يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله تبارك وتعالى: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:26-28] .
روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: (جاءني رجل يهودي فسألني: أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ فقلت له: لا -أي: لا أجيبك- حتى آتي حبر العرب -
ولذلك نقول للذين يسنون القوانين: اطمئنوا.. ليس لقوانينكم قداسة في النفوس؛ لأننا نعلم أنكم أول من يخالفها، وهذا داء قديم لا حديث.
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، وواحدة في
وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل بلداً فيها جبار، وكان هذا الجبار له عيون يرسلها في أنحاء البلد، إذا وجدوا امرأة جميلة يأتون بها إليه، وكان هذا الجبار الذي وضع القانون يستثني الأخوات، فيأخذ امرأة الرجل وأمه، وخالته وعمته، لكنه لا يأخذ أخته، وكان إبراهيم عليه السلام على علم بهذا القانون، فقال إبراهيم عليه السلام لـسارة: إذا جاءك هذا الجبار فقولي: أنت أختي في الإسلام، فوالله ما أعلم أحداً على الإسلام غيري وغيرك. وكانت سارة جميلة جداً، فلما رآها هذا الجاسوس ذهب إلى الملك، وقال له: إن امرأة بأرضك لا تصلح أن تكون إلا لك، فجيء بها، وبالرغم أنها قالت: إنها أخت إبراهيم، إلا أنه خالف مذهبه وأراد أن يقربها، فدعت عليه فشل، كما في الحديث المعروف.
فهؤلاء يصنعون القوانين ثم يخالفونها لأهوائهم، لذلك لا تجد قانوناً محترماً إذا سنه البشر؛ لأنهم يسنون القانون لعلة ثم يلغونه لعلة أيضاً، وما العلة إلا الهوى؛ لكن رسول الله إذا قال فعل؛ لذلك تمت الأسوة بهم، قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] (وفى) من الوفاء، وهو أنه كمل العبادة لله.
لما ألقي في النار جاءه جبريل عليه السلام، وما أدراك ما جبريل؟!! خلق عظيم، له ستمائة جناح، قلب قرى قوم لوط بريشة من جناحه! قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت جبريل على رقرقٍ -أي: على كرسي- يملأ ما بين السماء والأرض).
عندما أتى جبريل إلى إبراهيم عليه السلام قال له: (هل لك إليَّ حاجة؟ قال: أما إليك فلا) لأنه عبد يفتقر إلى شيء معين وهو رب العالمين، فإذا كان رب العالمين يمكنك أن تصل إليه بلا حاجز، فلماذا تتخذ حاجزاً وتطيل المسافة على نفسك؟! قال: (أما إليك فلا) وهو في النار، وقد كاد له العالمون جميعاً، لكنه وفى العبودية حقها، ولم يلجأ إلا إلى رب العالمين تبارك وتعالى.. وهنا محل الوفاء.
فقوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27] أي: أنكحك إحدى ابنتي على أن تخدمني ثماني سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا [القصص:27] إن أكملتها عشراً فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27] فهو تطوع وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27] لن أجبرك على أن تخدم العشرة سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27] أي: إذا عاشرتني، وعلمت كريم أخلاقي ستتم العشرة قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [القصص:28] هذا هو عقل الوفاء أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ [القصص:28] إن أخذت بالحد الأدنى الذي شرطته عليَّ وقضيت إلى سبيلي فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص:28]، أي: لا تشق عليَّ بأن تلزمني بالخدمة وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28].
فقوله: (من أعطي بي ثم غدر) لأنه لم يقدر الله حق قدره، إذ لو علم قدر ربه لخاف، ولعظم أن يحنث في اسمه، أما الذي يوفي فإن الله عز وجل يسخر له من أسباب الكون ما لا يخطر لأحدٍ على بال، هذا هو جزاء الوفاء.
من وفى لله وفى الله له، وبقدر ما تبذل لربك يبذل الله عز وجل لك من أسباب الفوز، وقد جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلاً من بني إسرائيل استلف من رجل ألف دينار، فقال صاحب المال للذي يريد أن يقترض منه: ائتني بوزير -وفي رواية: بكفيل- قال: كفى بالله كفيلاً. قال: ائتني بشهيد. قال: كفى بالله شهيداً. قال: صدقت، وأعطاه الألف دينار -بلا مستند- فأخذ الرجل المال وانطلق به يتاجر في البحر، فلما حان موعد الوفاء التمس الرجل المدين مركباً يؤدي الدين في الموعد المعلوم، فلم يجد مركباً وهدأ البحر -توقفت حركة الملاحة- والرجل الآخر على الشاطئ الآخر ينتظر مركباً ليأتي صاحبه -وعند هناك بعض الناس -والعياذ بالله- الله تبارك وتعالى عندهم رخيص، فتجده يحلق بأغلظ الأيمان لدرهم واحد وهو كاذب، يحلف بالأيمان الغلاظ التي تدخل أمة كاملة في جهنم، اليمين الغموس هو أحد الكبائر والموبقات الذي يجعل الديار بلاقع، الرجل يبذل يميناً يقتطع بها حق امرئ مسلم، فما أهون الله عند هؤلاء! الرجل حزين واقع في كرب حائر تأكله الهواجس، فلما قال: رب! أنت وكيلي، أخذت المال بك، فأوصل هذا المال إلى صاحبه، ونقر الخشبة ووضع الكيس فيها مع رسالة من صاحبه، وقذف بها في البحر فابتلعها الموج، وكان الرجل على الشاطئ الآخر ينتظر، فلما يئس أن يأتي صاحبه وجد خشبة تروح وتجيء أمامه -ومعنى حركة الملاحة متوقفة، أي: أن البحر هائج وهناك رياح عاصفة وأمطار غزيرة وبرد- فقال: آخذ هذه الخشبة أستدفئ بها، فأخذها، فلما ذهب إلى الدار ألقاها إلى امرأته، وقال: أوقدي بها، فكسرت المرأة الخشبة فنزل منها الكيس، فقرأ الرسالة في الكيس وعد المال، وكان الرجل الآخر ينتظر مركباً حتى وجد أول مركب، فركب وأخذ ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحبه؛ فقال: هذا أول مركب. قال: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ قال: أقول لك هذا أول مركب. قال: ارجع راشداً فقد أدى عنك وكيلك
وفي صحيح ابن حبان : قال أبو هريرة : (فلقد رأيتنا يكثر لغطنا ومراؤنا عند النبي عليه الصلاة والسلام أيهما آمن من صاحبه -من أشد إيماناً من الآخر- الذي أعطى المال بالله بلا مستند، أم الذي رمى بالمال في البحر وهو لا يضمن أن يصل هذا المال إلى صاحبه).
فإذا جعلت الله وكيلك كان أفضل منك، وكان أرعى للأمانة منك، كما يقول بعض العلماء: إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب كان لك من الحظ أفضل منه، فقيل له: لم؟ قال: لأنك إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثل ذلك، ودعاء الملك أثقل من دعاء العبد بنفسه، ملك، مسخر، مطيع، لا يعصي ربه أبداً، فإذا قلت: اللهم اغفر لأخي، وارزقه، وارحمه؛ قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثله. فدعاء الملك لك أثقل من دعائك لأخيك.
وإن أكبر مشكلة ومصيبة يتعرض لها المرء في حياته أن يكون عبداً مسترقاً، لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، حتى لو أراد أن يتزوج لا يستطيع إلا إذا أذن له سيده، حتى وإن بلغت به العزوبية غاية المشقة فلا يجرؤ ولا يستطيع الزواج.
قال صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد تزوج بغير أذن مواليه فهو عاهر) أي: فاجر.
يحتاج أن يتزوج، ولكن سيده تعنت، قال له: لا زواج؛ فلا يستطيع الزواج.
وكذا إذا شق عليه سيده بالخدمة فلا يستطيع أن يفر بجلده أبداً، ولابد أن يضل مكانه؛ لأن العبد كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أبق من سيده لا تقبل له صلاة ولا زكاة ولا صيام حتى يرجع).
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤدي ولد حق والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه) هذه هي التي يستطيع الولد أن يقول لأبيه: أنا معك رأس برأس إنما غير ذلك، فلا يستطيع أن يؤدي حق والده أبداً.
فهذا الرجل عندما يعطي هذا المملوك حريته، ويكتمها ويبيعه بعد أن صار حراً يكون الله خصيمه يوم القيامة.
فهذا الرجل الذي باع الحر وأكل ثمنه الله عز وجل خصمه.
سبحان الله! أفمثل هذا يقاتل، إنهم -أي: العرب- فعلوا مثل ما قال قوم لوط: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل:56] لماذا؟ ما ذنبهم؟ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56] (فقال لـ
وفي كتاب الشهادات طرف من هذا الحديث عند البخاري أيضاً: قال هرقل لما قال له أبو سفيان : (إنه يأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي) أي: أنه لا يفعل مثل هذا إلا نبي.
وأناس كثيرون دخلوا الدعوة لما نظروا إلى شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: (خرجت أنا وأبي فلقينا كفار قريش، قالوا: إلى أين؟ قلنا: إلى المدينة. فقالوا: لا. إنكم تريدون محمداً. قلنا: لا نريد إلا المدينة. قال: فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه ألا نقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال
وهؤلاء أعداء لكنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه، فلا يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يضع أمر الله تبارك وتعالى، فيقول: هؤلاء أعداء، قال: (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) لذلك قال حذيفة : (فشهدنا بدراً ولم نقاتل) كانوا حاضرين في القتال، وهذا من تعظيم الوفاء بالعهد.
وكان من خبر المغيرة -وهذا هو الشاهد- أنه صحب ثلاثة عشر نفراً من قريش قبل أن يسلم، فشربوا الخمر جميعاً، فقام عليهم المغيرة فقتلهم وسلب أموالهم، وفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقص عليه ذلك. فقال له عليه الصلاة والسلام: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء، إنه أخذ غدراً) ورد المال عليه ولم يأخذه، حتى يترفع عن الدنايا، وأنت تعلم أن الأنبياء أكمل الناس مروءة، فلا يفعلون شيئاً يشينهم عند العوام حتى لو كان مباحاً.
موسى عليه السلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان بنو إسرائيل يغتسلون عرايا، وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً يستحيي أن يُرى شيء من جلده، فكان يغتسل في مكان بعيد، فقالوا: ما الذي يجعله أن يغتسل بعيداً عنا. إنه آدر) آدر: يعني: لديه عيب في الخصية؛ ولذلك هو لا يريد أن ينكشف أمامنا، فكونهم يغتسلون عرايا ولا ينكر عليهم موسى عليه السلام دل على أن هذا كان مباحاً عندهم، ولكنه ليس من المكارم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حييٌ ستير، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)، ولما قال له بعض الصحابة: (إنني أكون وحدي فأكشف عن فخذي، قال: إن الله أحق أن تستحيي منه) فهذا وإن كان مباحاً لكنه ليس من مكارم الأخلاق، لذلك عافه موسى عليه السلام ولم يفعله، وكان يغتسل وحده بعيداً حتى اتهموه بهذه الفرية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوضع موسى عليه السلام ثوبه يوماً على حجر ونزل يغتسل كالعادة، فأخذ الحجر ثوبه وفر، فلما رأى موسى عليه السلام أن الحجر أخذ ملابسه، انطلق يجري خلف الحجر وهو ينادي عليه يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر -أي: هات ثوبي أيها الحجر- فمر موسى عارياً يجري خلف الحجر، فمر على بني إسرائيل وهم يغتسلون عرايا فرأوه، فقالوا: ما بالرجل من بأس -أي: هذا الذي رميناه به ليس فيه-) وقد ذكر الله ذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
فترك الغدر فضيلة، وأفضل منه الوفاء بالعهد؛ لأن الوفاء بالعهد فيه ترك الغدر أيضاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدر، ويأمر أصحابه أن يتركوا الغدر كما في حديث بريدة رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً -يعني في غزة من الغزوات- يوصيه في خاصة نفسه بتقوى الله، ويقول: اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تقتلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا) كان كلما أمر أميراً يوصيه بترك الغدر؛ لأن ترك الغدر يخضع له القلب، وأنت رجل رأس في محل الأسوة، فقبيح جداً بالرأس أن يكون غداراً كذاباً.
وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند حسن من حديث عائشة رضي الله عنها: (أنه اشترى بعيراً من أعرابي بأوسق من تمر الذخيرة -أي: عجوة- وقال: يا أيها الأعرابي! إني مشترٍ منك هذا الجمل، ثم دخل البيت يبحث عن تمر فلم يجد، فخرج الأعرابي، وقال: يا أعرابي! إنني ظننت أن في البيت تمراً من تمر الذخيرة لكني لم أجد، فقال الأعرابي: وا غدراه! -(وا غدراه)! يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالغدر- فزجره الصحابة: ويلك! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليغدر -الرجل أيضاً لا زال يتكلم: وا غدراه!- والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إني ظننت أن عندي تمراً -يعني: إنما قال ذلك ظناً منه- قالت
وفي هذا درس لكل رأس، وعلى وجه الخصوص الذين يوقعون في الأرض عن الله ورسوله: العلماء والدعاة هم أحوج الناس إلى هذه الوصية، تقول عائشة : (فلما رأى أن الرجل لا يفقه ما يقول سأل
والنبي عليه الصلاة والسلام أبعد الناس عن الغدر، وهذه كانت سيرته، بل كان سيد الأوفياء عليه الصلاة والسلام، فورث منه ذلك أصحابه، فلله در أبي بكر صديق الأمة كما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر قال: (لما جاء
لا ترم الناس بقلة الوفاء أيها الرامي، فلربما كنت تتقلب في ثياب الغدر، ولربما كنت أغدر الناس: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] والأيام دول.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم) الذي يقول: كل الناس غدارين، كل الناس كفار، كل الناس فسقة.. هو أفسق الناس، وهو أضل الناس؛ لأنه لا يعلم أقدار الخلق، من الذي جعله حاكماً بهذا في الشمول والعموم على خلق الله؟!! أتخذ عند الله عهداً، أم أطلعه الله على الغيب؟!! هذا نوع من الافتراء وعدم معرفة قدر النفس، لهذا عوقب بأنه أهلك الناس: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم). وقد ثبت في الصحيحين (أن موسى عليه السلام وقف في بني إسرائيل مذكراً فوعظ موعظة ذرفت منها العيون، ورقت لها القلوب، فلما قضى موعظته انطلق فانطلق خلفه رجل، فقال: يا رسول الله! هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال له: لا) مع أنه أحال الحكم إلى موسى، يقول له: هل تعلم أنت في حدود علمك أن هناك من هو أعلم منك؟ قال: لا. ولو سئل المرء عن معرفته فقال: لا. فقد وقف عند ما علم، وقد أفلح من وقف عند ما علم، لكنها من نبي الله كبيرة؛ إذ أنه موصول بالسماء، ولا يتكلم إلا بأمر ربه، فعاتبه الله عز وجل لأنه لم يرد العلم إليه؛ فقال: (بلى. إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال: أي رب! كيف لي به؟) ثم قص النبي صلى الله عليه وسلم علينا قصة موسى والخضر.
فالرجل الذي يقول: هلك الناس، أو فسق الناس، أو كفر الناس، أو الناس كلهم مبتدعة، فقد جاء حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم).
الوفاء بعقد النكاح من شيم النبلاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال في آخر وصاياه: (استوصوا بالنساء خيراً -وفي اللفظ الآخر: اتقوا الله في النساء- فإنكم أخذتموهن بكلمة الله).
انظر إلى موسى عليه السلام: قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [القصص:28] رجل يعرض ابنته، وبعض ضعاف العقول والقلوب يتصور أن الرجل لو عرض ابنته أنه يرميها، أو أن البنت رخيصة، فلذلك نقول لهذا العارض: انتقي من تعرض عليه، إن اللئام في الدنيا كثير، فأول ما يعرض ابنته يتصور هذا الزوج أن الوالد رماها، أو لعله يعيره بهذا العرض مع أنه لا يعير به، لكن صالح مدين انتقى واختار رجل يفر من فرعون، وعليه علامات الصلاح والتقوى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27].
إذاً: أنت عندما تذهب لتخطب امرأة من أبيها إنما أخذتها بكلمة الله، أي: أن الرجل عندما يخطب البنت ويقول له: يا عم، وأنا تحت أمرك! ولما يتزوجها لا يقول هذا.. لماذا؟ هل أنت عندما أخذت المرأة من أبيها كان من ضمن ما ظهر منك أنك تسب وتجزع أو أنك تعاشرها بالمعروف؟! هذا لون من ألوان الغدر والخيانة.
ولون من ألوان الغدر أيضاً: أن يأمل فيك الناس فلا يرونك حيث أملوا فيك، كأن يتمنى مثلاً والد العروس يتمنى أن هذا الولد يكون مثل ابنه مثلاً، فإذا بزوج البنت يخذله، وكلما وقع الرجل في ورطة لا يجد زوج البنت بجانبه، مع أنه لما تقدم للبنت أظهر أنه صاحب مروءة، هذا لون من ألوان الغدر، ينبغي على الإنسان العاقل اللبيب أن يترفع عنه.
وقد كان من السلف إذا أمل الناس فيه أملاً فلم يجدوه عندهم يبكون، كـسفيان بن عيينة رحمه الله: جاءه سائل يسأل فلم يجد عنده، فلما انطلق السائل بكى سفيان ، فقيل له: ما يبكيك وأنت ما قصرت؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل فلا يجد أمله! يرى أن هذه مصيبة.
هنا درس في الوفاء لنتعلمه من بيت إبراهيم عليه السلام:
إبراهيم عليه السلام مدحه الله تعالى في آيات كثيرة، قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120]، وقال تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، وقال تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، وقال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] كل هذه أوصاف إبراهيم عليه السلام، ولا أعلم أن الله تبارك وتعالى جعل الأسوة مفعولة إلا فيه وفي نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لشمول فعله، أي: إبراهيم عليه السلام نحن نعلم شيئاً عن أسرته وحياته، ونبينا عليه الصلاة والسلام نعلم كل شيء عنه، فلا تتم الأسوة إلا إذا كانت جوانب حياة المتأسى به مضيئة، بحيث يتأسى به الناس على اختلاف مشاربهم، فلا يتأسى به في العقيدة مثلاً أو في الجهاد أو في الصبر.. فقط؛ بل في شتى مجالات الحياة.
ونحن لا نعلم هذا إلا لنبينا عليه الصلاة والسلام، ففي أي جانب من جوانب الحياة، مثلاً في المزاح: فالنبي عليه الصلاة والسلام سن لنا سنناً، بل قد علمنا كيف نقضي حاجتنا.
أنت تمد يدك أمام صاحبك وتأكل أكله أو تأكل من أمامه، فهذا من قلة المروءة، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن القران في التمر، أي: أن تأخذ تمرتين بتمرتين.
وفي ذات مرة قال سليمان بن عبد الملك لبوابه: التمس لي أحداً يتغدى معي ونتفكه معه قليلاً.
والأعراب رغم أنهم جفاة إلا أن لهم لفتات جميلة، فيمكن أن ينادمك بأبيات من الشعر، وبحكايات... وغيرها.
فجاء بأعرابي ووضعوا خروفاً محشواً بالفستق واللوز، فوضعه أمام الأعرابي وجعل يأكل، وكانت هناك شعرة على الخروف، فأخذها الأعرابي، فقال له سليمان : استل الشعرة من اللقمة، فوضع الأعرابي اللقمة على المائدة، وقال له: إنك لتراقبني مراقبة من يرى الشعر.. -أي: أن تركيزك علي لدرجة أنك ترى الشعرة!
وهو لم يكن يقصد أن يراقبه أبداً، ولكن غرضه أن يزيل الشعرة من الطعام-
فقال الأعرابي: والله لا آكلتك بعد اليوم أبداً، فقام وذهب.
فهذه مسألة تتعلق بالمروءات، والنبي عليه الصلاة والسلام لما علمنا آداب المزاح، وآداب الأكل والشرب وغيرها من الآداب.. لماذا؟ حتى تتم مروءة الرجل، ويكون شديد الاحتشام.
وما يروون عنه صلى الله عليه وسلم أنه لقي امرأة، فقال لها: (الحقي بزوجك فإن في عينيه بياضاً) -البياض في العين يعني العمى، قال تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84] (ابيضت) أي: صارت كلها بيضاء، وأنت تعلم أن الحدقة التي يرى الإنسان بها تجدها ملونة وليست بيضاء، فأول ما تبيضّ فهذا دليل العمى.
فقال لها: (الحقي بزوجك فإن في عينيه بياضاً فحزنت لذلك فلما جاءت زوجها قال لها: مالك؟ فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! إني ألفيته يرى -ليس أعمى وما به شيء- قال: أوليس في عينيه بياض؟) نعم! في عينيه بياض، والمرأة فهمت أنه عمي، وهو صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً.
وقال لامرأة عجوز: (لا تدخل الجنة عجوز؟ فجعلت المرأة تبكي، فقال: إن الله تبارك وتعالى خلقهم يوم عُرباً أتراباً) وأهل الجنة أبناء ثلاثين سنة -كما ورد في الحديث- لا يهرمون ولا يشيخون.
فهذا مزاح النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر مثلاً -الذي هو آخر ضرب من مشكاة النبوة- كان يقول لجارة له: ( خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام؛ فكانت تبكي، فقال لها: خالق الكرام واللئام واحد ) فهي ظنت أن خالق اللئام خلقها إذاً: هي لئيمة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام سن لنا ذلك؛ رعاية لمقصد شرعي، وهو عدم الوقوع في الكذب، ورعاية لمقصد آخر، وهو: استتمام المروءة؛ لأن المرء الذي يكذب، ويتحرى الكذب، ويضحك الناس بالكذب؛ ساقط المروءة لا حشمة له، والذين يقولون: ساعة لربك وساعة لقلبك لا حشمة لهم، وكذلك كل الممثلين والذين يضحكون الناس بالحركات الساقطة لا حشمة لهم أيضاً.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من أكثر من ذكر شيء عرف به) فنبينا عليه الصلاة والسلام محل الأسوة، فكل جانب من جوانب حياته مكشوف لنا.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر