ لأن كلمة التأويل لها وقع على الأذن؛ لأن التأويل أيضاً بمعنى التفسير، وأما التحريف فلا يكون إلا باطلاً، ولذلك هربوا من قولهم: هذا تحريف، إلى قولهم: هذا تأويل، فكلمة التأويل تقبلها النفس، وتحتمل الصواب والخطأ، وهي في نظرهم تحتمل الصواب لا غير، ولذلك لجئوا إلى هذا المصطلح، وردوا اللفظ الآخر، وهو التحريف.
والتعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل خاصة في أسماء الله عز وجل وصفاته، لعدة وجوه:
الوجه الأول: أن هذا اللفظ وهو التحريف هو الذي جاء به القرآن الكريم، قال الله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46]، قال الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله: أي: يتأولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل قصداً منهم وافتراء.
والتحريف لا يطلق إلا على الأمور الباطلة، وصرف النص عن ظاهره إلى غير مراد الله عز وجل، وأما التأويل فمنه ما يكون على مراد الله، ومنه ما لا يكون على مراد الله عز وجل.
والذين تعرضوا للتأويل والتحريف في صفات الله عز وجل، الأولى أن يطلق عليهم: محرفون، ولا يطلق عليهم مؤولون ولا متأولون؛ لأن هذا اللفظ والمصطلح إنما ورد في كتاب الله عز وجل في بني إسرائيل وهم اليهود، قال تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ، أي: يؤولونه ويصرفونه على غير مراد الله عز وجل.
الوجه الثاني: أن المؤول بغير دليل محرف، والأولى به أن يسمى محرفاً لا مؤولاً؛ لأن الذين انحرفوا بأسماء الله وصفاته عن منهج أهل السنة والجماعة يسمون محرفين؛ لأنهم انحرفوا عن المنهج الحق وصراط الله المستقيم، وهذا من العدل، ومن وضع النقاط على الحروف.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، ويجب البعد عنه والتنفير منه، وأما إذا استند إلى دليل فهو صحيح مقبول، وإطلاق التحريف أبلغ تنفيراً من التأويل، فلو قلت لرجل تأول بغير دليل: إنك محرف ومبدل ومغير لكان أبلغ من قولك: إنك متأول؛ لأن التأويل منه ما هو صحيح مقبول مستند إلى دليل، وأما التحريف: فلا يقبله أحد، بل ينفر الإنسان منه. وإذا كان كذلك فإن وصف طريق من خالف طريقة السلف بالتحريف أولى من وصفها بالتأويل.
الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، بخلاف التحريف، فالتحريف كله مذموم تأباه النفوس الطيبة التي جبلت على فطرتها السليمة، وأما التأويل فليس بمذموم كله، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق ابن عباس رضي الله عنهما: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل). والتأويل هو التفسير، ولذلك جاء في رواية البخاري صريحاً: (وعلمه الكتاب) أي: القرآن الكريم. وقد دل هذا أن التأويل في الرواية الأولى مقصود به تأويل الكتاب، أي: تفسير الكتاب.
وقال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]. وعلى قراءة من أوجب الوقوف على العلم يكون المعنى: أن العلماء إنما عرفوا تأويل المشتبهات، والآية فيها خلاف، هل يجب الوقف على لفظ الجلالة َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]؟
فمنهم من يقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ، ثم يقرأ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]. وهناك من يرى وجوب الوقف على العلم، أي: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ، ويقولون: إن الله تعالى لم يخاطبنا بمهمل، وإنما خاطبنا بما يفهمه ولو بعض الناس، وهم العلماء، فيجب الوقوف على لفظ العلم، ويكون التقدير: أي: وأهل العلم يعلمون تأويل المشتبهات في الأسماء والصفات وغيرها، وأن الله عز وجل امتدح أهل العلم بأنهم يعلمون التأويل.
فيأتي بمعنى التفسير، وبمعنى العاقبة والمآل، وبمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
فقولك: تأويل هذه الآية كذا وكذا، أي: تفسير هذه الآية كذا وكذا؛ لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يئول إلى معناه المراد به.
وأما التأويل الذي هو بمعنى عاقبة الشيء فقد يكون في الطلب وقد يكون في الخبر.
فمثال التأويل الوارد في الخبر قول الله عز وجل: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53]. فقوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ أي: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومآل ما يخبرون به، ويوم يأتي ذلك المخبر به يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53].
ومنه قول يوسف لما خر له أبواه سجداً: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100]، أي: هذا وقوع رؤياي؛ لأنه لم يقل هذا إلا بعد أن سجدوا له بالفعل.
ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قول الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]... إلى آخر السورة: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، يعني: يعمل به.
وإذا كان التأويل في معرض الطلب، والطلب للأمر كان التأويل بمعنى العمل به دون سواه.
المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره، وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل فهو محمود؛ لأنه يكون بمعنى التفسير أو العاقبة أو المآل، وإن لم يدل عليه دليل فهو مذموم، ويكون من باب التحريف وصرف النص واللفظ عن ظاهره، وليس من باب التأويل.
وهذا هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل، وسار عليه من تنكب طريق السلف في صفات الله عز وجل، فكانوا يصرفون اللفظ عن ظاهره على غير مراد الله عز وجل.
فمثلاً قول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. فاستوى معلوم المعنى عند السلف وعند العرب في لسانهم؛ فهو بمعنى : علا وارتفع. وهم يقولون: استوى بمعنى استولى، ولا شك أن من يقول هذا يكون قد صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، وهذا تحريف.
والذي يحرف صفات الله عز وجل عن ظاهرها بغير دليل الأولى أن يقال عنه: إنه محرف.
والذين يقولون: نحن نؤول كلام الله عز وجل حتى نفهمه، ونؤول صفات الله عز وجل حتى نفهمها إنما هم محرفون، وليسوا مؤولين.
وأما صرف اللفظ عن ظاهره بدليل فمثل قول الله عز وجل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]. (فأتى) فعل ماض، (وأمر الله): الساعة، وهي لم تأت بعد، فيكون تفسير أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النحل:1] أي: سيأتي أمر الله، فيكون الله عز وجل عبر عن المستقبل بصورة الماضي، وهذا جائز على الله عز وجل.
ومثل قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:23]. فكان تفيد الماضي في حق غير الله عز وجل، ولو كانت في غير كلام الله عز وجل لقلنا: إنها زائدة، لأن قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا بمعنى إن الله غفور رحيم، فحذف كان لا يغير المعنى ولا السياق.
فيكون معنى قوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ أي: سيأتي أمر الله، والدليل على ذلك تعقيبه بقوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، ومعلوم أن الاستعجال على أمر قادم، وليس على أمر فائت، وهذا يدل على أن الله تعالى عبر عن المستقبل بصورة الماضي في قوله عز وجل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ .
ومثل قول الله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]. والاستعاذة معلوم أنها في أول القراءة، وبهذا تكون الآية مصروفة عن ظاهرها، بدليل عمل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد كان إذا قرأ القرآن استعاذ بالله في أول القراءة.
فيكون معنى قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي: فإذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم.
وهذا مثل حديث أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). والخبث: ذكور الشياطين، والخبائث: إناثهم. فقوله: إذا دخل يعني: إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، أي: قبل أن يدخل؛ لأنه لا ينبغي أن يذكر الله عز وجل في مثل هذه الأماكن والأنتان والحش.
وأما التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح الأولى أن نسميه تحريفاً؛ لعلل، منها:
أن لفظ التحريف قد جاء في كتاب الله عز وجل، ولأنه ألصق بطريق المحرف؛ لأنه تأول الصفات بغير دليل، ولأنه -أي: لفظ التحريف- أشد تنفيراً.
وأصحاب الكلام يقولون: التأويل شيء مهم وجميل، وهو: انتقاء ألفاظ ومعان أخرى لهذا اللفظ الوارد أو لهذه الصفة الواردة والثابتة لله عز وجل وتأويلها على غير ظاهرها، حتى يفهم معناها.
ولأنه أشد تنفيراً عن هذه الطريقة المخالفة لطريقة السلف، ولأن التحريف كله مذموم، بخلاف التأويل، إذ منه ما هو ممدوح، ومنه ما هو مذموم، فيكون التعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل، أي: من هذه الوجوه كلها.
والتحريف منه ما يكون في اللفظ ومنه ما يكون في المعنى، والتحريف الذي يلحق اللفظ إما أن يكون في الشكل أو في النقط، فيتغير إما شكل الكلمة وإما نطقها، وهذا النوع قليل جداً، ولا يصدر إلا من جاهل.
وأما تحريف المعنى فشر أنواعه، وهو: صرف اللفظ عن ظاهره في أسماء الله تعالى وصفاته. وأصحاب هذا العمل يسمون بالمؤولة، ومعظمهم من الأشاعرة. ويتلوهم المعتزلة، والمعتزلة أسبق في التأويل من الأشاعرة، ولكن الأشاعرة غلو في التأويل.
وهو في الاصطلاح: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواء كان هذا التعطيل والإنكار كلياً أو جزئياً.
وهناك من الطوائف من أنكر أسماء الله تعالى وصفاته بالكلية، ومنهم من أثبت الأسماء وأنكر الصفات، ومنهم من أثبت الأسماء والصفات إلا سبع صفات.
قال: (وهذا الإنكار لأسماء الله تعالى وصفاته إما أن يكون كلياً أو جزئياً)، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود؛ لأنه لا يلزم من التحريف أن يكون بجحود، كما هو حال بني إسرائيل اليهود الذين حرفوا الكلم عن مواضعه جحوداً، فقد حرفوه وصرفوه عن ظاهره جحوداً وافتراء على الله عز وجل وعلى رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
فهذا كله يسمى تعطيلاً، سواء كان هذا التعطيل جزئياً أو كلياً.
يقول: وهذا وإن كان صاحبه -أي: الذي أشرك في العبادة والمعاملة- يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
والنوع الأول من الشرك هو الشرك في ذات الإله سبحانه وتعالى، كأن تعتقد أن لهذا الكون إلهين، مثل إله الظلمة وإله النور عند الثنوية، أو تعتقد أن هذا البلد مثلاً له إلهان؛ إله في السماء وإله في الأرض يشرع من دون الله عز وجل، فهذا كفر مخرج من الملة بالكلية؛ لأن هذا شرك في ذات الإله.
وهذا هو النوع الأول من الشرك الذي تكلم عنه ابن القيم عليه رحمة الله، وهو الشرك في ذات المعبود. أي: تعطيل الله عز وجل عن أسمائه وصفاته وأفعاله.
قال: (الشرك الثاني: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) أي: أن تجعل مع الله إلهاً آخر.
ثم تكلم عن الشرك في ذات الإله بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، إلى أن قال: وهو نوعان: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]؟ فقد كان فرعون ينكر على موسى عليه السلام ويسخر منه. أي أنه يقول له: ليس هناك رب غيري، كما قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]. وقال تعالى مخبراً عنه أنه قال لهامان: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37]. ومعنى أظن: أعتقد، والظن إما أن يأتي بمعنى الشك، وإما بمعنى القطع فقوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا أي: وإني لأعتقد أنه كاذب.
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل.
وهذا النوع لم يكن عند مشركي العرب، فإنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وبأن الله تعالى هو الخالق المالك المدبر الرازق، وغير ذلك من صفات الله وأفعاله التي تدل على ربوبيته سبحانه وتعالى.
الثاني: تعطيل الصانع سبحانه وتعالى عن كماله المقدس. والصانع ليس من أسماء الله عز وجل، ولكن العلماء من أهل السنة والجماعة تناولوا هذا الاسم في حق الله عز وجل من غير نسبته إلى الله عز وجل.
قال: (تعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله). فلو قلنا: إن الله تعالى لا يتصف بالرحمة، أو أنه رحيم بلا رحمة، وعليم بلا علم، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر لكنا قد عطلنا الله عز وجل عن صفاته. وهذا النوع هو الذي يتأوله المتأولون، وهم محرفون لا مؤولون.
الثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، وهو صرف العبادة إلى غير الله عز وجل، ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود -وزعيمهم ابن عربي - الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، بل الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق.
ويقولون: إن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه، أي: إن الحق سبحانه وتعالى المنزه هو ذات وعين الخلق المشبه المرئي.
ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن له أول، وليس له آخر. وهذه الأوصاف إنما تنطبق على الله عز وجل، وليس على كل حادث، والله عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وليس دونه ولا فوقه شيء. وهذا النوع هو نوع شرك الملاحدة الذين يعطلون أسماء الله تعالى وصفاته.
قال: (وأنه لم يكن معدوماً من الأصل، بل لم يزل ولا يزال)، أي: هذه الدنيا كلها بأحداثها وبأجرامها والسماوات والأرضين أبدية وأزلية، لم يكن لها أول، وليس لها انتهاء. وهذا كلام في غاية البطلان.
قال: والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس، ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة -يعني: عطلوا الأسماء والصفات عن ذات الإله سبحانه وتعالى- بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها، أي: أن الذين يعطلون الأسماء والصفات عن الله عز وجل من الجهمية والقرامطة وغيرهم إنما يرفعون المخلوق على الخالق؛ لأنهم لما عطلوا الأسماء والصفات للمخلوق، فيكونون بذلك قد عطلوا أسماء الله تعالى وصفاته وأثبتوها للمخلوق، وبذلك يكونون قد رفعوا المخلوق على الخالق. ولا شك أن من عطل جحوداً ونكراناً ليس من أهل السنة.
قال: ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلي النور وحوادث الشر إلى الظلمة. ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، أي: بدون علم الله وبدون تدخل منه عز وجل وبدون إرادة الله عز وجل.
قال: (لا يعطلون أي صفة من صفات الله، ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً)، ومعنى كاملاً أي: غير مقيد بقيد.
والمعتزلة والأشاعرة يقيدون ذلك بما يقبله العقل ويتوافق معه، فقد قالوا: نثبت لله تعالى من الصفات ما يقره العقل ويقبله، وإن لم يكن موجوداً في الكتاب والسنة، وننفي عن الله عز وجل الأسماء والصفات إذا كان العقل لا يقبلها، وإن كانت موجودة في الكتاب والسنة، فجعلوا الميزان الأكبر الذي توزن به الأسماء والصفات هو العقل، والميزان الأعظم عند أهل السنة والجماعة هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
مثل قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، فالضمير عائد على الله عز وجل، فلو قلنا: أي: قوتاه، لكنا بذلك قد حرفنا في الدليل؛ لأن الله تعالى أثبت لنفسه اليد، وأثبت لنفسه القوة، وأثبت لنفسه القدرة، وأثبت لنفسه أنه المتين، فلو قلنا: إن اليد تعني القوة لكنا محرفين للدليل وصارفين له عن مراد الله عز وجل وعن ظاهره، وكذلك نكون معطلين للمراد الصحيح؛ لأن المراد هو إثبات اليد الحقيقية لله عز وجل، وعدم تشبيهها بأيدي المخلوقين، فنقول: إن لله تعالى يداً ليست كيد المخلوق، فنثبت اليد لله تعالى على الحقيقة؛ لأن الله تعالى أثبتها لنفسه.
ولو قلنا: إن اليدين المعني بهما القوة لكنا قد عطلنا المعنى المراد وأثبتنا معنى غير مراد، وكذلك لو قلنا في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] لا ندري ما معنى اليدين، ولكنا نفوض هذا الأمر إلى الله عز وجل فإنه يدري معنى ذلك؛ لكنا قد وقعنا في التعطيل، ومعلوم أن الله تعالى إنما خاطبنا بكلام نعرف معناه ولا نجهله، فلو قلنا: إننا نجهل معناه لتنافى هذا مع البيان الذي أمر الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]. والتعطيل شر من التحريف.
وبهذا نعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف أسلم وستجد هذه الجملة في كتب كثيرة من كتب العقيدة، فبعضهم يقول: إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أحكم وأعلم. وهذا كلام خاطئ، وفي منتهى الخبث والضلال؛ لأن طريقة السلف لن تكون أسلم إلا بحكمة وعلم، فلا يمكن أن تكون سليماً إلا إذا كنت على بصيرة وهداية ونور وعلم، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]. فالسلامة لا تكون إلا من خلال الحكمة والعلم، ولا يمكن أن يسلم المرء من غير حكمة ولا علم أبداً، ومن كان معه حكمة وعلم فلابد أن يكون سالماً ومستقيماً على الجادة.
فالصواب أن يقال: إن طريقة السلف أسلم وأحكم وأعلم، وإن طريقة الخلف مخالفة ومنافية لما كان عليه السلف.
وطريقة السلف في الأسماء والصفات أنهم يثبتونها لله عز وجل، ويعلمون معناها علماً حقيقياً، ويفوضون كيفية ذلك لله عز وجل، فهم لا يفوضون الإثبات ولا المعنى، وإنما يفوضون الكيف، فمن قال بغير ذلك ولو في القرن الأول فهو من الخلف، ومن قال بقول السلف ولو عند قيام الساعة فهو من السلف. فلا نظن أن السلف هم أصحاب القرون الأولى، والخلف هم من أتى بعد ذلك، وأن هناك حداً فاصلاً بين السلف والخلف، بل من قال بقول الصحابة والأئمة المتبوعين الذين وافقوا الصحابة في أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله فهو متبع للسلف، وإن كان في القرون المتأخرة التي لم تأت بعد.
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وصيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
يعني: أصبح يعض على يديه؛ لأنه ما ترك سبيلاً من سبل الخلف إلا وسلكه، ولا مدرسة انحرفت عن منهج السلف إلا ودرس طريقتها، وأفنى حياته في الدفاع عن منهج الخلف وترك منهج السلف، فندم على أنه قضى حياته في مثل هذا، وتمنى لو أنه يرجع إلى منهج السلف.
وهذه الطريقة التي سلكها يقول عنها: إنه ما وجد فيها إلا واضعاً كف حائر على ذقن، أي: لأنه ليس عنده علم، أو آخر قارعاً سن نادم، أي: لأنه لم يسلك طريق السلامة أبداً.
وقال الرازي أيضاً:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ومعلوم أن القيل والقال إذا لم يكن مستنداً إلى دليل من الكتاب والسنة لا ينفع صاحبه.
ثم يقول الفخر الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن. ثم يقول: اقرأ في الإثبات -أي: إثبات الصفات لله عز وجل والأسماء-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]. واقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].
ثم يقول: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فهو قد أفنى عمره كله في الطرق الكلامية والفلسفية، ثم تاب إلى الله عز وجل في آخر حياته. وأنت إذا عرفت كلامهم هذا وأنت في مقتبل عمرك البحثي والعلمي فينبغي عليك أن تسلك مسلك السلف، وأن تنبذ بقلبك منهج الخلف؛ لأن فحول الخلف لما بلغوا ما بلغوا بعد أن قضوا أعمارهم وأفنوا حياتهم في هذا المنهج أدركوا في النهاية أن طريقة السلف هي أسلم وأحكم وأعلم.
والإمام أبو المعالي الجويني وهو أيضاً مؤول من الخلف يقول: أتمنى أن أموت على عقيدة عجائز نيسابور، لأنهن يؤمن بالله عز وجل على فطرهن، فـأبو المعالي الجويني الذي كان يجري كل الناس وراءه، وكان يشار إليه بالبنان في ذلك الزمان، وكان إمام الحرمين، أفنى حياته كلها في تقرير مذهب الخلف، وتقرير الطرق العقلانية والفلسفية والكلامية، ثم تمنى في آخر حياته أن لو مات على دين جدته وجده، والعجائز من عوام الناس، فهو تمنى أن يعود إلى الأمية، فهل يقال: إن هذا المذهب أعلم وأحكم؟!
الأولى: تكذيب القرآن؛ لأن صاحبه يضطر إلى رد الأسماء والصفات التي وردت في كتاب الله عز وجل.
الثانية: تجهيل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما خوطب بكلام يفهمه ويعقل معناه، ويعرف حقيقته، ولكنه يفوض كيفيته إلى الله عز وجل.
الثالثة: أن ترفع الفلاسفة والمتكلمين على كتاب الله وعلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف؛ إلا إذا قصدوا بالتفويض تفويض الكيف. فهم قد اتهموا السلف بتفويض المعنى دون تفويض الكيف، والسلف يثبتون اللفظ والمعنى، ويقررونه ويشرحونه بأوفى شرح.
وأهل السنة والجماعة لا يحرفون ولا يعطلون، ويقولون بمعنى النصوص الواردة في كتاب الله عز وجل، فقوله تعالى: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] بمعنى: علا عليه، وليس معناه: استولى، وقوله: بِيَدِهِ يثبت بها أهل السنة والجماعة اليد إثباتاً حقيقياً لله عز وجل، ولكنهم لا يخوضون في الكيف، ولا يقولون: المقصود بها القوة والنعمة، فلا تحريف عند أهل السنة ولا تعطيل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر