سبح: أي نزه ومجد وعظم. سبح: أي: قل: سبحان الله، نزه الله، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:30-31] إلى قوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ [التوبة:31] أي: تنزه عما يوصف به من أعدائه، تنزه عن الولد، تنزه عن الزوجة، تنزه عن الشريك، تنزه عن الأب، تنزه عن الأم، وهكذا، (فسبح) معناها اللغوي والشرعي أيضاً: نزه، وتطلق كلمة (سبح) بمعنى: اذكر الله بقولك: سبحان الله، وتطلق كلمة (سبح) بمعنى: صل، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39] أي: صل صلاة الفجر وصلاة العصر على قول جمهور المفسرين.
إذاً سبح من معانيها: نزه، ومن معانيها: مجّد، ومن معانيها: عظم، ومن معانيها: قل: سبحان الله، ومن معانيها: صل لله، ومنه: قول ابن عمر : لو كنت مسبحاً لأتممت، أي: لو كنت مصلياً صلاة النافلة في السفر لأتممت صلاتي ولم أقصرها في السفر.
وهل المراد بـ (سبح اسم ربك الأعلى): سبح ربك الأعلى، أو سبح الاسم نفسه يعني: نزه الاسم نفسه؟ فيها: قولان لأهل العلم:
فمنهم من قال: إن كلمة: "اسم" هنا، تحصيل حاصل في هذا الباب، والمراد تسبيح الرب سبحانه، كما قال الشاعر:
إلى الحول ثم اسم السلامِ عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
في قصيدة مطلعها:
تمنى ابنتـاي أن يعيش أبوهمـا وهـل أنا إلا من ربيعـة أو مضر
فقوما وقولا بالذي قد علمتمـا ولا تخمشا وجهاً
الشاهد قوله: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما، والمعنى: اجلسوا إلى الحول، ابكوا علي أو صيحوا علي، واعملوا الذي تعملوه من ذلك لمدة سنة ثم اسم السلام عليكما، يعني: يكفي وسلمكما الله فقد أديتما ما عليكما، فمن العلماء من قال: ثم اسم السلام عليكما، أي: ثم سلام عليكما، لا تبكيا علي بعد هذه السنة، فقال: إن (اسم) زائدة هنا، والمراد: ثم السلام عليكما مباشرة، وفي هذه الآية من العلماء من قال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى أي: نزه ربك، ومجد ربك، وعظم ربك، وصل لربك، وقل: سبحان ربي الأعلى، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، ومن العلماء من قال: نزه الاسم أيضاً، فلا يتسمى أحد باسم الله، ولا يوجد أحد يقول: اسمي الله، ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أسماء الله التي لا يتسمى بها إلا هو فيسمي بها نفسه، فالكفار مثلاً سموا اللات بهذا، وأخذوه من لفظ الجلالة: (الله) وأضافوا إليه التاء، وأخذوا اسم: العزى: من العزيز، فنزه اسم ربك عن أن تسميه كما يسميه المشركون، وأن تصفه كما يصفه المشركون، فهذا القول الثاني.
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى تقدم أن ابن عمر كان إذا قرأها قال: سبحان ربي الأعلى، وصح من مجموع الطرق أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى قال: اجعلوها في سجودكم، ولما نزلت: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال: (اجعلوها في ركوعكم).
الجواب: ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام لفظ آخر في الركوع وفي السجود غير اللفظ، فلو كان التسبيح بهذا اللفظ واجباً لما تركه وقال بدلاً عنه: (سبحانك الله ربنا وبحمدك، اللهم! اغفر لي)، وكان النبي يقول في صلاة الليل: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، وكان يقول: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين)، فلما تنوعت الأذكار أصبح الأمر في قوله: (اجعلوها في سجودكم)، ليس أمر إيجاب، إنما أمر ندب واستحباب وإرشاد.
هي مطلقة، إلا فقصرها على الصلاة يحتاج إلى دليل.
هل تجب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد أو يستحب؟
افرض أنك متعب وتريد أن تسلم بسرعة، وأتيت إلى قولك: "أشهد أن محمداً عبده ورسوله"، السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله، وقضيت صلاتك، أو كان القطار سيتحرك وأنت تصلي فقلت في التشهد: "أشهد أن محمداً عبده ورسوله"، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فهل تصح هذه الصلاة؟
الرسول عليه الصلاة والسلام لما علم ابن مسعود التشهد وصل إلى قوله: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليك)، افرض أنه لم يعجبك حاجة، والدعاء ليس بواجب، فلم تدع وسلمت؟ لا شيء عليك، أما حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي ويدعو ولم يحمد الله، ولم يصل على نبيه، ولم يثن على الله، فقال: (عجل هذا، إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه)، فليس بصريح في الوجوب، وإذا لم يدع لا شيء عليه، ثم إذا دعوت الله هل واجب عليك أن تحمد الله قبل الدعاء وتثني عليه وتصلي على النبي أم أنه مستحب؟
الجواب: مستحب، أما استدلال من استدل بقوله: علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: (قولوا: اللهم! صل على محمد)، فقد قال الإمام الشوكاني : إن هذا للتعليم؛ لأنهم سألوه: علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فليس فيه صيغة وجوب.
قال الله سبحانه وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، وقال الله لموسى:قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:68]، لكن فرق بين الأعلى في قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، وفي قوله لموسى: (إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) أي: الأعلى على أعدائك.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2]، خلق الخلق فسوى خلقهم، كما قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4].
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:4] المرعى هو: النبات الذي يُرعى، والنبات الذي تأكله الدواب والأنعام.
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى:5]، (الغثاء): اليابس، يعني: أخرج المرعى وكان أخضر، ثم سرعان ما يبس المرعى وأصبح متفتتاً، كما لا يخفى عليكم في شأن النبات، فالبرسيم أخضر، وبعد مدة ينشف ويعملون منه ما يسمى: (بالدريك).
فَجَعَلَهُ غُثَاءً [الأعلى:5] أي: يبساً أَحْوَى [الأعلى:5]: من الحوة وهي: التغير من الخضرة إلى السواد. يعني: يبدأ في اليبوسة وتغير اللون.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه بالقرآن الذي تلي عليه حتى لا ينساه، فكان جبريل يقرأ والرسول يقرأ معه، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة:16-17] أي: جمعه لك في صدرك وأن تقرأه.
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18] أي: فاستمع لقراءته.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:19] أن نبينه للناس، فهذه الآيات مشابهة لقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى وفي هذه الآية دليل على أن الحافظ هو من حفّظه الله سبحانه وتعالى، وأن الذاكرة من الله، وهذا يحملك على عدم الكبر والغرور.
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى:7] هذا الاستثناء دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ينسى بعض الآيات إذا أراد الله ذلك، وهل ثبت أن النبي نسي بعض الآيات؟
نعم. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي بعض الآيات التي رفعت من الصدور تماماً، وليس من صدر النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل من عموم أمة محمد، كما ورد في صحيح مسلم بسند حسن عن حذيفة قال: (إن سورة الأحزاب كانت في طولها مثل البقرة!)، فنسخت من الصدور، وبقي منها هذا القدر، وأيضاً قد ينسى النسيان المعتاد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون)، وقال: (يرحم الله فلاناً! لقد أذكرني آية كيت وكيت من سورة كيت وكيت، كنت أنسيتها).
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [الأعلى:7]، كقوله: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ [الأنبياء:110]، وكقوله: يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19]
(نيسرك) أي: سنهيئك، (لليسرى): لعمل الخير، فالشخص قد ييسر لليسرى، وقد ييسر للعسرى.
يعني: قد يسهل لعمل الخير، فيكون عمل الخير خفيفاً على قلبه في غاية الخفة بصفة عامة، وقد يسهل لعمل الشقاوة، فيكون عمل الخير عليه من أثقل ما يكون، فالله سبحانه قد يشرح صدر العبد لعمل الخير، وقد يشرح صدره للكفر والعياذ بالله، فقوله تعالى: (وَنُيَسِّرُكَ) أي: سنهيئك -يا محمد- ونسهل عليك عمل الخير، فيقوم إلى صلاة الليل -مثلاً- وهو منشرح الصدر فرحاً بالقيام لصلاة الليل، وفرق بين شخص قام إليها فرح، وشخص إذا ضربته بالسياط لا يقوم، والتيسير لليسرى ليس في الصلاة فحسب، بل في كل أبوب الخير، شخص يخرج من جيبه الجنية أو العشرة جنيهات يتصدق بها وهو في غاية السعادة، وشخص إذا جاء ليخرج عشرة قروش صدقة مع أنه ينفق مئات وآلاف الأموال في الباطل، لكن عشرة قروش لله ثقيلة عليه، وكأنه سيموت إذا خرجت منه هذه العشرة قروش!! فالأول ميسر لليسرى، والثاني ميسر للعسرى، وكشخص تقول له: صم تطوعاً، فيبادر ويسعد غاية السعادة؛ لأنه صائم، وشخص يأتي عليه رمضان وهو في أشد الكره لرمضان.
التيسير لليسرى من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، وكما قال الله في شأن الصلاة: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، على قول من قال: إن الضمير يرجع إلى الصلاة، ومنهم من قال: إنه راجع إلى الاستعانة بالصبر والصلاة معاً.
قال سبحانه وتعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى أي: نسهلك لعمل الخير، ومن العلماء من قال: سنجعل شريعتك سمحاء سهلة، (فالأيسر) الأسهل. أي: يا محمد! شريعتك سمحاء سهلة، ليس فيها التشديد، وليس فيها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وقد قال النبي: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
ومن أسباب التيسير لليسرى: دعاء الله عز وجل، ومن ذلك: دعوة موسى عليه السلام رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26].
قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] فإذا جاهدت نفسك وأخرجت مالاً لله، راجياً ثواب الله، فالله يهيئ لك عمل الخير، فالخير يفتح باباً آخر للخير، وقد تمشي وتجد -مثلاً- طوبة في الطريق أو حجراً، فتقول: أرفع الحجر؛ لأن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ويحضرك حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، فتقول: أنا أمطت الأذى فآخذ أيضاً بأعلاها: "لا إله إلا الله"، فباب خير يجرك إلى باب آخر من الخير، وهكذا..
قال العرباض بن سارية : (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون)، وكان موسى عليه الصلاة والسلام يعظ بني إسرائيل، فوعظهم مرة موعظة حتى بكوا منها واخضلت لحاهم بدموعهم، ورب العزة قال: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63] فالموعظة مسنونة، لكن ينبغي ألا يكثر في الوعظ.
قال أهل العراق لـابن مسعود : لماذا لا تعظنا -يا ابن مسعود - أكثر مما تعظنا؟ قال: إني أكره أن أُملكم، إنما أتخولكم بالموعظة كما كان النبي يتخولنا صلى الله عليه وسلم بالموعظة، وكان ابن مسعود يحدثهم كل خميس.
فإذا قال قائل: فلماذا دروس العلم تقام يومياً؟
فالإجابة: هناك فرق بين العلم وبين الوعظ، فالوعظ: جانب من جوانب العلوم، لكن هناك علوم وفرائض يجب أن تُتعلم.
يقول الله سبحانه: فَذَكِّرْ أي: فعظ وخوف، ورغب ورهب.
إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، ما معنى ( إن ) في هذا المقام؟
من العلماء من قال: (إن) بمعنى (قد)، فالمعنى: فذكر فقد تنفع الذكرى.
ومن العلماء من قال: هنا مقدر محذوف، والتقدير: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع.
ومن أهل العلم من قال: (إنْ) في هذا المقام بمعنى: (حيث)، فالمعنى: فذكر حيث تنفع الذكرى، فعلى هذا الأخير لا تكون التذكرة إلا إذا ظن الشخص أنها ستنفع، أما إذا ظن الشخص أن التذكرة ستسبب بعداً عن الدين أو سباباً للدين؛ فالأولى الإمساك عنها.
أي: إذا كان الواعظ يظن والتذكرة ستنفع هذا الشخص، أو إذا لم تنفعه التذكرة فلن يأتي منه شر؛ فحينئذ يذكره، لكن إذا كان الشخص يتوقع من حاله أنه إذا ذكر سب الدين، ففي هذه الحالة يمسك عنه؛ لأن التذكرة ستؤدي إلى مفسدة أعظم من حاله التي هو عليها، فمن العلماء من قال: (إن) هنا بمعنى: (حيث)، وهذا له شواهد في اللغة والشرع، فالوعظ قد يمسك عن التذكرة لأقوام خشية أن ينالوا الشرع بسوء، فمن الناس من إذا جئت تذكره يسب السنة والدين!! ففي هذه الحالة الإمساك عن تذكرته أولى وأنفع، وبعض العلماء -كما سمعتم- يقول: (إن نفعت الذكرى) بمعنى: (حيث تنفع الذكرى)، ومنهم من يقول: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع، ممكن تقول لواحد شقي: افعل كذا وكذا، فيقول لك: تعلمني يا ابن الكلبة!! ويشتم.
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى [الأعلى:10-11] أي: سيتعظ من يخاف الله، ويتجنب هذه التذكرة الشقي الذي كتب في علم الله أنه سيموت على الكفر.
سَيَذَّكَّرُ [الأعلى:10] أي: سيتعظ وينتفع بالتذكرة من يخشى، وَيَتَجَنَّبُهَا [الأعلى:11] يبتعد عنها وعن الانتفاع بها الأشقى.
قال فريق من أهل العلم: المراد بالأشقى: الكافر الذي سبق في علم الله أنه سيموت على الكفر، والتقييد بما سبق في علم الله؛ لأن هناك كفاراً انتفعوا بالذكرى، فالصحابة كانوا كفاراً، ولما ذكرهم الرسول عليه الصلاة والسلام تذكروا.
الَّذِي يَصْلَى [الأعلى:12] أي: يدخلها يصلي بحرها، ويذوق هولها.
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [الأعلى:12] لماذا وصفت النار بأنها كبرى؟
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ناركم التي توقدون عليها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم!).
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:13] أي: لا هو بميت فيستريح، ولا هو بحي يحيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت في صورة كبش، فيوقف على قنطرة بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، فيقولون: نعم هذا الموت، وينادى: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار)، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم:39] -الذي هو ذلك اليوم- إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40] فالحسرة متعددة على الكافر، يوم موت الكافر يوم حسرة عليه، فبعد الموت لا مجال للتوبة، ويوم ذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار يوم حسرة أيضاً على الكفار، فبعد ذلك لا مجال أبداً للرأفة ولا للرحمة ولا لأي شيء.
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا كما قال تعالى: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36].
(من تزكى): (مَنْ) بمعنى: الذي (تزكى) أي: زكى نفسه من الشرك ومن المعاصي، ومن العلماء من قال: تزكى: من الزكاة، أي: أخرج الزكاة، لكن القول الأول أقرب، وعليه كثير من أهل العلم في هذه الآية، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: زكى نفسه، ففي قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قولان مشهوران:
القول الأول: تزكى من الذنوب، أي: تطهر من الذنوب والمعاصي والشرك.
القول الثاني: تزكى أي: أخرج الزكاة، والقرينة التي تؤيد قول من قال: إن المراد بالتزكي: إخراج الزكاة، قوله تعالى: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:15] فقالوا: ذكر الصلاة بعد الزكاة، وحمل بعضهم ذلك على زكاة الفطر وصلاة عيد رمضان، وقال آخرون بالعموم.
وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا [الأعلى:17-18] أي: المذكور في هذه السورة كلها، أو على وجه الخصوص ذكر إيثار الحياة الدنيا موجود مثبت في الصحف الأولى، ففي قوله: (إِنَّ هَذَا ) قولان:
القول الأول: الإشارة ترجع إلى كل ما ذكر في هذه السورة.
القول الثاني: ترجع إلى أقرب مذكور، وهو: إيثار الحياة الدنيا، أي: أن الخلق يؤثرون الحياة الدنيا، كما قال تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [القيامة:20-21]، فهذا الشيء بالضبط موجود في الصحف الأولى، ومثبت ومسطر في الصحف الأولى.
ما هي الصحف الأولى؟ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ [الأعلى:19]، فدل ذلك على إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم نزلت عليه صحف، كما قال الله: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:36-37] أي: وبما في صحف إبراهيم الذي وفى أيضاً.
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:19] موسى صلى الله عليه وسلم ذكرت له صحف، وذكرت له التوراة، وذكرت له الألواح، فهل الألواح والتوراة والصحف الأولى التي نزلت على موسى هي مسمى لشيء واحد؟ هل نقول: إن التوراة هي: صحف موسى وهي الألواح، أم هي ثلاثة أشياء؟
لأهل العلم قولان في هذا الباب، ولا دليل يحكم به في هذه القضية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى ) (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ) فالتحذير من إيثار الدنيا على الآخرة ليس موجوداً في شرعنا فحسب، بل هو على لسان الأنبياء عموماً، فهناك أمور يدعو إليها جميع الأنبياء وهناك أمور يحذر منها جميع الأنبياء، فجميع الأنبياء يدعون إلى التوحيد، ويحذرون من الشرك، ويرغبون في الآخرة، ويزهدون في الحياة الدنيا، ويحذرون من المسيح الدجال، كما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا وقد أنذره قومه، ألا وإني أنذركموه: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور). هذا، وقد كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يحث على قراءة سورة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) في الصلوات، ففي صلاة العشاء يقول لـمعاذ : هلا صليت بـ(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى )، وكان يقرأ بها في الركعة الأولى من صلاة الوتر، ويقرأ في الثانية: بالكافرون، وفي الثالثة: بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها في الركعة الأولى من صلاة الجمعة، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها أحياناً في العيدين، ويسن أن يقرأ بقصار المفصل في صلاة العشاء، وفي صلاة المغرب على وجه الخصوص، وإن قرأ أحياناً بغيرها فلا بأس، لكن هذا يكون الغالب، كما قال النبي لـمعاذ : (أفتان أنت يا
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر