إسلام ويب

كيف نحيا بالقرآن؟ (ندوة)للشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نقل مقدم الندوة مقطعاً من كلام ابن القيم رحمه الله عن حياة القلب بالاستجابة لله وللرسول. ثم تحدث الشيخ سعيد شعلان عن القرآن مبيناً أنه مادة حياة، ومدللاً على ذلك بآيات من القرآن الكريم. ثم تكلم الشيخ سفر عن أحوال السلف مقدماً لذلك بذكر حالة العرب قبل الإسلام والتغير الشامل الذي أحدثه الإسلام في حياتهم، كما أشار إلى أحوال سائر الأمم، موضحاً أسباب حياة القلوب عند السلف، مؤكداً أن المخرج من الأزمة التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم هو العودة إلى القرآن. ثم تحدث الشيخ سعيد عن الوسائل الصحيحة لتهيئة النفوس للانتفاع بالقرآن، مركزاً على أهمية التدبر في آياته، والتخلص من مفسدات القلوب، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي.

    1.   

    كلام مقدم النـدوة

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

    أما بعــد:

    أيها الإخوة: أحييكم في هذه الأمسية المباركة التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلها أمسية خير لنا ولكم، وأن نتعلم فيها كيف نحيا على كتاب ربنا استجابةً لأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا بالاستجابة له ولرسوله الكريم، وقبل أن نبدأ موضوعنا فإني رأيت كلاماً نفيساً قيماً لابن القيم يتعلق بتفسير هذه الآية، وفي بيان أن القرآن مادة حياة للناس.

    يقول ابن القيم في تفسير هذه الآية: ''إن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات فالحياة الحقيقية هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة هو أكملهم استجابة لدعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كل ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ''.

    ثم بين ابن القيم ما ذكره المفسرون في معنى قوله تعالى: لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] يقول: ''يعني للحق. ثم قال: وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والحكمة في الدنيا والآخرة''.

    وهذا هو موضوع ندوتنا لهذه الأمسية: كيف نحيا بالقرآن؟

    ويحدثنا الشيخ سعيد شعلان في بيان أن القرآن مادة حياة كما قال ابن القيم، وكما قال قتادة في ذلك.

    1.   

    القرآن قوام الحياة

    يقول الشيخ سعيد:

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم النبيين وأشرف المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعــد:

    فإني كما يعلم الله تبارك وتعالى لم أكن أحب أن أكون مبتدئاً بالكلام في هذه الندوة، ولا أن أكون مستأثراً بأكثر الكلام فيها، وحاولت مع فضيلة الشيخ سفر -حفظه الله تعالى وجزاه الله خيراً- أن يأخذ نصيباً أوفر من الكلام، لكنه رأى أن هذا التنظيم جيد ومناسب، فأرجو المعذرة للحيلولة بينكم وبين الاستماع إليه فترة طويلة من هذه الندوة، وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع، على أي لسان كان هذا الكلام، طالما كان كلاماً مستنداً إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما رآه السلف الصالح في تفسير هذا الكلام وشرحه وبيانه والله المستعان.

    القرآن طريق للحيـاة الطيبة

    لا شك أننا جميعاً نريد لأنفسنا وللمسلمين -كافة- حياة طيبة في الدنيا والآخرة، ولا شك أن الرائد إلى بيان كيفية هذه الحياة هو كتاب الله عز وجل، وفي كتاب الله عز وجل دلالة على كيفية حصول هذه الحياة، فالله تعالى يقول: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] والحياة الطيبة المذكورة في هذه الآية هي الحياة في الدنيا، وإلا لو كانت حياة الجنة لكان قوله تعالى -كما قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى-: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] من قبيل التكرار، فالدنيا فيها حياة طيبة لمن جعل القرآن رائده وقائده وإمامَه.

    وهذه الحياة الطيبة تكون بأن يوفق الله العبد للطاعة، وللعمل بها، وبأن يشرح صدره وقلبه لها، وأن يرزقه العافية والرزق الحلال في هذه الدنيا، كما قال أهل العلم في بيان هذه الحياة الطيبة، وقصدي من ذلك أن أقول: إن القرآن الكريم مشتمل على مادة الحياة الطيبة، وقد بين أن العمل الصالح مع الإيمان يمكن أن يؤدي بالعامل المؤمن إلى ما يريده لنفسه ولأهله وعشيرته وأهل دينه من الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.

    الأدلة على أن القرآن طريق للحياة الطيبة

    إن اشتمال القرآن الكريم على مادة الحياة يمكن أن أستدل له بموضعين من كتاب الله عز وجل، وأتبع كل موضع بما يشهد له من الآيات، وأرجو أن لا أطيل في ذلك:

    - الدليل الأول:-

    أول الموضعين هو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، هذه الآية تبين اشتمال القرآن على مادة الحياة، فماذا قال العلماء في تفسيرها؟! وهل بينت كيف تكون الحياة طيبة، كما دلت هذه الآية عليها؟

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس:57] أي: تعظكم وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله تعالى المقتضية لعقابه، جاءتكم موعظة من ربكم في هذا الكتاب العزيز، وهذه المواعظ في الكتاب العزيز من عناصر مادة الحياة مع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والتذكير، والعلم اليقيني، وما إلى ذلك مما سيأتي بيانه، تنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، فإذا اجتنبتموها حييتم حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وفزتم؛ وعادت لكم كرامتكم التي كانت أوفر ما تكون لـسلفنا الصالح في قرون الخير والإخلاص لله عز وجل والمتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    هذه الموعظة تحذركم من المعاصي ومفاسدها وتبين لكم آثارها قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ أي أن هذا القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن عدم الانقياد للشرع، فهذا القرآن يشفيها إذا كانت قلوباً قابلةً واعيةً راضيةً بهذا الكلام ساعيةً إلى الانتفاع به، مؤمنةً به مصدقةً عازمةً على العمل فهو شافٍ لما في هذه الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن عدم الانقياد للشرع.

    وفيه شفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني بألوهية الله، وربوبيته، وأسمائه وصفاته وأفعاله، واستحقاقه بعبادة عباده له سبحانه وتعالى، وأن يفردوه -وحده- بذلك دون غيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى غير ذلك، فالقرآن شفاء لما في الصدور من هذه الأمراض؛ أمراض الشبهات التي تحول بين العبد وبين أن يحقق في نفسه عبودية صحيحةً لله عز وجل، فإن في هذا القرآن من المواعظ والترغيب والترهيب ما يوجب للعبد رغبة في الخير ورغبة عن الشر، هذه عناصر مادة الحياة: مواعظ، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير والرغبة عن الشر؛ يرغب في فعل الخير، ويرغب عن فعل الشر فلا يفعله، إذا وجدت فيه هاتان الرغبتان ونمتا -أي: زادتا وعظمتا- على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن؛ أوجب ذلك للعبد تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يُرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.

    وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرَّفها الله غاية التصريف وبينها أحسن بيان، براهين على وحدانيته، وعلى قدرته على البعث؛ والأدلة على قدرته وعظمته التي صرَّفها في القرآن غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبهة القادحة في العلم اليقيني، ويزيل كل شهوة تخالف أمر الله عز وجل.

    وإذا صح القلب من مرضه ورفل بأثواب العافية تبعته الجوارح كلها؛ فإنها تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، وما الذي يصلح هذا القلب؟!

    لا يصلحه إلا ما في هذا القرآن: وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57]، وهذا الشفاء الذي تضمنه هذا القرآن عامٌ لشفاء القلوب من الشبه، والجهالة، والآراء الفاسدة، والانحراف السيئ، والمقاصد الرديئة، فإنه مشتمل على العلم اليقيني الذي تزول به كل شبهة وكل جهالة، ومشتمل على الوعظ والتذكير الذي تزول به كل شهوة تخالف أمر الله عز وجل، وهذا الشفاء أيضاً عامُّ لشفاء الأبدان، ففي القرآن شفاء للقلوب من الشهوات والشبهات، وشفاء للأبدان من الآلام وأسقامها بالرقى.

    وَهُدىً في القرآن من عناصر مادة الحياة هدى، فما هو الهدى؟

    هو: العلم بالحق، والعمل به.

    وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57] والرحمة هي من عناصر مادة الحياة وهي: ما يحصل من الخير والإحسان والثواب العاجل لمن اهتدى بهذا القرآن، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب.

    وما في هذا القرآن من الأسباب والوسائل التي يحث عليها متى ما فعلها العبد فاز بالرحمة، والسعادة الأبدية، والثواب العاجل والآجل، ولكن هذا الهدى وهذه الرحمة لا تكون ولا تحصل إلا للمؤمنين بهذه الآيات المصدقين والعاملين بها؛ كما قال الله تبارك وتعالى في أول سورة البقرة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، فمفهوم ذلك أن من لم يكن متقياً لم يكن له في هذا الكتاب هدى.

    وقال تعالى في موضعين من سورة المائدة: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً [المائدة:64] فيزيد غير المؤمنين القرآن طغياناً وكفراً، ويقول تعالى في سورة التوبة: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]، وقال تعالى في سورة الإسراء: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً [الإسراء:82]، فلعدم تصديق الآيات ولعدم العمل بها لا تزيد الظالمين آيات القرآن إلا خساراً، إذ بها تقوم عليهم الحجة، وقال تعالى في سورة فصلت: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44]، وإذا حصل الهدى، وحصلت الرحمة الناشئة عنه؛ حصلت السعادة والفلاح والربح والنجاح والفرح والسرور.

    - الدليل الثاني:-

    وأما الموضع الثاني فهو: قوله تعالى في سورة الأنعام: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122]، أو من كان من قبل هداية الله له في ظلمات الكفر، والجهل،والمعاصي فأحياه الله بالقرآن، وبنور العلم والإيمان، والطاعة، ووفقه لعبادته، واتباع رسله، فصار يمشي بين الناس في نور، متبصراً في أموره، مهتدياً لسبيله، عارفاً للخير مؤثراً له، مجتهداً في تنفيذه في نفسه وفي غيره، عارفاً بالشر مبغضاً له، مجتهداً في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره، هل يكون هذا كمن هو في ظلمات الكفر والجهل والبغي، والمعاصي ليس بخارجٍ منها، ليس له منفذٌ ولا مخلصٌ من هذه الظلمات هل يكون مثله؟! لا، فهذا قد اختلطت عليه الطرق، وأظلمت عليه المسالك، وحضره الهم والغم والحزن والشقاء.

    فنبه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العقول بما تعرفه وتدركه من أنه لا يستوي هذا ولا هذا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والظل والحرور، والأحياء والأموات.

    ومن أمثال هذه الآية الكريمة في سورة الأنعام، قوله تعالى في سورة البقرة: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، وقوله تعالى في سورة هود: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ [هود:24] أي: المؤمنين والكافرين: كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً [هود:24]، ومنها قوله تعالى في سورة النمل: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِى الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل:80-81] وقوله تعالى في سورة فاطر: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ [فاطر:19-22]، ومنها قوله تعالى في سورة الحديد: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:16-17]، أي: حان وآن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لأجل ذكر الله، وما يتكرر على قلوبهم من زواجر ومواعظ القرآن وما يرد إليها منه.

    والخشوع: خشية من الله تداخل القلب، وتظهر آثارها على الجوارح بالسكون والانخفاض والطمأنينة، حان للمؤمنين أن يكونوا كذلك وألا يكونوا كالذين: أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].

    ثم نبه الله تعالى بهذه الآية: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17] على أنه كما يحيى الأرض بعد موتها بالمطر، كذلك يحيى القلوب بهذا القرآن، وبنور العلم والإيمان والطاعة.

    جعلنا الله وإياكم هداةً مهتدين، والله أعلم.

    1.   

    السلف والقرآن

    والآن أيها الإخوة ننتقل إلى النقطة التي بعدها وهي كيف حيَّ أسلافنا بالقرآن، لفضيلة الدكتور: سفر الحوالي.

    يقول الشيخ سفر:

    الحمد لله الذي أنزل الكتاب على خير خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، الذي جاهد في الله حق جهاده، فكانت رسالته رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الذين حيَّت قلوبهم بالإيمان والقرآن، فنشروا العدل في الدنيا وهي ظالمة، ونشروا النور فيها وهي مظلمة، فاستضاءت بالنور، ونعمت بالعدل، حتى شاء الله تبارك وتعالى أن يعود الأحفاد إلى شبه الجاهلية الأولى فعادت الظلمات وعاد الظلم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

    حال العرب قبل الإسلام

    وبعد: فإن الله تبارك وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].

    فالله تبارك وتعالى يمتن على المؤمنين بما أنعم به عليهم، ويبين حالهم قبل أن ينـزل عليهم القرآن، وقبل أن تحيا به قلوبهم وتتنور، كيف كانوا، ثم ماذا صاروا من بعد، وقد بيَّن ذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بيَّنه جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- عند النجاشي، وبينه المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري في أول كتاب الجزية والموادعة لما قابله رسول كسرى، وقد أوضح في ذلك وأكثر في وصفه الإمام التابعي قتادة رضي الله عنه الذي قال في تفسير هذه الآية: [[كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاهم عيشة، وأبينهم ضلالة، وأعراهم جلداً، وأجوعهم بطوناً، معكومون على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم]]، أي: كانوا محبوسين مضطهدين كأنهم على رأس حجر بين الدولتين الكبريين الأسدين: فارس في الشرق، والروم في الغرب، يقول رحمه الله: [[لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يُحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات رُدي في النار، يُؤكلون ولا يأكلون]] كانت تحكمهم الملوك المناذرة، وهم عملاء لكسرى، والغساسنة وهم عملاء لقيصر وما عداهم ضياع وشتات، القبائل متحاربة متطاحنة، شعارهم من عزّ بزّ ومن غلب فلج.

    لا يعرفون الله ولا اليوم الآخر، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ولا ينصرون مظلوماً ولا ينجدون مكروباً، بل كان من أقوالهم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وإن لم يجد من ينهب إلا أخاه فلينهبه، كما قال قائلهم:

    وأحياناً على بكر أخينا      إذا ما لم نجد إلا أخانا

    ويقول: [[لا والله ما في بلادهم يومئذٍ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلاً يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظاً وأدق فيها شأناً منهم]]، أي: أضأل وأتفه الأمم؛ كانوا قبائل متصارعة يقول: [[حتى جاء الله -عز وجل- بالإسلام فأورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرفق، وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا نعم ربكم، إن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك ]].

    وكما قيل: الشعر ديوان العرب، فكيف كانت هذه الأمة -فضلاً عن فارس والروم وما شابهها ممن يعيشون في أحط ما يمكن من الحياة قبل أن يشرق عليهم نور القرآن، وقبل أن يحييهم الله بهذا الكتاب العظيم؟-

    كيف كان العرب وهم أقرب الأمم إلى الفطرة؟

    ثم كيف حولهم القرآن؟

    كما عبر سيد قطب رحمه الله ''أمة تنبثق من الكتاب!!'' كيف انبثقت هذه الأمة وقادت العالم بأحكام هذا الكتاب ومن الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه؟!

    كيف كانت أحوالهم؟

    الحروب الطاحنة كحرب البسوس التي دامت بين بني ربيعة: تغلب وبكر، وتطاحنوا وتقاتلوا، حتى هلك معظمهم من أجل ناقة!! وكحرب داحس والغبراء وهما فرسان تسابقا، وللرياضة ماضٍ قديم في تفتيت الناس وفي تجهيلهم وإبعادهم عن القرآن!! فرسان تسابقا: إحداهما: داحس، والأخرى الغبراء، فتناكر صاحباهما وتجاحدا أيهما الأسبق، فتقاتلت القبيلتان قتالاً مراً حتى بادت خضراؤهم وهلك معظمهم إلى أن أصلح الله -تبارك وتعالى- فيما بينهم على يد رجلين، من اللذين خلد ذلك لهما الشاعر زهير بن أبي سلمى حين قال:

    تداركتما عبساً وذبيان بعدما      تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

    هذا حالهم!

    أما السلب والنهب فحدث ولا حرج، من الذي كان يأمن من العرب أن يمشي ومعه أخته أو زوجته أو أمه، ويأمن ألا يسلبها أحد؟!

    فلذلك كان من عظمائهم الكبار ومن سادة غطفان وبني تميم قيس بن عاصم وأد بضع عشرة بنتاً من بناته، لماذا وأدها؟!

    لأن إحدى بناته سبيت، فخيرت بين السابي والأب، فاختارت سابيها على أبيها، فأقسم أبوها ألا تولد له بنت إلا ويئدها في التراب! وتعلمون حكم ذلك، عياذاً بالله!

    هكذا كان قادتهم وسادتهم، وهكذا كانت حياتهم: امرؤ القيس الشاعر المشهور الذي تضرب به الأمثال في القديم والحديث؛ كان عربيداً سكيراً يعاقر الخمر والفجور، كما ذكر في معلقته، فبلغه أن أباه قد قتل؛ فقال: اليوم خمر وغداً أمر.

    وقال في شعره:

    بنو أسد قتلوا ربهم      ألا كل شيء سواه جلل

    فماذا فعل؟!

    أراد أن يثأر لأبيه، فجاء من بلاد بني أسد من وسط الجزيرة، إلى ذي الخلصة، وهو طاغوت دوس، صنم قبيلة دوس في الجنوب ليستشيره وليستنصحه، ليقول: كيف أقاتل من قتل أبي؟ ماذا أصنع؟ كيف آخذ بثأري وَمنْ أَقْتُل في أبي؟

    فلما استقسم بالأزلام فخرج الذي يكره، وبزعمه أنه نهاه الصنم أن يأخذ بثأره، فرماه، وقال:

    لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا

    يوماً وكان شيخك المقبورا

    لم تنه عن قتل العداة زورا

    وذهب يلتمس الحل؛ من أين يلتمسه؟

    ذهب يلتمسه كما نلتمسه اليوم بعد أن ابتعدنا عن حياة القرآن وعن الحياة في ظلاله، ذهب إلى الروم إلى ملوك الأرض حينئذٍ؛ ولذلك يقول:

    بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه      وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

    فقلت له: لا تبك عينك إنما      نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

    وقد هلك ولم ينل الملك، ولم يعذر!

    والقصص كثيرة عن حالهم.

    حال العرب بعد الإسلام

    فكيف أصبحت هذه الأمة بعد نزول القرآن؟!

    لقد نوَّر الله -تبارك وتعالى- قلوبها بالإيمان، وبهذا الذكر أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122]، أحياهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالقرآن، وهو مادة الحياة العظمى، فانقلب حالهم بعد الذل عزاً، وبعد الهوان رفعة، وبعد الهزائم نصراً، وبعد الخوف أمناً، وبعد الظلم عدلاً.

    أصبحت هذه الأمة هي الأمة التي أورثها الله تبارك وتعالى الكتاب ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]، اصطفاها وأورثها هذا الكتاب الذي به حيَّت الأمة التي يقوم علماؤها مقام أنبياء بني إسرائيل؛ لأنهم قوامون بالقسط شهداء لله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما جاء في القرآن، الأمة التي يفزع العالم إلى عدلها، ليتفيأ بظلاله من ويلات الظلم والجور.

    دخل قتيبة بن مسلم بلاد سمرقند، بعد أن صالحهم مراراً وهم ينقضون العهد، فصالحهم مرة وغدر بهم ودخل المدينة انتقاماً من غدرتهم السابقة، فذهب منهم وفد إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقالوا: بلغنا أنكم أمة الحق والعدل، وهاهو ذا قائدكم يصالحنا ثم يغدر، فأمر عمر -رضي الله عنه الإمام العادل- بأن يخرج الجيش من المدينة؛ لأنهم أعطوهم عهد الله ورسوله، ثم غدروا بهم، فأمر عمر بن عبد العزيز الجيش فخرج، وعند ذلك دخلوا في دين الله جميعاً عن حق ويقين ولم يغدروا بعدها أبداً.

    حال سائر الأمم قبل الإسلام وبعده

    هذا بالنسبة إلى حال العرب، وماذا نقول في الروم وماذا نقول في الفرس؟!

    أولئك الذين كانوا يعبدون النيران، وكانوا يعيشون في ظلمات الكفر والجهل، أكانت تنقصهم الحكمة كما يفعل الناس اليوم؟!

    يأتون بالحكم ويأتون بالأمثال ويأتون بالقصص؛ أكان ينقص العالم حِكَماً أو عبراً وقصصاً؟!

    لا والله! كان بيدبا الفيلسوف الهندي الذي ألف كليلة ودمنة، وكان بزرزمهر -وهو فيلسوف الفرس- معروفاً لديهم، وكان عند الروم أرسطو وأفلاطون وسقراط وأمثالهم؛ فوالله ما صنعوا شيئاً، ولا أخرجوهم من الظلمات إلى النور؛ وإنما أخرجهم المؤمنون بكتاب الله وبهدى الله الذي أنزله الله عز وجل بهذا الوحي الخالص قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45]، أخرجهم الله تبارك وتعالى بهذا القرآن، فاحتكموا إليه ورضوا به؛ حتى إن أهل الذمة الذين لم يدخلوا في الإسلام نعموا بالحياة الطيبة المطمئنة في الدنيا، وإن كانوا محرومين من الجنة عند الله تبارك وتعالى في الآخرة.

    لكن الحياة التي عاشوها في الدنيا لم يجدوا لها نظيراً، ولن يجدوا لها نظيراً أبداً في ظل ملوك من النصارى كانوا يحكمونهم، ولا سيما إذا كانوا مخالفين لهم في الدين.

    القرآن حياة القلوب

    نزل هذا القرآن فتفجرت ينابيع الحكمة في قلوبهم، فلو أنَّا قارنَّا كلام حكماء اليونان والهنود والرومان والصابئين بنتف من كلام أبي الدرداء، أو بعض من كلام معاذ أو ابن مسعود الذين كانوا يرعون الشياه، والذين كانوا كما ذكر قتادة وغيره في شأنهم؛ لما كانت نسبة ذلك إليهم شيئاً مذكوراً.

    هؤلاء القوم الذين كانوا رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، الذين عملوا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العصر إلى المغرب على قيراطين قيراطين، في حين أن اليهود عملوا إلى الظهر، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط قيراط.

    هذه الأفضلية إنما جاءت لأن هذا القرآن الذي هو مادة الحياة صادف محلاً قابلاً، وهنا نأخذ العبرة والعظة، مهما كانت البذرة طيبة ومهما كان نباتها طيباً، إن لم تكن الأرض والمحل الذي تزرع به قابلاً فإنه لا يمكن أن تكون هناك حياة! ضع هذه البذرة على صخرة أتنبت؟! لا، ولكن ضعها في طينة مناسبة، في أرض طيبة، تجد أن نباتها يخرج طيباً بإذن ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكذلك الإيمان صادف تلك القلوب التي اصطفاها الله تبارك وتعالى وطهرها، فقبلت هذا الإيمان، وتشربت هذا الدين، وآمنت بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتخذته وحده مع سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهاجاً وشرعةً وسبيلاً، فتركوا كل ما وجد عند الأمم السابقة.

    كُتب إلى عمر -رضي الله عنه- عند فتح بلاد فارس: [[إنا قد وجدنا من كتب القوم حمل وقرين أو ما أشبه ذلك، وفيها من الحكمة وفيها من العبر، فما رأيك فيه؟

    فكتب -رضي الله عنه-: أن أحرقها جميعاً، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أغنانا بالقرآن]] لا نحتاج إلى حكمة، ولا نحتاج إلى منطق، ولا نحتاج إلى فلسفة، ولا إلى دراسات اجتماعية، ولا إلى دراسات نفسية، ولا إلى ما يقال وما يسطر، لا نحتاج إلا إلى أن نؤمن بكتاب ربنا تبارك وتعالى وكأني بـعمر رضي الله عنه في هذه الحالة، وقد استحضر قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له لما أن رآه وفي يده صحيفة من التوراة، قال: {يا عمر، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي} هذا هو النور، وهذا هو الهدى، وهذا هو الخير كله، وجماع العزة والنصرة والرفعة، آمن به السلف الصالح رضوان الله عليهم كما أمرهم الله عز وجل، كانوا يقرءون الآية الواحدة منه، فتقع وتستقر في أعماق قلوبهم! هؤلاء شعراؤهم، كما كان لبيد الشاعر الجاهلي المشهور لما قرأ القرآن توقف ولم يقل شعراً، حتى قيل: إنه لم يقل إلا بيتاً واحداً في الإسلام بعد أن كان من شعراء المعلقات في الجاهلية وهو قوله:

    الحمد لله إذ لم يأتني أجلي      حتى اكتسيت من الإسلام سربالاً

    لم يقل غير ذلك؛ لأن القرآن أبهره، وملأ قلبه، فأخرج ما في قلبه من الشعر ومن حب الشعر.

    القرآن هو المخرج من المآزق المعاصرة

    إذا عادت الأمة إلى الشعر -ونعني بالشعر ما صد عن كلام الله- وإلى قرآن الشيطان إلى الغناء،، إذا عادت الأمة إلى لهوها ولعبها وفرقتها، إذا عادت الأمة إلى ضلالها وظلماتها وجاهليتها فلن ترى خيراً، فالحل وحده هو العودة إلى القرآن والارتواء من معينه الصافي، والاقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في ذلك، ليحيوا مرة أخرى، وليُحْيُوا هذا العالم، فإن العالم لم يكن يوماً من الأيام بعد مبعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحوج إلى أن يحيا بالقرآن منه في هذا الزمن، وكأن الزمان قد استدار كهيئته ومبعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدولتان العظميان كما تسميان إحداهما في المشرق والأخرى في المغرب، والأمة التي تنتسب إلى دين الإسلام معكومون على رأس حجر، بل معكومون في هوة سحيقة يحيط بها هذان الأسدان الجاثيان اللذان لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً [التوبة:10].

    فالله الله يا أمة الإسلام، ويا إخوة الإيمان!! العودة إلى كتاب الله! نتلوه آناء الليل وآناء والنهار ونتدبر آياته ومواعظه ففيه والله الكفاية والغنى، ونقرأ صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي وصفته بها أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهو الوصف الجامع المانع {كان خلقه القرآن}، ونقرأ سير الصحابة الكرام جند الإيمان والتوحيد الذين كانوا بهذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متأسين ومقتدين، تشبهوا به واقتدوا بسنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنالوا شرف صحبته.

    وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يلحقني وإياكم بهم، وأن يحيي قلوبنا بالقرآن، وأن يوقظ غفلاتنا بالإيمان إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    كيفية التأهل للانتفاع بالقرآن

    النقطة التي ننتقل إليها هي: كيف نكون أهلاً للانتفاع بالقرآن الكريم؟

    قال الشيخ سعيد شعلان:

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، سبق أن ذكرنا اشتمال القرآن إلى مادة الحياة، وعرفنا كيف حي أسلافنا بالقرآن، والقرآن بين أيدينا، فلماذا وجدت فينا هذه الأمور التي حالت بيننا وبين أن نكون بالأثر وعلى الدرب؟!

    هل عزف المسلمون عن قراءة القرآن وأعرضوا عن ذلك؟

    التدبـر وأثـره

    الواقع أن المسلمين ما زالوا يقرءون القرآن؛ ولكن مما لا شك فيه أن قراءة القرآن وحدها ليست كفيلة بأن نكون أهلاً للانتفاع به، وبأن نكون أهلاً لأن نحيا به، فلا بد أن نُتْبَع القراءة والتلاوة بالفهم والتدبر والتعقل وبأمور أخرى سيأتي بيانها، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تدبر القرآن -ما هو التدبر الذي هو من أعظم الشروط التي تؤهلنا للانتفاع بالقرآن؟-

    قال: ''هو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهذا هو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى في سورة النساء: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] وقال الله تعالى في سورة المؤمنون: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68] وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة ص: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] وقال تعالى في سورة الزخرف: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) [محمد:24] '' .

    وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى:[[نزل القرآن ليتدبر وليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً]].

    ثم يقول رحمه الله تعالى -والكلام ما يزال لابن القيم أثابه الله وجزاه أحسن الجزاء وأجمله-: ''فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب في نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما'' هذا هو أنفع شيء للعبد في معاشه ومعاده، وهو أقرب شيء إلى نجاته؛ أن يتدبر القرآن، وأن يطيل التأمل فيه، وأن يجمع الفكر على معاني آياته.

    وماذا يستفيد العبد إذا تدبر وأطال التأمل وجمع الفكر على المعاني؟

    هذه الأمور إذا فعلها العبد، يقول: '' فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما '' أي: مآل أهل الخير والشر، ما الذي يطلعك على ذلك؟

    إنه تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته.

    وماذا تفيدك إطالة التأمل مع التدبر والتعقل وجمع الفكر؟

    يقول: '' وتتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة -ومعنى (تتل في يده) تلقى في يده توضع في يده- هذا كله بالتدبر والتعقل وجمع الفكر، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره بمواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه سبحانه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة والنار، وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه، وبالجملة تُعَرِّفه ستة أشياء: تعرفه الرب المدعو إليه المدعو إلى عبادته سبحانه والإقبال إليه وما إلى ذلك مما ينبغي ألا يكون إلا لله وطريق الوصول إليه إلى رضاه وإلى جنته، وإلى رؤيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما له من الكرامة إذا قدم عليه، وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، وطريق الوصول إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب إذا قدم عليه فهذه ستة أمور لا بد للعبد من معرفتها، ومشاهدتها، ومطالعتها ''

    الانتفاع بالقرآن ومفسدات القلوب

    ينبغي لكي نكون أهلاً للانتفاع بالقرآن، أن نتجنب مفسدات القلب الخمسة، وذكرها ابن القيم أيضاً في كتابه مدارج السالكين ومنها: ''كثرة الخلطة، والتعلق بغير الله عز وجل، والشبع، وكثرة النوم'' كثرة الخلطة مع غير الأخيار والصالحين، من غير دعوتهم، وبيان الحق لهم، وعرض محاسن الإسلام عليهم، والرضا بأحوالهم ومجالستهم على ما هم فيه من غير سعي إلى تغيير هذه المنكرات والأحوال السيئة، هذه مفسدة للقلب، فمهما قرأت فلا تنتفع بشيء.

    التمني، أي: تمني الأمنيات: نتمنى ونتمنى... وأحلام يقظة من غير حركة ولا فعل ولا نشاط ولا عمل ولا دعوة، فقط نتمنى؛ وكذلك التعلق بغير الله عز وجل يفسد القلب أيما إفساد.

    أثر الذنوب على الانتفاع بالقرآن

    وينبغي أن نخاف ذنوبنا ومعاصينا، فإن لها من الآثار السيئة على القلوب والحيلولة بين القلوب والفهم والوعي والتدبر والتأثر ما لا يخفى على أي عاقل لبيب.

    نماذج للخوف من الذنوب

    ولا حاجة بي إلى أن أعيد ذكر الذنوب -التي ذكرها فضيلة الشيخ في كلمته- الذنوب التي حطت من قدرنا، وعطلتنا عن اللحاق بمن سبقنا، وأخرتنا أيما تأخير.

    هذه الذنوب يجب أن نخافها أشد الخوف ويكفي في الدلالة على ما ينبغي من خوف الذنوب أن أذكر مثالاً على ذلك وهو: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- والذي ذكر فضيلة الشيخ أنه ممن تفجرت ينابيع الحكمة في قلوبهم وعلى ألسنتهم لَمَّا انتفعوا بهذا القرآن العظيم.

    كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من السابقين إلى الإسلام، وكان من المحببين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وأذكر في فضله ومكانته عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود نفسه قال: { لما نزل قوله تعالى في سورة المائدة: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93] قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـابن مسعود: قيل لي: أنت منهم، أنت منهم } هذا في صحيح مسلم وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي مسعود البدري وأبي موسى [[ أنهما بعد وفاة ابن مسعود -رضي الله عنه- جلسا فقال أحدهما للآخر: أتراه ترك بعده مثله؟ -أي: هل بقي مثل ابن مسعود بعد وفاته- فقال الآخر: لأن قلت ذاك، لقد كان يؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا ]].

    أي: ومن منا مثل ابن مسعود، كان يؤذن له في الدخول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا، ولقد دخل ابن مسعود على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد مرضه الشديد وامتناعه من الخروج للمسلمين في يوم الخميس، وقبل وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأذن له بينما لم يؤذن لكثير من الصحابة في ذلك الوقت.

    وأيضاً في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: {قدمت أنا وأخي في قدوم الأشعريين فمكثنا زمناً لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكثرة دخولهم وخروجهم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}، هذا في مكانة ابن مسعود، وفي هذه المكانة حديث آخر أخرجه الإمام أحمد وغيره، عن ابن مسعود وعمر بن الخطاب، أما عمر بن الخطاب فلما بلغه وهو بعرفة -رضي الله عنه- أن رجلاً بالكوفة يملي المصاحف عن ظهر قلب، غضب وارتعدت فرائصه، ولم يسر عنه إلا لما عرف أن ابن مسعود هو الذي يملي المصاحف عن ظهر قلب، قال: ومن أحق منه بعد. أي: ومن أحق منه في هذا الوقت؟

    فليس أحد أحق من ابن مسعود. لقد كنا عند أبي بكر في سمرٍ، وعنده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا، وخرجنا فأتينا المسجد فوجدنا رجلاً قائماً يصلي فاستمعنا إليه، فلما كدنا أن نعرفه -وعرفوا أنه ابن مسعود- قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر وعمر: {من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد. ثم انتهى ابن مسعود وشرع في الدعاء، فقال عليه الصلاة والسلام وابن مسعود لا يشعر: سل تعطه، فدعا ابن مسعود وقال: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك محمد في أعلى جنان الخلد، قال عمر رضي الله عنه: فقلت في نفسي لأبشرنه إذا غدوت عليه، فلما أتيته لأبشره وجدت أبا بكر سبقني، فقلت له: إنك لسباق إلى الخير }.

    هذا بعض ما يمكن أن يروى في مكانة ابن مسعود وفضله.

    إذا انتبهتم إلى هذا وتأكدتم منه ووقفتم عليه، تعالوا إذن نرى كيف كان هذا الصحابي الجليل يزري على نفسه ويهضمها، ويخاف الذنوب، لنعرف أين هم وأين نحن؟!

    وإلى أين وصلوا هم؟!

    ولماذا وقفنا ولا حراك لنا؟!

    ولا نأمل ونحن على ما نحن عليه من هذه الأحوال السيئة أن ندرك هذا الركب حتى نقلع عن هذه الذنوب والمعاصي، وحتى نحييَّ قلوبنا بهذا الهدى، وهذه الرحمة التي في القرآن.

    عن إبراهيم التيمي عن أبيه بإسناد صحيح -كما أخرجه الذهبي في سيرة ابن مسعود في المجلد الأول- قال: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: [[لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان، ولحثيتم التراب فوق رأسي، ولوددت أن الله غفر ذنباً من ذنوبي وأني دعيت عبد الله بن روثة]]، وددت أن الله يغفر لي ذنباً من ذنوبي حتى وإن كانت القربان إلى ذلك والشيء الذي يقدم ليغفر ذنباً من الذنوب أن أدعى يا عبد الله بن روثة؛ وتعرفون معنى الروثة!

    هذا إزراءٌ على النفس وتواضع، وإلا فهم السابقون السابقون رضي الله عنهم وأرضاهم.

    ويقول أبو سليمان الداراني معلقاً على كلام لابن سيرين بكلمة أختم بها هذه الفقرة في التحذير من الذنوب ومن عدم الخوف منها، فنرى ابن سيرين رحمه الله تعالى، تدين بدين كبير عظيم جداً حبس بسببه، فحاسب ابن سيرين نفسه فقال: [[إني عيَّرت رجلاً من ثلاثين سنة فقلت له: يا مفلس، وهذا هو أوان عقابي وجزائي بهذا الذنب، فبماذا علق أبو سليمان الداراني؟ قال: قلَّتْ ذنوبهم فعرفوا من أين أُتوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نُؤتى!]].

    إذا حصلت لأحدهم مصيبة.. والله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] إذا أصابه ذنب وبلاء عرف أن الذنب هو الذي تسبب بهذا البلاء، يعرفه؛ لأن ذنوبهم قليلة فلا يحتاج إلى كثير بحث، أما نحن فإذا أصبنا ببلاء لا نستطيع أن نرد السبب إلى ذنب معين؛ لأنها ذنوب كثيرة وعظيمة.

    ولقد قال أنس -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري لمن أدركهم من التابعين: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات]] يعني: المهلكات، ومعنى قوله: أنتم تعملون أعمالاً تعتبرونها في نظركم وحسبانكم دقيقة كالشعر ونحن كنا نعدها؛ أي: نعد هذه الذنوب التي تستهينون بها على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات [[قَلَّت ذنوبهم فعرفوا من أين أُتُوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتى]].

    فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا وإياكم إلى تحقيق هذه الشروط التي تجعلنا أهلاً للانتفاع بالقرآن، والتي تؤهلنا لأن نحيا بالقرآن، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    1.   

    الأسئــلة

    منهج دراسي للمبتدئين

    السؤال: فضيلة الشيخ سفر يقول السائل: أنا تائب جديد فهل تنصحني في بداية توبتي بالتركيز على قراءة القرآن وتفسيره، حيث إنه من عوامل التثبيت كما سمعت من طلبة العلم؟

    أم أنوع القراءة في مختلف العلوم من فقه وعقيدة وحديث؟

    الجواب: الحمد لله وبعد: كلنا -أيها الإخوة في الله- نحتاج للتوبة، ونسأل الله أن يجعلنا من التائبين الأوابين.

    وقد ذكرنا حال الأمة عندما تابت والعرب جميعاً لما تابوا، على أي شيء تربوا؟!

    وكيف حيت قلوبهم؟!

    وكيف ساروا؟!

    القرآن هو الركن الركين والأساس في التزكية والتربية، وكل العلوم فرع عنه، فالسنة شرح وتفسير له، وبيان لمجمله، وتخصيص لعمومه، وتقييد لمطلقه، إلى غير ذلك.

    وعَمَلُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترجمة له، وعَمَلُ الصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- تطبيقٌ وتنفيذٌ له، فالقرآن هو الأساس، فكل علم يخالف هذا الكتاب فلا خير فيه، وكل خير في علم آخر فأصله من هذا الكتاب لاستمداده منه، ولذلك فإن أوجب ما يبدأ به الإنسان تائباً أو غير تائب هو: الإقبال على كتاب الله عز وجل؛ إقبالاً فيه التدبر، وفيه التفكر.

    ثم بعد ذلك ينوع من العلوم بقدر لا يزاحم به كتاب الله، فإذا خَصَّصَ جزءاً مهماً أساسياً لحفظ القرآن وتدبره والاطلاع على كتب التفسير، فلا بأس أن يجعل بعد ذلك من العلوم المشتقة منه، والمكملة له، ولا سيما ما هي تطبيق وتنفيذ للقرآن، مثل: تعلم أحكام العبادات من صلاة وزكاة وصيام، لأنه بذلك يطبق القرآن، ويمتثل أمر الله في القرآن، بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهكذا.

    ولا يشغل نفسه بعلوم أبعد من ذلك، تبعده عن التدبر والعمل في القرآن وإن كانت حقاً، كما يشتغل بعض الشباب فيبدءون عقب توبتهم بالاشتغال بالرجال والنقد (نقد الرجال) والجرح والتعديل!

    ليست هذه البداية الصحيحة لطالب العلم، وبعض الإخوة يشتغل بالإكثار من الفروع الفقهية والخلاف بين العلماء، وبعضهم يبدأ بأصول الفقه، وبعضهم يبدأ بقراءة الفلسفة أو المنطق!! أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من الخطأ في طريق العلم، فالقرآن هو الأساس فقد جاء عن بعض الصالحين أن رجلاً صالحاً لم يستطع أن يحفظ القرآن لشغله عنه، فأرسل ابناً له ليحفظ القرآن، وليتعلم القرآن فرجع الولد فقال أبوه: يا بني، لماذا رجعت؟

    قال: يا أبتِ: حفظت سورة أرى أنها قد كفتني، قال: وما هي؟

    قال: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:1-8].

    أقول: بمثل هذا التدبر يجد الإنسان أن السورة الواحدة إذا حفظها وتدبر معانيها وتفقه فيها، أنها تغنيه عن علم كثير مما فيه جفاء عن القرآن، أو جفاء في القلب، كالدخول في الخلافيات وما أشبه ذلك، مما هو شأن العلماء المجتهدين المتعمقين الذين استكملوا -إن شاء الله- حظاً وافراً من الإيمان، ثم تفقهوا وتوسعوا في العلم، وكان ذلك فرضاً متعيناً عليهم، لأن الأمة بحاجة إلى علومهم، أما نحن طلبة العلم، فنحن أحوج ما نكون أولاً وبادئ ذي بدء إلى إصلاح قلوبنا وتزكيتها بهذا القرآن، والبعد عما يشغلنا عنه وإن كان حقاً، لكنه حقٌ مفضول.

    بهذا أنصح نفسي أولاً، وإخوتي الكرام أثابهم الله، وأقول ذلك لأننا في عصر اشتبكت واختلطت على الإخوة فيه السبل الصحيحة لطلب العلم ولمعرفته، وأصبح -ربما أكون مبالغاً وأرجو أن أكون كذلك- الهضم والإجحاف بالقرآن: تلقياً وحفظاً وتعلماً مقابل علوم أخرى، ما كان فيها من خير فإنما هو من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    من أخطاء بعض القراء

    السؤال: فضيلة الشيخ سعيد شعلان: مجموعة من كبار القراء الذين اشتهروا في العالم الإسلامي ظهرت أخبارهم في وسائل الإعلام وكأنهم لا يحيون بالقرآن، واستطاع الإعلاميون استغلالهم، فمنهم من استضيف في حفل مسرحي، ومنهم من استضيف في افتتاح مباراة كرة، ومنهم من اجتمع في لقاء صحفي يذكر فيه أنه يرى التلفاز والتمثيليات ويسمع الغناء، فنرجو من الشيخ أن ينبه القراء إلى خطورة ما يحاك لهم من الإعلاميين بهذا الصدد؟

    الجواب: الحمد لله، تعلمون جميعاً أن الله عز وجل أنزل كتابه المبارك لهداية الناس إلى مصالح الدنيا والآخرة، ولم ينـزل هذا الكتاب ليقرأ في المآتم، أو على القبور، أو في افتتاح الحفلات، أو ليوضع مهجوراً بين دفتين عظيمتين من الأصناف الغالية الثمن، وما إلى ذلك، لا، بل هو كتاب هداية وما مضى الكلام على ما فيه من مادة الحياة وكيف حيَّ به أسلافنا، وكيف يتدبر، يغني عن إعادة الكلام عن الهدف الذي من أجله أنزل الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب العزيز المبارك، ويكفيني أن أرد هذا العمل -على من قام به من القراء ولو كانوا من المشاهير- بكلام من سبقهم في قراءة القرآن وتعلمه، وتعليمه ولن يكون هؤلاء القراء مهما بلغت شهرتهم حجة على هذه الفعال بإزاء القراء الأولين المفكرين، الفاهمين، المتدبرين، المتعقلين، جامعي الفكر على معاني آيات القرآن الكريم، لن يكونوا مثلهم، ولن يُحتجَّ بهم ويُتركَ الاحتجاجُ بهؤلاء الأولين رضي الله عنهم.

    لقد ذكر النووي رحمه الله تعالى في التبيان في آداب حملة القرآن آثاراً عن ابن مسعود رضي الله عنه والحسن والفضيل بن عياض رحمهم الله تعالى، أكتفي بذكرها وفيها ردٌ كافٍ على هذه الأعمال وعلى هذا السلوك، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون -إذا نام الناس قام هو- وبنهاره إذ الناس مفطرون -يعني: بصيامه- وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون]].

    وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [[إن من كان قبلكم -يقول للتابعين في زمانه وأتباعهم- رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار]]، أي: يعملون بها في النهار.

    وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: [[حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، تعظيماً لحق القرآن]]، لا ينبغي أن يشارك في اللهو والسهو واللغو تعظيماً لحق القرآن، لأنه من حملته وسيكون حجة لغيره إذا ما رآه على هذه الأمور أن يفعل مثله.

    أما إذا كان هو يبرر هذه الفعال ويحكم بجوازها وصحتها، ويتفضل بافتتاح هذه الحفلات بأن يقرأ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر:54] ولست أقول: إن المصيبة في أن يقرأ هذه الآيات، لكن المصيبة في المشاركة والحضور في هذه الحفلات، ولو قرأ أي آية من كتاب الله -عز وجل- لأنه يجلس مع قوم فارغين، لا هم في أمر دنياهم، ولا هم في أمر آخرتهم، كيف ذلك؟!

    يجلس مع قوم لا يصلحون دنياهم، ولا يصلحون آخرتهم! فهذا هو الذي ينبغي لحامل القرآن من الآداب، وبهذا القدر كفاية والله تبارك وتعالى هو المسئول أن يهدينا، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يختم لنا بخير، وأن يجعل عواقب أمورنا إلى خير.

    حكم التداوي بالقرآن من المس

    السؤال: فضيلة الشيخ سفر: هل يجوز التداوي بالقرآن الكريم وإخراج الجني من المريض بقراءة، القرآن جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: الحمد لله، أقول: لا ريب أن القرآن شفاء للقلوب وللأبدان -كما تفضل الشيخ فذكر الآيات في ذلك- والتداوي بالقرآن حق، ومن تداوى به كما شرع الله وكما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يغلُ ولم يبتدع، وكان محله قابلاً للعلاج القرآني، شفي بإذن الله -تبارك وتعالى- فالشفاء موجود ولكن قابلية المحل أيضاً شرط لوقوعه، غير أني أريد أن أنبه إلى ما هو أهم، لنأخذ العبرة من حالنا ومن واقعنا.

    عندما عظمنا الدنيا ونسينا الآخرة، أصبحنا نحتاج القرآن لنداوي به أجسادنا، ونسعى إلى ذلك، ونبذل المال والجهد، ولكننا لا نسعى ولا نجتهد، لأن نعالج قلوبنا بالقرآن، فلو قيل لنا: إن شيخاً أو عالماً واعظاً سيعظنا الليلة بشيء من كتاب الله -تبارك وتعالى- يرقق به القلوب، ويذكرنا بالله عز وجل، ويربطنا بهذا الكتاب المهجور، كم يجتمع له؟!

    كم يحضر لديه؟!

    أما لو قيل إن رجلاً ما قد ظهر في منطقة نائيةٍ بعيدة يعالج الناس بالقرآن، ويخرج الجان، ويفك المسحور، وأمثال ذلك مما يتلذذ به العامة؛ لشدت إليه الرحال وضربت إليه أكباد السيارات! سبحان الله!! أليس هذا دليلاً على أنا عظمنا الدنيا ونسينا الآخرة؟!

    إذا كان الحسن البصري -كما سمعتم من الشيخ حفظه الله- قال رحمه الله: [[إن هذا القرآن أنزل ليقرءوه وليعملوا به فجعلوا قراءته عملاً]] سبحان الله! يلوم الذين جعلوا قراءة القرآن علماً دون العمل به، فكيف بالذين جعلوا القرآن تكسباً للدنيا؟!

    وكيف بالذين جعلوه فقط لعلاج أجسادهم؟!

    فإذا صح الجسد وتعافى، استُخدِمَ في معصية الله -عز وجل- شُفيت العين فنظرت إلى ما حرم الله، وشفي العقل فتفكر وتأمل فيما حرم الله، وشفي اللسان فنطق بما حرم الله، هذه والله كارثة! أن يكون هذا حظنا من كتاب ربنا وإن كان العلاج به حقاً لا ريب فيه.

    إخوتي في الله! إن الله تبارك وتعالى رحيم كريم ومن رحمته عز وجل أنه جعل ما يقيم حياة الناس لضروراتهم، جعله متيسراً لهم بقدر ضرورته لهم؛ فهو بقدر الحاجة أو الضرورة يكون تَيَسُّر ذلك الأمر.

    فلما كان الناس بحاجة إلى الهواء لا يستطيع الإنسان أن يعيش إلا إذا تنفس الهواء جعله الله مجاناً، ولو كان الهواء يباع لاختنق أكثر الناس؛ لأنهم فقراء ولاحتكر التجار الهواء ولكن رحمة الله منعت ذلك.

    وكذلك الماء؛ لأن الناس يحتاجونه ولا يستغني عنه أحد جعله الله تبارك وتعالى موفراً بين أيديهم ولله الحمد والمنة. والملح؛ لأنه لا قوام للطعام إلا به هو من أرخص ما يباع في الأسواق في كل مكان ولله الفضل وله الحكمة البالغة عز وجل، ومن ذلك أنه لما علم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو العليم بكل شيء شدة حاجتنا إلى القرآن وضرورة تحصننا به من الشيطان وأن عدونا ماكر خبيث ممكن له فينا، ويجري منا مجرى الدم أعطانا الله عز وجل العلاج مجاناً.

    فكل إنسان كل مؤمن والحمد لله يستطيع أن يقرأ المعوذتين، ويقرأ آية الكرسي، ويقرأ آخر آيتين من سورة البقرة ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة في اليوم إلى غير ذلك مجاناً، فلا تحتاج أن تذهب إلى شيخ أو تسأل عنها عالماً، ولا أن تبذل مالاً قل أم كثر.

    فإنك إن قلتها حفظك الله تبارك وتعالى بها من الشيطان بإذن الله فلا تصرع ولا يأتيك الجان ولا يتلبس بك ولا يؤذيك السحر بإذن الله تبارك وتعالى؛ إلا ما قدره الله، وقَدَرُ الله عز وجل كائن.

    {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} هل تشق على أحد؟!

    أم تلك الرقى البدعية والقراءات الطويلة ويصحبها من الباطل أقل ما يقال فيها: أنها لم ترد مرفوعة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان أكثرها لم يعملها الصحابة أو أحد من السلف؛ بل بعضها وقد رأيناها مشتملة على شركيات وعلى توسلات بغير الله عز وجل، ويقولون: هذا قرآن هذه آية الكرسي.

    لكن اقرأ ما في الأطراف تجد أرقاماً وكتابات لا معنى لها، هذه توسلات شركية، ولهذا يقولون يوم القيامة عندما يسألهم ربنا تبارك وتعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128] هذا يستمتع به بما يقدم له من شركيات، وذاك يستمتع بما يعطيه، وكأنه يظهر على يديه الكرامات أو الخوارق!

    فيا إخوتي في الله، الوقاية خير من العلاج! فلنعالج قلوبنا أولاً، ونقيها الشبهات بالقرآن، ثم بعلاج أبداننا أيضاً نتخذ من هذا القرآن وقاية للحفظ من الشيطان، فنقرأ هذه الآيات الميسورة المتوفرة -والحمد لله- ونداوم على هذه الأذكار صباحاً ومساءً وقبيل النوم، كما وردت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبذلك يكون لنا الشفاء -بإذن الله تبارك وتعالى- في قلوبنا وأبداننا، أسال الله تبارك وتعالى أن يشفينا جميعاً وأن يعافينا من كل داء ظاهر وباطن إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756531240