إسلام ويب

رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاءللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد امتدح الله سبحانه وتعالى الصبر وأهله، فجعل الإمامة في الدين منوطة بالصبر مع اليقين، وما ذاك إلا لأن الصبر جواد لا يكبو وحصن لا يهدم، به يكون كمال التسليم والاستسلام للمولى جل وعز، ولقد ذكر الله لنا في كتابه العزيز نماذج من الصابرين، فذكر ابتلاءه سبحانه لعبده ونبيه أيوب عليه السلام؛ ليكون في ذلك قدوة يقتدي به عباد الله.

    1.   

    فضل الصابرين

    الحمد لله، والصلاة والسلام على سول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه: أحبتي في الله: هذه (رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء) وهذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم -تحت هذا العنوان- في العناصر التالية: أولاً: صبر أيوب. ثانياً: قصة مثيرة لامرأةٍ صابرة بالمنصورة. ثالثاً: رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء. وأخيراً: رسالة إلى أهل العافية من البلاء. فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والصدق في القول والعمل، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. أولاً: صبر أيوب. أحبتي في الله! إن الله جل وعلا قد جعل الصبر جواداً لا يكبو، وجنداً لا يُهزم، وحصناً لا يُهدم، وبين أن الصابرين في معيته، ويالها من كرامة، فقال جل وعلا: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]. وبَيَّنَ فضل الصابرين فقال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. بل وجعل الله الإمامة في الدين منوطة بالصبر مع اليقين، فقال جل وعلا: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]. بل وبين الله سبحانه كرامة الصابرين في الجنة، بدخول الملائكة للسلام عليهم وتهنئتهم، فقال جل وعلا: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24]، وبين جل وعلا في الجملة أن أجر الصبر لا حدود له ولا منتهى، فقال سبحانه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].

    معنى الصبر وأقسامه

    ما هو الصبر؟ الصبر لغة: المنع والحبس. والصبر شرعاً: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن المعاصي، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على المأمور: أي: صبر على الطاعة. وصبر عن المحظور: أي: صبر عن المعصية. وصبر على المقدور: أي: على ما قدره الله عليك من المصائب والمحن والبلايا. والصبر الجميل: هو الذي يبتغي به العبد وجه الله الجليل، لا حرجاً من أن يقول الناس: جزع، ولا أملاً في أن يقول الناس صَبر، وإنما يبتغي بصبره وجه الله جل وعلا، يصبر واثقاً في الله، مطمئناً بقضاء الله وقدره، مستعلياً على الألم، مترفعاً على الشكوى. والتحقيق أن الشكوى نوعان: شكوى إلى الله، وشكوى من الله، أعاذنا الله وإياكم منها. فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر -أيها الأخيار الكرام- فلقد مدح الله نبيه أيوب عليه السلام، وأثبت له الصبر في قرآنه، فقال حكاية عنه، وقد رفع أيوب شكواه إلى مولاه أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص:41]. وأثنى الله على عبده أيوب عليه السلام فقال جل وعلا : إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، ومع ذلك فقد رفع نبي الله أيوب شكواه إلى الله، كما قال الله جل في علاه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]. فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر. أما الشكوى من الله -أعاذنا الله وإياكم منها- فهي شكوى للمخلوق من الخالق. فإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

    صبر نبي الله أيوب عليه السلام

    أيها الأحبة! إذا ذكر الصبر ذُكِرَ نبي الله أيوب على نبينا وعليه الصلاة السلام، فلقد ابتلى الله أيوب في ماله وولده وبدنه، ففقد المال كله، ومات جميع أبنائه جملة واحدة، وابتلاه الله في جسده بمرض أقعده في الأرض وألزمه الفراش، فصبر وامتلأ قلبه بالحب لله والرضا عنه سبحانه! لم يسلم من بدنه شيء إلا قلبه ولسانه، أما قلبه فقد امتلأ بالحب لله والرضا عنه سبحانه، وأما لسانه فلم يفتر عن ذكر الله جل وعلا، وهذه والله هي الحياة. ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت). فالذاكر لله حي، وإن ماتت فيه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت، وإن تحرك بين الأحياء. لم يبق إلا لسانه وقلبه، أما القلب فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما اللسان فلم يفتر عن ذكر مولاه، واسمع ما قاله لزوجته الصابرة الوفية حينما قالت له: ادع الله أن يفرج كربك، فقال نبي الله أيوب: لقد عشت سبعين سنة وأنا صحيح، ولله علي أن أصبر له سبعين سنة وأنا مريض، ففزعت زوجته. واختلفت الأقوال في المدة التي مكثها نبي الله أيوب في البلاء، وأصح ما ورد في هذه الأقوال ما رواه الإمام الطبري وابن حبان وابن أبي حاتم والبزار والحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين وقال الإمام الهيثمي في المجمع: ورجال البزار رجال الصحيح من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن نبي الله أيوب مكث في بلائه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من خواص أصحابه، كانا يغدوان عليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر في يوم من الأيام : والله إن أيوب قد أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة ولم يرحمه الله ...) إلى آخر الحديث. قال أهل التفسير: فلما سمع أيوب ذلك خشي الفتنة، فلجأ إلى الله جل وعلا بهذا الدعاء الحنون الذي سجله الله في قرآنه، فقال جل وعلا: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]. انظر إلى الجواب: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]. ما الذي حدث؟ هل انتقل أيوب إلى إحدى المستشفيات الخاصة في الخارج أو في الداخل؟ كلا. إذاً: ما الذي حدث؟ أمر الملك القدير جل وعلا نبيه أيوب أن يضرب الأرض من تحت قدميه، فضرب أيوب المريض المسكين الأرض ضربة هينة بقدمه، ففجر الله له عيناً من الماء، وإذ بأيوب يسمع النداء من الملك ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]. أمر الله أيوب عليه السلام أن يشرب، فشرب أيوب من الماء، فشفاه الله من جميع أمراضه الباطنة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل فشفاه من جميع أمراضه الظاهرة، وصدق الله إذ يقول: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]. أيها المُبتلى! كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا أيها المبتلى! لا كاشف للبلوى إلا الله سبحانه وتعالى. قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا قل للمريض نجا وعُوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من يا صحيح بالمنايا دهاكا قل للبصير وكان يحذر حفرةً فهوىَ بها من ذا الذي أهواكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاكا وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى من بين دم وفرث من ذا الذي صفاكا؟! قل إن الأمر كله لله.. أإله مع الله؟ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة : (أمطر الله عز وجل عليه بعدما عافاه جراداً من ذهب، فقام نبي الله أيوب ليأخذ الجراد الذهبي من ربه العلي ليضعه في ثوبه، فنادى عليه ربه جل وعلا وقال: يا أيوب! أما تشبع؟ فقال أيوب: ومن يشبع من رحمتك يارب، ومن يشبع من رحمتك يارب). وهكذا نجّى الله أيوب، ورفع الله عنه البلاء بعد هذه السنوات العجاف بالصبر الصادق. وأود قبل أن أنهي الحديث عن هذا العنصر أن أحذر مَنْ لا يجيدون السباحة في البحور الهائجة، ومن لا يجيدون النزال في اقتحام الخطوب والأهوال، الذين انساقوا وراء الاسرائيليات التي شُحنت بها قصة أيوب في كتب التفسير وكتب السير، فانساقوا ليرددوا هذا الكذب العريض في أن الله قد ابتلى نبيه أيوب بالدود، وكانت كلما سقطت دودة من جسده انحنى عليها وردها إلى جسده مرة أخرى، وانبعثت منه رائحة كريهة نتنة اشمأز الناس منها، وانصرف الناس عنه، وهذا كله كذب عريض، وحقير وخطير، تنكره العقول السليمة، والطباع الكريمة التي تعلم يقيناً أن الله جل وعلا قد نزه أنبياءه ورسله من مثل هذا، فاعلم -أيها المسلم- أن الله جل وعلا ما ابتلى نبيه أيوب بهذه القاذورات، وإنما ابتلاه بمرض ألزمه الفراش، وأقعده في الأرض. وفي هذا كفاية، لكن أين الصبر؟ وأين الصابرون؟ أيها الحبيب الكريم! لا أريد أن أطيل في هذا العنصر، قال الله جل وعلا: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:42-43].

    قصة المرأة الصابرة

    ثانياً: قصة مثيرة لامرأة صابرة بالمنصورة، وهي التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع في هذه الجمعة، ولولا أنني وقفت على هذه القصة بنفسي، ورأيت هذه المرأة المسلمة الصابرة بعيني، لظننت أن قصتها ضرب من الخيال. امرأة من أمة الحبيب المصطفى تجسد لنا في قرننا العشرين صبر نبي الله أيوب! الحمد لله أن رأينا من أمة الحبيب من يحاكي صبر الأنبياء. هذه المرأة تبدأ قصتها بميلادها في قرية جُدَيدة الهالة بمركز المنصورة، وفي الثامنة عشرة تتزوج، وبعد سنتين تنجب طفلها الوحيد الذي توفي في الرابعة من عمره، فتصبر وتحتسب، وفي عام سبعة وستين يهاجمها المرض، فتحس بالآم حادة في بطنها، فَتُنْقَل على الفور إلى المستشفى الجامعي بالمنصورة، ويشخص الأطباء المتخصصون الحالة بأنها انسداد في الأمعاء الدقيقة، ويقرر الأطباء للمريضة المسلمة الصابرة جراحة عاجلة لاستئصال جزء من الأمعاء، وبعد الجراحة ما شعرت المرأة بتحسن. وبعد ستة أشهر قرر الأطباء مرة أخرى جراحة ثانية لاستئصال جزء آخر من الأمعاء!! وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثالثة لاستئصال جزء جديد من الأمعاء!! وفي هذه المرة اكتشف الأطباء أن المرأة مصابة بمرض خطير مشهور، ألا وهو مرض (الدرن) المعروف عالمياً بـ(T.B)، وهنا قرر الأطباء عدم التدخل الجراحي، واكتفى الأطباء بالعقاقير والحقن وتركوا أمرها لله جل وعلا!! صبرت المرأة واستسلمت لقضاء الله جل وعلا، ونامت على سريرها الأبيض في آخر غرفة في القسم الرابع عشر، باطنية مستشفى المنصورة، مستسلمة لقضاء الله وقدره. لا يفتر لسانها عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ويلهج لسانها بالثناء والشكر لله جل وعلا. ثم هاجمها المرض هجوماً عنيفاً بعد ذلك، فانتقل هذا المرض الخطير إلى الأمعاء كلها، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى كلِيتها اليمنى، ففشلت الكِلية اليمنى تماماً، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى الرحم، فأصيب الرحم بهذا المرض، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى العظام، فنخر المرض العظام نخراً، وأصبحت العظام هشة متآكلة، ثم فقدت عينها اليسرى، فلم تعد ترى بعينها اليسرى تماماً. انظر إلى هذه المراحل من مراحل الابتلاء، ومع كل مرحلة إذا ما عَلمِت من الطبيب المسلم ما ابتلاها الله به، تبتسم وتنظر إلى السماء، وتقول: الحمد لله.. الحمد لله.. جَبَلٌ من جِبَال الصبر.. منذ عام سبعة وستين لم تفارق سريرها في المستشفى الجامعي!! وطلقها زوجها بعد ست سنوات من المرض، ومات ولدها الوحيد واحتسبته عند الله جل وعلا. انظر إلى هذه المفاجأة العجيبة الغريبة، ففي عام (85) قبل موسم الحج سمعت محاضراً في شريط يتحدث عن الحج، فقررت أن تحج بيت الله الحرام، وقالت للطبيب المختص: أريد أن أحج بيت الله، فابتسم، وقال: كيف ذلك؟ قالت: لقد عَزمْتُ وتوكلت على الله، فهددها الأطباء بأنها لو فارقت سريرها ستعرض حياتها للخطر في التو واللحظة، فقالت بكل ثقة ويقين: أريد أن ألقى الله وأنا على طاعة له!! قررت أن تلقى الله على طاعة، فباعت ما تملك من الأرض، وقررت حج بيت الله الحرام، واقترب منها طبيب تقي نقي فحثها على ذلك، وسأل الله عز وجل لها الثبات. وهنا لما قررت السفر، وجيء بالسيارة التي ستحملها إلى الطائرة في القاهرة، تقدم الأطباء لنزع الخراطيم من هذا الجسد النحيل الضئيل، فهي امرأة لا تعيش إلا بهذه الخراطيم. أستغفر الله! بل لا تعيش إلا بأمر الملك رب العالمين!! الخرطوم الأول ينزع.. ما وظيفته؟ كان لتوصيل المحاليل الغذائية؛ لأن المرأة لا تأكل منذ عام سبعة وستين، بل تعيش على هذه المحاليل الغذائية عبر هذه الخراطيم!! الخرطوم الثاني: للبول -أعزكم الله- عن طريق القسطرة. الخرطوم الثالث: لأكياس الدماء التي يوصلونها إلى هذا البدن الضئيل. الخرطوم الرابع: لإخراج الرايل من الأمعاء الدقيقة عن طريق الأنف. ووقف الأطباء ينتظرون لها الموت مع أول دقيقة ينزع خرطوم واحد منها، فنزعت الخراطيم والمرأة تتحدث وتبتسم، وهي سعيدة أنها ذاهبة لحج بيت الله الحرام! وحُملت في السيارة، ثم إلى الطيارة، وحمِلت في جميع مناسك الحج، وأدت فريضة الله جل وعلا بإعجاز الملك الذي يقول للشيء (كن) فيكون، وهي تحكي هذه القصة وتتعجب وتقول: ما أكلت شيئاً إلا عن طريق الفيتامينات وعن طريق الأدوية! قضت هذه الفترة بفضل رب الأرض والسماوات جل وعلا وهى تبكي طوال الرحلة، وتشكر الله الذي أعانها في هذه الحالة حتى رأت بيته جل وعلا، وانطلقت إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي، ثم للسلام على الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وعادت من حج بيت الله مرة أخرى إلى سريرها، ونامت على فراشها في سريرها الأبيض، وطلبتني لزيارتها لأول مرة، فذهبت لأزورها مع بعض الأحبة الذين هم معي الآن في هذا المسجد، ذهبت إليها لأذكرها بالله، والله يا إخوة! لقد ذهبت لأذكرها بالله فذكرتني هي بالله جل وعلا، وخرجت من عندها وقد احتقرت نفسي، واحتقرت جهدي، واحتقرت عملي لله جل وعلا. امرأة عجيبة لا يفتر لسانها من ذكر الله والثناء والحمد لله جل وعلا، وقد ماتت يوم الأربعاء الماضي العاشر من شهر إبريل لعام ستة وتسعين، وقبل الموت بأربعة أيام طلبتني لزيارتها مرة أخيرة، فذهبت إليها مع بعض أحبابنا في هذا المسجد، ودخلت عليها، وجلست إلى جوارها، وهي تبتسم في وجهي وتقول: أين أنت؟ فاعتذرت لها عن تأخري عنها، فقلت لها: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله الحمد لله. وأنا أعجب لكونها تحمد الله على هذه الحالة. نظرت إلى غرفتها -فوجدتها قد قسمت الغرفة إلى قسمين: جعلت النصف الأول مسجداً لله جل وعلا، وجعلت النصف الآخر لسريرها، ووضعت إلى جوارها صندوقاً لجمع التبرعات، لمن أراد أن يتبرع لفقراء المرضى ممن يعجزون عن شراء الدواء! وإذا ما دخل عليها طبيب أو ممرضة أعارته شريطاً لمحاضر من المحاضرين. تدعو إلى الله وهى في هذه الحالة.. إنها والله الحياة. فكم من أناس يتحدون الله بعافيته، كم من أناس يتحدون الله بِنَعمِه، وهي التي سلب منها كل شيء ولا تغفل عن الدعوة إلى الله جلَ وعلاَ! تدعو إلى الله بالأشرطة.. تدعو إلى الله بالصدقة.. تدعو إلى الله بالإصلاح بين الأطباء والطبيبات، تدعو إلى الله بالإصلاح بين المرضى، لقد استثمرت حياتها كلها لطاعة الله جل وعلا، ولسانها ذاكر، وقلبها شاكر، وجسدها على البلاء صابر. ذهبت إليها قبل الموت بأربعة أيام، وجلست إلى جوارها، فقلت: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله، فأثنيت عليها خيراً.. فردت عليَّ وقالت: والله -يا شيخ- أنا خائفة على صبري طيلة هذه السنوات، ولكن ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة.. ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة. قلت: أبشري، لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِثَ عليه، وصدق الله إذ يقول: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32]. ما أرخصها من حياة إن عشت لشهواتك ونزواتك؟! ما أرخصها من حياة يا من لا تعيش إلا من أجل متاع الدنيا الحقير؟! ما أرخصها من حياة يا من تعيش من أجل كرسيك الزائل ومنصبك الفاني؟! وما أغلاها من حياة يا من بذلت وقتك كله لطاعة الله؟! ما أغلاها من حياة يا من استخدمت كل نعمة من نعم الله التي أنعم الله بها عليك لمرضاته جل في علاه؟!

    1.   

    رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء

    ومن ثم فهأنذا أوجه رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء. أيها المسلمون المبتلون الصابرون! اصبروا وأبشروا: أبشروا فإن أجركم على الصبر والبلاء لا يعلم حقيقته إلا رب الأرض والسماء، قال جل وعلا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] وقد وعدك الله أيها المبتلى الصابر بأن يرحمك ويهديك، فقال سبحانه: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156] وانظر إلى الجزاء: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157]، إن فضل الله جل وعلا عليك عظيم. أيها المبتلى الصابر! يا من حبسك المرض على السرير الأبيض، يا من حبسك البلاء في أيِّ موطن من أرض الله جل وعلا -أياً كان هذا البلاء- اصبر وأبشر. اصبروا وأبشروا، واعلموا أن الحياة الحقيقية هى حياة القلوب، واعلموا أن الحياة الحقيقية هي ألا يغفل لسانكم عن ذكر علام الغيوب وإن حُبست تلكم الأعضاء والأبدان، وأبشروا بموعود الله وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي يحيى صهيب الرومي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عجباً لأمر المُؤمن إن أمرهُ كُلهُ له خير، وليس ذلك إلا للمُؤمن: إن أصابتهُ سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابتهُ ضراء صبر فكان خيراً له). أيها المبتلون الصابرون! أبشروا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري وغيره، فقال في الحديث: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة). وقد ابتلي المصطفى صلى الله عليه وسلم بالحمى، وانتفض جسد الحبيب من شدة حرارتها، ودخل عليه ابن مسعود -والحديث في الصحيحين- وقال له: إني أراك توعك وعكاً شديداً يا رسول الله! فقال المصطفى: (أجل، إني لأوعك كما يُوعَكُ الرجلان منكم، فقال ابن مسعود : ذلك بأن لك أجرين يا رسول الله؟ قال: أجل، فما من مسلم يصيبه أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من سيئاته). قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3]. وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] وفي الحديث: (أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً زيد في البلاء، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه)، فالبلاء رحمة إن صبرت عليه، يكفر الله عز وجل به عنك الخطايا. وأذكركم يا أصحاب الأسرة البيضاء! بهذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر وقع به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي). وأختم هذه الرسالة -أيها المسلمون الصابرون- بهذه الكلمات الدقيقة لـشداد بن أوس رضي الله عنه إذ يقول: (أيها الناس! لا تتهموا الله في قضائه، فإنه لا يظلم أحداً، فإذا أنزل بك خيراً تحبه فاحمد الله على العافية، وإذا أنزل بك شيئاً تكرهه فاصبر واحتسب، واعلم أن الله جل وعلا عنده حسن الثواب). أسأل الله جل وعلا لهذه المرأة المسلمة أن يغفر لها وأن يتقبلها عنده في الشهداء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن من مات من المسلمين ببطنه فهو شهيد عند الله جل وعلا، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، فقال المصطفى: والله إن شهداء أمتي إذاً لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، ومن مات في بطن فهو شهيد). وفي حديث صحيح: (ومن مات في غرق فهو شهيد)، وفي حديث صحيح: (ومن ماتت بجمع -أي أن تموت المرأة وهي تضع ولدها أو وولدها في بطنها- فهي شهيدة)، هذا فضل الله جل وعلا، فنسأل الله أن يتقبلها عندها في الشهداء، وأسأل الله لجميع إخواننا وأخواتنا من أصحاب الأسرة البيضاء ممن ابتلاهم الله عز وجل بالأمراض والبلاء أن يجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً يا أرحم الراحمين، اللهم أبدلهم لحماً خيراً من لحمهم، ودماً خيراً من دمهم، وأنزل عليهم رحمة عاجلة من عندك يا أرحم الراحمين. وأخيراً أختم هذا اللقاء برسالة إلى أهل العافية من البلاء، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأرجئ الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    رسالة إلى أهل العافية من البلاء

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! كان من الواجب أن أختم هذا اللقاء برسالة أوجهها إلى أهل العافية من البلاء، أذكر نفسي وإياكم جميعاً وأقول: اسجدوا لله شكراً على العافية بعد الإسلام، فإن الصحة تاجٌ يتلألأ على رءوس الأصحاء، لا يراه ولا يعرف قدره إلا المرضى. يا منْ مَنَّ الله عليك بالعافية بعد الإسلام! اسجد لربك شكراً على هذه النعمة، واعلم بأن نعم الله عليك لا تعد ولا تحصى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]. يا من تستغل العافية من الله ونعمة الله عليك في معصيته! أما تستحي؟! أما تستحي يا من تتجرأ على معصية الله بنعمة الله؟! يا من استخدمت بصرك في تتبع العورات والحرام أما تستحي؟! تذكر من فقد بصره. يا من استخدمت سمعك في سماع الحرام! أما تستحي؟! تذكر من فقد سمعه. يا من استخدمت يدك في البطش والظلم! أما تستحي؟! تذكر من فقد يده. يا من استخدمت قدمك في السعي لمعصية الله! أما تستحي؟! تذكر من ألزمه المرض الفراش. يا من استخدمت منصبك وكرسيك الذي جلست عليه لظلم العباد وللتسفيه والتحقير لخلق الله! أما تستحي؟! تذكر ضعفك وفقرك وعجزك، فأنت مسكين ضعيف، ولولا أن الله عز وجل قد أطلق لك البدن للزمت الأرض وللزمت الفراش، فإياك أن يغرك مركزك ومنصبك، وجاهك ووجاهتك، فأنت ضعيف أيها المسكين، تحمل البصاق في فمك، والمخاط في أنفك، والعرق تحت إبطيك، وتحمل البول في مثانتك، وتحمل والنجاسة في بطنك، وتمسح عن نفسك النجاسة بيدك كل يوم مرة أو مرتين يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] يا من غرك جاهك! اعلم أن الله عز وجل قادر على أن يسلبه منك، واعلم أن كرسيك إلى زوال، وأن منصبك إلى فناء، إذ لو دام الكرسي الذي جلست عليه لأحد ما وصل إليك، فاعلم بأن الدنيا كلها إلى زوال، وبأن المناصب كلها إلى فناء. أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخو الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه للسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وصدق الله إذ يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]. تذكروا هذا يا أهل العافية! فهناك من الناس من يظن أن الرزق هو المال، وينسى نعمة العافية، ونعمة الصحة، ونعمة الإسلام قبل ذلك. النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن ولله در القائل: دع الحرص على الدنيا وبالعيش فلا تطمع ولا تجمع من الحرام فلا تدري لمن تجمع فإن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع فقير كل من يطمع غني كل من يقنع

    أركان الشكر

    أيها الأحبة! والشكر يدور على ثلاثة أركان: الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بالنعمة ظاهراً، واستغلال النعمة في طاعة الله جل وعلا. فالحمد يكون باللسان والجنان، أما الشكر فإنه يكون باللسان والجوارح والأركان. قال الرحيم الرحمن: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13]، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال المصطفى: أفلا أكون عبداً شكوراً). فالشكر يدور على اللسان والجنان -أي: القلب- والجوارح والأركان، فإن من الله عليك بالعافية فاشكر الله عليها، والشكر لا يكون إلا باستغلالها في كل ما يرضيه. إن منَّ الله عليك بالأولاد فاشكر الله على هذه النعمة، ولا يكون الشكر إلا بتربية الأولاد على كتاب الله وسنة الحبيب رسول الله. إن من الله عليك بالزوجة فاشكر الله على هذه النعمة، واتق الله فيها وربها على كتاب الله وعلى سنة رسول الله. إن منَّ الله عليك بمنصب أو كرسي فاشكر الله على هذه النعمة، وسخر الكرسي لتفريج هموم الناس وكرباتهم. إن منَّ الله عليك بالأموال فاشكر الله على هذه النعمة، واعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالبذل والعطاء والإنفاق. وهكذا إن من الله عليك بالعلم، فاعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالتعليم والتحرك هنا وهناك للدعوة إلى الله جل وعلا. إذاً: الشكر يدور على اللسان والجنان والأركان، فاشكروا الله يا أهل العافية! واسألوا الله أن يثبتها ويديمها عليكم، وأن يعيننا وإياكم على شكرها، وأن يعيننا وإياكم على استغلالها فيما يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. يا أهل العافية! لا تبخلوا على إخوانكم المرضى بالزيارة والدعاء، فحق المرضى علينا الزيارة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس). واسمع إلى هذا الحديث الجميل الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: يارب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله جل وعلا: لقد مرض عبدي فلان، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، فيقول العبد: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله جل وعلا: لقد استطعمك عبدي فلان، أما علمت بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني، فيقول: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله جل وعلا: لقد استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي). فمن حق المرضى علينا -نحن أهل العافية- أن نزورهم، وأن ندخل عليهم السعادة والبسمة والسرور، وأن نبث فيهم الأمل، وأن نكثر لهم من الدعاء. وأخيراً أقول: أيها الأحبة الكرام! جددوا التوبة والأوبة، وتذكروا أن الحياة والدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. أقبلوا على الله، وعودوا إلى الله -أيها الشباب- يا من استغللتم نعمة العافية في معصية الله. أيها الرجال! أيها الشيبان! أيتها المسلمات! فلنعد جميعاً إلى الله سبحانه! فنحن على ثقة من رحمة الله، ونحن على يقين بكرم الله وعفوه، قال جل في علاه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756501071