يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فلا زال الكلام عن أصول أهل السنة والجماعة موصولاً، وبعد أن تعرفنا على الأصل الأول وهو تقديم النقل على العقل مع أنه لا يمكن أن يتعارض نقل مع عقل وهذا بافتراض أن يصح النقل، فإن كان ثمة خلاف في الظاهر بين العقل والنقل فمرد ذلك إلى أمرين لا ثالث لهما: الأول: أن النقل غير صحيح، فإن كان صحيحاً فالثاني: أن العقل قاصر عن إدراك معنى هذا النص والمراد منه.
وبينا أهمية العقل، وأن هذا الكلام لا يرد به العقل، وإذا تكلمنا عن العقل فهو عقل العالم البصير بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
والأساس الثاني من أسس عقيدة أهل السنة والجماعة: إثبات عصمة الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم، وأنهم معصومون خاصة فيما يتعلق بتلقي الوحي وتبليغه بغير زيادة ولا نقصان، كما أنهم معصومون من كبائر الذنوب، وبينا هناك الرد على بعض الشبهات التي حامت حول أنبياء الله.
ومع أصلنا الثالث هنا: وهو أن من عقيدة أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وربما يبدو للمستمع سؤال: ما قيمة الكلام في هذا الأمر؟ وإن قيمته لتبدو في بيان أن الصحابة لم يكونوا محل اتفاق جميع من نسب إلى الإسلام، فهم محل اتفاق أهل السنة والجماعة، وأنهم خير الناس عندهم، لكن هلك فيهم فريقان، وكلا الفريقين بين غال فيهم وبين جاف عنهم، فمنهم من بلغ بالصحابة مرتبة الإلهية، خاصة موقف الشيعة من آل البيت، أما الخوارج فإنهم قاموا على الصحابة تكفيراً وتفسيقاً وتبديعاً، فهؤلاء غالوا في أهل البيت فأعطوهم ما لا يجوز إلا لله عز وجل، وهؤلاء جافوا عنهم فجعلوهم أقل من عامة الناس في كل زمان ومكان، بل سووا بينهم وبين الكفار الأصليين، معاذ الله أن يكونوا كذلك.
فموقف أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أن تسلم ألسنتهم من الوقيعة في أعراضهم، فلا يسبونهم ولا يشتمونهم ولا يلعنونهم، ويعتقدون أن واحداً منهم لم يقارف بدعة قط، وإن وقع في شيء مما خالف الشريعة فباجتهاد منه رجع عنه، وكذلك سلامة قلوبهم -أي: قلوب أهل السنة والجماعة- لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؛ سلامة قلوبهم من الغل والحقد والحسد والضغينة والكراهية، وهذا يستلزم أن تمتلئ قلوبهم بالمحبة والمودة والألفة والموالاة والنصرة والتأييد وغير ذلك لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
ولذلك عرف العلماء الصحابي بأنه: من آمن برسول الله عليه الصلاة والسلام ولقيه ومات على ذلك، فمن لم يؤمن به كالمنافقين والملاحدة وغيرهم ليسوا صحابة على الحقيقة، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده)، وهذا قسم منه عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق من غير قسم، فكلامه من المسلمات عند أهل السنة والجماعة والتوحيد: (والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
أما قوله: (لا تسبوا أصحابي) فالنهي يقتضي التحريم لأول وهلة إلا أن يصرفه صارف ولا صارف هنا، فالوقيعة في الصحابة علامة على بدعية الساب والشاتم، وأنه مبغض شانئ لهم، فإذا صدر من واحد سب لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام على العموم كفر بذلك. قال شيخنا علامة الزمان وعلامة المسلمين قاطبة محمد بن صالح العثيمين عليه رحمة الله، وأعلى الله ذكره في الآخرة كما أعلى ذكره في الدنيا: وإني لأعجب ممن يشك في تكفير من كفر الصحابة. وهذا كلام مشعر بإجماع أهل السنة والجماعة على أن من كفر الصحابة على العموم والإطلاق فإنه يكفر بذلك ويخرج من دائرة الإيمان والإسلام إلى حظيرة الكفر، كيف لا وهم الواسطة بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين عموم الأمة إلى قيام الساعة, ولولاهم لما نقل إلينا الكتاب ولا السنة، ولما عرفنا الحق من الباطل، ولما تعلمنا الحلال ولا الحرام.
فإنهم سهروا ليلهم دراسة وعلماً وعملاً كي تصلح الأمة، كما أنهم أول من نشر الفضائل والأخلاق الحسنة بين عموم الأمة إلى قيام الساعة، وهذا يعلمه من طالع سيرتهم في كتب سيرهم ويعلم ذلك يقيناً، فلم يكن الصحابة أصحاب كلام، بل كانوا أصحاب عمل بالدرجة الأولى، كما أن بداية الفتوحات التي تمت في شرق الأرض وغربها كانت على أيديهم، وهم الذين بذلوا الغالي والنفيس، بذلوا الدماء والأموال في سبيل نصرة دين الله عز وجل، وإعلاء كلمة الله عز وجل خفاقة عالية في سماء الدنيا شرقاً وغرباً، وهم الذين حرصوا على إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فكان الواحد منهم بأمة كاملة، هؤلاء هم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فرسان بالنهار رهبان بالليل، من مثلهم؟ ومن يدانيهم فضلاً عن أن يساويهم في الفضل والعلم والعمل؟ أثنى الله عز وجل عليهم وأثبت رضاه عنهم في كتابه في غيرما آية، ففي سورة الحشر يقول الله عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر:8]، من منا يخرج من داره وأهله وماله كما خرجوا؟ قال: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الحشر:8]، وهذا يدل على إخلاصهم كذلك، خروج مما يملكون، بل من أعز ما يملكون، ودخول في أمر لا يبتغون من ورائه إلا رضا الله عز وجل قال: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:8] جمعوا بين الإخلاص القلبي والعمل الظاهري، ونعم العمل ما عملوا. قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، فهذا وصف من الله عز وجل لهم بأنهم ما عملوا ذلك إلا صدقاً مع الله ومع رسوله عليه الصلاة والسلام.
ثم أثنى الله تعالى على طائفة أخرى منهم وهم الأنصار. قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9]، والحب عمل قلبي، فربما تظاهر الناس بأنهم يحبون القادم عليهم ويحبون الضيف الذي نزل بهم، لكن الله تعالى هو الذي أخبر عن مكنون قلوب الأنصار. قال: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9]، كل ما يملكون إنما هو ملك لإخوانهم من المهاجرين: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
ثم أثنى الله تبارك وتعالى على من أتى بعدهم وأنت منهم، ومن أتى من بعدك إلى قيام الساعة، لكن انظر إلى المهمة التي كلفت بها وإلى عقيدة سلفك: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، فهذا دورك وهذه مهمتك؛ أن تستغفر الله تعالى لنفسك ولمن سبقك بالإيمان، وأن يخلو قلبك من الغل والحسد والضغينة والسباب والكراهية والشتم لأهل العلم على العموم، ولأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام على الخصوص، ولذلك اتخذ كثير من شباب الصحوة دينهم وديدنهم الوقيعة في أعراض أهل العلم، وقد بلغني أن واحداً من طلاب العلم لقي الشيخ ابن عثيمين في رمضان هذا فقال له: يا شيخ! مطلب عام أن تسامح من وقع في عرضك، فقال الشيخ رحمه الله: أما من وقع فيه بعذر وحق فهو في عافية من الله وأنا مسامحه، وأما من وقع فيه بغير عذر وبغير حق فالله تعالى حكم فصل بيني وبينه يوم القيامة، هذه الكلمة كفيلة في ألا يتكلم الإنسان في أعراض أهل العلم لا بباطل ولا بحق، مخافة أن يتأول الكلام فيظنه حقاً وإذا هو باطل، كلام كفيل بأن يربط الإنسان منا لسانه ويعقله.
اتخذ الناس ديدنهم الوقيعة والسب والشتم، وأمثلهم من اتخذ الغمز واللمز والهمز في أعراض أهل العلم، هذا المؤدب في نظر بعض طلاب العلم! أما علمتم أن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من وقع فيهم بالسلب ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب وكفى بها عقوبة.
حدثني من ينسب إلى العلم في رمضان هذا وفي بيت الله الحرام وأمام الكعبة أن لجنة كبار العلماء في بلاد الحجاز تميل إلى تكفير المجتمع! إنا لله وإنا إليه راجعون، ما قيمة هذا الكلام؟ ثم انطلق في غير علماء اللجنة، أقول: إذا كانت اللجنة مجمعة على التكفير، فمن باب أولى أن يكون الأفراد من أهل العلم أكثر وقيعة في مثل هذا البلاء.
فقلت: إذا كان هؤلاء يميلون إلى التكفير، فإلى أي شيء تميل أنت؟ فلا بد يا أخي! من وقفة لك مع أهل العلم كافة، ومع أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام على جهة الخصوص، فالأمر خطير وأنت معروض على الله عز وجل شئت أم أبيت، لا سند لك ولا أحد معك ولا ترجمان، والله تعالى يحاسبك على النقير والقطمير، على الصغير والكبير، وأعظم ذنب تأتي به في حق أهل العلم أن تحمل لهم غلاً أو حقداً أو حسداً، وقديماً قال الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله: من علامة أهل البدع الوقيعة في أهل العلم وبغض أهل السنة، وربما قال: الوقيعة في أصحاب الحديث، فينبغي علينا جميعاً أن نتنبه له.
وكذلك لما اختلف المهاجرون والأنصار في بيعة أبي بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، وحسم هذا النزاع والخلاف عمر رضي الله عنه، بإثبات فضل المهاجرين على فضل الأنصار، وإثبات أسبقيتهم وجهادهم، وإسباق الأذى الذي وقع عليهم من المشركين في مكة، كل هذا يدل على أفضلية المهاجرين على الأنصار، فسلم الأنصار لذلك، فقاموا جميعاً وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا يدل كذلك على أن المهاجرين أفضل من الأنصار وفي كل خير، ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة في أفضلية المهاجرين على الأنصار.
لما أخطأ حاطب بن أبي بلتعة في أن أرسل رسالة كادت أن تصل إلى مشركي مكة، يخبرهم فيها -وكان معذوراً مجتهداً متأولاً- أن النبي عليه الصلاة والسلام ينوي قتالكم، ولكن خبر السماء نزل إلى النبي عليه الصلاة والسلام يخبره بما كان من حاطب بن أبي بلتعة ، فقام إليه عمر لما علم بأمره وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، وكان حاطب ممن أبلى بلاء حسناً في غزوة بدر، فقال: (لا يا عمر !)، نفي لتهمة النفاق في حق حاطب كما أنه نفي لجواز قتله. قال: (لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، أي: بسبب بلائهم ونصرتهم وتأييدهم لدين الله عز وجل دين الحق، فقد بذلوا ما أذهل العقول في هذه الغزوة، فكافأهم الله تبارك وتعالى بأن غفر ذنوبهم السابقة واللاحقة، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فهذا نص في إثبات أفضلية أهل بدر على غيرهم.
وذلك جمعهم الراجز في قوله:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة و عامر فهر والزبير الممدح
فقوله عليه الصلاة والسلام: ( أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة)، ألا يكفي هذا النص للرد على الشيعة والخوارج؟ وقوله: (و عثمان في الجنة) ألا يكفي هذا النص في الرد على المعتزلة الذين توقفوا في إثبات إيمان عثمان بن عفان ؟ بلاء عظيم جداً وقع في الأمة بعد مقتل عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه، وزادت الفتنة اشتعالاً بعد مقتل عثمان رضي الله عن أصحابه أجمعين.
وكذلك ثابت بن قيس بن شماس لما نزل قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، وكان صوت ثابت عالياً بطبيعته وأصل خلقته، فظن أن هذه الآية نزلت تهديداً له، وأنها خبر من الله بحبوط عمله، فلزم بيته وقال: أنا من أصحاب النار، فلما افتقده النبي عليه الصلاة والسلام وعلم بخبره، قال: (اذهبوا إليه وبشروه بالجنة).
وكذا أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، لم يستثن الله تبارك وتعالى منهن أحداً، وهن أمهات للمؤمنين والمؤمنات إلى قيام الساعة في التعظيم والتبجيل والاحترام والنكاح وغير ذلك، وليسوا أمهات فيما يتعلق بخاصة النسب من ثبوت الأمومة الحقة المباشرة، أو ثبوت النسب والميراث وغير ذلك مما يتعلق بحقوق النسب بين الأصول والفروع.
وكذلك بلال بن رباح في الجنة, والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني لأسمع خشخة
وكذلك عبد الله بن سلام الذي كان من أحبار اليهود بالمدينة، لما سمع بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام دخل في دينه على التو والفور، فبشره النبي عليه الصلاة والسلام بأنه من أهل الجنة.
وكذلك عكاشة بن محصن الذين نحفظ حديثه جميعاً، قال: (يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم، قال: أنت منهم، فقام إليه آخر وقال: يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم -أي: من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب-، فقال: سبقك بها
وكذلك ماعز الأسلمي مع أنه زنى، لكنه لما أقيم عليه الحد، قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأراه الآن يسبح في أنهار الجنة)؛ لأنه قد تاب من ذنبه، وكذلك الغامدية التي قال في حقها النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها تابت توبة لو وزعت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)، وفي رواية قال: (إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس -أي: جابي ضرائب وآخذ لأموال الناس بغير حق- لتاب الله عليه).
فأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام هم في عموم أصحابه عليه الصلاة والسلام، فلهم حق الصحبة، ويحبهم أهل السنة والجماعة للصحبة والنصرة والتأييد، والإيمان والعمل الصالح، كما أنهم يزيدون على عموم الأصحاب بقرابتهم من النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا حق زائد لهم عن عموم أصحابه عليه الصلاة والسلام.
وأهل السنة والجماعة ينفذون وصية النبي عليه الصلاة والسلام في أهل بيته التي قال فيها: (أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)، وقال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)، وعترتي أي: أوصيكم بعترتي وأهل بيتي، فأهل السنة والجماعة قاموا على هذه الوصية خير قيام، بالتبجيل والتعظيم والاحترام، في حدود ما هو جائز لأهل بيته عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم أجمعين.
وأهل السنة والجماعة لم ينزلوا أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام منزلة النبوة فضلاً عن منزلة الإلهية، كما أنهم لم يجعلوهم في عموم الناس، بل ولا في عموم الأصحاب، وإنما فاقوا الصحابة بدرجة وهي درجة القرابة.
فإذا كان الأمر كذلك فالنزاع والشجار وقعا بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فما عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالنزاعات والخلافات التي وقعت بين هؤلاء القوم الأفاضل؟ عقيدتهم باختصار الكف عما شجر بينهم، وعدم ذكر مساويهم قط، إلا إذا اضطر عالم إلى ذلك، واعتقاد أن لهم من الفضل والعلم والجهاد والنصرة والتأييد والعبادة ما يكفر جبالاً من الخطايا والذنوب، وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن ما وقع من النزاع بين الصحابة لم يقع عن هوى، إنما وقع عن اجتهاد، ولا يلزم أن يعتقد كل واحد منهم أنه محق فيما هو عليه، فأنت أنت إنما تفعل الفعل اليوم بظن منك واجتهاد أن هذا حق، وأن هذا فيه مرضاة لله عز وجل، ثم تبادر إليك بالغد أنك كنت على الباطل الذي ليس بعده باطل، فأولى بصاحب رسول الله أن يكون أسلم اجتهاداً منك.
فوقع الاجتهاد بين معاوية وعلي رضي الله عنهما، فقامت الحروب بينهما، والحق كان في جانب علي رضي الله عنه، لكن الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر)
فـمعاوية رضي الله عنه وعن أبيه كان متأولاً في خلافه مع علي رضي الله عنه، فهو مأجور عند الله، فالمأجور عند الله لا يستحق أن تطلق فيه الألسنة بالسب والشتم والتنقص وغير ذلك من سائر السفاسف والسفالات التي تصدر من ألسنة وأفواه بعض الخلق.
فلابد من سلامة صدورنا جميعاً نحو جميع أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وامتلاء هذه القلوب بالحب والتقدير والتعظيم والتبجيل لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، كما يلزمنا سلامة ألسنتنا وكفها عن الوقيعة في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأعظم بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى -وهو أشبه أن يكون خليفة راشداً كالخلفاء الراشدين- لما طلب منه أن يتكلم في الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما قال: فتنة طهر الله منها سيوفنا فلم لا نطهر منها ألسنتنا؟ رضي الله عنه ورحمه.
وبعد:
فهذا مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، لكن الأمر كما قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الخير من الشر يقع فيه
فلا بأس أن نعرج على عقيدة الفرق الضالة وبيان مذهبهم وموقفهم من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
ومن غلاة الشيعة فرقة تسمى السبئية، وهم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام ودس السم في العسل، وأفسد عقائد المسلمين في زمانه. قالوا: علي هو الإله حقاً، وابن سبأ اليهودي هو أول من أظهر القول بوجوب إمامة علي رضي الله عنه، وقال: إنه لم يمت، وإنما قتل ابن ملجم شيطاناً تصور في صورة علي رضي الله عنه، قال: وإنه في السحاب الآن، والرعد صوته والبرق سوطه، وبعد ذلك ينزل علي إلى الأرض فيملؤلها عدلاً كما ملئت جوراً! ولذلك هم يقولون عند سماع الرعد: عليك السلام يا أمير المؤمنين! أرأيتم ضلالاً وفساداً أكثر من هذا؟!
وأما الكاملية منهم وهم أتباع أبي كامل قالوا: كفر الصحابة بترك البيعة لـعلي ، وكفر علي بترك طلب الحق، فلم ينج من ألسنتهم أحد لا علي ولا غيره.
وأما البيانية وهم أتباع بيان بن سمعان فقالوا بتناسخ الأرواح، وأن روح الله تعالى حلت في علي رضي الله تعالى عنه، حتى صار هو والإله سواء بسواء!
وأما المغيرية فقالوا بأن الله عرض الأمانة، وفسروا الأمانة بمنع علي من الإمامة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وقالوا الإنسان هنا هو: أبو بكر وعمر وعثمان ، أي: حملها أبو بكر بأمر عمر حين ضمن له أن يعينه على ذلك بشرط أن يجعل الخلافة من بعده له. انظروا إلى هذا الفساد!
وأما المنصورية فقالوا بأن الجنة رجل. لم يقولوا بأن الجنة حقيقة، قالوا: بل مصطلح الجنة، وكلمة الجنة التي وردت في الكتاب والسنة ما هي إلا عبارة عن رجل أمرنا بموالاته وهو الإمام، وأن النار رجل أمرنا بمعاداته وهو أبو بكر وعمر .
وأما الخطابية وهم أتباع أبي الخطاب الأسدي الهالك الضال، فقالوا: الأنبياء آلهة، وجعفر الصادق إله، وأبو الخطاب أفضل منه ومن علي . كلام لا قيمة له ولا معنى.
وأما الذمية من فرق الشيعة فسموا بذلك؛ لأنهم ذموا محمداً عليه الصلاة والسلام ومدحوا علياً رضي الله عنه، كالغرابية تماماً الذين قالوا: إن علياً أشبه بمحمد من الغراب بالغراب، والذباب بالذباب، وجبريل أخطأ وكان حقاً عليه أن ينزل بالوحي على علي ، لكن لفرط الشبه بين علي ومحمد نزل الوحي على محمد.
فماذا قالت الذمية؟ قالوا: إن الله تعالى بعث محمداً ليدعو الناس إلى علي فدعاهم إلى نفسه، وقالوا بإلهية علي رضي الله عنه.
ومنهم من قال بإلهية الخمسة: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، فلما كان الضد لا يظهر حسنه إلا الضد قالوا: وضد هؤلاء الخمسة: أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص ، وكفروا هؤلاء الخمسة!
وأما الهشامية فقالوا بعصمة الأئمة دون الأنبياء، قالوا: لأن النبي يوحى إليه، والناس يتقربون إلى الله بما أخذوه عن أنبيائهم، وأما الأئمة فإنهم ليسوا كذلك؛ ولذلك تلزمهم العصمة -أي: عصمة السماء- خلافاً للأنبياء. حجة أوهى من بيت العنكبوت.
يا إخواني هذا الكلام له أهميته؛ لأن الشيعة الآن يمثلهم قطاع عريض جداً من المسلمين، بل لهم دولة وصولة ونجدة، ولهم أئمة يقتدون بهم في بلاد فارس في إيران وغيرها، بل امتدت حبائل الشيعة إلى بلادنا هذه، فنحن لا نعدم أن يكون في هذا المسجد منهم أحد، بل أقسم بالله أن في المسجد الآن من الشيعة أناس أنا أعرفهم، وإنما أتوا باتفاق معي ليسمعوا هذا الكلام، وقد اتصلوا بي قبل مجيئي إلى هنا مباشرة، وقالوا: نحن نتصل بك من أمام مسجد الرحمة، فأنا أعلم أن الشيعة قائمون في شرق الأرض وغربها يقلون ويكثرون.
وأما النصيرية العلوية فهو دين الشيعة في سوريا، فهؤلاء -خاصة الحكام وعلية القوم هناك- نصيريون علويون، يقولون: بأن الله تعالى تجلى في علي وأن علياً وأولاده أفضل من غيرهم، وكانوا مؤيدين بتأييدات متعلقة بأسرار الأمور، فلما كان ذلك منهم ظهر الحق سبحانه وتعالى بصورتهم، ونطق بألسنتهم وأخذ بأيديهم، ومن هنا أطلقوا الآلهة على الأئمة، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين، وأن علياً قاتل المنافقين؟ يقولون: لأن النبي يحكم بالظاهر، وأن الله - يقصدون علياً - تولى السرائر؛ فالنفاق أمر باطني، والشرك وعبادة الأصنام أمر ظاهري؛ ولذلك تصدى له النبي عليه الصلاة والسلام بخلاف النفاق فإنه لم يتصد له بزعمهم، بل تصدى له علي لعلمه بأسرار وبواطن الأمور؛ لأنه إله العباد! هكذا قال النصيريون، ولا يزال هذا قولهم إلى يومنا هذا.
وأما الجارودية وهي من الزيدية فليسوا ببعيد من الغلاة؛ لأنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي رضي الله عنه وصفاً لا تسمية، أي: لم يسمه، وإنما وصف الإمام من بعده، فهذه الأوصاف لم تحقق إلا في علي رضي الله عنه، ولذلك كفروا الصحابة بمخالفتهم وترك الاقتداء بـعلي بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما السليمانية منهم فقالوا: بصحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل، أي: قالوا: بأن أبا بكر وعمر إمامان، لكن أفضل منهما علي رضي الله عنه، وقد علمت أن هذا مخالف لما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، لكنهم يتلطفون ويقولون: والأمة أخطأت ببيعة أبي بكر وعمر في وجود علي ، لكنه خطأ لم يبلغ درجة الفسق -كثر الله خيرهم!- وكفروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة ، وبقولهم قالت البدرية، وهي من فرق الزيدية من الشيعة، إلا أنهم توقفوا في عثمان وقتلته، فلم يثبتوا لهم إيماناً ولم يكفروهم.
وأما الإمامية وهم أصحاب الاتجاه الإيراني الشيعي، فقالوا: بالمفصل الجلي على علي رضي الله عنه كذب وافتراء، وكفروا الصحابة ووقعوا فيهم، وساقوا الإمامة من علي إلى جعفر الصادق ، واختلفوا في المنصوص عليه بعد جعفر ، فقالوا: هو ابنه موسى الكاظم ، ومن بعده علي بن موسى الرضا ، ومن بعده محمد بن علي التقي ، ومن بعده النقي ، ومن بعده الحسن بن علي العسكري، ومن بعده محمد بن الحسن المهدي المنتظر عندهم، فمهديهم غير مهدي أهل السنة والجماعة.
وليس من عجيب أن تقول عائشة رضي الله عنها لما قيل لها: إن ناساً يقعون في أعراض الصحابة حتى وقعوا في عرض أبي بكر وعمر ، قالت: وهل في ذلك عجب؟! قوم قد انقطع عنهم العمل فأراد الله تعالى ألا يقطع عنهم الأجر، أي: هم مأجورون بوقيعة هؤلاء السفهاء في أعراضهم وهم أموات في قبورهم، فالخوارج وقفوا موقفاً في غاية الخزي والعار والشنار من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
فالمُحكِمة: هم الذين خرجوا على علي عند التحكيم وكفروه، وكفروا عثمان وأكثر الصحابة، وكفروا مرتكب الكبيرة كذلك.
والبيهسية منهم زادوا بقولهم: إذا كفر الإمام كفرت الرعية حاضراً أو غائباً، وهذا الذي يقوله الآن جماعة التكفير والهجرة، يقولون: الحكام كفرة وكذلك الشعوب؛ لأن الحاكم إذا كفر كفرت الرعية! وعندهم هذه الأمور مسلمات (1+1=2)، وانتهت القضية على ذلك! أي علم هذا وأي دين هذا؟! هذا سفه وجنون في دين الله عز وجل.
والأزارقة -وهم أتباع نافع بن الأزرق - كفروا مرتكب الكبيرة، وكفروا الصحابة عموماً، وكفروا علياً خصوصاً، وزعموا أنه هو الذي نزل في شأنه قول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]! هكذا زعموا، وقالوا: بأن ابن ملجم الذي قتل علياً كان محقاً في قتل علي رضي الله عنه، وهو الذي نزل فيه قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207]!
وكذا الإباضية وهم أتباع عبد الله بن إباض وما أكثرهم في الأحياء القديمة في القاهرة، ولعل الكثير منكم يعرفهم، ويعرف مساجدهم وأنهم لا يسمحون قط بدخول أحد للصلاة معهم وخلفهم إلا أن يكون على معتقدهم، وهم ينطلقون في أحيائهم بشراء البيوت والمحلات حتى تصفو لهم هذه الأحياء؛ فلا يكون فيها غيرهم؛ فتكون دولاً داخل دولة واحدة.
أمور عجيبة تتم في بلاد الإسلام وعلى مرأى ومسمع من المسلمين حكاماً ومحكومين، وكأن لا أحد يعنيه الأمر.
قالت الإباضية: إن علياً هو الحيران في قول الله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا [الأنعام:71]، ويقولون: أصحابه الذين كانوا يدعونه إلى الهدى هم أهل النهروان.
وأما نحن أهل السنة والجماعة فنقول: نبرأ إلى الله عز وجل من طريقة الشيعة والخوارج في آن واحد وكذلك طريقة المعتزلة، ونقول كما قال الشاعر:
برئت من الخوارج لست منهم من الغزال منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا علياً يردون السلام على السحاب
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا وكل ذلك عندنا.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر