الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول صلى الله عليه وسلم: (حسبك من
قول عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : (لقد قلت كلمة) أي: كلمة طويلة عريضة مرة ومنتنة عند أرباب الحواس الكاملة (لو مزجت بماء البحر) أي: لو خلط بها على فرض أن الكلمة كأنها تجسدت وأصبحت سائلاً مائعاً بحيث تختلط بماء البحر، والمزج هو الخلط بين المادتين، فينتقل من المعنى إلى الحس (لمزجته) أي: لغلبت عليه وغيرته.
والمعنى أن هذه الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته، فكيف بأعمال قذرة قد خلطت بها هذه الغيبة؟!
وفي هذا الحديث إشارة لطيفة إلى أن هذه الكلمة منك ولو كانت صغيرة وقليلة عندك فهي عند الله كبيرة وكثيرة بحيث لو أن هذه الكلمة مزجت بكل البحار بأجناسها وأصنافها وأنواعها من طولها وعرضها وعمقها لغلبتها ولغيرتها وعكرتها! فهذا من البلاغة في غاية مبلغها، وفي البليغ من الزجر نهاية حده ومنتهاه.
وقولها: (وحكيت له إنساناً) بمعنى: حاكيت. أي: فعلت مثل فعله. أي: قلدته فمثلت بشخصه، وفعلت نفس حركته أو مشيته أو كلامه. يقال: حكاه، وحاكاه.
وأكثر ما تستعمل المحاكاة في القبيح، ولو حملنا قوله: (ما أحب أني حكيت إنساناً) على المعنى الحسن -أي: المحاكاة الحسنة- فيكون هذا إشارة إلى المبالغة، أي: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم زجر في المحاكاة الحسنة وقال: (ما أحب أني حكيت إنساناً) فكيف بالمحاكاة في الأفعال القبيحة؟!
قوله: (وأن لي كذا وكذا) هذه جملة حالية، يعني: لا أحب أني أقلد إنساناً، أو أمثل بشخص فلان، أو أقلد حركاته (وأن لي كذا وكذا) أي: ولو أعطيت كذا وكذا من الدنيا. يعني: حتى لو وزن لي من المال أو من الدنيا الشيء العظيم حتى أقوم بفعل المحاكاة ما أحب ذلك، ولا أقبل ذلك.
قال الإمام النووي رحمه الله: من الغيبة المحرمة المحاكاة، بأن يمشي متعالياً أو مطأطئاً رأسه أو غير ذلك من الهيئات.
فالإنسان لا يقلد شخصاً فيحاكيه في حركاته أو في مشيته.
وقال -أيضاً- رحمه الله تعالى: هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ. وما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
والآية تتناول أحد أنواع التمثيل على هذه القراءة، وهو التشخيص، والمعروف أن الممثلين كانوا معروفين منذ زمن بالحقارة والمذلة والهوان، وكانوا أحقر ناس، حتى كان القضاء الوضعي نفسه يرد شهادة الممثلين، ولا تقبل شهادتهم تفسيقاً لهم؛ لأنهم يتعاطون مهنة قبيحة وحرفة خبيثة، وبعض هؤلاء الممثلين كان يفخر بإنجازات بعض الرؤساء فقال: إن من ضمن إنجازات هذا الرئيس أنه جعل عيداً للفن، وأنه بعد أن كان القضاء يرد شهادتنا أصبحنا الآن الأبطال والقدوة، ويقال لأحدنا: المربي الكبير والأستاذ القدير... إلى آخر هذه الألقاب!
ومن الأنواع المذمومة من أنواع التمثيل التي تبلغ من القباحة غايتها ما يسمونه الكوميديا أو الضحك أو النكت أو ما شابه هذه الأشياء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له).
فالكلام على هذا النوع من الهمز واللمز يقود إلى بيان وعيد الذي يكذب في حديثه ليضحك به الناس.
والمراد هنا الكلام على سائر أنواع هذا التمثيل، لكن حينما نتكلم في هذا التمثيل فإننا نقصد به المعنى العرفي؛ إذ أصبح علماً على الفسق والفجور الذي نعرفه جميعاً ونعلمه ونسمع به.
إن التمثيل المقصود به النوع الشائع المعروف الذي يتفق على تحريمه العلماء والعقلاء وذوو الفطرة السليمة، ولا يدخل فيه النوع المختلف فيه الذي هو -كما نسميه- التمثيل الأخلاقي الذي يدعو إلى الفضيلة والحث على الجهاد ونحو ذلك، فهذا فيه خلاف شرعاً هل هو محرم لذاته أم لا، أما إن كان التمثيل يحتوي على الفواحش كالتبرج والفساد المعروف فهذا محرم للأدلة الكثيرة في ذلك، لكن التمثيل فيما يهدف إلى إبراز المقاصد الأخلاقية، الذي يعرى عن وجود النساء المتبرجات أو غير المتبرجات، ويدعو إلى الأخلاق والحث على الفضائل هل هو محرم لذاته؟
بعض العلماء يرى أنه محرم لذاته، لكن هذا لا يفيدنا كثيراً، فلا نحتاج إلى أن نتكلم عن التمثيل الأخلاقي بصحة أو خطأ؛ لأننا لسنا نقصده؛ لأنه لا يوجد الآن تمثيل أخلاقي أبداً، وليس هناك أحد يدعي ذلك، بل الذي يبدأ بالأخلاق ينتهي بما نعلم! فهو نادر أو معدوم.
ومن أنواع التمثيل المعروفة ما تجرأ عليه بعض الملاحدة وقاموا بتمثيل بعض الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، بل منهم من وصل به هذا الفجور والفسوق إلى تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا حرام أو كفر، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
وكذلك في هذه الأوضاع المذمومة تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم.
أما التمثيل المعروف الآن بكل ملابساته فيقول أحد العلماء الذين ألفوا في هذا الموضوع: اعلم أنه لا يختلف اثنان ممن يعرف شيئاً عن دين الإسلام أن التمثيل من أعظم المحرمات وأكبر الكبائر، ولا يشك في ذلك إلا من لا يعرف شيئاً عن دين الإسلام، أو كان من المنحلين المارقين الذين يدسون فيه الدسائس لمحو رسومه وإتلاف معالمه والقضاء عليه بتحليل محرماته وإسقاط واجباته، كما هو الواقع من الكثيرين، بل لا يشك عاقل ولا يمتري فاضل في أن التمثيل مناف للمروءة والعقل، منابذ للأخلاق والفضيلة، لا يرضاه ذو نفس شريفة، ولا همة أبية فضلاً عن ذي دين ومروءة، بل لا يرضاه لنفسه إلا دنس الأصل، وضيع النفس، ساقط المروءة، فاقد الشعور بالكرامة، خفيف العقل، قليل الدين أو ذاهبه بالكلية.
وهذا هو المشاهد من الممثلين، فإننا لا نرى في الممثلين ذا أهل وكرامة ودين ومروءة.
اتفق العلماء على حرمة تصوير الصحابة رضي الله عنهم، وهناك اعتبارات لابد أن نراعيها قبل الكلام في موضوع التمثيل:
الأول: ما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المكانة العليا في الإسلام بحكم معاصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم بواجب نصرته وموالاته، والتفاني في سبيل الله ببذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم رضي الله عنهم، فقد اتفق أهل العلم على أنهم صفوة هذه الأمة وخيارها، وأن الله شرفهم وخصهم بصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم في كتابه الكريم بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ...
[الفتح:29] إلى آخر الآيات.
وجاءت الأحاديث الصحيحة بتسجيل فضلهم، وأن لهم قدم صدق عند الله، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم) ففي الجيل الثاني قال: (أفيكم من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) يعني أصحاب الصحابة، وفي المرة الثالثة: (أفيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم) فمدار الفضل على هذا الشرف الذي يلحق الصحابة ومن يصحبهم ومن يصحب من يصحبهم.
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. قال
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شأن بعض أصحابه رضوان الله عليهم: (ذروا لي أصحابي -أي: دعوني وأصحابي- فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) رضي الله عنهم.
فهو هروب من الهموم، أو هروب من المسئوليات ولجوء إلى البطالة وإلى العبث، كما يلجأ الإنسان إلى أي شيء قبيح ومنكر مثل الخمور والمسكرات، وكذلك يلجأ طوائف من الناس إلى هذه المسارح والسينما وغيرها، ويقصدون بذلك الترويح على أنفسهم بهذا اللغط والعبث.
بل إن منهم من فلمه المعروض يبين حال فسقة، ولا أعتقد أنهم يقدرون على رفع قضايا سب وشرف إلى المحكمة؛ لأن الفسق معروف عنهم تماماً الآن، بل هم أنفسهم يجهرون به، ولا يحتاج إلى اتهام، بل القضايا التي تنشر لهم بين وقت وآخر تدل على اتهامهم نساء ورجالاً بأقبح أنواع القبائح، نسأل الله العافية. وإننا لنتذكر كلمة قالها محمد الصباغ -حفظه الله- في بعض المناسبات في رمضان لما كان في مسجد الفتح، فكان يذكر حديث جريج العابد لما أتته أمه وهو يتعبد في صومعته فنادت عليه فقال: صلاتي أو أمي؟ فأقبل على صلاته ولم يجب أمه، وذلك ثلاث مرات، فدعت عليه أمه في المرة الثالثة بأنه لا يموت حتى يرى وجوه المومسات (الزانيات) فهذه الدعوة عقوبة دعت بها عليه أمه، وهي أن تقع عينه على هؤلاء النساء، فهذه عقوبة، فكيف -إذاً- بالمسلم الذي يتعمد النظر إلى الفاسقات! ويسعى إلى النظر إلى الفاسقات! فهذا أمر عظيم بلا شك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـعلي : (لك الأولى وليست لك الآخرة) والأولى هي نظر الفجأة، فكيف بالنظر المتعمد؟!
فبعضهم يبذل ماله ووقته وعمره ليسعى إلى أماكن الفساد، ويبذل المال والوقت ويسعى إلى الفاسقات حتى يرى صورهن القبيحة، بل ويستلذ بهذه المعاصي ويستحسن ذلك ويفرح!
فهذا النوع من الفرح شؤم على صاحبه في الدنيا والآخرة.
وكان نقفور معروفاً بعدائه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان المرتدون من حوله ينشئون له القصائد في سب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يطعن في الإسلام، فقال الرشيد لـنقفور : من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم: قد بلغني كتابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسار إليه بجيوشه وأدبه!
فهذا الرجل كان يحج سنة ويغزو سنة، والسنة التي كان لا يحج فيها يرسل ثلاثمائة من المسلمين على نفقته لحج بيت الله.
وصلاح الدين الأيوبي كم شوه تاريخه إلى ما ينقض المفاهيم الإسلامية، والأمثلة كثيرة جداً، فهي عبارة عن نشاطات مغرضة لاستغلالها كوسيلة من وسائل الأعلام في الانحراف بمفاهيم الإسلام والكذب على السلف الصالح.
ومن ذلك أنها تحرف مفاهيم الناس حول بعض القضايا الإسلامية مثل قضايا الطلاق وتعدد الزوجات.
وقد سمعنا عن فلم مُثِّل فيه الرسول عليه السلام للناس، وأظهروا أن الإسلام ثورة كأية ثورة لنصرة الفقراء والضعفاء، وكأي هدف من أهداف الثورات الهمجية في الأرض، وليس لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فيصورون أن الإسلام هدفه جزئي محض، وأنه نوع دعوة من دعوات العدل أو المساواة أو التحرير، ولا يذكرون حقيقة الدين الإسلامي!
فإذا ألقينا نظرة على هذه الاعتبارات قبل أن نخوض في منكرات التمثيل، وألقينا نظرة على واقعنا الذي نتألم منه، بل إذا خرجنا خارج مصر نجد أن المصريين يصورون في صورة مخزية جداً نتأسف لها كثيراً، فالإنسان الذي هو خارج مصر يرى المصريين في منتهى الفسق من خلال هؤلاء الفجرة المردة؛ لأنهم يصورون لنا أن هذا هو المجتمع المصري، والمصريون ما زال فيهم الخير، وما زال فيهم الإسلام والمساجد والصلاة، لكنهم يحاولون أن يخدعوا المجتمع بهذه الغاية في الفسق التي ليس بعدها فسق إرضاءً لأسيادهم من الأوروبيين وغيرهم.
فقوله: (كل شيء يلهو به ابن آدم) يعني: يلهو به ويلعب به (باطل) لا أجر فيه (إلا رميه بقوسه) يعني: يتدرب على الجهاد (أو تأديبه فرسه) أيضاً ليقوى على الجهاد (أو ملاعبته امرأته)؛ لأن هذا يحببه فيها أو يحببها فيه، ويورث المودة والألفة، وجاءت زيادة في بعض الروايات: (وتعليمه السباحة).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة) والشرة هي النشاط والخفة، والإنسان عليه أن يكون حريصاً على أن يأتي بالعمل، فكل عمل يبدأ دائماً بحماس واندفاع وهمة، (إن لكل عمل شرة) وهي الهمة (ولكل شرة فترة) فإذا الإنسان استمر قليلاً يصيبه نوع من الفتور والتراخي، قال: فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك).
وقال الله عز وجل في وصف المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
[المؤمنون:3]، ثم قال عز وجل:
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
[المؤمنون:11]، وقال:
وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا
[الفرقان:72]، وقال عز وجل:
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ
[القصص:55].
رأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أناساً يلعبون الشطرنج فقال لهم: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ !
فكيف -إذاً- بالتماثيل المعبودة الآن، أليست هي معبودة؟ ألا يقولون: هي معبود الجماهير؟ ! ألا يقولون: هي فاتنة يعنون الممثلة؟ فإذاً الفتنة مقصودة، وتعبيد الناس لغير الله مقصود.
فالله تعالى يقول: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ
[القصص:55] فشيمة المسلم أن يعرض عن هذا اللغو وهذا الفساد، ولا يغره كثرة الهالكين.
والممثلون يتكلمون بما يضحك الحاضرين ولو كان محظوراً أو كفراً، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)، وفي لفظ: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً)، وفي لفظ: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها سبعين خريفاً في النار)، وفي رواية البيهقي بلفظ: (إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن الرجل ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدمه).
ونستطيع نحن أن ندرك مدى فتنة الناس بهؤلاء الفساق حينما نتأمل جنائزهم أو جنائز بعضهم، فهذه المرأة الفاسقة التي ملأت الدنيا فسقاً بغنائها وفسادها ترى الناس أفواجاً حول جنازتها، ففي ثاني يوم من وفاة أم كلثوم كانت الجرائد حافلة بالتمجيد وما يسمونه بالتأبين، وفيها الصور والأحداث، فقال بعض مشايخنا: ينبغي الاحتفاظ بهذه الجريدة؛ لأنها وثيقة تاريخية لإدانة هذه الأمة، وتصوير لمدى التفريط الذي نحن عليه من تعظيم مَنْ حقه أن يحتقر وأن يوضع وأن ينفى من الأرض، كما قال الله عز وجل: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا *
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا
[الأحزاب:60-61]، فهاتان الآيتان في ذم أمثال هؤلاء ونظرائهم في العهد النبوي.
فينبغي مجانبتهم والحرص على هذا الوقت الثمين، ويكفي استدلالاً على شرف الوقت -بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً- أن الإنسان لو بذل كل مال الدنيا وكل علم الدنيا وكل طاقات الدنيا، واجتمع كل من في السماوات والأرض ليعيدوا لحظة قد فاتته من أمسه لا يستطيع أبداً، فاليوم والوقت الذي يفوت إما لك وإما عليك، فما هناك طريقة لتداركه إلا أن يتوب الله على الإنسان، فالوقت ثمين، وهو جزء من عمرك، وإذا ذهب الوقت ذهب بعض منك فلا يعود أبداً.
فكما يفرح المؤمنون لخلوتهم بربهم لمناجاته وقراءة القرآن وقيام الليل والتهجد في الأسحار وصلاة العشاء والفجر ونحو هذه الأعمال الصالحات فكذلك أهل اللهو يفضلون الوقت الذي خلق للمناجاة والأعمال الصالحة للهوهم وفسادهم، فتجدهم يسمرون حتى وقت الفجر أحياناً ثم يختم على قلوبهم فلا يصلون!
وقد ورد نهي الشارع عن السمر بعد العشاء إلا لحاجة دينية أو دنيوية مباحة لا محرمة، كمؤانسة أهل أو محادثة ضيف أو السهر في طلب العلم ونحو ذلك، ففي الصحيح من حديث أبي برزة : (أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها)، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا دخل الليل ترسل إلى أمهات المؤمنين وتقول لهن: ألا تُرحْن الكتَّاب؟! والكتاب: جمع كاتب، تعني: الملائكة الذين يكتبون ويحصون الأعمال، وهي تعني أن يشتغلن بالأعمال الصالحة، وكتاب الشمال يكتبون سيئات أصحاب التمثيل والسهرات التي تضيع الدين والدنيا.
وفي حديث الطبراني (نهى عن النوم قبل العشاء والحديث بعده).
وفي الصحيحين -أيضاً- عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فمتعص شعر رأسها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك وقالت: إن زوجها أمرني أن أصل شعرها، فقال: (لا؛ إنه قد لعن الواصلات).
وفي الحديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة) فإذا كانت المرأة حالها أصلاً كما يقول الله عز وجل: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ
[الزخرف:18] يعني أن الطفلة من صغرها تنشأ على حب الزينة لتكملة نقص ظاهرها بهذه الزينة والحلي، وتحرص على الزينة، فإذا كانت ملعونةً إذا وصلت شعرها بشعر غيرها فكيف بالرجل الذي يستعمله لمجرد اللهو واللعب؟!
والحديث إذا كان فيه: (لعن الله كذا)، فهذا دعاء، فنقول على وجه الخبر: إن الله عز وجل لعن فاعل كذا، والدليل قوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[الحشر:7].
والنمص -الذي هو نتف الشعر من الحواجب- منكر شائع في كثير من المسلمات، ولا يلتفتن ولا يأبهن بهذا التهديد باللعن والطرد من رحمة الله عز وجل، وإذا كانت المرأة تلعن على النمص الذي تتجمل به لزوجها فكيف بالرجل أو المرأة إذا فعلا النمص لغرض التمثيل؟!
أيضاً الأموال التي يشترى بها جهاز الفيديو أو التلفزيون الذي يشغلهم عن ذكر الله لابد أن العبد سيسأل عنها يوم القيامة، فإنه سيسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، قال الله عز وجل: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ
[الإسراء:27]، وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: المبذرون هم الذين يتلفون المال في غير الحق.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، فإذا كان الإسراف في النفقة المباحة منهياً عنه مبغوضاً فاعله إلى الله تعالى لقوله عز وجل: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
[الأنعام:141] فماذا يكون حال الإسراف في معصية الله عز وجل؟!
ومعلوم أن المال من أغلى الأشياء على الإنسان، فإذا الإنسان بذل الكثير من ماله في هذه المعاصي من مسارح وسينما ونحوها فمعنى ذلك أن حب المعصية متمكن في قلبه، حتى إنه غلب حبه للمال.
ومن أعمدة التمثيل وأصوله التي لا يقوم إلا بها: الغيبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره) فإذا كان التمثيل يتناول شخصاً بعينه ليمثل به فلا شك أن هذا فيه غيبة، وصاحب الأمر يكرهه، خاصة إذا كان التمثيل بميت، فيمثل به ليس فقط في السينما، بل أمام الناس في المحافل والأعداد الغفيرة، فإذا كان مجرد الإشارة باليد غيبة، فكيف بتمثيل الشخص في ملابسه ومشيته وسيرته وكلامه وصوته وسائر حركاته وسكناته؟!
لا شك أن ذلك أفحش من الاغتياب بمجرد اللسان.
والغيبة من الذنوب الكبيرة، وإذا تاب الإنسان منها فإنه لا تتم توبته -في رأي كثير من الفقهاء- إلا بأن يطلب من الشخص الذي اغتابه أن يجعله في حل.
أنا أعلم حادثة حدثت قبل سنوات في مسجد في الإسكندرية، حصل فيها أن بعض الناس الذين يروجون لمنكر التمثيل مثلوا داخل المسجد، وزعموا أنهم يمثلون قصة أخلاقية من أجل أن يستفيد الناس من التوبة، فقعد شخص يمثل على طاولة في المسجد أنه يسكر ويحتسى الخمر، وجاء آخر يلبس لباساً أسود قبيحاً يمثل صورة الشيطان، ويوسوس لهذا الشخص ويزين له المعصية!
فهل هذا يليق بالمسجد وبحرمة المسجد؟ فإذا فتحت هذه الذريعة جرت إلى فساد كبير بلا شك، ولقد انتهى ذلك إلى أن بعض الجماعات فيما مضى في مصر في دمنهور قاموا بتمثيل قصة الذبيح، فأتوا بشخص يمثل جبريل يمسك خروفاً، وآخر لبس فراء خروفٍ، وصوت يقول:
يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا
[الصافات: 104-105]، كأنه يمثل صوت الله! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
إذاً: فتح هذا الباب يأتي بشر مستطير، وتجد أن الممثلين لا يمثلون الأحياء المعظمين، فلا يأتون إلى ملك أو رئيس في حياته ليمثلوه؛ لأنه يعتبر هذا نوعاً من التنقص والازدراء له، ويعاقب فاعله، كما قال بعض الشعراء:
يقاد للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار
فالذي يسب الدين ويطعن في دين الله عز وجل حر لا يعاقب عندهم.
أحد الممثلين الفسقة قام بالظهور في أحد الأفلام -واسمه سيف شرف وليس فيه رائحة الشرف-، قام يمثل دور امرأة منقبة، ولا أعرف ما هو المقصود بهذا؟
فهل مقصودهم أن المرأة المنتقبة تختفي تحت نقابها وهي لصة أو سارقة؟ فهم يضلون الناس، ويمثلون لهم بهذه المعاني البغيضة التي يبغضون للناس بها دين الله عز وجل.
فلا يمثلون الشخص الذين يجلونه أو يخافون سطوته من الملوك أو الرؤساء الأحياء؛ لأن القانون يمنعهم من ذلك، ويفرض عليهم عقوبة صارمة؛ لأنه من الإهانة بهذا المنصب الذي يعظمونه، وإنما يمثلون من الأحياء من يريدون إهانته، أو الملوك الأقدمين الذين لا يمنعهم القانون من تمثيلهم، كملوك بني أمية وبني العباس وملوك الأندلس أو نحوهم، فلا يخفى أن هذا ممنوع في الشرع، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ
[الحجرات:11]، وهذه من السخرية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله) رواه مسلم في صحيحه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً! فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس) أي: احتقار الناس. وفي رواية الحاكم : (ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس) أي: احتقر الناس، فهذا من الاحتقار لهؤلاء الخلفاء، وهؤلاء الملوك المسلمين الذين فتحوا الأرض من مشرقها إلى مغربها، فنقول للممثلين: أنتم ماذا فعلتم للإسلام؟!
يقول بعض العلماء في هذه المسألة: وإن كان التمثيل بأشخاص غير معينين فتقع المنكرات فيه كثيرة، منها أنهم يمثلون علماء الإسلام ورجال الدين على العموم، فيلبسون ملابسهم وعمائمهم على هيئة منكرة مشوهة، ويلصقون اللحى المصطنعة في حالة مزرية تدل على غاية الاحتقار والاهانة، ويقلدونهم في كلامهم، ويحكونهم في النطق بالقاف، ويأتون بالكلمات المعربة، والحاضرون يضحكون، وفيهم اليهود والنصارى، فيسرون بذلك غاية السرور، ويحتقرون هؤلاء الفجرة المارقين أشد الاحتقار؛ إذ يرونهم يمثلون علماءهم في حين أنهم يجلون أحبارهم غاية الإجلال، فتكون المصيبة بهذا التمثيل أعظم.
فالمقصود من هذا التمثيل إهانة العلم، وإهانة الدين الذي ينتمي إليه العلماء، وليس المقصود الأشخاص والهيئات؛ لأن أكثر العوام يشاركونهم في ذلك اللباس، فالإزراء والإهانة راجعان إلى العلم والدين، وذلك كفر بإجماع العلماء، وقد حكم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بكفر من قال لعمامة العالم: (عميمة) بالتصغير يقصد بها احتقارهم، فلو أن أحداً يتكلم على عمامة أحد الأئمة أو العلماء ويقول: عميمة هذا الرجل، ويقصد بذلك الاحتقار والازدراء والتصغير والاستخفاف والإهانة، فهذا راجع إلى وصف العالم الذي هو حامل علم الشريعة المطهرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).
وتجدهم يخصون من أهل اللحى ذوي الشيبة في الإسلام، فيمثلون الناس الذين شابوا في الإسلام، حتى إنهم يلصقون أحياناً قطعاً من الفراء الأبيض مبالغة في التشويه والإهانة والسخرية، فهي لحى مصطنعة ترمز لذوي الشيبة من المسلمين، وهذا مع كون فاعله ملعوناً -كما في الحديث- فإن فيه اعتداءً وانتهاكاً لحرمة المسلم الذي قد شاب، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله -أي: من تعظيم الله سبحانه وتعالى- إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) فأين هذا الإكرام من هذه المهانة؟!
وقال الله عز وجل في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) وهناك ألفاظ أخرى للحديث، منها: (من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) وفي لفظ آخر: (من آذى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة).
وإذا كان الشخص الممثل به من سلف الأمة من الخلفاء والملوك والعلماء والصلحاء ففي التمثيل بهم مساس بحرمتهم، ومخالفة للشريعة الآمرة بالثناء على موتى المسلمين والكف عن مساوئهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) والمقصود: لا تسبوا الأموات الذين ليسوا بكفار ولا فجار بعد موتهم، ولا يدخل فيه الجرح والتعديل، وحكاية أقوال الناس وأفعال الناس الذين طعنوا في دين الله وصدوا عن سبيل الله بقصد هدم أفكارهم المضادة لدين الإسلام، فالمقصود (لا تسبوا الأموات) الذين ليسوا كفاراً ولا فجاراً يصدون عن سبيل الله ويحاربون دين الإسلام (فتؤذوا الأحياء).
ومن هذا الحديث أخذ بعض الفقهاء أن من سوء الأدب أن الإنسان يتكلم في حق أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطيل في ذكر أن والديه صلى الله عليه وسلم كانا مشركين، فمن الأدب عدم إكثار الخوض في مثل هذه القضية؛ لأن هذا مما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساوئهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) فهذا في أي ميت، حتى لو كان مسلماً فاسقاً أو عاصياً أو مفرطاً، فأي ميت له هذه الحرمة في الإسلام، فكيف بأموات السلف الصالح رضي الله عنهم، سيما العلماء والصالحون منهم الذين أمرنا بتعظيمهم واحترامهم والدعاء لهم، وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
[الحشر:10].
يقول الله عز وجل: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
[النحل:105] فإن قيل: إن هذا الكذب هو مزاح! أي: هو أناس يضحكون على بعضهم، فالممثل يضحك على الناس ويعرف أنهم يعرفون الذي يضحك عليه، فالمسألة خداع وكذب من الطرفين، فالممثل عارف أنه يضحك على الناس، والناس تعرف أنه يضحك عليهم، وهؤلاء يدفعون فلوساً له، ويشجعونه على هذا الكذب وهذا الفجور.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) سواء كان مزاحاً أو كان جداً فإنه يطلق عليه الكذب، وروى أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن عامر قال: (دعتني أمي يوماً -أي: وهو صغير- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: تعال لأعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) حتى مع الطفل الصغير الإنسان يراعي ألا يكذب عليه في وعد أو في غيره، وقد ورد الترغيب في ترك الكذب كما سبق في الحديث: (أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) فهذا من التعبد بالتروك؛ أن تتعبد بترك الكذب ابتغاء هذا الثوب العظيم.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ظهور التمثيل في آخر الزمان وسماه كذباً، فروى الإمام أحمد في المسند برجال الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن) وفي بعض الأحاديث عن أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه وفيها ذكر انتشار الفتن ثم قال: (حتى ينظر المؤمن من حوله من كل الجهات فلا يجد شبراً من الأرض لم تقع فيه هذه الفتنة)، وهذا موجود فعلاً، فلا يجد الإنسان الآن شبراً من الأرض لا يسمع فيه أحياناً صوت الغناء والموسيقى، فهذا تلفزيون من هنا، وهذا جاء بالفيديو من هنا، وهؤلاء يغنون من هنا، وهؤلاء يعملون فرحاً من هنا، فتجد أصوات الغناء ما تركت مكاناً إلا دخلته، فنسأل الله العافية!
وفي الحديث الآخر: (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب، وتتقارب الأسواق، ويتقارب الزمان، ويكثر الهرج. قلت: وما الهرج؟ قال: القتل) فحمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ويكثر الكذب) على الأفلام والمسرحيات وكل هذه الفتن.
ومما يقع بسبب التمثيل أن كل المنكرات إن كانت متعلقة بالممثلين فالذي هو عاكف على هذه الأفلام ومقر لها يشاركهم في الوزر، فمن يجلس أمام هؤلاء الفاسقين فرحاً ومنبسطاً ومستمتعاً ومستلذاً بهذا الفساد وهذا الفجور فهو مشارك لهم في الوزر؛ لأن الواجب أن المنكر تحاربه، فأزله أو زل عنه، أما أنك تجلس مع ناس يشربون خمر وتقول: أنا أنكرت عليهم وأنت قاعد معهم قادر على هجرتهم والانصراف عنهم فأنت وهم في الوزر سواء، لكن يعذر الإنسان عندما يزيل المنكر أو يزول عنه بقدر استطاعته.
ومن المنكرات التي تقع -أيضاً- الحلف، فيحلفون على أشياء كذباً.
وأيضاً: ليس هذا التمثيل من الأمور التي جوز الشرع أن تكذب فيها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أباح الكذب في ثلاث: في الحرب مع الأعداء في الجهاد، وفي حديث الرجل لامرأته، فيمدح -مثلاً- طعامها أو هيئتها أو شيئاً تفعله تألفاً لها، وفي الإصلاح بين الناس، فلم يكذب الذي ينمي بين الناس فيقول لأحد المتخاصمين: والله فلان ذكرك بخير، ويحبك ويعزك، وهو نادم على ما فعله في حقك، ويذهب إلى الآخر فيقول له كذلك؛ ليصلح بينهما، فليس بكاذب، فهذه هي الاستثناءات الثلاث في حكم الكذب.
فهل التمثيل كذب؟ كلهم متفقون على أنه كذب، لكن هل هو من الكذب الذي استثني وأبيح؟!
إذاً: هذا من الأدلة التي يصلح الاستدلال به على الزجر عن هذا النوع من الكذب.
أما قول بعض الناس: إنهم يقصدون بالتمثيل إظهار عظمة الإسلام ومجد المسلمين الأولين فهذا لا يغني عنهم شيئاً، فأغلب الأفلام الدينية يكون فيها تصوير حالة الجاهلية، فيتمادون في وصف الفسق والرقص والفساد والعري والتبرج وغير ذلك من حالات الجاهلية.
فهذا لا يغني شيئاً؛ إذ عظمة الإسلام تظهر بنشر محاسنه وتعاليمه، وطبع المؤلفات النافعة فيه، لا بإقامة رواية تمثيلية بين جداران أحد دور الملاهي أو الجمعيات يقصد أغلب من يحضرها التسلية لا غير، هذا أولاً.
ثانياً: إن المسلمين الأولين لم يكونوا يحبون الإعلان عن أنفسهم وأعمالهم؛ لأنهم كانوا يخلصون العمل لله لا يريدون غيره، فإظهارهم على خشبة المسرح ينافي غرضهم ويباين مقصودهم.
ثالثاً: لو كانت هذه الحجة تجيز التمثيل، ولو أن المبرر هذا معقول بأننا نظهر أمجاد هؤلاء الصالحين فإنا لو أخذنا بهذه الغاية -بغض النظر عن الوسيلة أياً كانت- فإن هذا سيقال في وضع القبور -مثلاً- في المساجد، فسيقال: نتذكر الصالحين ونزورهم، وكذلك التماثيل التي تصنع وتوضع في الميادين وإن كانت -والحمد لله- لا تصنع للصالحين، فالتماثيل هذه أصلاً لا يجوز نصبها في الميادين، ولا يجوز النظر إليها كما ذكر ذلك بعض علماء الشافعية، وكذلك من المالكية الإمام الدردير المالكي قال: ما يحرم صناعته يحرم النظر إليه، فهذه التماثيل حرمت صناعتها فلا يحل لك أن تنظر إليها.
كما أن التمثيل قد يفضي بالشخص إلى أن يصل ويقف مواقف شائنة مخزية؛ إذ يمكن أن الشخص يقوم بدور إبليس، ومن الذي يقبل أن يقوم بدور إبليس أو يقوم بدور خروف؟!
هذا حصل، وقد يقوم بدور كافر مثلاً، فربما يضحك عليه الناس ويستهزئون به، فلا شك أن هذا الشخص الذي يقبل لنفسه هذا الوضع الشائن فاقد المروءة، فاقد الشهامة، وأنه ضيع الكرامة التي أكرمه الله عز وجل بها في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
[الإسراء:70]، فهو يجعل نفسه حماراً أو حيواناً أو نحو ذلك.
الشافعي رضي الله عنه يقول: والله لو أعلم أن شرب الماء البارد يخرم مروءتي ما شربته! إن كان شرب الماء يقدح في مروءته ما شربه حفاظاً على مروءته وهيبته رضي الله عنه.
ولو فرض وجود ممثل مسلم، فإن قام بدور الملك الكافر أو القائد الكافر يلبس ملابسه ويجعل نفسه هو ذلك الكافر أو الراهب أو القسيس، وتراه يشد في وسطه الزنار، وينطق بما هو كفر حسبما تقتضيه الرواية، فلو مات على هذه الحالة فكيف سيكون أمره؟ ! لو مات وهو يسجد للمسيح، أو وهو واضع الصليب على صدره أو يسجد للأصنام كيف ستكون خاتمته؟!
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يبعث المرء على ما مات عليه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) فبماذا يختم لهذا الشخص؟ وعلام يبعث يوم القيامة؟ ! (يبعث المرء على ما مات عليه) فهل يشفع له قوله: كنت أمزح وإنما كنا نخوض ونلعب؟ ! وماذا يحصل لو مثل عقبة بن أبي معيط وهو يضع السلا والقاذورات على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، أو يتلفظ بسب النبي عليه الصلاة والسلام أو التنفير عن الإسلام؟!
فهل هناك إنسان عاقل أو مسلم عاقل يقبل مثل هذا الوضع؟!
ومن يقبل أن يمثل دور فرعون ويقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى
[النازعات:24]،
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ
[الزخرف:52] ويسب موسى عليه السلام؟ !
فلا شك أن التمثيل يحتوي على هذه المنكرات التي تئول بصاحبها إلى الكفر، ومن ثم فظاهره أننا ننظر إليه أمامنا وهو راضٍ بهذا الكفر، والرضا بالكفر كفر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي) فاليمين بمثل هذا من المهالك العظيمة والمخاطر العظيمة للإنسان الذي يتلفظ بهذه الألفاظ، فمن يقول: هو يهودي إن فعل كذا أو إن حصل كذا فهذه الصورة فيها تهاون بدينه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني فهو نصراني، وإن قال: هو بريء من الإسلام، فهو بريء من الإسلام، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم. قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: وإن صام وصلى) رواه أبو يعلى والحاكم وقالا: صحيح الإسناد.
وقال أنس بن مالك : (توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: أبشر بالجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك! لعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه) فهذا كله مما لا يعني، فهو يمثل والجماعة ينظرون، وهذا مما لا يعني، فكيف بالإنسان يجلس أمام هذه الأجهزة الفاسدة يتلقن منها تلك الأشياء؟ وفي الأثر: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي).
وبعضهم يقول: يزيد أن نعمل تمثيلاً دينياً! لا يوجد تمثيل ديني، وهل أحد سمع عن تمثيل ديني يقول: الآن مع القرآن قبل نشرة الأخبار؟ بل يقال: مع الموسيقى الدينية حتى وقت نشرة الأخبار، فهل هناك موسيقى دينية؟ ! لا توجد موسيقى دينية، وهذا مثلما يقولون: الفن الإسلامي، ولا يوجد شيءٌ اسمه فن إسلامي، وإنما يوجد الفن العربي مثلاً، لكن الفن الإسلامي لا يوجد، فالإسلام ما دعا إلى هذا الهراء وهذا اللغو وهذا الباطل.
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل).
ورأى عبد الله بن عمرو بن العاص أم سعيد بنت أبي جهل متقلدة سيفاً وهي تمشي مشية الرجل فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال) رواه الإمام أحمد .
فنجد أنه تحدث منكرات كثيرة الإنسان يستحي من الكلام فيها كما تذكرها الكتب، ومنها اختلاط الممثلات بالممثلين واندماجهن معهم اندماجاً لا يوافق عليه عقل ولا دين، ويكشفن العورات، ويلبسن الثياب الرقاق مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات) قال الشيخ إسماعيل حقي في تفسير قوله: (مميلات) أي: قلوب الرجال إلى الفساد بهن. أو مميلات أكتافهن كما تفعل الراقصات. أو مميلات مقانعهن عن رءوسهن لتظهر وجوههن.
قال صلى الله عليه وسلم: (رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).
وبعض الفقهاء فسر قوله (مائلات مميلات) فقال: مائلات في أنفسهن، مميلات غيرهن من النساء بدعوتهن إلى مثل هذا الفساد، فيدخل فيه رائدات تحرير المرأة والتبرج والسفور، فهن مائلات في أنفسهن ويضللن غيرهن، ويدعين غيرهن من النساء إلى الوقوع في مثل فسادهن ويحرضنهن عليه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) فهذا دليل على بعدهن الشديد عن الجنة، فإذا كان هذا عقابهن على ذلك اللباس -وهو شر عقاب بل منتهى العقاب في الشدة لاقتضائه الخلود في النار- فكيف إذا انضم إليه أنواع الفجور الذي تقع فيه الممثلات في تمثيلهن؟! إذا كان هذا للنساء الكاسيات العاريات فكيف بما هو أشد من ذلك كالرقص ونحوه من الأشياء المعروفة؟!
وكثرة الرقص والممثلات أثرت في نفوس الناس، وأصبحت مشاهدتها هي الأصل عند بعضهم، حكي عن رجل كان ابنه في مدرسة، فحضر اجتماع لمجلس الآباء والمعلمين، فحضرت إحدى الأمهات ساخطة رافعة صوتها قائلة: أنتم أفسدتم ابني! فالمدير والمدرسون أخذوا في تهدئتها ثم قالوا لها: ماذا حصل؟ فقالت لهم: إن الولد كلما يجد منظر رقص في التلفزيون أو يرى امرأة يرمي ببصره نحو الأرض، فمن الذي علمه هذا التصرف؟ لابد أنكم الذين علمتموه هذا التصرف!
فكان رد المدير والأساتذة أن تبرءوا من ذلك، وأنه لا يمكن أن يكون عندهم أحد بهذه الصورة، وأنهم ملتزمون بمنهاج الوزارة!
إلى هذا الحال وصل المسلمون! هذه المرأة قلقة لأن يغض بصره حتى لا ينظر إلى الراقصات ونحو هذه الأشياء، فإننا لله وإنا إليه راجعون!
كما أن الممثلة تنفرد بالممثل وتكون معه في خلوة، وقد حكي لي أن بعض الممثلين كانوا في لحظة القيام بدور معين من الأدوار القذرة، فمن شدة الغيرة قام زوج الممثلة فأمر كل العمال الموجودين في الأستوديو أن يخرجوا إلى الصالة من أجل ألا ينظر أحد إلى زوجته وهي في منظر مخل مع الممثل الآخر! أليست هذه الصورة ستعرض على ملايين الناس؟ ! فانظر إلى التناقض والمسخ وذهاب العقل والحماقة والجنون! نسأل الله العافية.
والناس تقول لك: لا، هذا تمثيل!
وفي التمثيل مصافحة ولمس وغير ذلك مما هو معلوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) حتى مجرد المصافحة وفعل أدنى شيء، لكن مع ذلك يقع في هذا الوعيد.
تقول السيدة عائشة : (لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط حتى في المبايعة، إنما كان يبايعهن قولاً) أي: بايعهن بالكلام.
ويفعل الممثلون كل القبائح والموبقات أمام الجماهير الناظرة من رجال ونساء، وذلك منتهى الهمجية، ولو أن هذا الشخص القبيح الدنيء كانت الممثلة التي يمثل معها زوجته لمقتها الله عز وجل على هذا الفعل، ولمقتهما الناظرين إليهما على ذلك، فما بالك وهي أجنبية عنه؟! فلا يقر هذا الوضع إلا الهمج الرعاع الأوباش المنسلخون من الدين ومن العقل، الذين هم في درجة الأنعام بل هم أضل؛ فالكلاب تغار على الأنثى، وكذلك سائر الحيوانات المعروفة، ومع ذلك تجد هؤلاء يستحلون هذه المفاسد ويتعارفون عليها ويستمرئونها.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)، وفي بعض روايات هذا الحديث التعبير عن هذا الفعل بأنه من أعظم الإهانة عند الله، قالت أسماء بنت يزيد : (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود، فقال: لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها! فأرم القول -أي: سكتوا- ولم يجيبوا، فقلت: إي والله -يا رسول الله- إنهن ليفعلن وإنهم ليفعلون! قال: فلا تفعلوا؛ فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون).
وقال عز وجل: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ
[النساء:34].
فذلك هو حال هؤلاء القوم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أشراط الساعة التي لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأخبر أن الساعة لا تقوم حتى يجامع الرجل المرأة في الطريق، وحتى يقول له أعقل امرئ في ذلك المجتمع: لو تنحيت عن الطريق! يتنحى فقط عن الطريق والعياذ بالله!
وكل شخص يجلس أمام هذه المناظر فهو يقع في أعظم الوزر وأعظم الإثم، فويل له من الله سبحانه وتعالى إن لم يتب من هذه المفاسد! تجد الأب مع بناته ومع نسائه يرون مناظر في منتهى الفساد والانحلال، والسائر في الشارع يسمع بعض عامة الناس -غير المتطرفين ولا الملتحين- في شكوى وأنين من الفساد، وتسمع أحدهم في الشارع يقول لآخر: لا يوجد حل مع التلفزيون غير أن الواحد يكسره.
وهؤلاء أناس بسطاء بلغ عندهم سخط الفساد إلى هذا الحد، فكيف تكون غيرة أهل الدين والمروءة على حرمات الله عز وجل؟ !
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأه فقال: اصرف بصرك) ونظر الفجأة معناه أن الإنسان لا يقصد أن ينظر، لكن يفاجأ بامرأة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اصرف بصرك)، وأنت تفتح التلفزيون، وتمشي وتقطع المسافات لتجلس إلى هؤلاء الفسقة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك: (اصرف بصرك)، وأنت تتعمد أن تستخدم هذه النعمة في معصية الله سبحانه وتعالى، وهو قادر على أن يحرمك إياها، فربنا قادر على أن يخطف هذا البصر الذي تستعمله في محاربته ومبارزته بالمعاصي مع هؤلاء الفساق.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي : (لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية) فإذا كان هذا في نظر الفجأة والنظر الذي لم يقصد فكيف بالنظر الدائم مدة التمثيل الذي يقصد به التلذذ ويدفع المال من أجله؟!
قال الله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ
[النور:30] والمعنى: قل للمؤمنين غضوا من أبصاركم، فحال المؤمنين الالتزام بأمر الله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المقصود بكلمة (يغضوا) التي هي جواب الطلب، لكن حذفت كلمة (غضوا) التي هي فعل الأمر؛ لأن المؤمنين حالهم الاستجابة، أي: قل للمؤمنين: غضوا من أبصاركم يغضوا من أبصارهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان وزناهما النظر) فهذا المشارك والجالس أمام هذه التماثيل التي يعكفون أمامها واقع في هذا النوع القبيح من الزنا، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبست نساؤهم الزينة وتبخترن بها في المساجد لفتنة الرجال.
وهذا التبرج هو من عادات الجاهلية، يقول الله عز وجل: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى
[الأحزاب:33] فالتبرج لعن بسببه بنو إسرائيل، فكيف بالتبرج والعري الذي ظهر في نساء هذه الأمة، والتبختر في دور الرقص والتمثيل واللهو؟ !
وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية).
ومن منكرات التمثيل أكل أموال الناس بالباطل، وهو حرام، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا *
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا
[النساء:29-30]، ولا باطل على وجه الأرض أبطل من التمثيل وإنفاق المال في هذا الفساد.
ومن منكرات التمثيل المعروفة التي لا ينفك عنها المستمع بحال من الأحوال سماع الغناء وأصوات النساء والآلات المطربة، والله عز وجل يقول: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
[الأحزاب:32]، فهن يتفنن في الخضوع بالقول واستدعاء الفواحش ممن يسمعونهن ويجلسون إليهن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمرة يسمونها بغير اسمها ويضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير).
ويقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
[التحريم:6].
ويقول عز وجل: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
[الأعراف:6].
وقال عز وجل: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
[الحجر:92-93].
وقال عز وجل: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
[النساء:11]، فالله أرحم بكم من أولادكم وهو يوصيكم في أولادكم.
وقال عز وجل: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ
[الصافات:24].
وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) فهل من النصيحة للأولاد والنساء والبنات والذرية والإخلاص لهم والمنفعة لهم أننا نطلق لهم العنان أمام التلفزيون والفيديو وكل هذه الصور من الفساد المعروض الذي جره إلينا التمثيل وغيره، وفي نفس الوقت نقصيهم عن المساجد وعن الصحبة الصالحة؟ !
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
يقول الفضيل ين عياض : الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
فبعض الناس مساكين يظنون أن تربية الأولاد هي إيجاد الغذاء لهم، فيمكث الأب يمتعهم ويلبسهم أحسن الملابس، ويظن أن هذه هي التربية، فإن كان الأمر بهذه الصورة فما هو الفرق بين الإنسان وبين الحيوان؟!
التربية مسئولية أضخم من ذلك بكثير، ليست بنوع التغذية والتنمية، ولكن بتربية هذا النشء حتى ندخل في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
[الطور:21]، وندخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له) يعني: ينفعه دعاؤه في قبره بعد موته. فكيف نسلم بأنفسنا أهلنا ونساءنا وبناتنا لهؤلاء الفسقة والفجرة ليعلموهم هذا الفساد؟ !
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا
فالأب مشغول والأم مشغولة، فيتركان الأولاد لهذه المفاسد، والنتيجة بعد ذلك الندم حيث لا ينفع الندم، يقول الشاعر:
تبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع
فلا ينفع الندم بعد فساد الأولاد، وما أكثر الحوادث التي تطرق أسماعنا، والسبب فيها هؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
يقول بعض الشعراء:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجىً ولكن يعوده التدين أقربوه
ويقول الآخر:
وليس النبت ينبت في بناء كمثل النبت ينبت في الفلاة
وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثُديَّ الناقصات
فهذه جمل بسيطة رأينا أن نجمع فيها منكرات التمثيل تحذيراً للمسلمين ونصيحة لهم بشأن هذا المنكر الفظيع، ونحذر من موالاة الممثلين أو تعظيمهم أو الافتتان بمفاسدهم، يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
[النور:19].
اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا -اللهم- بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم! أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم! توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، وصل -اللهم- على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر