لقد نهى الله سبحانه وتعالى الأعراب أو سكان البوادي أو من يقعون على طريق الحجاج، ويسوقون الهدي معهم، وقال لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ [المائدة:2] (لا تحلوا الهدي)، أي: لا تأخذوه ولا تؤذوه؛ بل اتركوه يمضي آمناً.
وهنا أمر يلفت النظر وهو أن العرب في الجاهلية قديماً كانوا يعظمون الأشهر الحرم فلا يقتلون فيها ولا يقاتلون ولا يقتصون، وربما يلقى الرجل قاتل أبيه أو قريبه فلا يمد يده عليه؛ لأنهم في الأشهر الحرم، وغزوة نخلة وما ترتب عليها من الأمور أمرها معروف.
وهنا هؤلاء الذين يتصيدون الناس، ويقطعون الطريق، إذا مر عليهم الهدي مقلداً مشعراً ليس معه من يدافع عنه كفوا أيديهم؛ لأنه هدي يساق إلى الكعبة؛ فلحرمة الكعبة ولكونه هدياً يكفون عنه، وأنت أيها المحرم يجب أن تبادلهم هذا الأمر، فإنهم قد حفظوا لك هديك، وتركوه يمضي آمناً، فاترك لهم الصيد الذي يعيش في بلدهم وفي منطقتهم؛ لأنهم أحق به منك، وإنما أنت وافد عليهم، فلا ينبغي أن تقتل الصيد وتذهب وتتركهم جياعاً، فكما أمنوا لك هديك فأمن لهم صيدهم.
ومن العجيب أن الأشهر الحرم -ذا القعدة وذا الحجة والمحرم ورجب الفرد- متزامنة مع أشهر الحج: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] وهي بالإجماع: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فهذه أشهر القدوم إلى مكة، وينتهي الحاج من حجه في منتصف ذي الحجة، ويعود إلى بلده، فالله سبحانه وتعالى دعا الناس إلى حج بيته وقد كان الناس يقطعون السبيل، فنشر لهم الأمن في سفرهم تحت مظلة أمن الأشهر الحرم؛ ولهذا فإن الحاج يأتي من أقصى الجزيرة شرقاً وغرباً من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، ويقطع المسافة في شهر أو شهرين على قدر حالة المسير، فيبدأ من أول شهر شوال، فإذا ظهر هلال شوال وأفطر الناس في عيد الفطر جاز الإهلال بالحج زماناً، فيكون أمامه شوال وذو القعدة وجزء من ذي الحجة، فيأتي من دول الخليج ومن وراء دول الخليج إلى مكة آمناً مطمئناً، فإذا وفّى حجه وانتهى أصبح عنده ذو الحجة والمحرم، وهذا يرده إلى بلده في أقصى الجزيرة؛ فيكون آمناً في سفره إلى مكة وفي العودة إلى بلده.
إذاً: الحاج مضمون له الأمن في مسيره، وعليه أن يكون أميناً على ما يلقاه في طريقه، فتزامن الحج مع الأشهر الحرم مع تحريم الصيد مع احترام الهدي، وكلها وحدة متكاملة.
والحمر تنقسم إلى قسمين كما قيل: أهلي ووحشي، فالجنس واحد، والوحشي صيد وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأكلوا منه، وصيده مشهور ومعروف، وفي عام خيبر حرمت الحمر الأهلية وبقيت الوحشية على أصل الحل والإباحة. وهنا يأتي السؤال: ما الذي فرق بين أبناء الجنس الواحد وهي الحمر، فهذا حلال وهذا حرام؟ وما هو الموجب أو السبب في ذلك؟ لأن بعض الناس يطعنون في الشريعة ويقولون: إن الشريعة تفرق بين أفراد الجنس الواحد، وتفرق بين المتساويين، والتفريق بين المتساويين لا يصح عقلاً، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) قالوا: فهذا بول وهذا بول، وهذا آدمي وهذه آدمية، وهذا طفل رضيع وهذه طفلة رضيعة، فلم فرق بينهما؟ حتى قال بعض المسلمين: لا فرق في ذلك، ويذكر عن بعض المالكية أنه يغسل الجميع، ولكن فيما بعد ثبت من الناحية الكيميائية: أن هرمون الأنوثة يغاير هرمون الذكورة فيتأثر به البول، وأن طبيعة بول الأنثى ثخين يحتاج إلى غسل، وطبيعة بول الذكر أقل كثافة فيكفي فيه الرش، مع أنه لا يتوقف التشريع على المعامل الكيميائية والتحليلات ونحوها، فإن الشرع جاء لأمة أمية لم تدخل إلى مختبرات ولا إلى معامل، فما جاء عنه صلى الله عليه وسلم نقبله من دون أي نقاش أو اعتراض. وهنا قالوا: لماذا حرم لحم الحمار الأهلي وبقي لحم الحمار الوحشي على حليته وهما شيء واحد؟
قالوا: إن للغذاء تأثيراً على جسم الإنسان، وهناك بعض الناس يسمون النباتيين، لا يأكلون اللحم أبداً، ويقولون: إن اللحم لحيوان، وهذا يؤثر على طباعنا.. ويأكلون مما تنبت الأرض، وهناك أشخاص يعيشون على الألبان، والذي يهمنا أنه باتفاق علماء التغذية والأطباء أن كل نوع من الأطعمة له تأثير على الجسم في خصائصه وغرائزه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من لحم الإبل وعدم الوضوء من لحم الغنم؛ حتى قال بعضهم: هذا أيضاً تفريق بين متساويين لحم ولحم، فقالوا: إن في الإبل خصائص كالكبر والخيلاء، وفي الشاة التواضع ونحو ذلك، وذلك لطبيعة المعاشرة، فالشخص الذي يعايش الإبل يحتاج إلى عصا متينة غليظة قوية ليضرب بها، والذي يعايش الشياه لو أشار بيده بقضيب من أراك فإن الشاة تمشي أما الإبل فقد يكابر ويعصي ويتمرد، فهناك فرق بينهما، فالذي يعايش الإبل بطبيعته وسلوكه وأخلاقه غير الذي يعايش الغنم؛ ولذا يصلح لرعي الإبل راعي الغنم قبل أن يصلح لرعي الإبل؛ ولذا حرمت الشريعة لحوم بعض الحيوانات حفاظاً على الإنسان من أن يتسرب إليه بعض خصائص تلك الحيوانات.
يقول أبو حيان رحمه الله تعالى في تفسيره عند تحريم لحم الخنزير، الخنزير فاقد الغيرة على أنثاه، وقد شاهدنا أن المكثرين من لحمه عندنا لا غيرة لهم على نسائهم.
وكان بعض العلماء يقول: كل الحيوانات كانت متوحشة حتى الخيل، ثم استؤنست ودربت على أن تعيش مع الإنسان، فالحمار حينما كان وحشياً قبل أن يكون إنسياً، كان يعيش على سعيه على نفسه، وحمايته لنفسه، ويأنف الضيم، ولا يخضع لنوع من الذلة، فلما استأنس نوع من الحمر وأصبح إنسياً أصبح ينتظر العلف من صاحبه، ويحرسه صاحبه ويستذله، حتى إن الطفل الصغير ليضربه ويحمل عليه وينقاد له، حتى قيل:
ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد
عير الحي: هو الحمار، فهو صبور، ويضرب به المثل في الصبر، وفيه طبع اللآمة؛ لأنه إذا عرف أن الذي يقوده طفل صغير تلاءم وتعاجز وتناوم وتقلب في التراب، وإذا وجد الجد ممن هو معه شمر ونشط وخاف، ففيه الذلة واللآمة، وأصبح يضرب به المثل في البلادة؛ رغم أن عنده الفهم للطريق أكثر من الإنسان، ومعرفته للطريق أكثر من معرفة الإنسان إياها، فإن الحمار إذا مشى طريقاً ولو عشرات الكيلومترات وأراد أن يمشيه مرة ثانية فلا يمكن أن يضل الطريق أبداً، ولذلك فإن أهدى المخلوقات إلى الطريق هو الحمار، لكن في الأشياء الأخرى:
كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ والماء فوق ظهورها محمول
قال تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] ولا يدري عنها شيئاً.
فقالوا: حرمت الحمر الأهلية لما لها من صفات ليست موجودة في الحمر الوحشية؛ لأن الحمار الوحشي يعتمد على نفسه، ويقول الدميري صاحب كتاب الحيوان: إن حمار الوحش الأنثى إذا ولدت كسرت رجل تولبها - والتولب: الحمار الصغير الذي تلده- ليبقى في جحره لا يخرج إلى أن يشب ويكون قادراً على الجري سريعاً، فإذا ما خرج من جحره ولقيه وحش ليفترسه استطاع أن يفلت بالجري.
إذاً: هو يقوم على حماية نفسه ويسعى على علفه ومرعاه، فهو لا يحمل منة لأحد، ولا يخضع لذلة عند أحد، فسلم مما ابتلي به الحمار الإنسي.
ومن هنا: نعلم أن الشريعة ما حرمت شيئاً إلا لمضاره ومفاسده، وعلى هذا جاءت المناسبة في هذا العرض فيما يتعلق بالحمار الوحشي والحمار الأهلي أو الإنسي، وكان تحريمها يوم خيبر، والله تعالى أعلم.
من دقة المؤلف رحمه الله أن ذكر هذا الحديث بعد الحديث الدال على تحريم الصيد على المحرم، وما دام أن المحرم لا يمد يده على الصيد، فماذا يفعل في المؤذيات؟ يقتلها فكما أنه ذكر تحريم الصيد على المحرم، والصيد قتل الحيوان المباح، ذكر هنا الاستثناء وقال: أما المؤذيات فاقتلها.
والفواسق: جمع فاسق، كفوارس جمع فارس، والفاسق في اللغة: ما خرج عن طريقه، وسميت الفأرة فويسقة؛ لأنها تخرج عن طريقها وتضرم على الناس بيوتهم -أي: تحرقها - ولذا أمر بإطفاء السراج عند النوم؛ لأنهم كانوا قديماً يستضيئون بالمسرجة، وقد كان يوجد البعض منها هنا في المدينة، وهي تأتي على شكل قناديل من الزجاج مستديرة تشبه البطيخة مفتوحة من الأعلى، وهذه كانت مسارج المسجد النبوي، وكان يوضع فيها الزيت ويؤتى بالفتيل ويلقى طرفه في الزيت والطرف الآخر على حافة المسرجة ويشعل فيه الضوء، فيستجر من الزيت كما تفعل الشمعة، ويستضاء به، فتأتي الفأرة وتريد أن تشرب هذا الزيت، والمسرجة صغيرة، وهي تخاف من النار، فتأتي بذنبها وترفع الفتيل من المسرجة وتلقيه خارجاً عنها، والنار مشتعلة فيه فيحرق ما سقط عليه، فهذا هو فسقها، والعرب تسمي كل من خرج عن طريقه السوي: فاسقاً.
ويقولون: فسقت النواة عن الرطبة، وذلك إذا أردت أن تأخذ القمع خرجت معه النواة، وفسقت الحبة عن الرحى، عندما يطحنون الحب بالرحى ويكون الحب كثيراً؛ فتتناثر الحبيبات وتبتعد عن الرحى ولا تطحن، فيقولون: فسقت الحبة عن الرحى؛ لأنه كان المفروض أن تبقى الحبة في الرحى حتى تطحن.
وفي اصطلاح الشرع: الفاسق من خرج عن الصراط السوي إلى بنيات الطريق فيما نهي عنه.
وقوله: (يقتلن في الحل والحرم) أي: أن حرمة الحرم لا تحرمها ولا تمنعها؛ بل يجوز قتلها مع وجود حرمة الحرم، وكذلك حرمة الإحرام لا تمنع هذه الفواسق من أن يقتلها المحرم.
إذاً: تلك الفواسق يقتلها في الحرم المحرم وغير المحرم، وكذلك خارج الحرم يقتلها المحرم وغير المحرم.
والحدأة تخطف صغار الطيور، كفراخ الدجاج والحمام، وتخطف اللحم من الأطفال، فهي مؤذية، فهل يلحق بها من كان من جنسها بجامع الإيذاء أم أنه لا يتعدى النص؟
وغراب أسود، وهو قسمان: أسود كله وأسود أبقع، والأبقع سواده أقل من الأول، وبين جناحيه بياض، قالوا: فهذا مؤذ يقارب الحدأة في إيذائه.
أما الغراب الأبيض، فيسميه أصحاب الأراضي الزراعية: صديق الفلاح؛ لأنه حينما يسقى الزرع بالماء تظهر الحشرات الكامنة في الأرض، فعند ذلك يصيدها ويأكلها وكأنه مبيد للحشرات، فالغراب المقصود في الحديث: هو الغراب المؤذي وليس غراب الزرع.
ويجب التنبيه على ما يستثنى من بعض أنواع الحيات وفي المدينة خاصة، فقد جاء أنه في غزوة الخندق استأذن رجل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته في المدينة -وكان حديث عهد بعرس - فأذن له وقال: (خذ سلاحك إني أخشى عليك بني قريظة)، فذهب، فلما وصل إلى زوجته وجدها بين عضدي الباب، فهم بأخذ رمحه ليطعنها بسبب وقوفها على هذه الحالة؛ لأن هذا كان بعد نزول الحجاب، فإن الحجاب كان في السنة الثانية وهذا الحادث كان في السنة الرابعة أو الخامسة، فقالت له: لا تعجل، رد عليك رمحك وادخل إلى بيتك وانظر ما في فراشك، فدخل فإذا حية متمددة على طول الفراش، وقيل: ملتوية على وسطه، فاخترطها برمحه ثم أخذ الرمح وركزه في عرصة البيت، يقولون: فانتفضت الحية وسقط هو ميتاً، تقول زوجته: والله لا أدري أيهما كان أسرع موتاً، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنها من الجن، وقد انتصر لها قومها - لأنه لم يسم الله حينما طعنها-إذا رأيتم شيئاً من هذه الحيات في بيوتكم فلا تقتلوها حتى تؤاذنوها ثلاثاً) أي: يقال لها: اذهبي عنا.. ثلاث مرات، لكن هل يكون هذا في أول ظهورها أم حينما تظهر المرة الأولى والثانية والثالثة؟ قالوا: الثلاث مرات في أول رؤيتها، لأننا لا ندري بعدها ماذا يحدث، فإن ذهبت فاتركها، وإن لم تذهب فاقتلها.
واستثني من ذلك نوعان: الصفراء أو الرقطاء، وهي التي يكون على عينيها نقطتان صفراوان، كاللتين تكونان على عيني الكلب الأسود.
والبتراء: وهي القصيرة؛ لأن البتراء إذا نظرت إلى الحامل أسقطت حملها، وكذلك ذات الطفيتين، فإن سمها سم ساعة لا يعطي فرصة لعلاجه أو تداركه، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تؤذن الحية البيضاء، ولم يأمر بأن تؤذن الرقطاء ولا البتراء.
إذاً: هذه خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم، وذكروا أن الحية تكون سادسة، ويستثنى من ذلك في المدينة خاصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن المدينة ليهاجر إليها مسلمو الجن كما تهاجرون أنتم إليها).
نقول: إن المسلم مهما كان في إسلامه وفي ديانته وورعه وزهده وطيبته إنما يكون سلماً لمن سالم وحرباً على من حارب، فهو محرم لله يقول: لبيك اللهم لبيك، فهو يكف يده عن الصيد الحلال، وهو خارج في طاعة الله وعبادته، لكن إذا واجهه شيء لا يؤذي فلا يستسلم له، بل يقتل ويقاتل إذا ما اعتدي عليه، وهكذا المسلمون يجب أن يتعلموا من هذا التحليل والتحريم أن يقفوا مع كل موقف بما يناسبه، فإذا جاء واعتدى عليهم قوم فلا يقولوا: نحن مسلمون، ولن نؤذيهم أو نعتدي عليهم، فإن هذه ليست صفات الكمال في الرجال، بل كما قيل: نسالم من سالمنا، ونعادي من عادانا.
وهذا هو الواجب على المسلم، وهذا ما يفيده هذا الموقف من إباحة قتل الفواسق والمؤذيات وإن كان محرماً وفي الحرم؛ لأن حرمة الحرم لا تعيذ المؤذين.
ثم يأتي البحث الآخر بما يتعلق بالاعتداء في مكة، وسيأتي في حديث حرمة مكة وأن الله حرمها وأباحها لرسوله، وهل يستثنى من ذلك شيء أم لا؟ وبالله تعالى التوفيق.
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هنا خبر احتجام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وما علاقة الحجامة بالإحرام؟
أولاً: الحجامة نوع من الطب القديم، وهي: إخراج الدم من الجلد عن طريق تشريطه وجذبه بالهواء، وهناك الفصد وهو: إخراج الدم من العرق عن طريق قطعه أو خرقه. وهناك كما يقال: كاسات الهواء، وهو سحب الرطوبة المتجمعة تحت الجلد.
أما الحجامة فهي تدخل في كثير من أنواع العلاج، وقد احتجم صلى الله عليه وسلم وحث على الحجامة في أمور متعددة، وقد أطال ابن القيم رحمه الله فيما يتعلق بالتداوي بالحجامة، وأين تكون، ومما ينبغي التنبيه عليه: النهي عن الحجامة في الثالث والرابع والخامس عشر من الشهر؛ لأنها ليالي اكتمال الهلال، فيكون هناك شدة المد والجزر في البحار، فإذا احتجم في تلك الليالي، فيكون خروج الدم من الجسم أشد من المعتاد، وبالمناسبة يقول بعض الأطباء: إن من الحكمة في تعيين صيام الأيام البيض -التي هي الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر- إنما هي لهذه الحكمة؛ لأن أسباب المد والجزر في البحر بسبب القمر، فيكون هيجان الدم في الجسم كهيجان الماء في المحيطات، فإذا صام في تلك الأيام يكون الصوم أدعى لخفة هذا الهيجان في جسم الإنسان.
فالحجامة تفيد من أمراض عديدة، وقد حددوا لها أوقاتاً، وعينوا لكل مرض محلاً يحتجم فيه، وهي من الطب العربي القديم.
ويقولون: سوق هذا الحديث هنا ليدل على أصل التداوي، فالمحرم كما يتداوى بالحجامة فإنه يتداوى بغيرها من الأدوية المشروعة النافعة، ولكن الحجامة من حيث هي تحتاج إلى تشريط البشرة تشريطاً خفيفاً، وتارة تكون في موضع منبت الشعر كنقرة القفاء، وهذه يحذرون منها لأنها تؤثر على العين وعلى الدماغ، لكن لها صلة بالأكحل أو غيره، وكذلك على الفخذ إذا كانت الحجامة للمحرم تحتاج إلى إزالة بعض الشعر للتشريط أو لتركيب المحجم وشفط الدم؛ لأن الشعر يعمل فجوات يتخلل منها الهواء فلا يتوجه إلى الدم مباشرة، فإن كانت الحجامة للمحرم في موضع فيه شعر، وكانت الحاجة إليها مطلوبة، فله أن يحلق من شعره وهو محرم من أجل الحجامة ولا إثم عليه، وعليه كفارة هذا الحلق.
وإذا كانت الحجامة لغير حاجة؛ فإنه يكون آثماً، لحلق الشعر بدون حاجة، وعليه دم.
أما إذا كان موضع الحجامة في الإحرام لا شعر فيه كما يكون في بعض الحالات على ظاهر الكف، أو على الساعد، أو على الكتف ولا تحتاج إلى حلق شعر؛ فله أن يستعملها ولا شيء عليه؛ لأن الفدية من أجل حلق الشعر.
إذاً: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، والحجامة من الأدوية النافعة المستعملة، فإن احتاجها المحرم فلا مانع في ذلك، كما أن له أن يداوي الجرح ويتعاطى الدواء للمرض الباطني، أو يجري جراحة أو غير ذلك، فإن سلم من حلق الشعر فلا شيء عليه، وإن احتاج إلى حلق الشعر من أجلها فيحلق المحل الذي يحتاج إليه، وعليه الفدية لما حلق من شعره، والله تعالى أعلم.
هذا الحديث جاء بروايتين: هذه الرواية المتفق عليها، وفيها قال: (حملت) سواء حمل على الأيدي للمرض، أو أخذ بالقوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (والقمل يتناثر على وجهي) طال عليه الزمن، والمحرم لا يسرح شعره، حتى قال المالكية: لا يقتل القملة، فإذا وجدها أخذها وطرحها في الأرض، وقد أثاروا مناقشة حول قتل القملة، ولا أدري ما هو السبب في ذلك كله، والبعض يقول: لا يرميها فتموت فيكون قد قتل دابة. سبحان الله! دابة مؤذية كيف يحاسب على قتلها! والبعض يقول: القملة إذا رميت في الأرض تنمو فتصبح عقرباً، والقمل كما يقولون: أشد عنصر ينقل التيفود.
والذي يهمنا أن هذا الرجل القمل كثر في رأسه، ولا يستطيع أن يحلق شعره لأنه محرم، ولا أن يمشط القمل من شعره؛ لأن المشط ينتزع بعض الشعرات، فصبر على حاله.
وفي رواية أخرى: (مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ على برمة لأصحابي، فإذا به يرى القمل يتناثر من الشعر).
فالحكم يتعلق في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى)، (أُرى) و(أرى) كلاهما من الرؤية، ولكن الرؤية البصرية والرؤية الفكرية البصيرية، تقول: أرى هذا حلالاً، أرى هذا حراماً، أرى أن تعمل كذا، فهذه رؤية علمية وليست بصرية، وتقول: أنا أرى اللون أحمر، فهذه رؤية بصرية، و: (أُرى) بمعنى: أظن، أي: ما كنت أظن أنه قد بلغ بك الوجع إلى هذا الحد، وإلا لكنت رخصت لك من قبل، فما دام أنه قد وصل بك إلى هذا الحد فقد أصبح هذا عذراً يباح معه حلق الشعر.
إذاً: المسألة متعادلة، فقد عذر بالمرض فلا إثم عليه، ولو حلق الشعر بدون مرض فإنه يكون متعدياً آثماً، لكن العذر أسقط عنه الإثم في حلق الشعر، واستفادته من حلق الشعر جعلت عليه الفدية مقابل هذا الشعر الذي حلقه.
إذاً: من اضطر إلى فعل محذور في الإحرام فله فعله وعليه الفدية، ومحظورات الإحرام فيها أشياء تدخلها الضرورة، وأشياء لا تدخلها.
فلو أن إنساناً معه زوجته في الحج، فهل هناك ضرورة لأن يباشرها؟ ليس هناك ضرورة، والبعض يذهب بعيداً ويقول: إذا كان مريضاً بالشبق ولا يستطيع أن يصبر، فإن هذه ضرورة، والمرأة ما ذنبها إذن؟ وهذه التقديرات البعيدة الأصل فيها أن تترك.
ومن حالات الضرورة أن تكون هناك شدة برد، فمن الضروري أن يلتحف أو يتغطى أو يلبس؛ فإن وجد ما يلتحف به-كالبطانية ونحوها- وضعه فوقه أو لفه على جسمه، وهذا ليس فيه مانع، فإنه يتقي البرد ولم يلبس شيئاً.
وإذا كان عنده صداع في رأسه، ولابد أن يربط رأسه ويلبس عليه عمامة، فهنا ضرورة، فله ذلك، كذلك إذا اضطر إلى تقليم ظفره، كما لو دق إصبعه في شيء فكسر ظفره، فقالوا: إن بقي هذا الجزء المكسور وجاء عليه الهواء فإنه قد يؤذيه، فمن أجل أن يتجنب هذا الإيذاء له أن يزيله، وعليه كفارة.
فمن اضطر إلى شيء ممنوع عليه في الإحرام فعله وعليه كفارته.
وهكذا أباح له صلى الله عليه وسلم أن يحلق شعره من أجل الأذى الذي فيه، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196] يقول العلماء: هنا دلالة الاقتضاء، وابن حزم يوافق الجمهور في ذلك، والتقدير: فمن كان مريضاً أو به أذىً من رأسه، فحلق بسبب الأذى من رأسه، فعليه فدية، وابن حزم يوافق على ذلك.
لكن نجد أن ابن حزم يخالف في مثل هذا الموقف في الصوم في قوله تعالى: أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ [البقرة:184] والتقدير: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر بسبب المرض أو مشقة السفر فعدة من أيام أخر، لكن ابن حزم يقول: إذا كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، سواء أفطر أو لم يفطر.
ولماذا قدر هناك (فحلق) ولم يقدر الاقتضاء هنا (فأفطر)؟ حصلت مغايرة ولا نستطيع أن نقول: تناقض، فهو إمام جليل رحمه الله، ولكن الأسلوب اختلف عنده، فهنا فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196] أي: فحلق، كما قال ابن حزم نفسه: لأن المرض والأذى في الرأس لا يستوجب فدية، إنما الذي يستوجب الفدية هو حلق الرأس.
ثم جاء أوسع من هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من ترك نسكاً فليرق دماً)، والنسك هنا يشمل كل أعمال الحج، قال تعالى: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128] لكن هناك من المناسك ما يجبر بالدم، ومن المناسك ما لا يجبر إلا بفعله ذاتياً، فالطواف والسعي والوقوف بعرفات مناسك، لكن إذا فات واحد منها لا يجبر بالدم، بل لابد من فعله، لكن المبيت بمزدلفة والمكث في عرفات حتى تغرب الشمس وأن يجمع جزءاً من الليل مع النهار، هذا واجب، ومن ترك يوماً من أيام منى، فقد ترك نسكاً، ومن ترك طواف الوداع، أو طواف القدوم، فإن هذه مناسك لكنها تجبر بالدم.
إذاً: المحرم قد يترك واجباً، وقد يفعل محظوراً، فإن كان للضرورة فلا إثم عليه وعليه الفدية، وإن كان متعمداً فهو آثم وعليه الفدية.
فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتجد شاة؟) وهذا سؤال الحكيم الخبير، يسأل الشخص الذي عليه المسئولية، إن كان باستطاعته أن يجد الكفارة، ثم ينتقل به إلى ما هو أسهل من ذلك وهو صيام ثلاثة أيام، ثم ينتقل به إلى الإطعام، فهو محيز بين هذه الأمور الثلاثة، وبعضهم يقول: هي على الترتيب، فلا يصوم إلا إذا عدم الشاة، فإذا وجدت الشاة فلا يجزئ الصوم، والبعض يقول: هو مخير في ذلك، فإن لم يستطع صوماً فيطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.
يقول بعض العلماء: نصف صاع من أي طعام موجود تصح منه زكاة الفطرة، ويقول أبو حنيفة رحمه الله: نصف صاع، إن كان سيطعم من البر، وصاع كامل إن كان سيطعم من الشعير أو التمر أو الزبيب أو غيره.
والحديث لم يفرق بين طعام وطعام، وقد جعل كفارة الأذى في الإحرام أن يخير بين ثلاثة أشياء، والأولى أن يكون على الترتيب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة لصيام الثلاثة الأيام: هل يصومها متتالية أو متفرقة؟
يقول ابن مسعود : يصومها متتالية، ويقول غيره: تصح متفرقة، وإذا كان سيصوم في أي مكان فله لك، وفي أي وقت كان قبل عرفات أو بعد عرفات، المهم أن يصوم بعد أن يزيل الأذى.
فإذا انتقل إلى الإطعام؛ فإن الإطعام يكون في الحرم بمكة، فالنحر والهدي والفدية وكل ما يتعلق بجزاء في الحج أو العمرة فإن محل إطعامه هم أهل مكة، قال تعالى: هدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، وكذلك يقاس عليه كل ما يكون إنفاقاً أو إطعاماً بسبب الحج أو العمرة فإنما هو لأهل مكة.
وتتمة لما تقدم في قضية كعب : إذا أحس المحرم بألم في الضرس فله أن يتداوى، وكذلك لو أحس بألم في العين أو الأذن فله أن يضع القطرة، وله أن يقلع ضرسه، لكن إذا في بدنه شيء من دماميل فهل له أن يفتحه ويخرج ما فيه من الأذى أم لا؟ وإذا أصيب في رأسه وجاء بعصابة وعصبها على الجرح، فهل يكون قد غطى رأسه أم يكون عاصباً له؟ وهل يلزمه في ذلك شيء؟ والباب في هذا واسع، والمراد التنبيه على أصل المسألة في أمر الحجامة، وفي إزالة الأذى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر