إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [138]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن مما يجب على العبد المسلم أن يؤمن بصفات الله وأسمائه، فيثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك صفة علو الله تعالى على خلقه، وهذا أمر قد تضافرت النصوص على إثباته، بالإضافة إلى دلالة العقل والفطرة التي فطر الله تعالى عليها خلقه، فلا يخالف في ذلك إلا ضال، حرمه الله من إدراك الحق اليقيني.

    1.   

    فوقية الله عز وجل واستواؤه على العرش

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السموات مستوٍ على عرشه، مثل قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وقوله تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، وقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وقوله تعالى: ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:3-4]، وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، وقوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وقوله تعالى:هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، وقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس:3]، فذكر التوحيدين في هذه الآية ].

    المقصود بالتوحيدين توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة -توحيد التأله-، وهذا هو أعظم ما جاءت به الرسل، وأوجب ما يجب على الإنسان أن يفعله، والله جل وعلا لا يقبل من العبد حتى يوحد، وسمي توحيد الأسماء والصفات لأن الله يختص به وحده لا يشاركه فيه أحد غيره -تعالى وتقدس- فهذه الصفات خاصة به جل وعلا، وكل صفة يتصف بها لا يشاركه فيها خلقه، وإن شاركوه في اللفظ أو في مجرد التسمية أو المعنى العام من بعيد، ولكن إذا أُضيف الشيء لله فهو خاص به، ولا يجوز أن يكون خلقه مشاركين له ، فعلوّه خاص به جل وعلا، ولا يمكن أن يكون شيء من الخلق فوقه.

    أقسام صفات الله تعالى

    قال العلماء: إن صفات الله تنقسم إلى قسمين:

    صفة تسمى ذاتيه، أعني: صفة ذات تتعلق بذاته، ولا تنفك عنه في حال من الأحوال، مثل الحياة، ومثل العلم، ومثل السمع، ومثل البصر.

    وصفة فعلية مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، أي: الشيء الذي يتعلق بمشيئته، فإذا شاء أن يفعله فعله، وإذا شاء ألا يفعله لا يفعله، فهذا سموه صفة فعل.

    قالوا: وعلو الله من النوع الأول، أي: من صفات الذات، فذاته لا يجوز أن تكون تحت شيء من خلقه أصلاً؛ لهذا إذا جاء إلى الأرض يوم القيامة للفصل بين خلقه يأتي وهو فوق كل شيء، وقد علمنا كما ذكر لنا ربنا جل وعلا في هذه الآية أنه يقبض السموات كلهن بمن فيهن بيده، فتكون صغيرة حقيرة بالنسبة إليه تعالى وتقدس، كما قال جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].

    وسبق أن ذكرنا أن ابن عباس يقول في هذه الآية: السماوات والأرض كلها بيمينه. فهو يرى أن هذه الآية خبر وحي، في قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، يعني: أنه يقبض الأرض ويقبض السماء بيمينه، ولهذا قال: (يقبض المخلوقات كلها بيده اليمنى وتكون شماله فارغة) هكذا قال، والسند إليه صحيح ثابت.

    وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يتفق مع هذا القول، وفي غيره من أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم، كحديث عبد الله بن عمر المتفق عليه وغيره.

    فإذاً لا يجوز أن يتصور متصور أن شيئاً من المخلوقات يمكن أن يساوي الرب جل وعلا، فكل المخلوقات بسمائها وأرضها بالنسبة إلى الله حقيرة صغيرة، فيجب على العبد إذا قال: (الله أكبر) أن يستشعر أنه أكبر من كل شيء تعالى وتقدس.

    والحديث الذي جاء في ذكر المسافات أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، جاء في بعض الروايات أن ما بين السماء والسماء مسيرة اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، وجاء قول الله جل وعلا: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5].

    فهذه المسيرة ألف سنة بين الأرض وبين السماء، وقد يقول قائل: اختلفت النصوص هنا، فكيف يكون الجمع بين القولين في هذا؟

    نقول: إن الاختلاف هنا هو اختلاف السير، فالسير قد يكون سريعاً وقد يكون بطيئاً، والله جل وعلا أصعد رسوله إلى السماء في ليلة واحدة، والصواب الذي دل عليه الحق أنه عُرج بجسده وروحه لا بروحه فقط كما يقوله البعض، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، ثم عُرج به من هناك، والأحاديث في هذا متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    كذلك ثبت أنه إذا قبض العبد وخرجت فإن روحه يُصعد بها إلى السماء، وإنها كلما مرت على ملأ من الملائكة بين السماء والأرض إذا كانت صالحة سلموا عليها ودعوا لها، وإن كانت خبيثة لعنوها قبل أن تصل إلى السماء الدنيا، فإن كانت صالحة استفتح لها ففُتح لها باب في السماء الدنيا، ثم يُصعد بها إلى الثانية فيُستفتح لها فيُقال: من؟ فيُقال: فلان جيء به -يعني: روحه- فيفتحون له إلى السماء السابعة، فإذا وصل إلى السماء السابعة خاطبهم الله جل وعلا وقال: (اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض)، فيعيدونها إلى الأرض، وهذا كله يقع قبل أن يُدفن، أي: ما بين موته وتجهيزه والصلاة عليه ووضعه في قبره، فإذا وُضع في قبره أعيدت روحه إليه، وبعدها يوقف في القبر ويسأل، وهذا ثبتت فيه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسافات تختلف.

    أما ما يقوله الملاحدة اليوم من أنهم يغزون الفضاء، وأنهم أطلقوا صاروخاً إلى الفضاء، وأنهم كذا وكذا، وأنهم ذهبوا إلى كوكب كذا وكوكب كذا، فيسمون الفوق فضاءً، أي: ليس فيه شيء، ويزعمون أنه ليس فيه إلا هذه الكواكب التي يقولون: إنها تسبح.

    ويقولون: إذا صعدوا مسافة عالية أصبحوا لا يرون شيئاً، فلا يرون سماءً ولا أرضاً ولا شيئاً، وبهذا يستدلون على أنه ليس هناك سماء.

    ونقول: هذا كله باطل، فالسماء لا تُرى إلا إذا كان هناك شيء يعكسها فتُرى، أما إذا انعدم العاكس انعدمت الرؤية لشدة بعدها، فإذا أصبحت الأرض لا أثر لها، ولا تأثير لها في انعكاس الرؤيا فلا تُرى، فهم إذا أبعدوا في الصعود انعدم تأثير الأرض فانعدمت الرؤية، فأصبحوا لا يرون.

    ومعنى قولهم هذا: أنه ليس هناك سماء، والله جل وعلا يقول: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا [ق:6]، فهل يأمرنا جل وعلا أن ننظر إلى شيء عدم؟ كلا أبداً، فالسماء مبنية حقيقة، ولها أبواب لا تُفتح إلا لمن يشاء الله جل وعلا، وقد أخبر أن الكفار لا تُفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا يدخلونها.

    فالمسافة التي ُذكرت إنما يكون اختلافها باختلاف السير، فإذا كان السير سريعاً كان التحديد أقل في الوقت، وإذا كان بطيئاً كان التحديد أكثر في الوقت فهذا هو الجواب عن اختلاف هذه النصوص.

    النصوص الدالة على الاستواء وما ورد عن السلف في ذلك

    قال رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2] ].

    (ترونها) هنا تكميل لما سبق، يقول جل وعلا: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2]، واختلف المفسرون في رجوع الرؤية هل إلى السماء أو إلى العمد؟ والصواب أنها إلى السماء، فبعضهم يقولون: على عمد ما ترى، وهذا ليس بصحيح، وهي غير مقصود، بل الصحيح: أنها أمسكت السماء بدون أعمدة، فأنتم ترون أن السماء ثابتة أمسكت بقدرة الله جل وعلا، وتعرفون أنكم إذا أردتم أن تبنوا بناء لابد أن يعتمد على أعمدة، فالمقصود هنا: الإخبار عن قدرة الله جل وعلا، وهنا يقول: (ترونها) يعني: نرى السماء بدون أعمدة.

    قال رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:4-5]، وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58-59]، وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:4-5]، وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته.

    وقوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:16-17]، وقوله تعالى: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقوله: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، وقوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37] ].

    هذه الآية وجه الاستدلال بها هو أن موسى عليه السلام أخبر فرعون أن الله في السماء، وجاء بهذا في الشرع الذي جاء به إلى الناس، وكلفهم قبوله والإيمان به ولهذا قال فرعون -يلبس على الناس- لوزيره هامان: ابن لي صرحاً سأصعد فيه فأنظر هل موسى صادق أو كاذب. ولهذا قال: إني لأظنه كاذباً يعني: في الخبر تلبيس. وهكذا المجرمون يفعلون ويُقابلون الرسل بالتكذيب وأنهم جاءوا بما يخالف الواقع.

    قال الشارح رحمه الله: [ وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين.

    فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله وعليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان والجحود به كفر. رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح ].

    معنى قولها: (الاستواء غير مجهول) أي: معلوم في اللغة، فمعلوم لغة أن الاستواء هو العلو على الشيء، والارتفاع على الشيء، ولا أحد يجهله.

    وأما قولها: (الكيف غير معقول) فالكيف المقصود به: كيفية الاستواء، وتعني به الهيئة التي كان عليها لما استوى. وهذا ما هو معقول، بل هذا يتطلب المشاهدة والرؤية، والرؤية غير واقعة، فالكيفية غير معلومة للخلق، ولا أحد يطلع عليها.

    وقولها: (والإقرار به إيمان) تعني: أن هذا جاء في الشرع، وتكاثر في الشرع، فإذا أقر به الإنسان فهو مؤمن بما جاء به من عند الله، وإنكاره كفر، وهكذا جاء عن الإمام مالك رضي الله عنه وعن شيخه ربيعة ، كلهم قالوا هذا القول، وكذلك يُقال في جميع صفات الله جل وعلا.

    فلو قيل لك: كيف يده؟ نقول: اليد معلومة، وردت في الشرع فيجب الإيمان بها، أما الكيف فالكيف ما نعلمه؛ لأن الكيفية تتطلب المشاهدة والرؤيا، وهكذا السمع والبصر والرجل وغير ذلك، كلها نقول فيها هذا القول.

    قال رحمه الله تعالى: [ وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال: لما سئُل ربيعة بن أبي عبد الرحمن : كيف الاستواء؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق ].

    وهذا معناه أن الاستواء معلوم غير مجهول، والكيف غير معلوم، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق والقبول، أي: نقول: إن هذا شيء ورد في الشرع فيجب علينا أن نقبله، والرسول بلغه عن الله جل وعلا، فلا يجوز أن نعترض عليه بشيء لا تدركه عقولنا، فعلينا أن نؤمن بظاهر النصوص على ما نتعارف عليه، أما الكيفية فنكلها إلى الله جل وعلا.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وقال ابن وهب : كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء، وقال: (الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يُقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة، أخرجوه ) رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب ، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضاً ولفظه قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ) ].

    معنى قوله: (وأخذته الرحضاء) الرحضاء: العرق، يعني: صار يتصبب عرقاً؛ لأن هذا أمر ليس بسهل، يسأله عن قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ والكيفية ما هي معروفة للناس حتى يسأل عنها، ولهذا أنكر عليه الإمام مالك رضي الله عنه وقال: أخرجوه. لأنه صاحب بدعة، فأخرجوه من مجلسه بعدما أجاب الجواب الصحيح السديد الذي يجب أن يكون أصلاً نتبعه ونسير عليه في كل شيء، قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. يعني: ما هو معلوم للخلق، ولا يُعقل أنهم يعلمونه؛ لأنه أمر غيبي، ثم أخبر أن الإيمان بالاستواء واجب، وأن السؤال عن الكيفية بدعة، فما يسأل عنها إلا مبتدع، وهكذا يُقال في جميع صفات الله جل وعلا.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفكيك، ونفوا عنه الكيفية، قال البخاري في صحيحه: قال مجاهد : (استوى: علا على العرش) ].

    هذا تفسير (استوى) بأنه علا، وكذلك جاء تفسيره أيضاً بأنه صعد، وجاء تفسيره بأنه ارتفع، وجاء تفسيره بأنه استقر، أربعة ألفاظ فقط هي التي جاءت عن السلف في تفسيرهم للاستواء: العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار. وكلها رويت بالأسانيد عن السلف، وهي بمعنى الاستواء، ولكن قد يكون إنسان عنده لفظ العلو أوضح من لفظ الاستواء، وآخر قد يكون عنده لفظ الصعود أوضح من لفظ الاستواء، فيفسرون بحسب حال السامع حتى يفهمونه.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وقال إسحاق بن راهويه : سمعت غير واحد من المفسرين يقول (الرحمن على العرش استوى) أي: ارتفع.

    وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أي: علا وارتفع. وشواهده بأقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم، فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:

    شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا

    وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا

    وتحمله مـلائكة شداد مـلائكة الإله مسومينا ].

    يقصد بالملائكة الشداد حملة العرش الذين أخبر الله جل وعلا أنهم يحملونه، وأخبر أنه من الملائكة من يحف بالعرش ويطوف به ويسبح لله جل وعلا، ويعبده، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7].

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية ].

    والجهمية سموا بذلك نسبة لرجل اسمه الجهم بن صفوان أنكر صفات الله جل وعلا، وصار إماماً فيها بالكفر والإلحاد -نسأل الله السلامة-، وهو الذي يقول عن فرقته الإمام عبد الله بن المبارك : إننا لنحكي قول اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي قول الجهمية. مع أن حكايته ليست كفراً؛ ولكن لخبث قولهم لا يحكونه وينقلونه.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قال الدارمي : حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال: حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك قيل له: كيف نعرف ربنا ؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش، بائن من خلقه.

    وقد تقدم قول الأوزاعي: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله -تعالى ذكره- بائن من خلقه ونؤمن بما وردت به السنة وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته.

    وقال في هذا الكتاب أيضاً: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان. ثم قال في هذا الكتاب أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء، وهذا لفظه في كتابه ].

    قوله: (بذاته ) وقوله: (على الحقيقة) كله سواء، ومقصدهم بهذا إبطال قول الذين يقولون: إن الله في كل مكان. والعرش والأرض والسماء كلها سواء بالنسبة إلى الله جل وعلا؛ لأن الله أخبرنا بأنه فوق، ولا يجوز أن يكون مخالطاً لخلقه تعالى وتقدس.

    وأما قوله: (وأجمعوا على أن معنى قوله: وهو معكم أينما كنتم أنه بعلمه) فيعني: أن المعية معية العلم، ومعية الإحاطة والسمع والبصر والاطلاع والقبضة، والمعية يجب أن يفهم معناها في اللغة، فكلمة (مع) في اللغة العربية تدل على مجرد المصاحبة، ولا تدل على الممازجة والمخالطة، فهي لا تدل على هذا، فقول الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] يعني: معه على الإيمان، وعلى الجهاد، وعلى القيام بما يلزمهم ليس واحد مداخلاً للآخر في ذاته، وكذلك قول الإنسان -مثلاً-: متاعي معي. أو: زوجي معي. وما أشبه ذلك، يعني: مصاحب، وليس مداخلاً.

    فإذا قال الله جل وعلا: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] فمعناه: أنه مطلع عليكم يسمع كلامكم، ويعلم أعمالكم، وأنتم في قبضته لا يخفى عليه شيء من تقلباتكم وأعمالكم، ولهذا يقول العلماء: كل ما جاء في القرآن من هذا النوع: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4]، فهو يدل على التخويف، يعني: اعلموا أنه لا يخفى على الله من أعمالكم شيء، ولا من قلوبكم شيء، فهو مطلع عليكم، فهذا معناه، وإلا فهو جل وعلا على عرشه فوق سماواته لا يكون مداخلاً لخلقه.

    منكرو الاستواء وعمن أخذوا مقالتهم

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا ولم يكيفوا كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب.

    وقال الحافظ الذهبي : وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله فوق عرشه هو الجعد بن درهم ، وكذلك أنكر جميع الصفات، وقتله خالد بن عبد الله القسري ، وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية ] .

    الجعد بن درهم كان في آخر دولة بني أمية، وهو معروف أنه ليس من المسلمين، ومتهم بأنه يهودي؛ لأنه تتلمذ على اليهود فصار يريد هدم عقيدة المسلمين، ومعلوم أن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم ما استطاعوا أن يقوموا في وجه الإسلام بالقوة، فلما أعجزهم هذا صاروا يدبرون الحيل، ويدبرون الأفكار في تمزيق المسلمين وإضعاف قوتهم، وقد علموا أن قوتهم في عقيدتهم، فقالوا: لابد أن نبدأ في إضعاف العقيدة وإفسادها، فصاروا يؤسسون المؤسسات، ويتخيرون الأشخاص الذين فيهم جرأة وفيهم قوة، وعندهم حجج يدسونها بين المسلمين، وهذا الرجل كان من هذا النوع، وهم كثر، ومن قرأ التاريخ وأمعن نظراً في ذلك عرف يقيناً أن هذا هو الواقع.

    فصار أول الأمر ينكر أشياء عند بعض الناس، فيقول: أيجوز أن نعتقد أن الله يحب؟

    يقول: المحبة تقتضي الميل والموافقة، فالله ليس كمثله شيء. وهكذا .. إلى أن تجرأ فقال: إنه لا يجوز أن يتكلم الله، ولا يجوز أن يتخذ خليلاً، فلما قالوا له: هذا خلاف القرآن قال: وإن كان فنحن نقول بالعقل، فالقرآن يمكن أنه ما جاء بالصواب. فرفع أمره إلى أحد أمراء بني أمية، وهو خالد بن عبد الله القسري ، فأخذه مقيداً، وكان الوقت يوم عيد أضحى، فكان هو الذي يتولى الصلاة، فصلى بالناس ثم خطب خطبة العيد، ثم قال في آخر الخطبة:

    أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم ؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، فتعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً ثم ذبحه أضحية.

    دليل آخر على علو الله تعالى على خلقه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض، قلنا: الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم) أخرجه أبو داود وغيره ].

    هذا الحديث من أدلة علو الله جل وعلا على خلقه، وهذا أمرٌ قد تضافرت عليه أدلة الكتاب والسنة، وكذلك دلالة العقل مع دلالة الفطر التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه، ولا يخالف هذا إلا ضال مخالف للحق اليقيني، وقد خالف كثيرٌ من الخلق ذلك فتأولوا النصوص الصريحة الواضحة التي جاءت في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفقت عليها الأمة التي اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مخالفة النصوص الصريحة جرأة على الله جل وعلا، وجرأة على دينه، وكذلك تعطيل لصفاته التي تعرف بها إلى عباده، وهذا الحديث سرد من مجاميع كثيرة تدل على علو الله، ولكن المصنف اختاره لما فيه من الصراحة في ذكر المسافات بين الأرض والسماء، وبين كل سماء مع التي تليها، وكذلك ذكر صراحة المسافة التي تكون في كل سماء، أعني: سمكها وارتفاعها، ثم إنه ذكر أن الله فوق ذلك كله صراحة، أمر لا يحتمل تأويلاً، ولا يحتمل تحريفاً، فاختاره لأجل ذلك، وإلا فكتاب الله مملوءٌ من ذكر علو الله على خلقه، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] في آيات متعددة، في سبع آيات من كتاب الله كلها فيها ذكر استوائه على العرش، مرتباً على خلق السماوات والأرض بـ(ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، وفي كتاب الله كثير من الآيات تدل على أن الله فوق خلقه، كما في قوله جل وعلا: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1] في آيات متعددة، والنزول لا يكون إلا من العلو إلى الأسفل، وكقوله جل وعلا: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وكقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18].

    ولو أن الإنسان أراد أن يحصي النصوص التي جاءت في فوقية الله وعلوه ما تهيأ له ذلك إلا بكلفة وبوقت، فكيف يجوز للمسلم أن يخالف هذه النصوص؟ وما السبب الذي يدعو إلى هذا؟

    الواقع أنه ليس هناك إلا سبب واحد فقط، وهذا إذا كان المخالف مسلماً، أما إذا كان غير مسلم فالأمر غير هذا، فسبب قول المخالف المسلم هو ما يتوهم من التشريك، وهي أمور وهمية لا حقيقة لها، فهم يقولون: لو قلنا: إن الله فوق؛ لاقتضى ذلك أن يكون في جهة، والجهة تكون محصورة، وكل ما حوته الجهات فهو جسم. فهذا هو السبب، وهذه هي الشبهة التي دعتهم إلى إنكار ما هو ثابت في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الشبهة باطلة داحضة؛ وذلك أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في أوصافه التي يتصف بها، وقد بين لنا ربنا ذلك.

    ثم إنه يجب على العبد أن يقبل من الله جل وعلا ما قاله وما علمه خلقه وعباده المؤمنين، وكذلك يقبل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأدلة الواضحة على وجوب ذلك قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، فلو كان ما يقولونه حقاً، للزم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما أنزل إليه، ومن اعتقد هذا فليس بمسلم فضلاً عن أن يكون على الحق الصواب الذي اختلف فيه؛ لأنه لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ الذي أخبرنا ربنا جل وعلا أنه بلغه، وقام بما يلزم، فلو كان ما يقولونه هذا حقاً للزم هذا الكفر -نسأل الله العافية-، وذلك أن الأمة التي امتثلت أمر الله، واتبعت الرسول صلى الله عليه وسلم شهدت لرسول الله صلى الله عليه سلم بالبلاغ المبين، وبالنصح التام، وبأنه لم يترك شيئاً يقرب الأمة للخير إلا ودلهم عليه، وبينه لهم، ولم يترك شيئاً يبعدهم عن الخير إلا حذرهم منه.

    فقد كان في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه يسألهم: (أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ فيقولون: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فيقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد)، وهذا أمر متواتر.

    والمقصود أن هذا من الأدلة الواضحة على وجوب قبول ذلك واتباعه، والأدلة على هذا كثيرة.

    ثم إن كل من احتاج إلى ربه لمسألة يسأله لابد أن يرفع يديه إلى السماء، يقول: يا رب! يا رب! ويجد لهذا دافعاً يدفعه في قرارة نفسه، فهو خلق على ذلك، ووضع في قلبه وفي عقله، فما يستطيع أن يكف نفسه عن هذا، وهذه الفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه.

    نحن نقول في صلاتنا: (سبحان ربي الأعلى)، وعلى مقتضى قول هؤلاء المبطلين الضالين يجوز أن نقول: سبحان ربي الأسفل! تعالى الله؛ لأنهم يقولون: إن الله في كل مكان.

    المعيّة والعلو

    أما ما يتشبثون به مثل قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وكون هذا يدل على أن الله في كل مكان فهذا لا ينافي علو الله وارتفاعه؛ لأن ربنا جل وعلا أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وقد دل هذا الحديث على أن أعظم المخلوقات وأكبرها العرش.

    وقد سبق في حديث أبي ذر وحديث ابن عباس أن السماوات السبع على سعتهن لا يساوين شيئاً أمام العرش، فالسماء الدنيا محيطة بالأرض من جميع الجهات، فأي جهة ذهبت إليها من الأرض فالسماء فوقك، والسماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا من جميع الجهات، فإذا كان كل من على السماء الدنيا، تكون السماء الثانية فوقه في أي جهة كان من السماء، مثل الذي يكون في الأرض، والسماء الثالثة محيطة بالسماء الثانية من جميع الجهات، والسماء الرابعة هكذا، والخامسة والسادسة والسابعة، وأعظم السماوات وأوسعها وأكبرها السماء السابعة، وهي التي فيها الجنة التي أخبر جل وعلا أن عرضها عرض السماوات والأرض؛ لأنها فوق السماء السابعة أكبر من السماوات كلها وأوسع، فهذه السعة الهائلة والبون الشاسع جاء في حديث ابن عباس وحديث أبي ذر : (السماوات السبع بالنسبة للكرسي كسبعة دراهم ألقيت في الفلاة)، يعني: أن الكرسي أكبر من جميع السماوات كلها، فنسبة السماوات إليه كنسبة الدراهم السبعة التي تلقى في الفلاة، ثم نسبة الكرسي إلى العرش كدرهم ألقي في فلاة، فالعرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها وأعلاها.

    وفوق العرش رب العالمين جل وعلا، فإذاً جميع المخلوقات السماوات والأرضون ومن فيهما بالنسبة لله صغيرة جداً، وتقدم قول الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فعلى سعة السماوات وعظمها يطويها بيده جل وعلا، فتكون صغيرة بالنسبة إليه فكيف مع هذا يجوز أن يتصور أن سماءً من السماوات أو أرضاً تظل الله جل وعلا أو تقله تعالى الله وتقدس، فلا شك أن الذي يعتقد هذا ضال في دينه وفي عقله، وأنه في الحقيقة لم يعرف ربه، ولم يقدره حق قدره.

    أقسام التوحيد وواجب العبد نحوها

    المؤلف عندما ذكر هذه الآثار أراد أن يختم كتابه بالقسم الثاني من أقسام التوحيد؛ لأن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد في القصد والإرادة، والقصد والنية والإرادة تصدر من العبد بنيته وقصده وإرادته، فيجب أن يكون هذا خالصاً لله، وهذا الذي ذكر فيه ما ذكر من أول الكتاب إلى آخره إلى هذا الباب، فذكر ما يخلص القصد والنية والإرادة أو يشوبه تحذيراً من ذلك وتنفيراً منه.

    وختم الكتاب فجاء بالقسم الثاني الذي هو توحيد العلم والمعرفة الذي يتعلق بالله جل وعلا بأوصافه وما يجب أن يعرف به، وهذا لا يمكن أن يعرفه الإنسان بعقله أو بقياسه ونظره، وإنما يعرفه عن طريق تعريف الله جل وعلا عباده، فهو يتعرف إلى عباده بما ذكر من أوصافه وأفعاله تعالى وتقدس، وهذا أمر واجب لا يجوز التفريق فيه، ولا يكفي أحد القسمين عن الآخر، فلا يكفي قسم من قسمي التوحيد عن القسم الثاني، بل يجب على العبد أن يجمع بينهما، ولكن لما كان ظهور أدلة هذا القسم وقلة الاختلاف فيه اقتصر على شيء يسير منه، بخلاف القسم الأول؛ فإن أكثر الناس ضلوا فيه بسبب التعلق بالأولياء وطلب شفاعاتهم؛ لأن العبد في الأصل خلق عابد ذليل خاضع، فهو يتلمس الشيء الذي يتلبس به ويتعلق به، فأكثر الناس لم يهتد إلى الطريق السواء طريق الحق، فصار يتعلق ويجعل له وسائط بينه وبين ربه يزعم أنها تقربه وتشفع له، فلهذا السبب أكثر من بيانه وما يجب من أجل إكماله، وما يجب اجتنابه لئلا ينقص أو ينتفي تماماً.

    ثم إن القسم الثاني قد أولاه العلماء من العناية ما يكفي وردوا على المخالفين، وبينوا الحق في ذلك، والحق فيه واضح وجلي، بخلاف الأول فإن العناية به أقل من العلماء السابقين، والسبب أن المخالفة فيه سابقاً قليلة، وليست منتشرة كالمخالفة الثانية، والمخالفة التي حصلت في القسم الثاني الذي هو توحيد العلم والمعرفة سببها في الأضل الكيد للإسلام والمسلمين من قبل قوم مشبوهين، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً دخلوا الإسلام تستراً لأجل إفساده، لا رغبة فيه، بل لأجل أن يفسدوه، فصار -في الحقيقة- إفسادهم بالغاً جداً، حيث شككوا المسلمين في ربهم، وصاروا يشبهون عليهم بذكر الشبه، ولا شك أن هناك شبهاً يتعلق بها المشبه الذي يشبه على الناس، فالذي ليس عنده علم وليس عنده معرفة قد تنطلي عليه هذه الشبهة؛ لهذا تولى العلماء تبيين هذه الشبه وبيان بطلانها، ووضحوا ذلك في كتبهم المعروفة المنتشرة بأيدي المسلمين والحمد لله.

    النصوص الواردة في مقدار ما بين السماء والأرض وكيفية الجمع بينها

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: (عن العباس بن عبد المطلب ) ساقه المصنف رحمه الله مختصراً، والذي في سنن أبي داود : عن العباس بن عبد المطلب قال: كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: (ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب قال: والمزن؟ قالوا: والمزن قال: والعنان؟ قالوا: والعنان -قال أبو داود: لم أتقن العنان جيداً- قال : هل تدرون ما بعد ما بين السماوات والأرض؟ قالوا: لا ندري قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك -حتى عد سبع سماوات- ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك)، وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي : حسن غريب.

    وقال الحافظ الذهبي : رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه: (ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام)].

    هذا الاختلاف في كون ما بين الأرض والسماء اثنتين أو ثلاث أو أربع وسبعين سنة، وفي الرواية الأخرى: (خمسمائة سنة) لا يضر؛ لأن هذا الاختلاف بالنظر إلى سرعة المسير من بطئه، ومعلوم أن سير البرج، ليس كالسير العادي، وإلا فهناك أيضاً مسير أسرع من هذا بكثير، فالنبي صلى الله عليه وسلم عرج به من الأرض إلى السماء السابعة في ليلة واحدة، فذهب ورجع بصحبة جبريل، ولكنه سير لا نعرفه، فلا صواريخ ولا غيرها مثله، بل أسرع بكثير جداً، والآن هؤلاء الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، ولا يؤمنون بأن فوقنا سماء، يقولون: إنما هي كواكب تسبح في الفضاء؛ لأنهم لا يؤمنون إلا بالشيء الذي يشاهد، والآن يريدون أن يصلوا إلى المريخ، ويقدرون الوصول إليه بالصاروخ الذي لا يمكن أن يقاس بسير القوافل أو الأقدام، فيقدرون شهوراً وسنين للوصول إليه، مع أن الكوكب ليس هو السماء، بل دون السماء.

    فإذاً الاختلاف بالمسير حسب السرعة من بطئها. وقد جاءت النصوص في أن الروح إذا قبضتها الملائكة تصعد بها إلى السماء الدنيا، فتستفتح لها السماء الدنيا، فإما أن يفتح لها، وإما أن لا يفتح فتعاد، فإذا كانت صالحة فتحت لها السماء الدنيا وصعدت، ثم استفتحت لها السماء الثانية والثالثة والرابعة إلى السابعة، فإذا وصلت إلى السابعة واستفتح لها وفتح لها وصارت فيها ينادي الله جل وعلا الملائكة: أن اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فيعاد.

    هذا الصعود والنزول والإعادة يكون في وقت تجهيز الميت بين موته وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه، فإذا وضع في قبره تكون الروح حاضرة، بل إذا حمل على نعشه وسير به إلى مستقره -إلى قبره- تكون الروح موجودة، فتصير تتكلم بكلام يسمعها كل من يليها، ما عدا الجن والإنس فلا يسمعون، فالبهائم والشجر والحجر وغيرها تسمع كلامها، فإما أن تقول: قدموني قدموني، أسرعوا بي. أو تقول: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ وهذا كله يدلنا على اختلاف المسير في الصعود والذهاب، ويسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء فينزل جبريل في الحال من السماء بالجواب من عند الله جل وعلا، وجبريل أقرب الملائكة إلى الله جل وعلا، وهو الذي يخاطبه الله جل وعلا مباشرة، ويأمره بأن يذهب حيث شاء الله جل وعلا ليبلغ رسالاته، فهو أمينه على وحيه من الملائكة، كما أن أمينه على وحيه من البشر محمد صلوات الله وسلامه عليه والرسل الذين ائتمنهم على وحيه.

    فالمقصود أن هذا كله يدلنا على اختلاف في المسير، وأن هذا التقدير الذي ذكر في هذا الحديث أمر نسبي، ليس ثابتاً لكل شيء، بل هو نسبي يختلف باختلاف السير، فلا يكون هذا مشكلاً؛ فإن بعض العلماء ضعف الحديث من أجل ذلك، وهذا لا وجه له في الواقع.

    ثم إن الحديث صحيح، والذين ضعفوه إنما ضعفوه بسبب محمد بن إسحاق، الذي لم يكن ذنبه إلا أنه خالف الجهمية وروى ما يرغم أنوفهم، فلهذا حملوا عليه، وقلد هؤلاء بعض من لم يتنبه لهذا الأمر، وكل المطاعن التي طعن بها عليه لا أصل لها وليست ثابتة، بل الذي روى الطعن مطعون فيه ولا يجوز أن يثبت طعنه؛ لأنه هو في نفسه ضعيف مشكوك في صدقه وفي أمانته، فكيف يطعن في إمام من الأئمة ممن هذه حاله؟ ثم هناك حكاية مشهورة تحكى وتجعل سبباً لتضعيفه، وهي زائفة في الواقع، وقد تولى الإمام ابن القيم رحمه تبيين ذلك في كتابه (تهذيب السنن)، فينبغي مراجعة ذلك.

    ثم إن ذكر هذه المسافات إنما هو لتقريب الأمر للأذهان فقط، وليست بالتحديد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخاطبنا بما نفهمه وبما نعقله، فهو يقرب لنا الشيء الذي لا نعقله بما هو معقول ومفهوم.

    فعليه لا يجوز أن يعترض على هذا الحديث لذلك، ثم إن التصريح بأن الله جل وعلا فوق العرش ليس مختصاً بهذا الحديث، وكذلك التصريح بأن الله عال على خلقه ليس مختصاً بهذا الحديث، فهذا الحديث ليس -في الحقيقة- أصلاً في هذا يعتمد عليه وحده، بل جاء متفقاً مع النصوص الكثيرة، فليس فيه شيء غريب أبداً، وإنما فيه ذكر مسافات فقط، أما ذكر الأوعال التي ذكر أنها ثمانية أوعال فوق البحر الذي بينه وبين السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام، وبين أسفل هذا البحر وأعلاه مسيرة خمسمائة عام، وفوق هذا البحر ثمانية أوعال فهؤلاء هم حملة العرش الذين ذكر الله جل وعلا أنهم يحملون العرش، وذكر أنهم أربعة، وإذا كانوا يوم القيامة صاروا ثمانية كما قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وذكر من عظم خلقهم أن ما بين أقدامهم إلى عواتقهم مسيرة خمسمائة عام، وكل هذا لحكمة أرادها الله جل وعلا، وإلا فالله يحمل كل شيء بقدرته، ويحمل العرش وحملة العرش، والسماوات والأرض كلها قائمة بقدرته جل وعلا، ولكن لحكمة أرادها جل وعلا جعل العرش على هؤلاء الملائكة، والملائكة على البحر، وهذا البحر هو الذي أخبر جل وعلا عنه أن عرشه على الماء لما ذكر مبدأ الخلق كما قال تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] يعني: على هذا البحر الذي فوق السماوات السبع. وكله ثابت في نصوص كثيرة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر:7]، فذكر ربنا جل وعلا من وظائفهم أنهم يحملونه، وأن معهم أيضاً من يحف بالعرش من الملائكة يسبحون الله ويحمدونه ويستغفرون للمؤمنين، ويطلبون من الله جل وعلا أن يتوب على التائبين، وكل هذا من رحمة الله جل وعلا، ولكن هذا مما يجب اعتقاده، والإيمان به.

    قال رحمه الله تعالى: [ ولا منافاة بينهما؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد؛ لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوماً باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد ].

    من كان في الشام يقول: فلسطين من الشام وبيروت من الشام، وبينهما ثلاثة أيام للبريد، أما نحن في الحجاز فبيننا وبين مصر أكثر من ذلك بكثير.

    دلالة الحديث على عظمة الله جل جلاله

    قال رحمه الله تعالى: [ وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه. هذا آخر كلامه.

    قال الشارح رحمه الله: [فيه التصريح بأن الله فوق عرشه، كما تقدم في الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم.

    وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، ولا عبرة بقول من ضعفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها، وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى كمال قدرته، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه، وبالله التوفيق ].

    هذا لا يعرفه الذين يعبدون غير الله، أو يعبدون معه غيره، فلا يعرفون هذا القدر ولا التعظيم، حيث يتعلقون بالمخلوقين ويدعونهم، ويتشفعون بهم، ويجعلونهم مسالك بينهم وبين الله جل وعلا، فما قدر الله حق قدره من هذا فعله، ولا عرف عظمته، وسوف يتبين له إذا وقف بين يدي الله جل وعلا يوم القيامة، بل قبل هذا سيتبين له حينما تحضر الملائكة لقبض روحه، وملائكة الله رسله الموكلون بأمره، والرسول صلى الله عليه وسلم وضح الأمر جلياً، وما ترك عذراً لمعتذر أبداً، وليس الذي يفعل هذا معذوراً بجهله، فالله جل وعلا قد أرسل الرسل وأنزل الكتب، فالذي يعرض عن ذلك هو الملوم، فماذا يقول الإنسان لربه يوم القيامة إذا سأله؟ أيقول: ما رأيت. أو: ما تأملت الكتاب. أو: ما تلقيت ما جاء به الرسول. أو يقول: ما بلغنا الرسول؟! فما هناك عذر.

    فالإنسان الذي لا يبلغه أن لله رسولاً وديناً وكتاباً أنزله، هذا لابد من إبلاغه، وإذا مات والحالة هذه فأمره إلى الله، فإما أن يعذبه وإما أن يعفو عنه.

    فإذا مات ولم يسمع بدين لله وبرسول لله وبكتاب لله فأمره إلى الله، وهذا في الوقت الحاضر الظاهر أنه غير موجود؛ لأن وسائل التبليغ ووسائل العلم أصبحت متوافرة، والأمة والخلق كلهم يعرفون أن الله جل وعلا أرسل رسولاً، ولكن اليهود والنصارى وغيرهم لا يهتمون بهذا، أو يقولون: هو رسول العرب فقط. وهم الآن كما هو مشاهد يجهدون أنفسهم ويبذلون أموالهم في إطفاء نور الله وإطفاء دينه بكل ما يستطيعون، وهذا أمر معلوم، فهل يسوغ أن يقال: إنهم معذورون في هذا.

    فما بالك بمن هو في بلاد المسلمين ويعبد غير الله، فيطوف بالقبور، ويستنجد بها ويسألها، فهل يكون هذا معذوراً؟ كلا. ما يكون معذوراً، مع أن عبادة الله ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم أمر لا يجوز جهله لأحد، وقد ثبت أن كل ميت يسأل عن مسائل ثلاث، فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟

    فإن كان الإنسان مقلداً يسير خلف الناس، فإذا فعلوا فعلاً فعله، وإذا تركوا شيئاً تركه بدون بصيرة ولا برهان ولا علم فإنه سيتلعثم في الجواب، فيقول: رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته أو: سمعتهم يقولون شيئاً فقلته، وهذا هو الواقع؛ لأن المسلمين ينقسمون إلى قسمين:

    مسلم يسمى مسلم اختيار، أسلم باختياره وبعلمه، فهذا الذي يجيب بلا تلعثم وبلا تردد، والله يثبت من يشاء عند المسألة، كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    وقد فسر القول الثابت في الحياة الدنيا بأنه التلفظ بالشهادة عند الموت، وأنه في الآخرة جواب الملكين اللذين يختبرانه، وقد جاء أن منظرهما وصوتهما مهول مفزع مخيف، وأن كل واحد معه مطراق من نار من حديد لو ضرب به الجبل لانهد، والإنسان ضعيف، وصوت الملك مثل الرعد القاصف، ويسأل بانتهار، لا بسهولة ويسر، بل ينتهر الإنسان انتهاراً.

    ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لـعمر قال: كيف بك إذا سألك وأنت بهذه الصفة؟ قال: له أأكون بعقلي؟ قال: نعم. قال: إذاً أكفيكهما.

    وهذا يكون للمؤمن، فلا يتلعثم ولا يتردد، أما الذي عنده شك، أو يكون إسلامه إسلام دار لا إسلام اختيار، فأصبح يرى الناس يصنعون شيئاً فيصنع مثلهم فقط، ولكن لو جاءه من يشككه في دينه لشك، ولو دعاه داع إلى الضلال لاتبعه، فإن ستر الله جل وعلا عليه، وبقي تابعاً للمسلمين فيجوز أن الله ينجيه؛ لأنه يصلي ويصوم، ولكن ليس عنده يقين وإيمان يمنعه من قبول الشكوك والريب، وهذا يخاف عليه أنه إذا سئل في قبره يتلعثم ويقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ورأيتهم يصنعون شيئاً فصنعته فيقال له: لا دريت ولا تليت أي: ما علمت العلم اليقيني الذي يمنعك من الشك والريب، ولا تلوت كتاب الله وآمنت به واتبعته، أي أنك تركت ما يجب عليك مما أنزله الله جل وعلا على رسوله وأمره بإبلاغه، فهذا معنى قولهم: (لا دريت ولا تليت).

    فالمقصود أن كل ميت يسأل عن هذه الأسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعثك فيكم؟ أي: من الذي تعبده؟ وبأي شيء تعبد؟ ومن أي طريق أخذت عبادتك؟ فهذا معنى السؤال، فهل تعبده بالآراء، وتعبده بالقياس وبالبدع؟ ثم يؤكد هذا بالسؤال عمن جاء به، فيقال له: من نبيك؟.

    ولهذا يعد العلماء هذه الأصول بأنها الأصول الثلاثة التي يسأل عنها كل مسلم ومسلمة، فيجب على المسلمين أن يتعلموا هذه الأصول ويؤمنوا بها؛ لأنهم يسألون عنها في القبر، ولا يجوز الشك فيها، وهي عبادة الله، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الذي يتعبد ربه به، فكيف يصلي ومن أين أخذ الصلاة؟ وكيف يزكي؟ وكيف يصوم؟ وكيف يحج؟ وهذه الأمور الخمسة هي التي رتب عليها دخول الجنة، فما يدخل الجنة إلا من أتى بها، وهي أن يعبد الله ولا يشرك به، وأن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إذا استطاع إليه سبيلاً، وهذا من رحمة الله جل وعلا، أعني كونه يعلق الحج بالاستطاعة، ومن تقصير كثير من المسلمين في هذا أن أحدهم إذا مرض وجدته يتساهل بالصلاة، وربما يقول: أنا لا أستطيع أن أصلي، فما أستطيع أن أقوم، وما أستطيع أن أتوضأ، فإذا شفيت أصلي وقد يموت ولا يشفى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756523220