إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة الزخرف [4]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد تبرأ أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام مما كان يعبد قومه من الأصنام، والتجأ إلى الله تعالى وحده، فهو الذي بيده الهداية والإضلال، والنفع والضر. ثم جعل ذلك التوحيد والهدى في عقبه يرجعون إليه. وقد كان إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، وكان وحده أمة، فقام في وجه الشرك والباطل لوحده، وصارع قومه وناظرهم وحاجهم. فلما لم يقدروا أن يردوا حجته لجئوا إلى القوة، فأوقدوا النيران العظيمة وألقوا إبراهيم فيها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأنجاه من كيدهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون)

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26]، ووافق ذلك أن كان في آخر الحلقة، فنجم عنه أن المعنى لم يتحرر تحرراً كاملاً، فكان لزاماً أن نستفتح به لقاءنا هذا.

    فنذكر أولاً المسلك اللغوي، فإذا انتهينا من المسلك اللغوي نعيد إجمالاً معنى الآية، ونحرر ما قاله المفسرون، ثم نذكر رأينا إن كان لنا رأي غير ما قالوه.

    فالله يقول: وَإِذْ قَالَ [الزخرف:26] أي: واذكر إذ قال؛ لأن (إذ) هنا ظرفية تحتوي الحدث، وإبراهيم هو أبو الأنبياء، وأفضل خلق الله بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (فأقوم مقاماً يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى إبراهيم) قرينة ظاهرة على أن إبراهيم أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.

    وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ [الزخرف:26] قدم ذكر الأب ليبين عظيم تبرؤ إبراهيم من الأصنام، والخطاب لقوم يعبدون الأصنام، فأخبرهم عن خليل الله إبراهيم، وأما القول: بأن إبراهيم أب لهم فيحتاج إلى أعادة نظر، وأما من حيث أصله فنعم، لكن ليس صحيحاً تاريخياً أن ننسب الناس لكل أب لهم، بمعنى لا بد من شخصية ما تكون فاصلة بين ما بعد وما دون وما قبل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أرموا بني إسماعيل) ولم يقل بني إبراهيم؛ لأنه لو قال: ارموا بني إبراهيم لدخل بنو إسرائيل معنا، لكنا قال صلى الله عليه وسلم: (أرموا بني إسماعيل) حتى يخرج بنو إسحاق؛ لأن بني إسحاق منهم يعقوب، ويعقوب منه بنو إسرائيل، ومن إسحاق كان العيص ، ومن العيص كان الروم، فلو نسبنا الناس إلى إبراهيم كما جرى عليه بعض المفسرين دون أن يلحظ هذا في معنى الآية فإننا سنقع في الخطأ والخلط في فهم الآيات، وهذا لا يتضح لك الآن إلا إذا أكملنا تحرير المعنى، وأنا قلت: سأبدأ بداية تروّي في قضية اللغة.

    وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ [الزخرف:26] ( براء ) لغة في بري، وكان أهل عالية نجد آنذاك يستخدمونها، كما يقولون: طويل وطوال، ويقولون: بريء وبراء، إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26]، مما هذه مكونة من (من) و(ما)، فأدغمنا في بعضهما البعض، فأما (من) فحرف جر، لكن (ما) تحتمل هاهنا أن تكون مصدرية، وأن تكون موصولة، فإذا قلنا: إنها مصدرية فيصبح المعنى: إنني براء من عبادتكم لغير الله؛ لأن عبادة مصدر من الفعل عبد، وهنا (ما) تصبح مصدرية، وإن قلنا: إنها موصولة يصبح المعنى: إنني براء من معبوداتكم، موصول، أي: من الذي تعبدونه، ولا يتحرر من هذا كبير اختلاف، فإبراهيم بريء منهم؛ بسبب عبادتهم لغير الله، إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26]، إِلَّا [الزخرف:27] استثناء منقطع في قول الجمهور، وهو الحق، بمعنى لكن، أي: لكن الذي فطرني أي: خلقني، فإن سيهدين.

    وهنا إشكال وهو: أن السين جاءت هنا ولم تأتِ في آية الشعراء: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78].

    قال الشيخ الهرري أمتع الله به -وهو ما زال موجوداً في مكة- قال: بعد عناية ودراسة فيها الذي يظهر أن هنا جيء بالسين لا للتسويف ولكن للتأكيد؛ لأنه هناك في آية الشعراء ذكر أن الأصنام عدو له، قال: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء:75-77]، وأما هنا فأراد إبراهيم أن يخبر بالبراءة من قومه ومن آلهتهم فجيء بالسين للتأكيد لا للتسويف، ثم قال كلمة نرددها الآن: والله أعلم بأسرار كتابه.

    قوله: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27] إلى الآن لا يوجد خلاف بين العلماء في المعنى؛ لأنه ظاهر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه ...)

    وَجَعَلَهَا [الزخرف:28] الجاعل هو إبراهيم على الصحيح، وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الخلاف قائم في فاعل جعل هل هو عائد على لفظ الجلالة أو عائد على إبراهيم، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28].

    والمفسرون من حيث الجملة يقولون: إن هذه الكلمة العظيمة -وهي البراءة من الشرك وأهله؛ موالاة الله رب العالمين جل جلاله، وهي كلمة التوحيد وقيلت بمعنى: لا إله إلا الله- جعلها إبراهيم علامة وشعاراً لدينه، وجعلها باقية في عقبه؛ رجاء أن قومه إذا حادوا عن الطريق رجعوا إلى تلك الكلمة، الكلمة، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ [الزخرف:28-29]، (هؤلاء) أي: المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، (وآبائهم) أي: الذين لم يشهدوا نبوته من آباء من كان حياً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، (بل متعت هؤلاء وآبائهم) أي: بالنعم والعطاء، ومن كثرت عليه النعم وطول الأمد قسا قلبه، فحادوا عن الكلمة التي جعلها إبراهيم باقية في العقب، حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ - أي: القرآن- وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف:29] أي: محمد صلى الله عليه وسلم، وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:30]، هذه سذاجة.

    نعود إلى قول الله جل وعلا: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28]، هذا الذي عليه أهل التفسير، ونقول: إن المعنى هنا غير واضح؛ لأننا نؤصل أولاً أن هناك إنفكاكاً وانقطاعاً تاماً بنص القرآن ما بين نبوة إبراهيم ورسالته وبين كفار مكة، ولا يمكن أن يؤخذ هذا القول، وجعل الأمر كالطريق الواحد محال؛ لأن الله جل وعلا قال في آيات محكمة: وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [سبأ:44]، ومر معنا في اللقاء الذي قبل أن الله تبارك وتعالى قال: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف:21]، وقلنا: إن هذا دليل نقلي على أنه ليس لديهم كتاب يخبرهم عن شيء، فإذا نفى الله عنهم النذارة، ونفى الله عنهم الكتب انقطع اتصالهم الديني بإبراهيم، فيكون قول الله جل وعلا فيما يبدوا لي: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28] أي: في خواص عقبه وفي أقرب أهله إليه: في إسماعيل وإسحاق ومن كان آنذاك معاصراً له في العراق وبلاد الشام؛ حتى يكون سبباً في نشوء هذه البيئة الصالحة، وتكون سبباً ومؤثرة فيمن جاورهم.

    وقلت في اللقاء الماضي: إن من القرائن على صحة الرأي أن الله لم يذكر أنه استأصل من كفر بإبراهيم بالكلية، فلم يرد في القرآن فيما نعلم ولا في السنة فيما نحفظ أنه جاء ذكر أن الله استأصل خصوم آل إبراهيم بالكلية، فالله لما ذكر أنهم حاولوا حرقه ذكر أنه نجاه، ولم يذكر هلاكهم، وإبراهيم مر على العراق الشام ومصر، فكل هذه الديار طافها، فلم يكن له بيضة معينة، بيضة بمعنى حوزة أي: ليس له مكان مستقر واحد، وإنما كان طوافاً، ولذلك تبنته الأمم كلها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ....)

    فنقول على هذا: إن قول ربنا: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ [الزخرف:29] إن (بل) هنا للإضراب الانتقالي وليست للإبطال؛ لأننا لو قلنا: إنها للإبطال لأصبح هناك اتصال فيبطل المعنى، لكن (بل) هنا للإضراب الانتقالي، فيصبح الكلام بعد أن ذكر الله خبر إبراهيم يقول لنبيه: أما هؤلاء وآبائهم فقد متعتُهم ما شئت أن أمتعهم دون نبي أو رسول، ولا علاقة لهم بإبراهيم، بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ -أي: القرآن- وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف:29] أي: أنت يا محمد.

    ثم قال الله: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ [الزخرف:30] والكلام الآن عن كفار قريش ولا علاقة لإبراهيم بالمسألة، وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:30]، وهذا قد مر معنا: أنهم وصفوا القرآن بأنه سحر؛ لما ينجم عنه في زعمهم من التفريق بين الرجل وزوجته، والوالد وولده.

    1.   

    تفسير قوله: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)

    ثم قال الله عنهم: وَقَالُوا -أي: القرشيون- لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، فالجار والمجرور نحوياً تملك قوة في ضعفها، فالمرأة قوتها في ضعفها، فبعض الضعفاء قوتهم في ضعفهم، فقد يأتيك رجل ولا يوجد له مقعد، ويأتي معه بصبي صغير، فأين قوة الصبي الصغير؟ في ضعفه؛ لأنه من السهل أن تجد له مكاناً، ومثلها أيها المبارك الجار والمجرور، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، ولو سألتك ما إعراب كلمة (عظيم).

    فستقول: صفة لكلمة رجل، والمعنى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ [الزخرف:31] عظيم من القريتين، ومعلوم قطعاً وجود الاتصال ما بين الصفة والموصوف، وقد فصل بينهما الجار والمجرور (من القريتين)، فهو شبه جملة أقحمه هنا، ويعطي نوعاً من الصياغة اللفظية والسبك بما لا مزيد عليه، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ [الزخرف:31] والقريتان المقصودتان هنا هما مكة والطائف بالاتفاق وكل لفظ قرية في القرآن يعني بها مدينة، وقول الجغرافيين ليس له علاقة بقول رب العالمين؛ قول الجغرافيين: إن القرية هي كذا كذا وتقل عن المدينة في وصف معدود، هذا اصطلاح لا مشاحة فيه، لكن القرية في اللفظ القرآني بمعنى المدينة، قال الله تعالى: لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الأنعام:92].

    وكانوا القرشيون يزعمون -في قول جمهور أهل العلم- أن القرآن هذا أحق به رجلان:

    الأول: عروة بن مسعود من أهل الطائف، والوليد بن المغيرة من أهل مكة، وأياً كان من قصدوه بهذه الطريقة التي قالوها وهي باطلة في أصلها فقد أخطئوا في أنهم لم يعرفوا ما هو المعيار في قدر الرجال، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم حتى بالمقاييس غير الشرعية كان أفضلهم صلوات الله وسلامه عليه.

    نعود فنقول: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، مر معنا أن الجواب الإلهي يتحرى ويتوخى إبهام الخصم، وبينا في مسألة: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19] أنهم ارتقوا بالملائكة وفي نفس الوقت وصفوهم بأنهم إناث، وهنا يقول الله لهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32]، ومعنى الآية أن الله يقول لهم: أنتم تعترفون أن الأرزاق إنما يقسمها الله، وهذا لا خلاف فيه عندكم، ومعلوم أن عطاء النبوة أعظم من عطاء الأرزاق، فإذا كنا لن نسند إلى أحد من الخلق تقسيم الأرزاق فكيف نسند إليه تقسيم النبوة؟! هذا هو المعنى المقصود من الآية.

    إذاً فكلمة (رحمة) في الأول بمعنى النبوة، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) هنا المقصود بها النبوة، (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ [الزخرف:32] اللام هنا للتعليل؛ ولهذا نصب الفعل، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32] أي: أن الله جل وعلا لم يجعل الناس على منزلة واحدة: خادم ومخدوم، وأمير ومأمور، ملك ومملوك، عبد وحر؛ حتى تستقيم الحياة، وعلى هذا طبعت الدنيا وجبل الكون، حتى يستقيم الأمر وينتفع الناس جميعاً.

    لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32]، والرحمة هنا الصواب عندنا أنها بمعنى الجنة، رحمة الأولى بمعنى النبوة، ورحمة الثانية بمعنى الجنة، قال الله تعالى: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا ...)

    ثم هذه الآية ممهدة للآيات ومقاطع بعدها، وهي قضية إظهار حقارة الدنيا، فلما أراد الله أن يظهر حقارة الدنيا قال مخاطباً عباده: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

    فلا بد من تقدير شيء ما في المسألة، والتقدير: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [الزخرف:33] التقدير: ولولا كراهة أن يأتي الناس الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن، والمعنى: أن الله جل وعلا يبين أن الدنيا إعطاؤها للكافر يدل على حقارتها عنده، ومجرد أن الله جل وعلا أذن للكافر أن ينعم في الدنيا فهذا دلالة على أنها حقيرة عند الله؛ لأن الكفار ليسوا أولياء لله، فتنعمهم في الدنيا يدل على أن الدنيا ليست بشيء، فالله جل وعلا يبين مخافة أن يظن الناس أن الكفر هو السبب في النعيم، فأصبح الناس بذلك كلهم كفار؛ رجاء أن ينعمهم، لكن كراهة أن يظن الناس ذلك منعنا جريان الأمر على إطلاقه بدون تقييد، وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33]، و(معارج) جمع معراج، وهي بمعنى السلالم، وقد مرت معنا قبل في آيات سابقة.

    عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33] أي: يصعدون، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا [الزخرف:34-35]، وهذا كله المقصود منه إظهار المتاع الذي يعيشه الناس في حياتهم، وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:35]، ثم بين الله جل وعلا أن الحقيقة التي لا مناص منها أن المتاع الباقي هو متاع الآخرة، فقال ربنا: وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ [الزخرف:35] وليس هذا محل خلاف، لكن يأتي محل تساؤل: لمن؟ فجاء الجواب القرآني: وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن يعش عند ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين)

    ثم قال الله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، (يعش) هنا جملة شرطية بمعنى يعرض ويصد، وجواب الشرط (نقيض) أي: نهيئ، وهو فعل مستقى من اسم جامد، وأصل التقييض ذلك الذي يحيط بغشاء مخ البيضة.

    وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ [الزخرف:36-37] أي: الشياطين، لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [الزخرف:37] عن الهدى، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:37]، وهذا قمة البلاء، فإن قال قائل: ألا يكون هذا عذراً لهم أنهم تأولوا على جهل؟ يقال في الجواب عن هذا: لا يعد هذا عذراً؛ لأن جهلهم هنا بسبب إعراضهم عن ذكر الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ...)

    حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف:38]، فلماذا قال: ( بيني وبينك)؟ ولماذا قال: ( بعد المشرقين)؟

    فأما (بيني وبينك) فكان يغني عنها أن يقول: يا ليت بيننا، لكن أراد قمة البراءة منه، ويسعى حثيثاً للتخلص منه، وفصل حتى في الألفاظ، قال: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف:38]، ومعلوم أن هناك مشرقين ومغربين، والأمر للتغليب، ومر معنا نظائره، لكن لماذا اختار المشرقين دون المغربين؟ قال بعض أهل العلم من اللطائف: إن المشرق يكون منه ظهور قرن الشيطان، فلهذا قال: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:38]، فهو أسلوب ذم، فبئس فعل ماضي جامد لا تصرف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولن يتعلم اليوم إذا ظلمتم أنفسكم أنكم في العذاب مشتركون)

    وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، فهذا من أعظم ما عذب الله به أهل النار: أن الله قطع عنهم حتى التأسي بغيرهم، فإن المصائب في الدنيا يهونها أن تجد أحداً مثلك أو أعظم منك في المصيبة، لكن أهل النار حرمهم الله جل وعلا من التأسي الذي يخفف عنهم به العذاب، وهذا له نظائر في كلام الناس وأحوالهم، وأنتم تسمعون عن الخنساء ، وهي صحابية يقال لها: تماضر ، فقد كان لها أخ غير شقيق يسمى صخراً ، وكان باراً بها، فكانت وفية به، وقد جرت عادة الفضلاء والعقلاء أن الإنسان إذا أحسن إليهم سبقاً دون نعمة يربّها فقد طوّق أعناقهم، وتقول العوام في أمثالها: الأول لا يلحقه شيء، أي: صاحب النعمة الأولى لا يدرك.

    فهذا صخر أثنى على أخته الخنساء قبل أن يعرف قدرتها الشعرية، وقبل أن يموت، وقبل أن ينال منها فضلاً، وهو غير شقيق، فوقع في قلبها هذه المكانة ببره لها، ومات في بعض حروبه، فلما جاءت ترثيه قالت فيه رثاءً جماً:

    قذىً بعينيك أم بالعين عوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدارُ

    ثم أطنبت في ذكره، وإلى يومنا هذا والناس تردد شعرها.

    هباط أودية شهاد أندية حمال ألوية للجيش جرارُ

    إلى آخر القصيدة.

    والعلاقة بين الآيات والأبيات هي: التأسي، قالت في مقطوعة لها:

    يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل مغيب شمسِ

    ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

    وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي

    فهي تتأسى بمن ترى حولها من أخوات وقريبات وجارات فقدن إخوانهن كما فقدت أخاها، فجعلها ذلك تتأسى، فالتأسي بالغير نوع مما يخفف به الكلم والمصيبة والجرح، فهذا محروم منه أهل النار، قال الله جل وعلا: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ [الزخرف:39] أي: اشتركتم في الظلم تحملتم الأعباء بعضكم عن بعض، فما قمتم به من ظلم فربما أصبح بينكم تعاون في تحمل أعبائه، لكن ليس ثمة تعاون في حمل البلاء، قال الله جل وعلا: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، نعوذ بالله جل وعلا من جهنم وحرها بالكلية.

    الاختلاف في اسم والد إبراهيم عليه السلام

    هذا ما تيسر حول هذه الآيات ذات المقاطع الواحدة، والآن نعيد الكرة في قراءتها تاريخياً بعد أن قرأناها تفسيرياً؛ لأن ما بعدها منفك عنها، نعود لقضية إبراهيم عليه الصلاة والسلام:

    وهذا ينفعنا تاريخياً في أن نقول: إنك تسمع بأن الله جل وعلا قال في القرآن: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، وقد رجحت في اللقاء الماضي أن آزر لقب له، وأن اسمه تارخ ، فلماذا اختلف العلماء؟

    من حيث الصناعة العلمية يجب أن تعلم أنه في الغالب لا يمكن أن يكون هناك اختلاف إلا إذا وجد سبب قوي في ذلك، فمن سبق كان أتقى منا وأشد علماً وأعلم باللغة، فلا يمكن أن يكون حملهم على الأقوال التي ذكروها مجرد الهوى، فعندما لا يكون لك إلا خال واحد فإنه لا حاجة لأن تسميه إذا تحدثت عن خال، وأما إذا كان من يحيط بك يعلم أن لك عدة أخوال فلا بد أن تعينه باسمه؛ حتى تميزه عن باقي أخوالك.

    فالذين قالوا: إن آزر ليس أباً لإبراهيم بل هو عم له قالوا: إن الله قال: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، فقالوا: لو كان أباً لصلبه فلا حاجة لأن يسميه؛ لأنه ليس للإنسان إلا أب واحد، وأما الذين قالوا: إن اسمه آزر فقالوا: هذا صريح القرآن ولا انفكاك عنه، ومن أعظم الأدلة على أنه أبوه لصلبه أن الله ذكره في عدة مواضع ولم يقل: إنه عمه، فلو قال: إنه عمه لأصبح لقولهم حجة قوية، لكن كون الله جل وعلا ذكر أبا إبراهيم في مواطن عدة ولم يقل في واحدة منها: إنه عم دل ذلك على أنه أب له لصلبه.

    وإبراهيم عليه السلام ترك إسماعيل -وهو الأكبر- وإسحاق، وترك العيص، ومن ذرية إسماعيل جاء نسب ممتد إلى عدنان ، ومن عدنان إلى إبراهيم، فهناك آباء وأجداد قطعاً، لكن لا يوجد دليل ثبت على أسمائهم، أما من عدنان إلى هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا متفق عليه بين علماء الأنساب.

    وأحياناً يمر معك في كتب التاريخ كلمة معد وكلمة عدنان ، وتطلق أحياناً بمعنى واحد؛ لأنه ليس بين معد وعدنان أحد، فـمعد هو الابن المباشر لـعدنان ، فيقال: معدي ويقال: عدناني والمعنى واحد، قال روح بن زنباع :

    يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني

    وهذا قاله روح بن زنباع عندما هرب من عبد الملك بن مروان ، فأهدر دمه، فأصابه خوف، فقال:

    ما أدرك الناس من خوف ابن مروان

    أي: عبد الملك ، فهو لما أصابه الخوف يقول: أنا إذا قابلت رجلاً من أهل اليمن قلت: أنا يمني، أي: قحطاني من العرب العاربة، فإذا لقيت رجلاً عدنانياً قلت: أنا عدناني، أي: من العرب المستعربة، وموضع الشاهد أنه قال:

    يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدناني

    وما قال فمعدي؛ لأن معداً هو ابن عدنان .

    والنبي صلى الله عليه وسلم يقول الخطباء والكتاب في مدحه: والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان، هذه اللفظة تنبه لها الشعراء، فأحياناً تكون المعلومة والمعنى مطروح من يستله ويصوغه هذا هو العقل، والخامة واحدة، لكن التعامل مع الخامة هو الذي يفرق الناس، ويفاضل بينهم، إن كانت في العلم كمعلومة أو كانت في اللفظ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أطبق الناس على أنه من ولد عدنان، فجاء ابن الرومي الشاعر العباسي فقال: إن الناس إذا انتسبوا فإنهم يفتخرون بآبائهم، فيقول فلان: أنا من قبيلة قريش، أو أنا هاشمي، أو أنا قرشي، أو أنا من بني سهل، كلٌ بحسبه، فقال: أما عدنان ففخرت بأن النبي صلى الله عليه وسلم منها، وهذا فخر والد بولد لا ولد بوالد، قال ابن الرومي في آخر البيت:

    كما علت برسول الله عدنان

    فالذي جعل مزية لعدنان على قحطان هو أن النبي صلى الله عليه وسلم منها، وهذا إن أطنبت في الفهم يريك أن رحمة الله جل وعلا مقسمة، فالعدنانيون ليسوا عرباً عاربة، فعوضوا بأن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، والقحطانيون ليس منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعوضوا بأنهم عرب عاربة، ومثل هذا قد تظنه ليس بكبير علم، لكن إذا كان متوقداً في ذهنك وأنت تسير في الحياة فإنه يجعلك تقل الطمع؛ لأنك تعلم أنه من الصعب أن تجمع الحسنيين.

    أيضاً الله قال لنبيه: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ [الأنفال:7]، قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]، فهذا يجعلك حتى في مسيرتك لا تحاول أن ترى أن كل شيء محال، تتخذ شيئاً جرماً وامض عليه، وتقلده، واجعل ما بقي فروعاً وحواشي، فلا تهدم ذلك الجرم الذي تريده، فمن يريد كل شيء لن يحصل على شيء.

    فقد خرج الحسين بن علي ينشد الخلافة، والحسين إذا تكلم يقول: جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمي يقول عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم: (بضعة مني)، ففقه المسألة ابن عمر : فقال له وهو يودعه: إنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يعطيكم الله الملك والنبوة، أي: لن يكون لك حظ فيها، ووقع كما قال ابن عمر ، فحرم الحسين باستشهاده في العاشر من محرم من الوصول إلى الحكم، فيأتي الاستثناء، والاستثناء يكون في الخواتيم؛ لأن الأمور إذا تمت انتهت، فـالمهدي من ذرية نبينا صلى الله عليه وسلم، لكنه علامة من علامات الساعة يكون بها الخواتيم، وهذه سنة الله في خلقه، كم يفضل المشرق على المغرب في أن الشمس تشرق منه، فإذا جاءت الشمس من المغرب تقوم الساعة.

    هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756480748