إسلام ويب

من فوائد دراسة التاريخ الإسلاميللشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نحن أمة ذات عراقة في التاريخ، أمة تاريخها يبدأ منذ أن كان الأنبياء قادة، والمؤمنون سادة، أمة لها تاريخ حقق الله فيه على أيدي المسلمين إنجازات كبيرة. والحقيقة أن تاريخنا ممتلئ بالعبر والعظات، والأحداث والطرائف التي يجب أن نقف عندها وقفة المتأمل المستلهم؛ المستفيد مما حملته من أمور نحتاج إليها؛ لنربط بها حاضرنا بماضينا.

    1.   

    فوائد عامة من معرفة التاريخ

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فأحييكم -أيها الإخوة- بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    وأقول في مطلع حديثي في هذه الليلة: إن التاريخ الإسلامي تاريخٌ عظيمٌ جداً، بدأ منذ بداية هذه البشرية من آدم عليه السلام، ونحن أمة ذات عراقة في التاريخ، وجذورنا ضاربة فيه، وبدايتنا مبكرة جداً، وتاريخنا لا يبدأ في هذا القرن، ولا في هذا الزمان، بل إنه قديمٌ جداً، تاريخٌ مشرق.. تاريخٌ كان فيه الأنبياء قادة، والمؤمنون سادة.. تاريخٌ عظيم حقق الله فيه على أيدي المسلمين إنجازاتٍ كبيرة، وهدى الله بأفرادٍ من هذه الأمة خلقاً من خلقه لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وهذا التاريخ دراسته ذات فوائد جمة، والذي يحرم من فوائد دراسة التاريخ فإنه يخسر كثيراً.

    أيها الإخوة! هذا التاريخ الذي صنف فيه علماؤنا مصنفاتٍ كثيرة، وكتبوا الأحداث، وبينوا زمنها ومكانها حتى تكون الأجيال على وعيٍ، وحتى تتربى على بصيرة.

    أيها الإخوة: سوف يكون حديثنا في هذه الليلة مقدمة لهذا الموضوع الكبير، وسيكون العنوان: (من فوائد دراسة التاريخ الإسلامي).

    1- التاريخ الإسلامي دراسته ذات فوائد تربوية؛ لأن المسلم يعلم من خلال دراسة التاريخ أن الأمة كانت مناطة بهدفٍ عظيم؛ ألا وهو استعمار هذه الأرض.. عمارتها بمنهج الله عز وجل، والأنبياء في هذا التاريخ كانوا قدوات، ونستلهم منهم نحن اليوم طريقة الحياة، والقيم والموازين الربانية التي بعثوا بها، وكذلك كيفية تحقيق المنهج في الأرض.

    2- من فوائد دراسة التاريخ: معرفة سنن الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، والله له سننٌ لا تتخلف ولا تتبدل وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62] هذه السنن بعضها خارقٌ يجريها على أيدي أنبيائه بالمعجزات، وعلى أيدي أوليائه بالكرامات، وبعضها سننٌ جارية وهي الأعم الأغلب، مثل: تنفيذ وعد الله لأوليائه بالنصر إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ [غافر:51] كما أن من هذه السنن إهلاك المكذبين.

    3- وكذلك فإن دراسة التاريخ تحوي في طياتها فوائد، مثل: معرفة أن هلاك الأمم يكون بالترف والفساد.

    4- ومن فوائد دراسة التاريخ: معرفة أن الله عز وجل يداول الأيام بين الناس، فتكون تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ولا يدوم أحد، وكما قال أحدهم لخليفة: " لو دامت لغيرك ما وصلت إليك " وهذا دليلٌ على بقاء الله سبحانه وتعالى، وديمومة ملكه وانتهاء ملك الأمم والناس، فكم من دولة ظهرت، وكم من دولة سقطت، وكم من ملكٍ تولى ثم مات، وكم من خليفة استخلف ثم انتهت خلافته وانتزع ملكه، وهكذا يبقى ملك الله عز وجل هو الحي لا إله إلا هو، لا يموت سبحانه وتعالى مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.

    5- نتعلم من دراسة التاريخ: مسألة ابتلاء الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وكيف يصبر المؤمنون على ذلك، كقصة أصحاب الأخدود وغيرها.

    6- نتعلم من دراسة التاريخ: طبيعة الصراع بين الحق والباطل، والتدافع بين الحق والباطل، وأن هذه الدنيا منذ أن خلق الله فيها البشر والمعركة بين الحق والباطل مستمرة وقائمة لا تنتهي، وأن الحق يكون له الدولة في أزمان، والباطل قد يعلو في أزمان، لكن يبقى أصحاب الحق مستعلين بالمنهج والعقيدة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين) بالظهور الذي قد يكون ظهور السلاح والملك، ولكن يكون دائماً ظهور العقيدة والحق الذي معهم يظهرون به على سائر الملل والنحل.

    7- وكذلك فإننا نتعلم من دراسة التاريخ -أيها الإخوة- معالم الحياة الإنسانية، وكيف بدأت البشرية، وأنها بدأت على التوحيد، وأن الفكرة التي تقول: " إن الديانة في الأرض تطورت من تعدد الآلهة إلى الإله الواحد " هي فكرة خاطئة ضالة، وأن الله أول ما خلق البشرية على التوحيد، وأن آدم وعشرة قرون بعده كانوا على التوحيد حتى ظهر الشرك في قوم نوح، فبعث الله سبحانه وتعالى نوحاً نبياً وهادياً.

    8- ونتعلم من دراسة التاريخ: سير العلماء والمجاهدين، وعلى رأسهم حواريو الأنبياء، وصحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيهم.

    9- ونتعلم: أن الصبر على المشاق من لوازم حياة المؤمنين في هذه الأرض.

    ونتعلم أيضاً: الحصانة الفكرية التي لا تجعلنا نخطئ في التعامل مع الأفراد والأمم، وفي نظراتنا إلى الدول المختلفة، وإلى الحكومات المتعددة؛ لأن هذا التاريخ يضع لنا الحروف على النقاط، ودراسته من خلال القرآن والسنة وأقوال المؤرخين الإسلاميين الثقات لها فوائد كثيرة، ومنها:

    الفضائل الأخلاقية التي تتربى عليها الأجيال المختلفة عندما يتعلم الناس كيف صبر السالفون، وما هي طبائعهم الفاضلة، وكيف حصل بسبب الأخلاق انتشار لهذا الدين.

    11- كما أن دراسة التاريخ تساعدنا على فهم الحاضر، لأن الحاضر هو جزءٌ من الماضي لا يمكن أن يقطع منه، والدليل على ذلك: أن كثيراً من الأديان الموجودة -الآن- أصولها قديمة، وأن معرفة الأصول القديمة تساعد على فهم واقع الأديان الحاضرة، وعلى فهم الملل والنحل الموجودة الآن.

    زد على ذلك أن قولة: (التاريخ يعيد نفسه) قولة صحيحة ولا شك، وأن كثيراً من الأخطاء حصلت في الأزمان الماضية يمكن للأذكياء إذا درسوا التاريخ أن يتلافوا كثيراً منها، ولذلك كان من أكثر ما يؤدب به أولاد الخلفاء سير الماضيين، حتى يتعلموا أصول الحكم، وكيف يسوسون الرعية.

    وكذلك -أيها الإخوة- فإننا في هذا الواقع الموجود الآن؛ من جهة أننا أمة مضطهدة ومحاربة، وأن الدولة الآن للكفار، وأن أعداء الله قد ظهروا على الأرض بقواتهم المادية، وإمكانياتهم التي أعطاهم الله إياها فتنة لهم، نتعلم كيف نواجههم، وكيف نصبر على أذاهم، وما هي السنن الربانية التي يجب أن نسير عليها، وكيف نستعمل المنهج في مواجهة الكفر والإلحاد؟

    نحن نعلم أن هذا الزمان بما فيه من هذا التسلط والجبروت من أعداء الله سوف سيعقبه دولة للإسلام ولا شك إن شاء الله، وسوف يقوم للإسلام قائمة عظيمة إذا حصل ظهور جيلٍ من المسلمين يطبق الإسلام في نفسه، ويطبق الإسلام في المجتمع، وعند ذلك ستقوم دولة الإسلام عالية على جميع أمم الكفر ومذاهب أهل الأرض، ونحن نستعرض الآن نماذج من الأمور التي حصلت في التاريخ الماضي وكيف نأخذ منها عبراً ودروساً.

    إن دراسة تاريخ الأنبياء ودعوات الأنبياء مسألة مهمة جداً، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] سِر على ذاك النهج، واختط نفس الطريق.

    1.   

    فوائد من معرفة تاريخ ابن تيمية

    نحن الآن لسنا بصدد دراسة تاريخ الأنبياء والدعوات؛ ولكن نريد أن نذكرها في البداية لنؤكد عليها، وعلى رأس ذلك سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة من بعده والخلفاء الراشدين، وسير العلماء الذين كانوا يبينون للناس الأحكام الشرعية، عندما تقوم المحن يظهر دور العلماء.. عندما يعم الجهل يقوم المخلصون من أهل العلم بالبيان والصدع بالحق، مثلما قام الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت المبتدعة على أهل السنة بالقول بخلق القرآن.

    ومثلما ظهر شيخ الإسلام رحمه الله لما تكالب المبتدعة من كل جانب، فصنف المصنفات للرد عليهم، سواء الباطنية، أو المنحرفة في باب الأسماء والصفات، أو المبتدعة ومجيزي التوسل وأصحاب الموالد، أو الذين كانوا يحاربون الدين من النصارى؛ فرد على النصارى واليهود، وبيَّن بياناً مهماً باطل التتر، لأن الناس عندما هجم التتر واكتسحوا بلاد العالم الإسلامي بعد فترة ادعى بعض التتر الإسلام، ولكنهم استمروا في هجومهم الكاسح، حتى وصلوا إلى قريب من دمشق ، وعند ذلك خرج المسلمون لملاقاتهم، ولكن طرأت شبهة على المسلمين وهي: كيف نقاتل التتر وقد ادعوا الإسلام ونحن لنا الظاهر وهم ليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يدخلوا في طاعته أصلاً؟

    وقد انطلت هذه المسألة على كثيرٍ من الناس، واحتاروا كيف يقاتلون التتر، وهذا قائد التتر قد جاء معه بإمام وقاضٍ ومؤذن، فكيف يقاتلوه؛ فظهر شيخ الإسلام رحمه الله علماً بارزاً وسراجاً منيراً، فقال للناس: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية ، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسين به من المعاصي والظلم وأكثر من ذلك، فتفطن العلماء والناس، وكان يقول شيخ الإسلام: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -أي: إذا رأيتموني من جانب التتر وعلى رأسي مصحف فاقتلوني -ابدءوا بي أنا- ثم حمس الناس على القتال، وكان انتصاراً عظيماً للمسلمين في معركة شقحب بالقيادة الحقيقية لأهل العلم، وعلى رأسهم شيخ العلم ابن تيمية رحمه الله تعالى.

    فلولا هذا البيان لحصل للناس ذعرٌ، وحصلت انشقاقات واختلافٌ كبير كان سيؤدي بهم إلى الهزيمة.

    ثم قَعَّد شيخ الإسلام في بيان حقيقة التتار قواعد كبيرة، وبيَّن بأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وأنه لا بد من تصور حال التتار ومعرفة ما هم عليه، ولهذا فقد بيَّن أهل العلم أن معهم كتاب الياسق ، وكتاب الياسق هو عبارة عن تشريعات مجمَّعة من ملة الإسلام واليهودية والنصرانية وأشياء من المذاهب المنحرفة الأخرى، جمَّعها لهم ملكهم وأمرهم أن يسيروا عليها.

    فبيَّن لهم ابن تيمية أن خلط الحق بالباطل كفر، وأن هؤلاء يريدون استئصال شأفة المسلمين ولو كانوا على الحق، لماذا يغيرون على المسلمين؟ ولماذا يخربون مدن المسلمين؟ ولماذا يقتلون المسلمين إذاً؟

    يقول شيخ الإسلام للناس: ليسوا أحق بالإسلام منا؛ ولذلك فقد كان بسبب هذا البيان خيرٌ عظيم.

    ومن الأمثلة كذلك ما استعان به أهل الجرح والتعديل في كشف كذب الرواة، حيث استعانوا بالتاريخ في معرفة من لقي من الرواة البعض الآخر ومن لم يلقه، وكشفوا الانقطاع في الأسانيد من خلال التاريخ، بل ودرسوا من دخل المدينة الفلانية ومن لم يدخلها، ومن الذي يمكن أن يكون قد اجتمع بالراوي الفلاني.

    ومن الذي لا يمكن أن يجتمع به، فكشفوا أموراً كثيرة من التدليس، وبينوا بناءً على ذلك صحة الأحاديث من ضعفها.

    ومن الأمثلة الطريفة في استعمال التاريخ في كشف الأشياء المزورة، ما فعله الخطيب البغدادي رحمه الله، فإن بعض اليهود الخيابرة -من أهل خيبر - أظهروا كتاباً، قالوا: هذا كتاب من عهد النبوة، مكتوب في هذا الكتاب إسقاط الجزية عنهم، فلما عرض الكتاب على أمير المسلمين في ذلك المكان اطلع عليه الخطيب البغدادي رحمه الله، فقال الخطيب: هذا الكتاب كذب لا يمكن أن يكون صحيحاً.

    فقالوا له: وما الدليل على كذبه؟

    قال: لأنه موجود -لاحظ الذكاء والفطنة- من الشهود على الكتاب في الأسفل معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ، فأما معاوية فإنه أسلم عام الفتح، وخيبر كانت قبل الفتح، وأما سعد بن معاذ فقد قتل بعد الخندق بعد بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت قبل فتح خيبر، فكيف تدَّعون أنه شهد على الكتاب بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، فـمعاوية أسلم بعد خيبر وسعد مات قبل خيبر، فكشف زورهم وبهتانهم.

    1.   

    كشف التاريخ حقائق الفرق الباطنية

    إن دراسة التاريخ تكشف لنا أعداءنا، وتبين الخطورة التي هم عليها.

    فعلى سبيل المثال: الباطنية بجميع فرقهم من ألد أعداء الإسلام؛ لأن عندهم عقائد كفرية كثيرة، وهؤلاء الباطنية بفرقهم المختلفة، مثل: القرامطة، والحشاشين، والنصيرية، والرافضة، والدروز.. وغيرهم لهم امتدادات موجودة إلى هذا الزمان، وهؤلاء كان لهم وجودٌ في الحقب الماضية، فكيف واجههم المسلمون؟ وكيف تكلموا على عقائدهم، وما زالت عقائدهم موجودة إلى الآن؟

    ينبغي أن يُدرس تاريخ هؤلاء الباطنية بعناية شديدة، لأننا سنكتشف بعد دراسة تاريخ الباطنية أنهم من ألد أعداء الإسلام، فنحذر منهم في هذا الزمان، وربما نضطر أن نحذر منهم أكثر من اليهود والنصارى، ولذلك فلو درست تاريخ الباطنية وأخذت مثالاً على ذلك: حادثة القرامطة وما فعلوه في مكة سنة [317هـ] لاكتشفت أشياء عجيبة جداً، وإليك مثال على ذلك:

    خرج القرامطة جهة المشرق، وجهة المشرق كانت ولا زالت مصدراً للفتن منذ فجر الإسلام؛ مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الفتنة من قبل المشرق، وأشار بيده إلى جهة المشرق) وأكثر الدجالين والباطنية والجيوش التي اجتاحت العالم الإسلامي قدمت من المشرق، ولا زالت الفتنة قائمة إلى الآن، وآتية من جهة المشرق كما تدل عليها الحوادث الموجودة، وهذا لا يعني أنه ليس هناك فتنٌ من جهة المغرب؛ بل قد حدث للباطنية أنفسهم كما حدث في دولة ابن تومرت الذي ظهر وادعى أنه المهدي ، وعمل أشياء عجيبة، وقتل في المسلمين خلق كثير، وظهر من جهة المغرب.

    أفعال القرامطة في بيت الله وحجاجه

    هؤلاء القرامطة الذين ترأسهم يوماً من الأيام أبو طاهر الجنابي جاءوا إلى مكة، ودخلوا يوم التروية فانتهبوا أموال الحجاج، واستباحوا دماءهم، وقتل في رحاب مكة وفي شعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة خلقٌ من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، وجلس قائدهم أبو طاهر الجنابي -لعنه الله كما يقول ابن كثير في تاريخه- على باب الكعبة والمسلمون يقتلون حوله، وسيوف القرامطة تعمل في الناس في المسجد الحرام.. في الشهر الحرام.. يوم التروية، وهو يقول:

    أنا الله وبالله أنا     أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا!!!

    فكان الناس يفرون منه ويتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي عنهم ذلك شيئاً، بل يُقتلون وهم متعلقون بأستار الكعبة، ويطوف هؤلاء القرامطة حول الكعبة فيقتلون الطائفين، وكان بعض أهل الحديث يطوف يومئذٍ، فلما قضى طوافه أخذته السيوف فأنشد وهو كذلك:

    ترى المحبين صرعاً في ديـارهمُ     كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

    ولما انتهى هذا القرمطي من قتل الحجاج حول الكعبة وفعل ما فعل أمر بإلقاء الجثث في بئر زمزم، ودُفن كثيرٌ من الناس في أماكنهم في صحن الحرم، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة في ذلك المكان وذلك الزمان، ولم يغسلوا، ولم يكفنوا؛ لأنهم شهداء قتلوا في إحرامهم في الحرم.

    ثم أخذ الكسوة وفرقها على أصحابه، وأصعد رجلاً إلى الميزاب لكي يقتلعه، ثم أمر بأن يقتلع الحجر الأسود، فاقتلع الحجر الأسود من مكانه، وجعل أصحابه يطوفون ويقولون: أين الطير الأبابيل؟ وأين الحجارة من سجيل؟ يستهزئون بالمسلمين، ورجعوا بالحجر الأسود إلى بلادهم، ومكث عندهم الحجر الأسود [22سنة] والناس يطوفون بالكعبة من غير الحجر الأسود.

    ولذلك لا تستغرب إذا وجدت في كتب بعض الفقهاء عندما يصف الطواف حول الكعبة، يقول: ويستلم الحجر [إن وجد] والذي لا يعرف هذه الخلفية إذا مر بعبارة الفقيه يقول: كيف يقول: [إن وجد] أي: ممكن لا يوجد؟!!

    نقول: نعم لقد مرت فترة طاف فيها المسلمون بالكعبة ولم يكن يوجد فيها الحجر الأسود، ثم رده الله من عندهم، هؤلاء الذين ألحدوا في المسجد الحرام إلحاداً عظيماً، هؤلاء الذين كان لهم اتصال بالفاطميين الذين ملكوا مصر بعد ذلك وهم من الباطنية ، وكان بين فرق الباطنية تعاونٌ كبير، وهؤلاء لا زالت آثارهم ممتدة إلى الآن، ولا زالت محاولاتهم للإلحاد في البيت الحرام ممتدة إلى هذا الزمن.

    فوائد من تربية كل من أهل السنة والباطنية لأتباعهم

    لا بد أن نقرأ ولا بد أن نعي تاريخ هؤلاء الباطنية ، ثم نأخذ من التاريخ فوائد كثيرة في الفرق بين تربية أهل السنة لمن كان معهم وتربية الباطنية لمن كان معهم.

    أهل السنة وعلماء السنة كانوا يربون من معهم على الدليل الصحيح، وعلى اتباع الحق، وعلى التضحية في سبيل الله، وعلى محبة الله ورسوله.. كانوا يربون من معهم على عمل الطاعات، وعلى الأخلاق الحسنة، وكان العالم في الحلقة يعلم الناس الخلق قبل أن يعلمهم العلم، لكن قل لي: كيف كانت تربية الباطنيين لأتباعهم؟!

    لما ظهرت فرق الحشاشين وغيرهم من الذين كانوا ينتقون الأفراد ويأخذونهم إلى بستان كبير جداً فيه نساء وخمور وأنواع الثمار والفواكه ثم يقنعون الشخص أن هذه هي الجنة، ويجلسونه في ذلك المكان فترة من الزمن، ثم يقولون له بعد ذلك: تذهب وتقتل القائد المسلم الفلاني، أو تقتل الخليفة الفلاني، أو تقتل العالم الفلاني، فإذا قتلوك ستدخل هذه الجنة.

    وكذلك فإن من طريقة تربيتهم لأتباعهم: ما ذكره ابن كثير رحمه الله سنة [494هـ] تقريباً عندما قام أحد دعاتهم، واسمه: الحسن بن صباح ، وتعلم الزندقة ثم صار ينتقي من الناس من كان غبياً جاهلاً لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز حتى يعكر مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار آل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم، ثم يقول له: قم وقاتل لنصرة الإمام علي بن أبي طالب ، ولا يزال يسقيه العسل حتى يستجيب له، ويصير هذا الشخص أتبع له من أبيه وأمه وأطوع، ويظهر له أشياء من الحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التف مع الحسن بن صباح هذا الباطني خلقٌ كثير.

    وبعد ذلك حصل أن سلطان المسلمين أرسل له رسالة يتهدده ويتوعده وينذره، فأتى الباطني برسول المسلمين الذي معه الخطاب يريد أن يبين له حال أتباعه، ثم قال له: إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولى هذا الرسول الذي أتى من عند المسلمين، فاشرأبت وجوه الحاضرين، فقال الحسن بن صباح الباطني لأحد أتباعه أمام رسول المسلمين: اقتل نفسك. فأخرج سكيناً فضرب بها غرصمته فسقط ميتاً -انظر إلى أي درجة وصلت الطاعة العمياء- وقال لآخر منهم: القِ نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفلها فتقطع.

    ثم قال لرسول المسلمين: هذا هو الجواب، فرجع.

    إذاً: هكذا يربون أتباعهم، فالتاريخ حلقات متواصلة، وتربية الباطنيين لأتباعهم ما زالت مستمرة إلى هذا العصر؛ لذلك لا تستغربوا إذا رأيتم أتباع الباطنيين يلقون أنفسهم في المهالك مثل الجراد.. يتقاطرون ويلقون أنفسهم في خضم المعارك؛ لأنهم يعتقدون أنهم سيدخلون الجنة بطاعة الإمام، أو آية الله الفلاني.. ونحو ذلك، هذه التربية ما زالت موجودة عند فرق الباطنية إلى الآن، والذي يفشي أسرار الطائفة يعدم، ولا يطلع على أسرار الطائفة إلا من بلغ [40سنة] وأكثر، وهكذا طريقتهم موجودة إلى الآن في تربية أتباعهم.

    مؤامرات الباطنية على أهل السنة

    إن من فوائد دراسة التاريخ: معرفة المؤامرات التي يدبرها الباطنيون لـأهل السنة في كل زمانٍ ومكان، ولذلك فإن الباطنية وفرق الحشاشين -بالذات- اغتالوا عدداً من قادة المسلمين وعلمائهم، فمن ذلك: أنهم قتلوا مودود قائد المسلمين ضد الصليبين، واغتالوا ابن إمام الحرمين، واغتالوا وزير السلطان السلجوقي، واغتالوا الإمام أبو سعد الهروي القاضي، واغتالوا الخليفة المسترشد وقاموا بعدة محاولات لاغتيال صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

    ومن طرقهم الخبيثة في الاغتيال: ما حصل في قتل فخر الملك أبو المظفر ، هذا الرجل كان فيه جوانب من العدل والإحسان، خرج يوماً في آخر النهار، فرأى شاباً يتظلم، كأنه مسكين يشتكي وفي يده رقعة، فقال: ما شأنك، فناوله الرقعة، فبينما هو يقرأها، انتهز الفرصة، فأخرج خنجره فضربه به حتى قتله، هذه من الطرق.

    ونفس القصة حصلت مع القائد الإسلامي مودود رحمه الله الذي كان يقاتل الصليبين، فقد جاءه أحدهم في هيئة سائل واقترب منه يسأله، فلما همَّ بأن يعطيه شيئاً أخرج خنجره فطعنه به.. وهكذا.

    ومن نتائج ذلك: شماتة النصارى بأمة الإسلام؛ لأن الباطنيين محسوبون على المسلمين، كثير منهم يحسب الكفار أنهم مسلمون، وهم ليسوا من الإسلام في شيء، فحصل أن ملك النصارى أرسل رسالة إلى المسلمين يقول لهم بعد مقتل هذا القائد فيهم: "إن أمةً قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيقٌ على الله أن يبيدها ".

    حتى النصارى صاروا يشمتون أفعال الباطنيين وما فعلوه في المسلمين، ويعتبرون أن هذه انشقاقات في صفوف المسلمين، ويعتبرون أن هذه هي أخلاق المسلمين، ولا زال الكفار إلى الآن إذا رأوا في وسائلهم المقروءة والمسموعة والمرئية بعض المناظر الملتقطة من بلدان فيها أناس من الباطنيين يظنون أن هذا هو الإسلام فيشمتون بالمسلمين، ويقولون: انظروا إلى الإسلام، هذا هو الإسلام، لا زالوا إلى الآن، ومؤامراتهم في اغتيال علماء المسلمين وزعمائهم موجودة إلى الآن، ومقتل الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله ومعه نفرٌ من العلماء في اجتماعٍ لأهل الحديث بواسطة مزهرية مفخخة؛ شاهدٌ على أن الباطنيين مؤامراتهم مستمرة لعلماء الإسلام حتى في العصر الحاضر، والذي لا يعرف يقرأ التاريخ.

    حال الباطنية لما حكموا المسلمين في مصر

    من فوائد دراسة التاريخ: معرفة هؤلاء الباطنيين لما حكموا المسلمين مثل الدولة الفاطمية التي قامت في مصر ماذا فعلوا بالمسلمين؟

    لقد فعلوا أفعالاً عجيبة جداً، وقد حصل في سنة [411هـ] أن قتل حاكم مصر ملك الفاطميين، واسمه ابن المعز الفاطمي.. كيف كانت سيرته؟

    انظر إلى الحاكم عندما يسوس الناس بمزاجيته الفاسدة، ويسن فيهم أشياء عجيبة، يريد أن يتوصل من ذلك إلى هدفٍ خبيث، هذا الحاكم ابن المعز الفاطمي ماذا فعل؟

    أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره أن يخروا له سجداً، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع من لا يصلي الجمعة أصلاً، وكانوا يتركون السجود لله يوم الجمعة ويسجدون للحاكم.

    وهذا الرجل من مزاجياته: أنه ابتنى المدارس وخربها، ورتب المشايخ وقتلهم، وألزم الناس بغلق الأسواق نهاراً وفتحها ليلاً، فامتثلوا لذلك دهراً طويلاً، حتى إنه مرة من المرات خرج بنفسه ليتفقد تطبيق القرار، فمر برجل قد فتح دكانه في النهار، فلما أخذ به ليبطشه قال: سهران يا مولاي سهران، يعني أنه سهران في النهار.

    وكان يدور على الأسواق على حمارٍ ومعه أتباعه ومعه عبدٌ أسود، فإذا اكتشف رجلاً يغش في المعاملة أمر العبد الأسود أن يفعل به الفاحشة، وهذه عقوبة شنيعة ليست موجودة في دين الله، وكثيرٌ من العقوبات الأرضية الدنيوية فيها ظلمٌ لا توجد في شرع الله.

    وكانت العامة تكرهه جداً، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة في صورة قصص؛ فإذا قرأها ازداد غيظاً عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق مخفية بهذا الجلباب، وفي يدها قصة من الشتم واللعن، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فغضب جداً، فأمر بقتل المرأة، فلما تبين أنها من ورق ازداد غيظاً.

    ثم بعد ذلك أنزل مماليكه وعبيده وجنوده إلى مصر ليحرقوها وينهبوا ما فيها من أموال أهل السنة ومتاعهم وحريمهم، فقاتل أهل مصر دون أنفسهم ثلاثة أيام، والنار تعمل في دورهم وحريمهم، وهو يخرج فيقف من بعيد وينظر إلى المعركة ويبكي، ويقول: من أمر بهذا، كل هذا ويقول: من أمر بهذا!!!

    وهذا مثال من الأمثلة التي طبقت فيها مزاجيات هذا الرجل ليتوصل في النهاية إلى ادعاء الألوهية وادعى أنه الله، وصار الحاكم بأمره، وكان الذي يسمى الحاكم بأمر الله، صار حاكماً بأمره هو، لأنه هو الله بزعمه.

    بعض الناس يظنون أن النهي عن طبخ الملوخية وغلق الدكاكين في النهار وفتحها في الليل عبث، لكن الرجل كما ذكر أهل العلم كان يريد اختبار العامة، فإذا رآهم أطاعوه عند ذلك ادعى الألوهية، وهذا ما حصل، وهذا من خبث الباطنية وفعلهم.

    1.   

    وقائع وأحداث عبر تاريخنا الإسلامي

    عندما نقرأ التاريخ فإننا نجد أن هذه الأمة قد أصيبت بمصائب عديدة، فمن أهم المصائب بعد حروب الردة وخروج الخوارج والفرق التي حصلت بالمسلمين، والقرامطة والباطنية والحملات الصليبية، واجتياح التتر، بالإضافة إلى ذلك سلَّط الله على هذه الأمة لما ضعفت وابتعدت عن الهدي من سامهم سوء العذاب من الكفار أو من ظلمة المسلمين.

    معرفة مصدر مصائبنا

    إن ما حصل للأمة الإسلامية مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم لما دعا ربه ألا يجعل أمته بأسهم بينهم، ولكنه لم يعطه هذه؛ فجعل الله بأس هذه الأمة بينها في كثيرٍ من المواطن لما ابتعدت عن تحكيم الشريعة، ولما حصلت البغضاء والشحناء والفرقة بينهم، سلط الله عليهم من داخلهم ومن خارجهم من يسومهم سوء العذاب.

    ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة، جُعل عذابها في دنياها تكفيراً لكثير من ذنوبها، ومن ذلك ما نقرأه في التاريخ من المصائب الكبيرة التي حلت بالمسلمين، ومن ذلك المصائب التي هي نوازل من الريح والخسف والزلازل والطوفان والأمراض والطواعين والجوع والفقر الذي سلط عليها، والذي لا تزال الأمة في كثيرٍ من البلدان تعيش فيه حتى الآن، نتيجة عدم تطبيق الشريعة.

    إذا طبقت الشريعة في عهد عيسى بن مريم سيستظل الناس بقحف الرمانة -بقشرتها من كبرها- وستخرج الأرض كنوزاً من الذهب والفضة، وستكفي اللِّقْحَةُ الفئام من الناس تحلب في إناء، وسيطاف بالمال فلا يوجد أحد يقبله، عندما تطبق الشريعة تحل البركة في الأرض حتى يصبح الذئب على الغنم كأنه كلبها، وحتى يدخل الولد يده في الحية فلا تضره.

    بسبب تطبيق الشريعة في الأرض يعم السلام والأمن في الأرض في عهد عيسى بن مريم.

    لكن انظر ماذا حل بالمسلمين عندما ابتعدوا عن تطبيق الشريعة، فإن الله عز وجل قد أرسل عليهم جوعاً عظيماً في الماضي والحاضر، وابتلاءات بنهب الأموال وقتل بعضهم لبعض، وإليكم شيئاً مما حصل من المصائب في الجوع.

    في عام [462هـ] حصل في مصر غلاءٌ شديد حتى أكلوا الجيف والميتات والكلاب، وكان يباع الكلب بخمسة دنانير ليأكل، وماتت الفيلة، فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب، وكان الوزير له خيول كثيرة جداً فلم يبق منها إلا ثلاث؛ لأن الناس كانوا يتخطفونها ليأكلونها، واكتشف رجلٌ يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم، فقتل وأكل الناس من شدة الجوع لحمه، وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه بظاهر البلد؛ لأنهم يخافون أن يخطف منهم إذا دخلوا البلد، وكان لا يجسر أن يدفن الميت بالنهار إنما يدفن في الليل خفية؛ لئلا يُنبش فيؤكل.

    وحدث أن الناس من كثرة الموت لم يستطيعوا دفن بعضهم بعضاً، ودفن العشرون والثلاثون في قبرٍ واحد، وبعضهم ماتوا من الدفن فصاروا يرمون في البحر، وحصل كذلك أن أكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلبٍ قد اخضر، وشوى رجلٌ صبية في فرنٍ فأكلهم، وسقط طائرٌ ميتاً من حائطٍ فاحتوشه خمسة من الناس فاقتسموه وأكلوه.

    وأحصي من مات من الوباء في بخارى وتلك البلاد بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان، والناس يمرون في البلاد فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، ووحشة وعدم أنس، وكان الفقراء يشوون الكلاب، وينبشون القبور، ويشوون الموتى فيأكلونهم، وليس للناس شغلٌ في الليل والنهار إلا غسل الأموات، فكانت تحفر الحفر فيُدفن فيها العشرون والثلاثون.

    وتاب كثيرٌ من الناس، وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحداً يقبلها؛ لأن الناس لا ينتفعون بالأموال إنما يريدون أكلا،ً وكان الفقير تعرض عليه الثياب والدنانير الكثيرة، فيقول: أريد كسرة خبز أسد بها جوعي.

    وأراق الناس الخمور، وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقلَّ دارٌ يكون فيها خمرٌ إلا مات أهله كلهم.

    ودخل على مريضٍ له سبعة أيام في النزع ينازع ليموت ولم يمت، فأشار بيده إلى مكان، فوجدوا فيه خابية خمر فأراقوها، فمات من وقته بسهولة.

    ومات رجلٌ في مسجد فوجدوا معه (50000درهم) فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فدخل أربعة ليأخذوها بعد ذلك فماتوا عليها، ولم يخرج من المسجد منهم أحدٌ وهو حي.

    والمشكلة أن المصيبة إذا نزلت تعم الناس جميعاً، وحصل موت في العلماء والفقهاء وطلبة العلم، حتى إن فقيهاً كان يدرس عليه في الفقه (700) نفس فلم يبق منهم أحياء إلا (12) نفساً.

    وحصل طوفانٌ شديد في بعض الأزمنة، كما حصل في بغداد سنة (775هـ) حتى صارت السفن تنقل الناس من مكان إلى مكان، ومن تل إلى تل، ثم يصل الماء إليهم فيغرقهم لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:43].

    وإذا نظرت اليوم إلى حال المسلمين في الأرض تجد أن كثيراً من البلدان قد حصل فيها من أنواع الطوفان والمجاعات والحروب والأمراض والطواعين ما لا يعلمه إلا الله، وهذه المصائب -أيها الإخوة- لا تحدث في الأرض إلا بسبب، فعدم تطبيق الشريعة، سببٌ لنزع البركة، ونزول المصائب، وحصول الآفات، وحصول الاعتداءات من الكفار على المسلمين، هذا كله نتيجة عدم تطبيق الشريعة.

    وقد حصل أيضاً تسلط لأعداء الله من التتر كما ذكرنا في درسٍ سابق، ومن النصارى الذين دخلوا بيت المقدس عام (492هـ) يوم الجمعة، وكان عددهم مليون مقاتل تقريباً، فعاثوا في المسجد فساداً، وأخذوا قناديل المسجد، وما فيه من الحلي، وقتلوا الناس في ذلك المكان، حتى بلغ عدد القتلى (60 ألفاً) فأكثر، وصار الناس يهربون، وفزعوا إلى إخوانهم المسلمين في أماكن أخرى ليقولون لهم: أنجدونا فلم ينجدهم أحد.

    ومع الأسف! أن الخطباء قاموا على المنابر وندبوا الناس إلى الجهاد، وخرج أعيان الفقهاء إلى الناس يحرضوهم على الجهاد فلم يخرج أحد، حتى قال أحد شعراء المسلمين:

    مزجنا دمانا بالدموع السواجم     فلم يبق فينا عرضة للمراجم

    وشر سلاح المرء دمعٌ يريقـه     إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

    فيا بني الإسلام إن وراءكـم     وقائع ملحقن الذرى بالمناسم

    وكيف تنام العين ملئ جفونها     على هفواتٍ أيقظت كل نائم

    وإخوانكم بـالشام يضحى مقيلهم     ظهور المذاكي أو بطون القشاعمِ

    تسومهم الروم الهوان وأنتم     تجرون ذيل الخفض ذيل المسالم

    النصارى دخلوا واحتلوا البلاد، ثم قال:

    أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى     رماحهم والدين واهي الدعائم

    ويجتنبون النار خوفاً من الردى     ولا يحسبون العار ضربة لازم

    وهكذا بقيت الأمور حتى قيض الله لهذه الأمة عماد الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي ومن بعدهم من المماليك الذين طردوا النصارى من بلدان المسلمين: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].

    محمود بن سبكتكين ومحاربته للشرك

    إذا قرأنا التاريخ نجد فيه ما فعل قادة المسلمين من إزالة الشرك وأنواعه من الأرض، فنعلم أن من الأوليات التي يجب أن يسعى إليها المسلم إزالة الشرك وقتال المشركين: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39].

    هذا ما ينبغي أن تفعله أمة الإسلام.. أن تقاتل المشركين حتى يزول الشرك، فإذا قام بعضهم بالواجب من سد الثغور، وغزو من يُستطاع غزوه من المشركين، وإلا أثم المسلمون كلهم.

    ولقد سجل التاريخ مواقف مشرفة لبعض قادة المسلمين، ومنهم: السلطان العظيم محمود بن سبكتكين الذي دخل بلاد الهند فاتحاً، ووصل فيها إلى أماكن لم يصلها أحدٌ بعده، ومن ذلك: أنه كسَّر الصنم الأعظم المسمى بـ(سومناة)، وكان أهل الهند يفدون إليه من كل فجٍ عميق أعظم مما يفد الناس إلى الكعبة والبيت الحرام، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، كل هذه الغلات للصنم ولمن يزور ويحج للصنم، وقد امتلأت خزائن الصنم أموالاً وعنده ألف رجلٍ يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس الحجاج الذين يأتون إلى الصنم، وثلاثمائة رجلٍ يغنون ويرقصون على بابه، وكان عند الصنم من المجاورين الذين يأكلون من أوقاف الصنم آلافاً مؤلفة، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم.

    ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم، وكثرة عبادة هذا الصنم من الهنود، فتجشم المشاق، وجهَّز الجيش، وقطع الأهوال، وانتدب معه ثلاثين ألفاً من المسلمين حتى وصلوا إلى ذلك المكان وسلمهم الله، فدخلوا البلاد التي فيها الوثن، ونزلوا بساحة عَبَّادِه فقتلوا من أهله خمسين ألفاً، وقلعوا الوثن، وأحرقوه بالنار.

    وكان أهل الهند قد بذلوا لـمحمود أموالاً جزيلة ليترك لهم الصنم، وأشار عليه بعض الأمراء بأن يترك الصنم ويأخذ الأموال، فقال: أستخير الله، فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر، فرأيت أنه إذا نُوديتُ يوم القيامة: أين محمود الذي كسَّر الصنم، أحب إلي من أن يُقال: أين الذي ترك الصنم لأجل ما ينال من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله، ووجد فيه من الجواهر واللآلئ والذهب أضعاف أضعاف ما عرضه عليه الكفار ليستنقذوا صنمهم.

    إذاً: هذا نموذج من النماذج التي يعرضها التاريخ الإسلامي للقادة المسلمين الذين سعوا في الأرض ليطهروها من الشرك وكيف نصرهم الله عز وجل.

    نماذج مشرفة لقضاة المسلمين

    إن دراسة التاريخ تعطينا نماذج مشرفة من قضاة المسلمين في ذكائهم وعدلهم وجرأتهم، فمن ذلك: القاضي إياس رحمه الله تعالى، الذي ناقشه رجلٌ مرةً في الخمر -النبيذ- هل هو حرام أم لا؟

    فقال القاضي: إنه حرام. فقال الرجل: أخبرني عن الماء هل هو حلال أم لا؟ قال: نعم. قال: فالكسور -هذه المادة التي يصنع منها النبيذ- قال: حلال. قال: فالتمر. قال: حلال. قال: فما باله إذا اجتمع وخلط صار حراماً؟ انظر الشبهة!

    فقال له إياس رحمه الله: أرأيت لو رميتك بهذه الحفنة من التراب أتوجعك. قال: لا. قال: فبهذه الحفنة من التبن أتوجعك؟ قال: لا. قال: لو رميتك بهذه الغرفة من الماء أتوجعك؟ قال: لا. قال: أرأيت لو خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طيناً ثم تركته حتى تحجر ثم رميتك به أيوجعك؟ قال: إي والله وتقتلني. قال: فكذلك تلك الأشياء إذا اجتمعت.

    وبلغ من ذكائه وهو صغير أنه كان يهب إلى الكُتَّاب -مكان يتعلم فيه الصبيان القراءة والكتابة. فكان فيه نصارى وكان -مع الأسف- الأستاذ نصراني- قال: فكان صبيان النصارى يستهزئون بالمسلمين، ويقولون: إن المسلمين يزعمون أن أهل الجنة طعامهم لا فضلة له -أي: أهل الجنة إذا أكلوا لا يخرج منهم مخلفات- فالنصارى يقولون: هذا مستحيل ولا يمكن، ويستهزئون بالمسلمين على هذا، وهذا ثابت عندنا أن أهل الجنة تخرج الفضلات منهم على هيئة رشح رائحة المسك ثم تضمر بطونهم، فيأكلون ويخرج رشح كالمسك، فتضمر بطونهم، فيأكلون ولا يمتخطون ولا يتبولون، هذه الفكرة صارت عند صبيان النصارى شيء يستهزئون به على المسلمين.

    فقال القاضي إياس رحمه الله -وكان صغيراً- للمعلم النصراني: ألست تزعم أن في الطعام ما ينصرف في غذاء البدن قال: بلى. قال: فهل هو بعيدٌ على الله أن يجعل طعام أهل الجنة كله غذاءً لأبدانهم ولا يخرج منه شيء، فقال المعلم: أنت شيطان.

    أي: مثلما يقول المعلم: أنت ذكي.. أنت عفريت، فهذا أيضاً ما حصل منه.

    كان القاضي إياس رحمه الله ذكياً جداً، وذكاؤه في القصص ليس هذا موضعه، ولكن المقصود أن نُري كيف كان قضاة وعلماء المسلمين يردون على أهل البدع ويفحمونهم، ولا نقول: إنهم كلهم على الحق، وكلهم لم يأخذوا الرشوة ولكن يوجد نماذج ممتازة جداً يجب أن تعرض، ولعل أن تكون هناك فرصة أخرى لنعرض تلك النماذج.

    نموذج رائع لبعض الملوك الذين لم تغيرهم المناصب

    عندما نقرأ التاريخ الإسلامي أيضاً نجد الموقف الصحيح لصاحب المنصب، يوجد بعض الناس استغلوا مناصبهم في السوء، ولكن بعض الناس استغلوا مناصبهم في الأشياء التي هي من الطاعات، فاستغلوا المناصب في نشر العلم، واستغلوا المناصب في بناء المدارس، وفي وضع رواتب للعلماء وأهل الخير وعمل الأوقاف عليها.. استغلوا المناصب في قمع أهل البدع وإظهار السنة وهكذا، وهذا تتبعه مهم حتى يتبين لأهل المناصب في زماننا ما يجب أن يكونوا عليه.

    فهذا مثلاً نظام الملك الوزير الحسن بن علي بن إسحاق رحمه الله تعالى: مع أنه كان وزيراً فإنه نشأ في طلب العلم، فلما أصبح وزيراً استعمل إمكانياته المادية والمعنوية ووجاهته في نشر العلم، وبنى المدرسة النظامية بـبغداد ، وسميت النظامية نسبة إليه؛ لأنه يعرف بـنظام الملك ، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والعلماء، وكان يقضي غالب نهاره معهم، وهكذا ينبغي أن يكون حال أهل المناصب اليوم، يقربون الصالحين، ويباعدون الطالحين.

    وكان إذا سئل وقيل له: إن هؤلاء يشغلونك؟ قال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي ما استكثرت ذلك، وإذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني قام لهما وأجلسهما في المقعد، وإذا دخل عليه أبو علي الفرندي قام وأجلسه مكانه وجلس بين يديه، هذا الوزير يجلس بين يدي الشيخ، فعوتب، فقال: إنه إذا دخل علي ذكرني عيوبي وظلمي، فأنكسر وأرجع عن كثيرٍ من الذي أنا فيه.

    وكان محافظاً على الصلوات في أوقاتها لا يشغله بعد الأذان شغلٌ عنها.

    تأمل الآن في حال أصحاب المناصب والوظائف، يجلسون في اجتماعات العمل والمؤذن يؤذن والناس يذهبون للصلاة وهم جالسون في اجتماعات العمل، وربما يخرج وقت الصلاة وهم لا يزالون في اجتماعات العمل، فتباً لهذه الاجتماعات، ولا بارك الله فيها ما دامت تشغل عن الصلاة، فلينتبه أهل المناصب من المسلمين لذلك.

    بعض القدوات في أغنياء المسلمين

    نقرأ التاريخ فنجد قدوات من الأغنياء من المسلمين كيف كانت معاملتهم للفقراء؛ فهذا أبو شجاع الوزير : كان غنياً جداً، ومع ذلك فإنه أنفق أمواله في الخيرات وأكثر الإنعام على الأيتام والأرامل.

    وقد حصل أنه ذات مرةٍ أوتي بأنواعٍ من الحلويات -قطايف عليها السكر- فتذكر أن هناك فقراء في البلد لا يذوقون هذا الطعام، لأنه طعام لا يجلب إلا لخاصة الناس -تأملوا! وزير يُؤتى له بطعام لا يؤتى إلا لخاصة الناس- فذهب به كله إلى الفقراء فقسمه عليهم ولم يأكل شيئاً منه.

    وجلس مرة للطعام، فقيل له: إن هناك أربعة أيتام وأرملة في مكانٍ ما في البلد، فرفع يده عن الطعام فذهب به إليهم ومعه نفقة، وكان الوقت شتاء، فخلع رداءه في البرد، وقال: لا ألبسه حتى أخبر أن الطعام والنفقة قد وصلت إليهم.

    فأين أغنياء المسلمين عن الفقراء اليوم؛ الذين ينفقون أموالهم في كثير من التراهات والمفاسد، ويستفيد الكفار من الأموال المودعة في الخارج، وفقراء المسلمين يئنون في أطراف آسيا وأفريقيا من الجوع فلا يغيثهم أحد، ولا يتفطن لحالهم أحد، وهؤلاء الذين يبطرون النعمة، لا بد أن يأتيهم من الله عذابٌ في الدنيا أو في الآخرة!

    وسوف نورد أمثلة وإلا فالتاريخ فيه الصالح والطالح، هذا أحمد بن علي أبو بكر العلوي رحمه الله كان يعمل في تجصيص الحيطان ولكنه كان لا ينقش صورة، لأن نقش الصور لا يجوز، وكان يتكسب من عمل يده، ونجد كذلك أن هناك بلدان في التاريخ الإسلامي كانوا أهل سنة وأهل طاعة، ومن ذلك: بلدة كيلان التي ينتسب إليها الكيلانيون، هذه البلدة وقعت بينها وبين التتر حروب، فطلب ملك التتر منهم أن يجعلوا له طريقاً داخل بلادهم، فامتنعوا، فأرسل جيشاً كثيفاً فأمهلهم أهل كيلان حتى دخلوا البلد، ثم أرسلوا عليهم خليجاً من البحر كان محبوساً بأشياء، أرسلوا السدود على الجيش، ورموهم بالنفط وهو يحترق، فغرق كثيرٌ منهم واحترق آخرون، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة، وقتلوا أميرهم فلم ينج من التتر إلا قلة.

    يقول ابن كثير رحمه الله: وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع، وهم أهل سنة لا يستطيع مبتدعٌ أن يسكن بين أظهرهم -الله أكبر- لما يظهرون في البلد من الطاعات، فأين مدن المسلمين اليوم التي يعيش فيها كل من هب ودب من الكفرة والمجرمين وأهل البدع وغيرهم، أين هي البلاد التي يتمسك أهلها بالسنة فيكونون مجاهدين في سبيل الله؟!

    مواقف العامة تجاه من اعتدى على الإسلام

    ينبغي أن لا ننسى -أيضاً- أنه مرت في التاريخ الإسلامي أحداثاً جيدة تعبر عن حمية العامة للإسلام، ففي إحدى السنوات قام أربعة من الرهبان ودعوا فقهاء المسلمين لمناظرتهم، فلما اجتمعوا جهر هؤلاء الرهبان بالسوء من القول وصرحوا بذم الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساحر كذاب، فثار الناس عليهم فقتلوهم وأحرقوهم، فأين العامة الذين توجد في نفوسهم حمية للإسلام؛ بحيث إنه إذا صار شيء وأهين الإسلام قام العامة على من أهان الإسلام فأذاقوه صنوف العذاب، بل على العكس قد يهان الإسلام في المجالس.. قد يهان الإسلام في بعض الشوارع والمحلات والعامة ساكتون، لا يستطيعون أن يغيروا شيئاً.

    ونجد كذلك في دراسة التاريخ وأحداثه أمثلة من تغيير أماكن الفسق إلى أماكن العبادة: فيذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه التاريخ المشهور يقول: كان هناك دارٌ عرفت بدار الفاسقين في بولاق خارج القاهرة؛ لكثرة ما يجري فيها من أنواع المحرمات، فاشتراها الأمير عز الدين الخطيري رحمه الله، استغل أمواله بماذا؟ اشترى مكان فسق فيه خمور وزنا وفواحش، مرقص وملهى، اشتراه بنقوده وهدمه، وبنى مكانه الجامع في عام (737هـ) وسماه جامع التوبة.

    لاحظ العلاقة بين المبنى السابق واسم المبنى الجديد (جامع التوبة) وكان الخطيري بالغ في عمارته حتى كان من أحسن الجوامع، وهذا الجامع موجود إلى الآن، وقد يعرف الآن باسم (جامع الخطيري) وهو في ناحية بولاق في شارع (فؤاد الأول قرب النيل)، وفيه صحن سمائي وتحيط به أروقة ومئذنة، وقد تهدَّم جزءً منه ثم عمر بعد ذلك، وربما الذين يعرفون مصر جيداً يعرفون هذا المسجد، فإذا مروا به وتذكروه فإنهم يتذكرون رجلاً عظيماً من المسلمين اشترى مكان فسق فهدمه وبنى بدلاً منه مسجداً يذكر الله فيه، فكم عظم الأجر؟ أول شيء درأ المفسدة، ثم جلب المصلحة.

    ولا زال هناك بقية من أهل الخير في هذا الزمان ولله الحمد، فهلَّا قام أغنياء المسلمين بشراء الملاهي وأماكن الفسق ليبنوا فيها مساجد أو أماكن للطاعات؟! وقد حصل قبل سنواتٍ في بلدة من بلاد الشام أنه كان فيها ملهى معروف يسمى بـ(المونتانا) اجتمع بعض أهل الخير وجمعوا التبرعات واشتروا الملهى، وبنوا فيه جامعاً وهو موجود الآن يسمى (جامع الفرقان) فرقان بين الحق والباطل، فهلا كثرت هذه الأمور أيضاً؟

    وكذلك فإننا إذا استعرضنا التاريخ أيضاً سنجد فيه أموراً من الفقه والأحكام الشرعية وطرائف فقهية وهي كثيرةٌ جداً، ونضرب مثالاً واحداً:

    عبد الملك بن إبراهيم أبو الفضل الهمداني رحمه الله تعالى، كان رجلاً قد درس العلم الشرعي وكان ظريفاً لطيفاً، كان يقول: كان أبي إذا أراد أن يؤدبني أخذ العصا بيده -وكانت مسألة الجهر بالنية مشهورة- ويقول: نويت أن أضرب ولدي تأديباً كما أمر الله.

    قال: وإلى أن ينوي ويتم النية أكون قد هربت.

    فهذه مسألة الجهر بالنية من البدع الشائعة، وهي إلى الآن لازالت موجودة شائعة، ترى الواحد إذا قام يصلي قال: نويت أن أصلي لله فرض الظهر الحاضر جماعة وراء الإمام مستقبل القبلة أربع ركعات ... إلخ

    وهذه البدعة عبارة عن استحسان استحسنه بعض الناس والله: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] فلا حاجة للتلفظ بالنية.

    فمثل هذه الطرف ترد في ضمن كتب التاريخ، وكتب التاريخ الإسلامي تحوي أحكاماً فقهية، ومناظرات علمية في غاية الجودة والروعة.

    التاريخ ومعرفة السنن الكونية في انتقام الله من الناس

    عندما ندرس التاريخ الإسلامي نجد مصداقاً للسنة الكونية في انتقام الله من الناس، عندما يترفون وينفقون الأموال ويسرفون فيها ويبذرون، فإليكم مثالاً واحداً في المرحلة الزمنية التي هي وقت اجتياح النصارى لبلاد المسلمين، والتشرذم الذي حصل في بلاد المسلمين وقيام بعضهم بقتل بعض، وقيام الدولة الفاطمية في مصر التي أزيل ذكر الخلافة العباسية من على المنابر وصار يذكر الحاكم الفاطمي على المنبر ويدعى له بدلاً من الخليفة العباسي، وما صار الأمر إلى ما صار إليه إلا بانتشار مثل هذه الحوادث التي سأذكر واحدة منها الآن:

    في سنة (480هـ) نقل جهاز ابنة السلطان إلى دار الخلافة -انظر الزواجات في القديم والحديث، فأهل السوء لا يزالون يبذرون الأموال- على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي غالبها من أواني الذهب والفضة، وعلى أربعٍ وسبعين بغلة مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأحلاسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من الفضة فيها أنواع الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً عليها مراكب الذهب مرصعة بالجواهر، ومهدٌ عظيمٌ مجللٌ بالديباج الملكي عليه صفائح الذهب ومرصعٌ بالجوهر.

    وبعث الخليفة بالوزير لتلقيهم وبين يديه نحو ثلاثمائة مويكبة غير المشاعل لخدمة الست فلانة امرأة السلطان، وحضر الوزير وأعيان الأمراء وبين أيديهم الشموع والمشاعل ما لا يحصى، وجاءت الأميرات مع كل واحدة منهن جماعتها وجواريها، وبين أيديهن الشموع والمشاعل، ثم جاءت زوجة الخليفة بعد الجميع في محفة مجللة وعليها من الذهب والجواهر مالا تحصى قيمته، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية تركية بالمراكب المزينة العجيبة تبهر الأبصار، ودخلت دار الخلافة وقد زينت حرمه وأشعلت فيها الشموع ... إلخ.

    بمثل تضييع أموال المسلمين هكذا حصل ما حصل من المصائب العظيمة التي نكبت المسلمين.

    التاريخ .. وخداع المشعوذين

    عندما نقرأ التاريخ نجد فيه أخبار المشعوذين والدجاجلة وكيف كانوا يخدعون الناس، والأشياء الموجودة الآن في أماكن مختلفة من البلدان كانت موجودة في السابق.

    ومن ذلك مثلاً: ما حصل أن رجلاً من الصوفيةالصوفية لا زالوا يخدعون الناس في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي- خدع الملك الظاهر برقوق وأوهمه أنه من أولياء الله، فاعتقد هذا السلطان بهذا الشيخ وهذا الولي -كما يزعمون- وكان إذا دخل الشيخ شفع عند الملك، ثم وصل الأمر إلى درحة أن هذا المشعوذ كان يحضر مجلس السلطان العام ويجلس معه بجانبه على المقعد الذي هو عليه، ويسبه بحضرة الأمراء، وربما يبصق في وجهه ولا يفعل السلطان له شيئاً، لماذا؟ من أثر هذا المشعوذ على السلطان، وكان يدخل المشعوذ على حريم السلطان فلا يحتجبن منه ... وهكذا.

    وكذلك من الأشياء المشابهة لهذا: أنه أشيع أن امرأة عام (796هـ) -انظروا كيف تشيع الخرافات بين الناس- طال رمدها، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فأمرها أن تأخذ من حصى أبيض في سفح جبل المقطم وتكتحل به بعد سحقه، ففعلت فعوفيت، فانتشر هذا بين الناس فماذا فعل العامة؟

    تكاثروا على استعماله حتى أن حصى جبل المقطم انتهى وهم يلتقطونه ويسحقون منه للشفاء والعلاج والبركة، لماذا؟

    لأن امرأة رأت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وقال كذا، وانتشرت الرؤية المكذوبة، والآن الرؤى الكاذبة على الرسول صلى الله عليه وسلم لا تزال موجودة ومنتشرة، ومنها الرؤيا المنسوبة إلى (أحمد) خادم الحرم المدني قبل مائتي سنة، وربما الرؤيا لا زالت تروج إلى الآن في مواسم وتهدأ وتظهر وتهدأ، مفادها: أن هذا الخادم نام مرة بجانب المسجد، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وأخبره عن حوادث كثيرة وكذا وكذا... وفي النهاية ومن لم يطبع الورقة فإنه سيخسر، وإذا كذَّب بها فإنه سيموت أو كذا ويصاب المصائب ... والمغفلون من المسلمين يطبعون هذه الأوراق ويوزعونها.

    وكذلك فمن الأشياء التي حصلت: أن في أوائل رجب شاع بين الناس أن شخصاً كان يتكلم من وراء حائط؛ فافتتن الناس به، حتى قال قائلهم: (يا رب سَلِّم، الحيطة بتتكلم) وحتى قال أحد الشعراء مستهزئاً:

    يا ناطقاً من جدارٍ وهو ليس يرى     اظهر وإلا فهذا الفعل فتانُ

    لم تسمع الناس للحيطان ألسنة     وإنما قيل للحيطان آذنُ

    هذه اللعبة التي لعب فيها بعض المشعوذين على الناس، عملوا من جهةٍ من الجهات نقض في الحائط وله مثل الماسورة أو قرن وينفخ فيه بشكل يتغير الصوت عند النفخ فيه، والناس يأتون ويسمعون الصوت ويعتقدون أن ولياً من أولياء الله هنا.. ونحو ذلك، وعظم ذلك المكان بسبب لعبة لعبها بعض المشعوذين.

    إن الموالد كانت تقام وتفعل فيها الرذائل، ومن ذلك أنه عُمِلَ المولد النبوي -بزعمهم- واجتمع فيه من الخلق مالا يحصى عددهم، ووجد في صبيحته (150) جرة من جرار الخمر فارغة، غير ما كان في تلك الليلة من الفساد والزنا واللواط، هذا في أي شيء؟ في حفلة المولد النبوي، وهي بدعة زائفة.

    هذا الاحتفال يُفعل إلى الآن -أيها الإخوة- في كثير من البلدان، يعملون مولد نبوي رجالاً ونساء ... إلخ، وأنت تسمع وتقرأ في الوسائل المرئية والمسموعة إلى الآن عندما يأتي (12ربيع الأول) حفلة مولد نبوي، غناء وموسيقى وطبل ونساء يغنين ويرقصن، في ماذا؟

    في المولد النبوي.

    التاريخ.. ومساوئ الرياضة

    كذلك فإننا إذا قرأنا التاريخ سنجد مساوئ للرياضة كانت موجودة في ذلك الزمان.. انظر مثلاً في يوم السبت (12 من ذي القعدة) عمل السلطان حفلاً مهماً عظيماً بالميدان تحت القلعة، وسببه أن السلطان لعب بالكرة مع أحد الأمراء فغلبه، فقال: لا بد ما دام أني غلبتك أن تعمل وليمة عظيمة، قال من كرمه: أنا أتولى عنك النفقات، فعملت الوليمة العظيمة؛ فنصبت الخيم بالميدان، وكان فيها من اللحم عشرون ألف رطلٍ، ومائة زوج أوز، وألف طائرٍ من الدجاج، وثلاثون قنطاراً من السكر استعملت في صنع الحلويات، وثلاثون قنطاراً من الزبيب، وستون إردباً دقيقاً، وعملت المسكرات في جنان من الفخار، ونزل السلطان سحر يوم السبت وأمرهم بأن يعاقروا الشراب، ثم سمح للعامة في انتهاب الأكل بعدما أكل هو ومقربوه.

    قال المؤرخ: فكان يوماً في غاية القبح والشناعة؛ أبيحت فيه المسكرات، وتجاهر الناس بالفواحش بما لم يعلم مثله قط، ومن يومئذٍ انتهكت الحرمات بتلك الديار، عقب انتصارٍ في مباراة كرة حصلت، وكانوا في القديم يلعبون الكرة على الفرس يضربونها بشيء.

    المهم انظر الآن ما يحصل أيضاً بعد حصول المباريات الرياضية أو الانتصارات بزعمهم.

    إذاً يوجد كثيرٌ من هذه المفاسد ولا زالت موجودة في القديم والحديث، ونحن لا بد أن نتعظ ونعلم تماماً بأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى عن هذه الأمور.

    التاريخ.. ولطائف قدر الله على عباده

    أيضاً في التاريخ عجائب لقدرة الله عز وجل في المخلوقات، فيقول المؤرخ: وجد مخلوق كذا وصفته كذا وكذا من العجائب، وأمطرت السماء في يوم كذا وكذا مطراً كان فيه سمك، وأمطرت مرة حجارة، وحصل أشياء من العجائب حتى وصفوا النيازك وسقوط بعض الأجرام السماوية على الأرض وما حصل فيها.

    ومن الأشياء اللطيفة التي تذكر في هذه المناسبة: ما يحصل من جريان قدر الله عز وجل في بعض المساكين فمن ذلك: قال ابن كثير رحمه الله: نقل عن ابن الساعي : كان رجلاً بـبغداد على رأسه زبادي فزلق فتكسرت، ووقف يبكي، فتألم الناس لحاله وفقره، ولأنه لم يكن يملك غيرها، فأعطاه رجلٌ من الحاضرين ديناراً، فلما أخذه نظر فيه طويلاً، ثم قال: والله إني لأعرف هذا الدينار، لقد ضاع مني مرة في جملة دنانير، فقال له الرجل الذي أعطاه إياه: ما علامة الدنانير؟ قال: وزنها كذا، وكان معه (23) ديناراً، فوزنوها فوجدوها كما قال: فأعطاه.

    وذات مرة كان رجل بـمكة، فنزع ثيابه ليغتسل بماء زمزم، وأخرج دملجاً زنته (50) مثقالاً ووضعها في الثياب، فلما فرغ من الاغتسال لبس الثياب ونسي الدملج ومضى، ورجع إلى بغداد وبقي سنتين حتى افتقر ولم يبق معه إلا شيء يسير، فاشترى بهذا الشيء اليسير زجاجاً وقوارير ليبيعها ويتكسب بها، فبينما هو يطوف ذات مرة إذ زلق فسقطت القوارير وتكسرت، فوقف يبكي فاجتمع الناس عليه يتألمون له، فقال للناس من جملة الشكوى: والله لقد ذهب مني منذ سنتين دملج من ذهب زنته (50) ديناراً ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير؛ لأنها كل ما أملك الآن، فقال له رجل من الناس: أنا والله لقيت الدملج وأخرجه وأعطاه إياه.

    تصور أنه فقده في مكة وذهب إلى بغداد وبعد سنتين يأتي في وسط الجمع وهو يتألم لفقره، فيقول رجل: أنا وجدته ولم أعرف صاحبه، فدفعه إليه.

    فالشاهد -أيها الإخوة- أننا نرى عجائب وغرائب من قدر الله سبحانه وتعالى سواء في مثل هذه الأشياء، أو في وفاة الأشخاص.

    مثل: ثلاثة إخوة افترقوا فلم يجتمعوا إلا في قبرٍ واحد، ماتوا وما اجتمعوا في الحياة إلا في القبر بعدما ماتوا عرف أن هؤلاء إخوة هذا فلان فدفن، ثم فلان، ثم فلان وهكذا.

    1.   

    تاريخنا تاريخ أحداث وعبر وعظات

    الشاهد: أن تاريخنا غنيٌ جداً بالأحداث وبالعبر والعظات، ولا بد أن نقرأ ونحن لسنا أمة مبتوتة ولا منقطعة، والحقيقة أن هناك أحداث كبيرة يجب أن نقف عندها، مثل: غزو النصارى لبلاد الإسلام، وغزو التتر، وقيام الدول الباطنية في السابق، والمؤامرات على الإسلام، والأسباب التي أدت إلى انهيار المجتمعات.

    أقول: لا بد من دراسة هذه الأشياء؛ لأننا نحتاج في هذا الزمان إلى ربط حاضرنا بماضينا، وإلى أن نعود إلى طريقة أسلافنا.

    وإنني أقول لكم أيها الإخوة: إن في التاريخ عبرة ومنهاجا، وإن هذه الأمة لن تقوم على أقدامها إلا إذا استلهمت الماضي وعملت به.

    إن كثيراً من الكفار متشرذمون لا ماضي لهم ولا حضارة، دولٌ كاملة قامت وسكانها قطاع طرق، كانوا منفيون في جزيرة فتكاثروا حتى أسسوا دولة، وحكموا أجزاء كثيرة من العالم إلى الآن، وليس لهم حضارة، لو تسأل مثلاً: ما هو أصل الشعب الأمريكي والشعب الأسترالي؟

    أصلهم قطاع طرق، لصوص، طلاب دنيا، قاموا وقامت لهم حضارات -أقصد الآن دولٌ وهيمنات- فنحن أمة الإسلام ماضينا قديم جداً، وتاريخنا مليء بالثروات الضخمة التي يجب أن نتمعن فيها ونهتم بها.

    ونقول أيها الإخوة: لا بد من تربية الناس على الإسلام، وتربية العامة حتى يتهيئوا للجهاد في سبيل الله، لا يمكن أن الأمة تجاهد وهي بهذا الوضع من الانشغال بالدنيا، لو ارتفع سعر الخبز في بلد من بلاد المسلمين لأقاموا الدنيا وما أقعدوها، ولكن لو أهين القرآن والسنة والشريعة ما تحرك أحدٌ تقريباً.

    خذ هذا المثال: قيل للطبيب: ما هي أمنيتك؟ فقال: نحن الأطباء أمنياتنا بحرف العين: عيادة .. عربية .. وعروسة .. وعمارة.

    هذا مثال نقصد به أن الناس علاقتهم بالدنيا وليست بالله عز وجل، فلا بد من إرجاعهم إلى الله، وتربيتهم على هذه المبادئ، وأشير إلى أن بعض الناس يظنون أن انتهاء المشكلة الحاضرة بظهور قائد للمسلمين يجمع كل المسلمين، نقول: ليس حل المشكلة في القائد كما يظن بعض الناس فقط، القائد صحيح أنه مهم، لكن ليس العلاج فقط في القائد، مثال: موسى عليه السلام أليس قائداً عظيماً، ونبياً كريماً؟ نعم. لكن كيف كانت سيرة شعبه معه؟ كيف كانت سيرة بني إسرائيل؟ اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138].. أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153].. لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61].. يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21].. إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] وجد القائد لكن الشعب إذا لم يترب على الإسلام فلا فائدة، الأمة إذا ما تربت على الإسلام فلا ينفع القائد، فالناس الذين يقولون: نحن ننتظر قائداً ربانياً لا يميناً ولا يساراً!

    نقول: على هونكم، ليس القائد كل شيء، لا بد أن يتربى الناس على الإسلام ثم يقومون في سبيل الله عز وجل.

    نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وأن يوفقنا لنصرة شريعته وإعلاء كلمته سبحانه وتعالى.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718743

    عدد مرات الحفظ

    766192106