اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب حفظ السر.
قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا
[الإسراء:34] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن
هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله حفظ السر، فالإنسان المؤمن مطالب شرعاً بأن يحافظ على الأسرار، سواء كانت أسرار بيته، أو أسرار الناس، وأنه إن اطلع على سر أو أسر إليه إنسان بسر فلا يجوز له أن يفشي هذا السر وأن يفضح صاحبه.
فهو لم يقل له: تعال تزوج حفصة ، ولكن قال: إن شئت، يعني: يخيره، وكأنه يقول: الأمر إليك أنت، وابنتي موجودة ولن أجد أفضل منك، فقال له: سأنظر في أمري، فكأنه أراد أن يستشير ثم يرد عليه.
قال عمر : فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، فـعثمان لم يكن راغباً في الزواج ذلك الوقت، فلم يجد عمر في نفسه شيء على عثمان لهذا الأمر. قال: فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر ، قال: فصمت أبو بكر رضي الله عنه فلم يرجع إلي شيئاً.
فالأول عثمان رضي الله عنه لما عرض عليه هذا الشيء أخبره أنه سيرد عليه ورد عليه بعد ذلك بأنه غير راغب في الزواج، لكن أبا بكر رضي الله عنه لم يرد عليه لا الآن ولا بعد ذلك. قال عمر : فكنت عليه أوجد مني على عثمان ، يعني: إن كنت وجدت في نفسي شيئاً على عثمان فما وجدته على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أكثر منه.
قال: فلبثت ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، وعمر لم يعرضها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن يطمع أن تتزوج ابنته من النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضها على عثمان ، ثم عرضها على أبي بكر ، فلما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم خطبها من عمر ، تكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال لـعمر رضي الله عنهما: لعلك وجدت علي - يعني: لعلك حزنت وغضبت مني - حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال: فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها.
فهذا سر من النبي صلى الله عليه وسلم حيث تكلم أنه يريد أن يتزوج حفصة ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متزوجاً بـعائشة بنت أبي بكر الصديق ، ولم يغضب أبو بكر الصديق لذلك، ولكنه سكت؛ لأنه لا يستطيع أن يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يريدها؛ لأنه يمكن أن يرجع في كلامه ولا يتزوجها.
وهذا فيه تأديب للمسلمين وتوجيه ليتخلقوا بهذا الخلق الفاضل، فإذا سمعت إنساناً يتكلم عن فلانة وأنه يريد أن يخطبها، فلا تذهب لصاحب الشأن وتقول: أنا سمعت فلاناً يتكلم أنه يريد أن يخطب من عندك فجئت أبشرك؛ لأنه يمكن أن يرجع في كلامه فتكون كاذباً أمام هؤلاء الناس، ويمكن أن ذاك الرجل غير جاد في كلامه وبسبب كلامك يضطر ويذهب ليخطبها. فعلى ذلك إذا سمعت سراً من إنسان فلا تفش هذا السر.
وقول أبي بكر الصديق لـعمر رضي الله عنه: لعلك وجدت علي، يدل على أنه أحس أن عمر من حقه أن يجد في نفسه من هذا الشيء، وأبو بكر يعلم أن هذا أهون من أن يفشي سر النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف حال بعض الناس الذي يتساهل في أن يفشي سراً من الأسرار حتى لا يغضب فلاناً من الناس! إن السر أمانة والله عز وجل سيحاسبك على هذه الأمانة ويسألك: لم فرطت فيها؟
ثم إن أبا بكر قال لـعمر : ولو تركها لتزوجتها، يعني: لو أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ابنتك ولم يتزوجها لكنت أنا تزوجتها؛ لأن ابنتك ليست المرأة التي يفرط في مثلها.
قالت: (فلما رآها رحب بها) فيه وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع ابنته وكيف قابلها حين جاءت تزوره صلى الله عليه وسلم. قالت: (ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله) ، كان النبي صلى الله عليه وسلم من عادته إذا جاءت ابنته أنه يقوم لها ويقبلها صلى الله عليه وسلم ويجلسها بجواره، وإذا ذهب هو إليها قامت إليه وقبلته وأجلسته صلوات الله وسلامه عليه.
قالت: (ثم سارها فبكت بكاء شديداً) يعني: بعد أن قال لها السر بكت بكاءً شديداً، قالت: (فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت - رضي الله تبارك وتعالى عنها - فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين؟!) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم فضلك علينا كلنا وقال لك السر ثم أنت تبكين! وتعجبت من أنها ما رأت ضحكاً أسرع لبكاء من هذا اليوم، فلما قام رسول الله وسألتها عائشة عما قاله لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت رضي الله عنها: (ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً) يعني: كون النبي صلى الله عليه وسلم يحدثني بيني وبينه فمعناه أنه لا يريد أن تسمعوا، ولو كان يريد أن تسمعوا لكان حدثني بصوت مرتفع، ولما كان سراً.
قالت عائشة : (فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لـ
إذاً: السر الأول: أنه صلى الله عليه وسلم سيموت، أما السر الثاني فهو: أن السيدة فاطمة تكون سيدة نساء العالمين، وأيضًا أخبرها أنها تلحق به صلى الله عليه وسلم ولن تعيش بعده كثيراً، ففرحت بأنها تدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وأن منزلتها في الجنة أنها ستكون نساء العالمين أو سيدة نساء هذه الأمة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
وفي هذا الحديث دلالة على أن الإنسان إذا استودعه إنسان سراً فلا يجوز له أن يفشيه.
يعني: لن أكشف عن حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت رضي الله عنها: (لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً)، انظر إلى الأم المطيعة لله سبحانه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، الأم الطيبة القانتة المؤمنة تعلم ابنها حفظ السر حتى عنها.
فكل أم يلزمها أن تعلم ابنها كيف يحافظ على السر، فإذا جاء الأب وقال للابن: خذ هذا المبلغ واذهب به إلى فلان ولا تقل لأحد، فلا يرجع ويقول لأمه: أبي بعثني لأفعل كذا في كذا، وإذا فعل فالواجب على الأم أن تقول له: لا يجوز لك ذلك، فهذا سر من الأسرار فلا تفش سر أبيك، وعلى الأم أن تعلم الابن ألا يكون كثير الكلام، وألا يفشي أسرار البيت، فإذا تربى الطفل على ذلك كانت هذه عادته عند الكبر، ويستحيل أن يستفيد منه الأعداء أو يحصلوا منه على أسرار بلده.
فـأنس هنا لما قال لأمه ذلك قالت أمه رضي الله عنها: (لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال
وقد كان أهل الجاهلية يعرفون أن الأسرار لا ينبغي أن تنشر لأحد، وكانوا يعيبون على من يفعل ذلك، وقد روي أن شاعراً من الشعراء لما وجد أمه كثيرة الكلام وإذا ما تحدث أحد عندها بحديث تقوم وتفضحه بين الناس، فقال لها هذا الشاعر:
تنحي فاقعدي مني بعيداً أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا
فالإنسان المؤمن من خلقه أن يحافظ على السر، ودافعه إلى ذلك خوفه من الله، لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
[النساء:58]، فهذه أمانة يجب أن تؤديها لأهلها، وذكر عن بعض الصالحين أنه ذهب إليه إنسان وقال له: أخبرك سراً فلا تحدث به أحداً، أخبرك بكذا وكذا وكذا، هل سمعت ماذا قلت لك؟ قال: لم أسمع شيئاً. يعني: من مبالغته في حفظ السر كأنه لم يسمع شيئاً! فالمسلم إذا سمع سراً كان السر في باطنه لا يخرجه لأحد أبداً إلا أن يأذن له صاحب هذا السر.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أداء الأمانات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر