أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
فدرسنا في هذا المساء بعنوان: (حصوننا مهددة من الداخل).
وأفتتح هذه المحاضرة بقول الله عز وجل: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32] نور الله عز وجل هو الذكر، قرآناً وسنة (يريدون أن يطفئوا نور الله) أي: حجة الله عز وجل على الخلق (بأفواههم) أي: بما يثيرونه من شبهات حول هذا الذكر، فالقرآن الكريم من جهة ثبوته لا يمتري أحد فيه، ولو شك أحد في ثبوت القرآن الكريم فهو كافر بإجماع المسلمين.
بقيت السنة من جهة الثبوت، فهناك المتواتر الذي أجمع العلماء على أن منكره كافر، لكن هذا المتواتر لا يشكل إلا قدراً يسيراً جداً بالنسبة لمجموع الأحاديث التي ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فدخلوا من هذا الباب الواسع، المتواتر لا يشكل (1 %) بالنسبة لمجموع الأحاديث التي صحت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
العبث بهذا الصرح العظيم من أناس جهلة أتيحت لهم الفرصة أن يتكلموا باسم الحياز والنقاش العلمي، فبدءوا يعيثون في الأرض فساداً، ومنهم هذا البيطري الغلام الذي نشر كتاباً قبل ذلك سماه: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب ، هذا الكتاب لا يساوي شيئاً بجانب الكتاب الذي نشره بعنوان: تبصير الأمة بحقيقة السنة ، ويقول: إن هذا هو الجزء الأول من ثلاثة أجزاء.
الرجل ينشر فيه جهله وضلاله على الأمة، ويقول في افتتاح هذا الكتاب: إن علماء المسلمين جميعاً لا يستثني واحداً، من أيام سعيد بن المسيب ، تتابعوا يقلد بعضهم بعضاً، ويسلمون بأقوال ليست بحجة حتى أقامه الله ليقيم الحجة للمسلمين، وليبين ضلال الألوف المؤلفة من العلماء الذين مضوا على توالي هذه القرون، وقلد بعضهم بعضاً بلا روية وبلا أي فهم. فهذا افتتاح الكتاب.
وهذا الافتتاح ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم).
رجل يدعي أنه وحده على الهدى، فالعدل والأقرب إلى سواء الصراط أن يكون هو الهالك، إذ إن الباطل أقرب من الواحد وأبعد عن الجماعة، لاسيما إذا مضت القرون الفاضلة بمثل هذا الفهم، فيأتي هذا ليعبث بهذا الصرح، صحيح أنه لا يضر السحاب نبح الكلاب، لكن بكل أسف هناك من ينطوي تحت لواء أهل السنة والجماعة ولا يفهم شيئاً عن مذهبهم، وهذه المحاضرات التي نبثها في كل مكان إنما هي حماية ووقاية لأمثال هؤلاء، وهم يشكلون سواداً عظيماً بين صفوف المسلمين.
العناوين تشد انتباه الغالب الأعم، لأن أكثر الناس لا يقرءون، لذلك اختيار العناوين البراقة أحد أساليب خطف القلوب، يعني: هذا البيطري الغلام صاحب الكتاب، لما قام المسلمون العلماء وهاجموا هذا الهراء والخبل والخطل الذي نشره باسم العلم.
فقال: أنتم اكتفيتم بقراءة عنوان كتابي ما قرأتم الكتاب، ويحتج بمثل هذا، يقول: لا بد من قراءة الكتاب، فلا تحكموا على الكتاب من هذا العنوان، نقول: من ينشر كتاباً بعنوان: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب ، فماذا تريدني أن أقرأ؟! قد لخصت كل الكتاب في العنوان (تحريم النقاب) كان لو وضع عنواناً موهماً مثل رسالة للجلال السيوطي سماها: إسبال الكساء على النساء، أنت عندما تسمع العنوان تظن أن موضوع الكتاب هو الحجاب، مع أن هذا الكتاب يتكلم عن النساء: هل يرين الله في الآخرة أم لا؟ الموضوع بعيد جداً، الموضوع لا علاقة له بعنوان الكتاب (إسبال الكساء على النساء) أنت تتصور أنه يتكلم في الحجاب والنقاب وهو يتكلم عن القضية المختلف فيها بين العلماء: هل النساء يرين الله عز وجل في الآخرة أم لا؟
والصواب الراجح الذي لا محيد عنه أنهن يرين الله أيضاً كالرجال.
فهذا عنوان موهم، فمثله يمكن أن تقول: أنت لا تحكم على الكتاب حتى تقرأ مضمونه.
لكن إذا قال: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب)، فقد فصل في القضية، فلو كتب رجل كتاباً وسماه مثلاً: غاية المنى بتحريم الزواج واستحباب الزنا، تريدوني أن أقرأ الكتاب! لو أنني هاجمت هذا الكتاب وقلت: هو دعوة للفجور والفحش، يأتي يتوجع ويقول: لم يقرأ كتابي! هذا عنوان واضح جداً، و(العناوين أنساب الكتب) كما يقال.
فعندما يأتي هذا الرجل ويدخل على السنة النبوية، هذا الصرح الشامخ الذي تحمَّل كل ضربات المبتدعة وما زال شامخاً، لأنه تتمة الذكر: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، علماء المسلمين أجمعوا على أن المقصود بالذكر في هذه الآية هو القرآن والسنة، إذ لو جاز أن يضيع البيان لم ننتفع بالمجمل، (أقيموا الصلاة) هذا إجمال، (آتوا الزكاة) هذا إجمال، بيان الأنصبة، بيان تنوع الزكوات، بيان الركعات والسجدات، ما يقال في الركوع وما يقال في السجود، كل هذا حفظته السنة، فلو جاز أن يضيع هذا البيان لضاع كثير من أحكام القرآن والإسلام.
إذا أراد رجل أن يكتب في مقارنة الأديان أو في المذاهب يقول له: لابد أن تتجرد من كونك مسلماً؛ لأنك إذا كتبت عن الفرق الأخرى، أو عن الديانات الأخرى، أو الشرائع الأخرى وأنت مسلم ستنحاز إلى دينك، وإلى مذهبك، فهذا يضللك عن الوصول إلى الحق بحياد، كيف تكون محايداً لا تكن منتمياً.
وظن البسطاء الذين وقفوا على عتبات طلب العلم أن هذا حق، وأنه ينبغي فعلاً أن يكون الإنسان محايداً، ويأتون بالأدلة العامة، العدل في الغضب والرضا، والعدل مع الخصوم ومع غير الخصوم، سبحان الله! أعداؤنا هل يتعاملون معنا بهذا الحياد؟! لا يتعاملون بهذا الحياد أبداً.
قيل للإمام أحمد : -وقد تكلم في بعض المبتدعة- هلا سكت؟! قال: وهل سكتوا حتى أسكت؟!! أي: ماداموا هم يتكلمون فأنا لا أسكت أبداً، والكلام في أهل البدع من أعظم الجهاد لاسيما في هذا الزمان، لاسيما إذا كانت البدعة قبيحة منتشرة، مع هذا الفقر المدقع الذي يعاني منه جماهير المسلمين، أعني: فقر العلم.
نشر الرجل الكتاب وكتب على آخره: حصل على بكالوريوس في الطب البيطري سنة كذا، وبعد ذلك عين فوراً معيداً، وموضوع فوق (فوراً) نقطتين، كأنه هو الذي أنقذ الحيوانات والبهائم! ها هو كل المعيدين يعينوا فوراً ما الإشكال؟ وضع (فوراً) بنقطتين حتى لا تفور، وبعد أن حضر الماجستير أخذ وعين مدرساً مساعداً، وحتى ترقى إلى حد أستاذ، وبعد ذلك رئيس قسم، وبعد ذلك رئيس لجنة السموم الثلاثية، وبعد ذلك رئيس قسم ... إلخ، أخذ نصف الصفحة في نياشين يشاركه فيها أي واحد وصل إلى درجة الأستاذية في الجامعة، لأنه يمر بهذه المراحل كلها.
لكن الناس عندهم اغترار بالألقاب والنياشين، فمثلاً: شخص يريد أن يكشف عن مرض في جسده، فيبحث عن دكتور، فيذهب لدكتور له اسم طويل عريض وتحته خمس سطور: زميل هيكل الجراحين.. وزميل مشارك.. وصديق.., وخمسة سطور، فهذا هو الممتاز، يدخل هذا زميل الجراحين في كذا وكذا وكذا.. والأمر أسهل من هذا، لكن الناس أسرع لهذه النياشين والألقاب، ولا مانع من أن يكتب نصف الصفحة حتى وصل إلى اللجنة الثلاثية في السموم.
لكن ما هي المؤهلات الشرعية التي حصل عليها؟! أنت لا تتكلم الآن في الطب، أنت تتكلم في الشرع، فما هي مؤهلاتك في الشرع؟ دبلوم في القراءات من الأزهر الشريف! دكتوراه في الفلسفة! وأخذ في كلية الحقوق! كل هذا أيضاً على حسب النياشين العلمية لا تؤهلك أصلاً أن تتكلم في الشرع. لكن كما قلت لكم الناس أسرع للنياشين، وهذا يذكرني بصاحب القط: يقال أن رجلاً كان له قط أراد بيعه، فجاءه رجل فقال: كم ثمن هذا القط؟ قال: كذا درهم، فتركه وجاء آخر فقال: كم ثمن هذا الهر؟ ثم تركه، وجاء ثالث فقال: كم قيمة هذا السنور؟ ثم تركه، وجاء رابع وخامس وكل واحد يذكر له اسماً ثم لا يشتريه، فرمى به وقال: قاتلك الله، ما أكثر أسماءك وأقل غناءك!
أسماء كثيرة ونياشين بمقدار نصف صفحة كاملة، لكن ما أقل غناءها! هذه لا تعطيه علماً ولا أدباً عندما يتكلم عن أبي هريرة ، يقول: أبو هريرة كان من المصائب التي ابتلي بها المسلمون، وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بحسن نية بلا شك! ولم يكن عنده فقه ولا دراية! لذلك كان ينقل الأحاديث التي تهدم الدين ولا يدري، إذ لو كان يدري ما رواها أصلاً، لمز أبا هريرة في أكثر من عشرين موضعاً في الكتاب.
أما الإمام البخاري فمسح به الأرض، قال: إن البخاري رجل طيب، (يعني: مغفلاً) ينقل الأحاديث؛ لكن لم يكن له دراية بعلم الحديث، البخاري! يعني: لو جاء رجل وقال سيبويه والكسائي وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد والأخفش الصغير والكبير لا يعرفون أن الفاعل مرفوع بالضمة لرجموه بالحجارة، سيبويه لا يعرف أن الفاعل مرفوع بالضمة! عندما يقول للبخاري : الرجل طيب، أي: المغفل، ولم يكن له دراية بعلم الحديث، البخاري الذي وضع أصول هذا العلم مع العلماء الجهابذة الكبار لم يكن له دراية! تصور عندما يمشي الكتاب كله على هذه الوتيرة!
وتكلم عن الصحابة والتابعين كلاماً سخيفاً جداً، كل هذا بدعوى الحياد العلمي ومنهجية: لا نجامل أحداً أصلاً، الكل أمام الحق سواء، بدءاً من أبي بكر إلى آخر شخص، نعاملهم على أساس أن الدماء متكافئة، ومشى بهذه الصورة في الكتاب كله، وسنعرض بعض النماذج، وأنا اتخذت هذا العرض صورة لتجسيد المحنة التي نعيشها الآن، ثم كيف الخلاص من هذه المحنة؟!
وهذا كلام حق، فالسند صحيح مالك عن نافع عن ابن عمر ، لكن المتن ما له قيمة.
بدأ يدخل ويهدم في السنة من خلال هذا القول، أخذ كلام الكبار وتكلم به بغير دراية ولا روي، فاضطره ذلك إلى مساورة جبال الحفظ والأئمة الثقات الفحول، وظن أنه رجل مثل هؤلاء الكبار فساورهم، ونقول: لا. ليس كل ذكر رجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ [الأحزاب:23] وليس من المؤمنين ذكور، هناك ذكران الإناث أفضل منهم، لكن لا تكون المرأة أفضل أبداً من الرجل، لكن ممكن تكون أفضل من الذكر.
وهذا ذكرني بقصة ظريفة: أن رجلاً ينتحل لبس رجل آخر ويظن أنه صار مثله، أو يتكلم باصطلاحه ويظن أنه صار مثله، هذه القصة ذكرها أهل الأدب منهم صاحب الأغاني عن شاعر من طبقة الشعراء الصعاليك في الجاهلية، وهو من أشهر ثلاثة منهم، وشعره أكثر الشعر دوراناً في الكتب لهذه الطبقة، طبقة الشعراء الصعاليك، واسمه: ثابت بن جابر ولقبه: تأبط شراً , معروف في الكتب بـتأبط شراً ، قال تأبط شراً ثم يذكرون أبياته.. اسمه غير معروف.
ولماذا قيل تأبط شراً ؟ حكايات، منها أنه وجد الغول -حكاية- على هيئة خروف، فوضع الغول تحت إبطه، وذهب إلى أهله فقالوا: ما لك يا ثابت ؟ ما هذا؟ هذا الغول، لقد تأبطت شراً، فقالوا: تأبط شراً ومضى هذا اللقب والتصق به.
فهذا تأبط شراً كان دميماً ونحيفاً، فقابله رجل ثقفي فقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت دميم وضئيل؟ قال: باسمي، ساعة ألقى الرجل أقول له: أنا تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه ما أريد، قال: بهذا فقط؟ قال: ليس أكثر من هذا.
ففكر الثقفي قليلاً ثم قال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بكم تشتريه؟ قال: بهذه الحلة الجيدة -كان لابساً قميصاً جديداً- وبكنيتي، أعطيك كنيتي على البيعة كذا، وأعطيك هذه الحلة الجيدة، قال: موافق، اخلع، أخذ منه الحلة وقال له: أنت فلان، قال له: وأنت إذاً تأبط شراً ، والرجل الثقفي كان يكنى أبا وهب ، قال له: أنت تأبط شراً وأنا أبو وهب !
فـتأبط شراً أرسل إلى زوجة هذا الثقفي الأحمق ثلاثة أبيات من الشعر، قال فيها:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلهـا تأبط شراً واكتنيت أبا وهب
فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب
وأين له بأس كبأسـي وثورتي وأين له في كل فادحة قلبي
نعم. هو أخذ الاسم، لكن هل أخذ قلبي وجرأة جناني، وثباتي على الأحداث؟ هل أخذ جلدي؟ ما أخذها، أهو أبو وهب هذا الجبان الذي لبس جلد السبع، إذا قابل رجلاً وأراد أن يخوفه، يقول له: أنا تأبط شراً.. وقلبه ضعيف؟! صحيح إنه لابس جلد سبع، لكن قلبه ضعيف، فـتأبط شراً أعطاه الاسم فقط، لكن بقي قلبه القوي.
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب
فهذا الرجل بمجرد أنه تصور أن صحة السند تستلزم صحة المتن ظن أنه صار كـأبي حاتم الرازي ، أو كـأبي زرعة الرازي ، أو صار كالإمام البخاري ، أو الإمام مسلم ، لا.
فدع عنك الكتابة لست منها ولو لطخت وجهك بالمداد
لو كب على نفسه دواة حبر سنقول له: اذهب اشتغل بأي شيء إلا الكتابة، فالرجل بمجرد أنه قرأ كتاباً في المصطلح ظن أنه يستطيع أن يساور جبال الحفظ وأئمة الدين والورع، هيهات هيهات!!
هذه العلوم تحتاج إلى ملكة، وحتى صحة السند تستلزم صحة المتن أيضاً.
امرأة كتبت كتاباً: هل النساء أكثر أهل النار؟ فمعترضة, تقول: لا. ليس النساء أكثر أهل النار، هي تدافع عن حرية المرأة وحقوقها، فمن ضمن حقوق المرأة أنها تدخل الجنة حتماً.
من الذي صنع القنبلة الذرية في هيروشيما؟ ومن يصنع الأسلحة الفتاكة، وأسلحة الدمار الشامل، وصواريخ عابرات القارات، والذي يدمر الدنيا؟ ومن الذي أقام الحروب وحرق.. إلخ أليس الرجال؟ هم الذي ينبغي أن يكونوا أكثر أهل النار، لا اللاتي يقطعن الثوم والبصل، وهن مساكين ومكسورات الجناح، فلا يجتمع عليهن عذاب في الدنيا والآخرة! الذي يدخل النار هو الذي أفسد فقتل العباد وخرب البلاد.
يا امرأة! ماذا تفعلين بحديث البخاري؟ قالت لك: ابن الجوزي قال: صحة السند لا تستلزم صحة المتن، أنت أيضاً تقولين الكلام هذا؟! صحة السند لا تستلزم صحة المتن؟! سبحان الله! يعني:
لو كان سهماً واحداً لاتقيتـه ولكنه سهم وثان وثالث
نقول: نعم. لكن عقلك أو عقل فلان أو عقل أبي إردان الذي نحن نرد عليه الآن.
لكن عندما تختلف كل هذه العقول أليس من اللازم وجود حاكم يرجعون إليه عند التنازع، أليس كذلك؟ ألا يكون هذا العقل الحاكم هو عقل الرسول عليه الصلاة والسلام؟! لو نحن تكلمنا بهذا المستوى، أليس هو الذي ينبغي أن نرجع إليه في التحاكم؟
هذا اختلف! وهذا اختلف! وهذا اختلف! وكقضبان القطار خطان متوازيان، إذاً ماذا نفعل؟ أليس يوجد عقل ثالث يحكم بينهم؟ حتى في القضاء والقوانين يقولون: السلطة القضائية للفصل بين السلطات، السلطة هذه اختلفت وهذه اختلفت وهذه اختلفت، يقول لك: القضاء لا يعرف لمن يحكم، لا بد أن يرجع إلى عقل في النهاية تجتمع عليه كل هذه العقول.
فهي تقول: هذا الحديث مخالف للعقل، طيب أين الخلاف فيه؟ تقول لك: إن حديث البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في يوم عيد، فذكر النساء ووعظهن، وقال: (يا معشر النساء! تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من سطة النساء، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن، فقلن: نكفر بالله؟ قال: لا. تكفرن العشير -أي الزوج- وتكفرن الإحسان، وإذا أحسن الرجل إليكن الدهر، لقلتن: ما رأينا منك خيراً قط).
ما هو المنافي للعقل هنا؟ تقول لك: الرسول عليه الصلاة والسلام صاحب الأخلاق، يأتي في يوم عيد بدلاً من أن يقول: (كل سنة وأنتم طيبون) يقول: أنتن في جهنم وبئس المصير! أهذا الكلام يعقل!! من صاحب الأخلاق.
رأيت العقل المستوي!!
فتقول لك: لا. وصحة السند لا تستلزم صحة المتن.
ليس أضر على العلوم من دخول غير أهلها فيها، روي أن خالد بن صفوان الخطيب البليغ المشهور، وهذا الرجل كان من أبلغ الناس، فدخل يوماً الحمام، وكانت الحمامات عامة، فجاء رجل من غبراء الناس بابنه إلى الحمام، فرأى ابن صفوان ، فيريد أن يبين لـابن صفوان أنه ليس هو وحده البليغ، فأنا أيضاً بليغ أتكلم العربية بالسليقة، قال: (يا بني! ابدأ بيداك ورجلاك) الباء هذه تجر بلداً، لأنها حرف جر والأصل أن يقول: (يا بني! ابدأ بيديك ورجليك)؛ لكنه يريد يعرفه أنه ليس أنت لوحدك المتفرد بالبلاغة في الدنيا، أنا كذلك موجود: (يا بني! ابدأ بيداك ورجلاك)، ثم التفت إلى خالد كالمتباهي، وقال: يا ابن صفوان هذا كلام قد ذهب أهله، فقال له ابن صفوان : هذا كلام لم يخلق الله له أهلاً قط.
فعندما يدخل من هؤلاء على سيبويه يريد يتلاحن عليه، فأعظم ضرر على العلوم أن يدخل غير أهلها فيها.
شخص قابل رجلاً وكان لحاناً كلما ينطق جملة يقول له: يا أخي! هذا مرفوع، وهذا مكسور، وهذا منصوب، لا يستطيع التكلم معه، كلما تكلم عدله، فجاء الرجل العالم، وطرق عليه الباب وقال: أخوك هنا؟ قال له: لا، لي، لو! أنا لو قلت: لا، ستقول: لي، لو، خذ الثلاثة واختر أحدها. لا لي لو!
وقابل رجل لحان رجلاً آخر لحاناً فقال له: من أين أتيت؟ قال: أتيت من عند (أهلونا)، فقام اللحان الآخر فقال: قاتلك الله ما أفصحك! أنا أعلم من أين أخذتها: (شغلتنا أموالنا وأهلونا)، الرجل يتكلم بالقرآن.
فعندما يدخل هؤلاء في العربية كم من الفساد يحصل أو عندما يدخل هذا البيطري في علوم الدين والحديث والفقه والاستنباط وهو ضعيف الملكة، متخلف النظر فيها، كم يكون من الجناية إذا ترك أمثال هؤلاء؟!
مثلاً الطبيب الذي مر عليه أربعون سنة في المهنة يختلف عن الطبيب الذي معه أعلى دكتوراه في الدنيا ومر عليه عشر سنين فقط، لأن هذا ممارس وعنده من الخبرة أكثر من الذي معه دكتوراه، أحياناً الطبيب ينظر إلى رجل يقول هذا مريض بكذا، أأنت منجم؟ يقول لك: لا. لكن من دربته وممارسته أن لون العين تغير! أن لون الوجه تغير! أن لون الجلد تغير! يقول: هذا عنده المرض الفلاني، ويسلمون له، يسلمون لكل واحد في فنه إلا للشيخ، إذا الشيخ تكلم في الطب يقولون: أنت ما لك والطب؟ وإذا هم دخلوا يهجمون على الشيخ قال: لماذا تهجمون عليّ؟ يقولون: هذا الدين ليس لك، الكهنوتية هذه ليست في الإسلام، الدين للكل.
نعم. الدين للكل اعتقاداً، لكن العلم لطائفة معينة فقط, كما أنك تنكر أن يتكلم غير الأطباء في الطب، أيضاً لابد أن ننكر أن يتكلم غير العلماء في العلم، لكن جدار المشايخ قصير والكل يتسلق عليه ولا صريخ لهم.
يقول فض فوه: هذا الحديث مكذوب بلا شك، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم أبداً، لأنه يعارض القرآن، وأتى بآيات: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6].. لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد:31].. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48].. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22].
طالما أنك لست عليهم بمصيطر لماذا تقاتله؟ أيؤمن غصباً؟ طالما أنك لا تهدي من أحببت أتريد أن تدخله بالغصب؟! وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] لماذا تقاتله؟! لو قدر الله عليه الهداية لاهتدى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، إذاً: (أمرت أن أقاتل الناس..) حديث مكذوب، لماذا تقاتلهم وقد كفل الله حرية العقيدة للناس؟
هل أحد يجيب؟ السواد الأعظم يقف محتاراً يعانون من أمية علمية.
صدق عمر بن الخطاب المحدَّث الملهم قال: ( إن القرآن حمال ذو وجوه، فخذوا أعداء الله بالسنن ) لذلك أرادوا أن يلعبوا في هذا الصرح، لأن الحجة إنما تقوم عليهم بهذا الصرح، فإذا جاز له أن يلعب به ضاعت الحجة، القرآن حمال ذو وجوه، إنما السنة يصعب اللعب فيها.
رجل لم يتكلم إلا ثلاث أو أربع ورقات يقول لك: كما هو مقرر في الأصول! أنا أحس أنه ماسك أعصابه.
سأبين لكم الآن أنه لا يفقه شيئاً في الأصول، وهذا الإشكال هو شبه فقط، والشبه تزول بالبيان، لأنها لا يصح أن تكون دليلاً، إنما هي شبهة.
الناس: لفظ عام يدخل فيه كل الخلق، إن أسماء الجنس المحلاة بالألف واللام تفيد الاستغراق، والاستغراق يفيد العموم، كما لو قلت: حيوان، هذا اسم جنس، تدخل عليه الألف واللام فتكون (الحيوان)، فالألف واللام إما أن تفيد العهد أو تفيد الاستغراق، العهد الذي هو التخصيص، كما لو قلت: يا أيها الرجل قف، يبقى أنت قصدت رجلاً بعينه، فالألف واللام هنا رغم أنها دخلت على كلمة رجل وهي من أسماء الجنس إلا أنها تفيد العهد، لأنك قصدت رجلاً بعينه ولم تقصد كل الرجال.
يا أيها الرجال! هذا يفيد العهد بالنسبة للنساء؛ لأنه خرج منه النساء والحيوانات والأشجار والرمال.. فصار يفيد العهد على جنس الرجال فقط، ويفيد الاستغراق على جنس الرجال الذكور، الألف واللام إما تفيد العهد أو الاستغراق.
لكن كيف أعرف أنها تفيد العهد والاستغراق؟ قال: السياق من المقيدات، فلفظة الناس رغم أنها تفيد العموم إلا أنها مرة تفيد الخصوص ومرة تفيد العموم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس كالإبل المائة، لا ترى فيها راحلة)، يعني أن الناس مثل مائة ناقة، لكن التي تستطيع أن تركبها واحدة فقط، فالناس كثير، لكن الذين تنتفع بهم من الناس أقل القليل، هذا معنى الحديث، فالناس هنا لفظ عام يراد به الخصوص. كما قال الطحاوي في مشكل الآثار.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27] الناس هنا تفيد الخصوص أم العموم؟ تفيد الخصوص، لأن اليهود من الناس والآية لا تخاطبهم، والنصارى من الناس والآية لا تخاطبهم، المجوس بقية الخلق، الآية تخاطب المسلمين فقط، وليس كل المسلمين، فهي لا تخاطب الأطفال ولا المجانين، ولا تخاطب الذين لم يجب عليهم الحج، ومع ذلك فالآية لا تتناولهم: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27] فهذا الصبي الصغير ابن ثلاث سنوات لا يدخل في الآية مع أنه من الناس، إذاً: لفظ الناس وإن كان عاماً لكن يراد به الخصوص.
ما الذي أعلمنا أنه يراد به الخصوص؟ السياق، والسياق من المقيدات.
وقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] لفظ عام يفيد العموم أم يفيد الخصوص؟
يفيد العموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل الخلق، ويدل على ذلك استخدام لفظة: (جميع) وهي من ألفاظ العموم، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] مثل لفظة: كل، ومثل لفظة: معاشر, (إنا معاشر الأنبياء)
وهذه تفيد العموم.
بعد هذا البيان نأتي إلى هذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس) فيدخل فيه المسلمون دخولاً أولياً، لأن الأصل في الأدلة العموم -كما يقول الشاطبي- وليس الخصوص، والأصل في الأدلة الإطلاق وليس التقييد، والأصل في الأدلة عدم النسخ وليس النسخ، يبقى الأصل في الأدلة العموم، فنحن نتعامل مع لفظة (الناس) على أنها من العموم حتى نصل ونرى هذا الرجل كيف فهم هذا الحديث.
(أمرت أن أقاتل الناس) يدخل في الناس المسلمون، هل المسلمون مقصودون بالحديث أن الرسول سيقاتلهم؟ لا. لأنهم مؤمنون، إذاً المسلمون خرجوا من الحديث، فالناس مؤمن وكافر، والمؤمن غير مراد من الحديث لأنه آمن، بل أنت تقاتل به، وهو من جنودك، إذاً ما بقي إلا الكافرون، الكافرون قسمان: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] كلمة (حتى) لفظ لانتهاء الغاية، يعني: سنقاتلكم حتى تدفعوا الجزية، فإذا دفعتم الجزية فلا نقاتلكم.
إذاً: الكافرون قسمان: قسم دفع الجزية وهو صاغر، إذاً هل هو داخل تحت الحديث؟ لا. ليس داخلاً تحت الحديث؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قال: قاتلوا حتى.. فإذا دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فلا يحل لنا قتالهم.
القسم الثاني: المناوئ للدعوة، الذي لا يريد أن يدفع الجزية والذي لا يريدك أن تنشر الإسلام، هذا هو المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وهذا الكلام ليس فيه غموض، ولا يوجد فيه أي إشكال.
ولو أتى الأمر من بابه! لكن علامة أهل البدع أن يحطم كل الرءوس أمامه حتى يبقى هو الوحيد الذي يرجع إليه، يعني: جماعة التكفير قبل أن يكسر الله عز وجل شوكتهم، أول أصل من أصولهم: هم رجال ونحن رجال، وثاني أصل قولهم: هذه طواغيت، أي: لا تحتج بـالشافعي وعندك القرآن والسنة، ربنا سبحانه وتعالى قال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] يقول: يا أخي! أنا من أهل الذكر اسألني، لماذا حجرت أهل الذكر عليك أنت، وجعلت نفسك في موضع الحجة؟! لأني سأعارضه بأقوال الآخرين فيضيع بيانه، وتضيع حجته، فحتى لا أحتج بقول الآخرين فيضيعهم لك الكل، ويدمرهم جميعاً، حتى لا يبقى في الساحة إلا هو.
فأنت إذا أردت أن تحتج بقولهم يقول لك: لا. اجعل من نفسك رجلاً يبحث عن الحق، أنت تعتقد شيئاً ناقشني يا أخي! رأساً برأس، فإن كنت أنا رجلاً عامياً، ما عندي أسلوب في إقامة الحجة، ولا درست.
والله عز وجل لما قال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] أعلمنا أن الناس عالم وجاهل، ولو كان كل الناس علماء فمن يسألون؟
فمعنى: (اسألوا أهل الذكر) أي: أيها الجهلاء اسألوا من هم أعلم منكم، فهذه الآية أثبتت أن هناك عالماً وجاهلاً، فأنا رجل جاهل، يقول لك: لا، لابد أن تستدل بالقرآن والسنة، وإلا فأنت على ضلال.
هذه أول درجة في سلم المبتدعة: أنه لا حجة لأحد، فهو عندما يأتي يناقش يضيع كل العلماء، نقول: العلماء جمعوا بين هذه الأحاديث، فهل من العقل أن هذه الشبهة مرت على علماء المسلمين، وهم كانوا يأتون بشبه لا تخطر على باله ويحلونها؛ خشية أن يتطاول على الناس زمان فتصير الشبهة دليلاً؟! كانوا يقترضون اقتراضات ويقوم العالم فيحل هذه الافتراضات ويرد عليها خشية أن يأتي زمان مع ضعف العلم فيتصورونها أدلة.
ما بقي من الناس إلا صنف واحد من المشركين، الناس إما مؤمن وكافر، فلا خلاف أن المؤمن لا يتناوله الحديث، فما بقي إلا الكافر.
الكافر قسمان: قسم يدفع الجزية وهو صاغر، إذاً هذا لا يحل لنا أن نقاتله بنص الآية، ما بقي إلا الصنف الثاني من الكفار، وهو الذي لا يريد أن يدفع الجزية، ثم هو يناوئني ولا يمكنني من نشر ديني في ربوع بلاده، هذا هو الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث.
ومما يدل على ذلك دلالة أكيدة قوية ما رواه النسائي رحمه الله وأحمد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فلفظة (المشركين) دلتنا على أن لفظة (الناس) خرجت مخرج العموم لكن يراد بها الخصوص، وأفضل ما فسر به الحديث، الحديث نفسه، وأفضل ما فسر به القرآن، القرآن نفسه، وهذا معروف، وإذا لم تجمع ألفاظ الباب لم يظهر لك فقهه، وهذا معروف عند العلماء.
فأي غرابة حتى نعارض بين الآية والحديث: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].
أنا أريد أن أقول له شيئاً: إنك بهذا تقوض دعوتنا وديننا، لأنك ذاهب تدعو وتبني مراكز إسلامية وترسل دعاة ولو شاء الله لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، فاقعد! هذا فيه إبطال للأسباب فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] أنت تهيئ لي مراكز إسلامية وتنفق عليها مليارات لماذا؟ إن ربنا سبحانه وتعالى لو قدر أن الرجل هذا سيؤمن فإنه سيؤمن، وأنت أرح نفسك، وضع رجلاً على رجل، فيئول به هذا الفكر العقيم إلى محو الدعوة إلى الله عز وجل، لماذا؟ لأن فيه آيات تقول: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48].. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:7]، وأما آيات السيف، وأحاديث إقامة قتل المرتدين، كل هذه ينكرونها.
الطابور الخامس من العلمانيين يجادلون في بحث المرتد ويريدون محوه من كتب الفقه، لماذا؟ لأن الله يقول: : لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] وليس الآية في المسلم الذي ارتد أو في الكافر الذي أسلم وأراد أن يرتد أبداً، إن في إقامة الحد على المرتد حفظاً للدين حتى ولو كان ديناً باطلاً، فهو يمنع من التلاعب، فإذا علم النصراني أنه إذا أسلم ثم ارتد قتل فإنه يفكر ألف مرة قبل أن يدخل الدين، لكن إذا كان الباب مفتوحاً يكفر اليوم ويسلم غداً، هذا هو اللعب.
وحكوا مرة أن الضحاك بن مزاحم أحد التابعين، كان له جار نصراني شديد الحب للخمر، فكان الضحاك يعرض عليه الإسلام، فيقوم يقول له: يا ضحاك ! دينكم جميل، وأنا أريد أن أسلم لكن لا أصبر عن الخمر، قال له: أسلم واشرب، فأسلم وقال: جئت مسلماً ونطق بالشهادة، قال له: اسمع، لو شربت الخمر حددناك، وإن ارتددت قتلناك، فاختر واحدة من الاثنتين، أن الباب مفتوح يكفر اليوم ويسلم غداً لضاع الدين كله. فإقامة الحد على المرتد فيه مانع لهذا التلاعب المتصور، الآن يرفعون إلى منع حد المرتد والحرابة وهذه الأشياء كلها، حتى يؤمنوا أنفسهم، يقول كلمة الكفر وهو في مأمن.
ليس بعد البخاري للمرء مذهب
قال لك: هذه هي المشكلة عند المسلمين، يلغي المسلم عقله عند الأسماء اللامعة، ما الحديث الذي كان سبباً في تطاول هذا الغلام على الإمام البخاري؟ حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو هريرة ، قال: (قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة -أو قال تسعة وتسعين امرأة- كلهن تلد غلاماً يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقلها، فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة، ولدت نصف إنسان، قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو قالها -يعني لو قال: إن شاء الله- لكان دركاً لحاجته، ولأخرج الله عز وجل من صلبه مائة فارس يجاهدون في سبيل الله جميعاً).
ما المشكلة إذاً في هذا الحديث؟! يقول لك: (انتبه!) ويضعها بين قوسين، -انتبه من الذي سيأتي- ليلة واحدة تكفي لمجامعة مائة امرأة، (وانتبه جيداً)، ووضعها لك بين قوسين، ثم: هل سليمان يقدر؟
انظر إلى هذا العنين، يظن أن الناس مثله كلهم، انظر الإسفاف في رد كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتهم أبا هريرة أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (بحسن نية) بين قوسين، هذا رقم واحد.
رقم اثنين: يقول لك: وهل يليق بنبي أن يتحدث بمثل هذه المسائل المحرجة على الملأ، وهم كانوا أشد خلق الله حياءً؟!
ثالثاً: هل يجوز أن يفتات على الله؟ يعرف أن النساء يخلفن ذكراناً وإناثاً، ويقول: يا ربنا سآتيهن بشرط أني أريد ذكوراً فقط، مائة ذكر يجاهدون، فهذا افتيات على الله، يعني: الأنبياء الذين أدبهم الله يعملون هذه العملية؟ ولا أريد أن أكثر.
يعني: يكفي أدلة على بطلان الحديث.
فأنتم ترون -أيها الإخوة الكرام- أن هذا الذي ذكره معترض لا يجوز أن يذكره رجل عاقل، ولا يجوز أكثر وأكثر أن يعد دليلاً في الاعتراض، ومعلوم عند العلماء أن الكلام إذا كان له مخرج ومحمل مقبول ينبغي حمله عليه، وإلا فإننا سنرد آيات القرآن الكريم بهذا المنطق، وبهذا الأسلوب، فهذا الاعتراض يرد على كلام الله عز وجل أيضاً، لا يرد على كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولا على كلام أي أحد، لماذا تجتهدون إذاً في التوفيق ما بين الآيات التي ظاهرها التعارض، فهذا الحديث لا إشكال فيه، لكن أتي الرجل من سوء فهمه، وصدق المتنبي عندما قال:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا
وللرد عليه نقول:
أولاً: مسألة أن يأتي نبي مائة امرأة أو ألف امرأة في يوم واحد هذه قضية ما فيها أي إشكال، إذا سلمنا أن النبي معان من الله، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (أوتي النبي صلى الله عليه وسلم قدرة أربعين رجلاً في الجماع)، ثم هل اليوم هو يومنا هذا، ولا زالت كما في الأحاديث الصحيحة الأيام تتناقص، والأحاديث المعروفة بينت أن السنة ستكون كيوم، فهل عنده دليل أن يوم سليمان عليه السلام كان بهذا القصر، ثم إن إتيان المرأة كم يأخذ من الوقت؟ دقيقة، دقيقتين، ثلاث دقائق، أنا أشعر بكثير من الحرج وأنا أتكلم بهذا الكلام؛ لكن اضطررت إلى قوله رفعاً لهذه المغالطة التي ما يكاد يتردى فيها إنسان عاقل، حتى يقول: (انتبه!) ويضعها بين قوسين، إنه هام؛ يقول هذا الكلام السخيف!
لو أن رجلاً عنده القدرة فعلاً على إتيان ألف امرأة لاستطاع أن يأتي ألف امرأة في زماننا هذا، وما يكون عليه أي إشكال فيها.
ثانياً: هل في الحديث أن سليمان عليه السلام جمع الناس وذكر لهم تفاصيل العملية: وأنا سأفعل وسأفعل؟! ليس في الحديث شيء من ذلك، في الحديث أنه قال: (فقال له صاحبه)، فليس في المجلس إلا رجل واحد.
وقد ثبت في البخاري أيضاً أن هذا الصاحب كان ملكاً ولم يكن رجلاً من الإنس.
ثم لو قال لي قائل في هذا المسجد: يا فلان! لماذا تزوجت بامرأتين، وتنوي أن تتزوج الثالثة والرابعة؟ فأقول له: والله يا أخي نحن في حاجة إلى رجال، تزوجت لأنجب من كل امرأة مجموعة يدافعون عن دين الله، أكنت أنا مفتئتاً على الله متألياً عليه؟ لو قلت: أتمنى أن يخرج من صلبي مائة رجل؛ ولأن الدعوة تناط بالرجال، وما تناط الدعوة وجهاد الدعوة بالنساء: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] وهن النساء، المرأة في الجدل والمناظرة لا تستطيع أن تبين ولا تقيم حجة على أحد، ما يقيم الحجة إلا الرجال، لذلك كان منهم العلماء وكان منهم الرسل، وما نعلم أن الله عز وجل أرسل امرأة إلى أهل الأرض، إنما أرسل الرجال، لأنهم أقدر على ذلك، لذلك جعل الله للرجال على النساء درجة، بما فضل الله بعضهم على بعض، وكان هذا من جملة ما فضل الله به الرجال على النساء.
ولو قال لي رجل: لماذا تزوجت؟ قلت: والله أنا أتمنى أن يكون الصف الأول في المسجد أولادي، أأنا إذا قلت هذا أكون افتأت على الله وقلت: يا رب أنا لا أريد إناثاً، إما أن تعطيني رجالاً وإلا فلا، هل أنا قلت هذا الكلام؟ وهل يفهم ذلك من قولي؟ كان له نية صالحة طيبة، يريد مائة فارس يجاهدون في سبيل الله، فقام ذاك النبي الكريم بهذه النية وأتى النساء، وينبغي أن يكون لنا هذه النية في إتيان النساء، وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب العيال ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إني لأكره نفسي على مجامعة النساء، رجاء أن يخرج الله نسمة توحده)، يعني: قد لا يكون له رغبة أن يأتي المرأة، لكن يأتيها بهذه النية، رجاء أن يخرج الله عز وجل من صلبها ومن صلبه نسمة توحد الله عز وجل، ألئن قال هذا النبي الكريم ما قال يقال له: أنت تفتات على الله؟ وأين الافتيات على الله عز وجل في هذا؟
نلعب بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام بمثل هذا الهراء، وهذا السخف، إذا كنا سنتخذ هذا منهجاً علمياً فلن يسلم كتاب الله من ذلك، في كتاب الله آيات أشد إشكالاً من هذا الحديث.
طيب! أين خط الدفاع الأول الذي أنشأناه نحن معاشر الغرباء؟! أنا لا أطالب الذين يمشون في الشارع، أطالب الذين يحضرون المحاضرة معنا، كل رجل يخطط مستقبل أولاده قبل أن يتزوج، بعدما يتزوج وينجب يكون مستقبل الأولاد واقعاً، تدخل لتزور شخصاً تقول: تعال يا محمد! قل لعمك: تريد أن تكون ماذا عندما تكبر؟ قل: أريد أن أكون دكتوراً، فهذا الولد الصغير (ابن أربع سنوات) من أين عرف دكتوراً أو مهندساً؟
الوالد هو الذي نفث في روعه، إذ يقول له: ذاكر .. أريدك أن تكون دكتوراً، كلما تكلم قال: أريدك أن تكون دكتوراً، قبل أن يولد له أماني يتمناها، وقد لا ينجب، وقد لا يتزوج، وقد يموت، لكن على عادة ابن آدم أن أمله أكبر من أجله وأطول.
تراه يحلم حتى وليس عنده مؤهلات؛ وهذا ذكرني بصاحب جرة السمن المتعلقة، رجل فقير يريد أن يتزوج، فهو يحلم بالمال والغنى، فقال: غداً أذهب السوق وأبيع هذه الجرة، وأشتري فراخاً وبطاً وإوزاً، وبعد ذلك أغناماً، وبهائم وعجولاً، ثم أكون أكبر تاجر في البلد، والفلوس تكثر معي، أبني قصراً منيفاً الكل يتمنى يدخله، أي امرأة تتمناني، ثم أذهب وأتزوج أحسن امرأة، وبعد ذلك أنجب ولداً جميلاً، وأعلمه الأدب، ولا أرضى بالحال المائل، إذا عصاني أضرب هكذا، فأخذ العصا فضرب فكسر الجرة، فاق الرجل من حلمه على السمن الذي سقط عليه.
أو رجل يحلم يبني مستقبل نفسه ومستقبل أولاده من لا شيء!!
كم رجل فينا قال: هذا الولد وقف لله، كما قالت امرأة عمران: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي [آل عمران:35] وأنا أسأل هذا السؤال لخواص الإخوة الذين هم مصنفون على كل موائد العالم أنهم إرهابيون، وقضيتهم مطروحة من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، وغرباء مستضعفون يبحثون عن مكان لهم تحت الشمس، ولا يشعرون بهذا الاستضعاف ولا بهذه الغربة، هل خطر ببال أحدهم أن يقول: أنا سأعبد أولادي جميعاً لله، وأوقف واحداً أو اثنين للعلم؟
كم واحداً فينا فكر وعقد النية في إنجاب الولد هكذا، قد تفاجأ أن أقل من واحد في المائة هو الذي فكر، وربى أولاده وساعدته امرأته على الوصول إلى هذا الهدف النبيل.
وأنت أيها الرجل؟ يقول لك: أخرج من الشغل الساعة الثانية، أدخل في شغل إلى آخر الساعة الثانية، لمن يا أخي الكريم؟ اشتغل إلى الساعة الثانية، وعلم أولادك الزهد، وقنع نفسك، ورب أولادك الذين هم رأس مالك، أكبر محن الأولاد وهو الشذوذ والفساد فهي مشكلة مؤجلة.
التقصير في تربية الولد مشكلتها أنها مؤجلة.. إلى أن يكبر الولد ويشتد عوده ولا تستطيع أن تفعل معه شيئاً، فهو مؤجل إلى ما بعد عشر سنين، عشرين سنة.
مشكلة معروضة عليّ من عدة أيام، امرأة ابنتها ذهبت وتزوجت ولداً وغداً عند المأذون، ماذا نعمل يا مأذون؟ قال لها: قولي له: وهبت نفسي لك، ووهبت نفسها وتزوجت، ثم الأم المغفلة والوالد المريض الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً يريدون أن يداروا المسألة، فقاموا وأخذوا غرفة نوم، واستأجروا شقة على حسابهم لهذا الوغد، فلما مرضت البنت وجاءها تسمم حمل، ذهبت أمها تزورها في المستشفى، قابلها الوغد بالسباب، قال: أتيت تأخذي امرأتي! دخلت على ابنتها تبكي عليها لأنها مريضة، تقوم البنت مكشرة في وجه أمها، لماذا؟ أشتمت محمداً ؟ قالت: يا ابنتي لم أشتم أحداً.
ذهبت تزورها فقابلتها بهذا الوجه، وبعد ذلك تقوم من تسمم الحمل -ويا ليتها ماتت- فتبلغ الشرطة عن أمها أنها أخذت غرفة النوم منها بالقوة، من أجل تستلم غرفة النوم، تقوم الأم تأتي وتسأل: هل أعطيها غرفة النوم أم لا؟
أعني أن هذا شيء يفور الدم!! وتأتي أمام العمارة، والأسرة الوادعة التي ما كان أحد يسمع لها صوتاً في العمارة افتضحت، صراخ وعويل، ويأتي الناس كلهم لينظروا، ويغمى على الأم مرات عديدة، فهذه هي الخسارة المؤجلة، أنت تنفق على من؟ تشتغل اثنتي عشرة ساعة في اليوم لمن؟! ربّ أولادك فهم رأس المال.
انظر مطلع السورة، وهذه السورة سورة المستضعفين، أيها المستضعف! تريد أن يُمكن لك، اقرأ سورة القصص: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6] كيف يكون هذا المن يا رب: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7] يبقى التمكين يأتي من الرضاع، لا تترك الولد حتى يكبر وبعد ذلك تقول له: تعال نجعلك شيخاً، أو عالماً:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب
سبحان الله العظيم! عامل ولدك معاملة الشجرة التي تغرسها أمام دارك، أحياناً تمشي أمام دارك، فترى الشجرة التي مازالت عوداً صغيراً مشدودة بحبل، لماذا شددتها بحبل؟
لكي تكبر معتدلة.
لماذا لا تتركها حتى تصير شجرة كبيرة قوية ثم تشدها بجنزير؟
لو أن رجلاً فعل هذا لاستحمقوه، فعامل ولدك معاملة هذه الشجرة، وعدله مادام صغيراً، لا يمكن له أبداً إلا إذا كان على النهج السديد، فهذه السورة أفادت أن الذي يبحث عن التمكين لابد أن يبحث عنه التمكين من وقت الرضاع.
بل أقول: إذا بحثت عن التمكين فابحث عن التمكين من وقت وضع النطفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم أهله، فقال: باسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني، فإن كان بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً) إذاً: من التمكين للولد ألا يضره الشيطان أبداً، هذا هو الذي يمكن له، إذاً: نريد جيلاً يمكن له، فمن وقت وضع النطفة نسمي الله عز وجل.
الآن يا إخوة! المشكلة التي نبعت من محافظة الدقهلية ومن مدينة المنصورة، هذا هو التعاون مع اليهود، وهذا هو أول الغيث.
بنت تطلب رجلاً، هذا هو المطلوب، لماذا لا يكون العكس؟ أن الرجل يطلب امرأة؛ لأن طلب الرجل للمرأة مشكلة، لأن المرأة قد تفضحه، لكن إذا كانت المرأة هي الطالبة انتهت القصة، إذاً: لا فضيحة، وبعد ذلك الرجل ركب فيه الميل الغريزي إلى النساء بطبعه، فإذا وجد امرأة تطلبه انتهى الإشكال، ولذلك استدل العلماء بهذا على عفة يوسف عليه السلام، وعلى طهارة نفسه, عندما تعفف عن امرأة العزيز تحت المقولة القائلة: ظهر المقتضى كلما كان ذلك أرفع.
يوسف عليه السلام تقول له امرأة العزيز: (هيت لك). إياك أن تتصور أن عفة يوسف عليه السلام كانت كعفة أحدنا، أو كانت كعفة الرجل الذي كان في أصحاب الغار عندما قال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال من النساء، فراودتها عن نفسها فأبت، فأصابتها سنة.. إلى آخر الحديث، فقال: فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته، قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
هذا الرجل الذي قام عن المرأة وكان يحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، ووصل إلى بغيته وأمنيته، وبمجرد ما قيل له: اتق الله، قام واقفاً، هذا الرجل عملاق، ومع أنه عملاق فإنه يعتبر قزماً بالنسبة ليوسف عليه السلام؛ لأن الدواعي التي كانت حول فعل يوسف كانت أعظم بكثير من الداعي الذي كان عند الرجل، وأنت خذ الدواعي هذه كلها ثم قارن.
أولاً: يوسف عليه السلام كان شاباً، والشاب يجد من قوة الشبق ما لا يجده الكهل والشيخ، وهو شاب لم يتسر ولم يتزوج، هذا رقم واحد.
ثانياً: ثم هو عبد، والعبد ليس عنده من النخوة ما عند الحر، ثم هو مملوك، والمملوك حريص على إرضاء مالكه، ثم هو غريب، والغريب يفعل في دار الغربة ما لا يفعله الحر المقيم بين أهله وإخوانه، والمثل عندنا يقول: (البلد الذي ما تعرف فيها أحداً اعمل فيها ما بدا لك)؛ لأنه غريب لا أحد يعاتبه، ولا يرعى عين أحد، ثم المرأة جميلة، ثم هي الطالبة فقد أمن من الإحراج، وأمن من الخوف أنها تنزل به العقاب، ثم المرأة ذات سلطان وتهدده، فكان ربما يقول: أنا عملت الذي علي، وقد هددت بأنها ستدخلني السجن، وأنا أعمل ماذا إذاً؟
يقول: أنا تعديت مرحلة الاختيار إلى مرحلة الإكراه، فهي امرأة ذات سلطان وقادرة على إيقاع العقوبة، ولكنه مع ذلك يرفض.
ثم فوق ذلك غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، مع كل هذه الدواعي المتوفرة على الفعل يقول: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] فأين في الناس يوسف عليه السلام؟
فالرجل عنده من الغريزة للمرأة، ولذلك قال عليه السلام قال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف:33] أصبُ من الصبوة، أي: أكون صبياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء، ما رأيت أذهب للب الرجل العاقل منكن) تلعب به وهو العاقل، الرزين الهادئ، الذي عقله يزن بلداً، لكن أمام المرأة صار صبياً، ولذلك تجد المرأة الماكرة تطلب طلباتها في وقت إقبال الرجل، وهو مقبل مرتاح تطلب الذي تريده، (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ): أي يصير الرجل العاقل صبياً وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].
أين خط الدفاع؟ وهذا أول الغيث: (فتن كقطع الليل المظلم) كجسد بلا كرات دم بيضاء تدافع عنه، إذا كنا نحن في محنة من أعظم المحن، فكيف أيها الغرباء -أنتم على وجه الخصوص- لم تتخذوا للأمر عدته، ولم تتأهبوا لهذه المعارك الفاصلة التي ستأتي على كل الجبهات، أين الجنود الذين أعددتموهم لله عز وجل؟ إني أعيذ نفسي وإياكم من قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] في الجحود والنكران وإهمال الدين، وترك نصرته.
أولاً: كانت في حر شديد، وقال المنافقون: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] ، فرد الله عليهم: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81].
ثم كانت الغزوة في وقت طابت فيه الثمار، فكل رجل ينتظر الحصاد، فالناس تريد المقام في زراعتها حتى تحصد.
ثم استقبل النبي صلى الله عليه وسلم سفراً بعيداً ومفازاً، سافر إحدى وعشرين يوماً مشياً على الأقدام في هذا الحر الشديد، فتخلف المنافقون، بل بعض فضلاء الصحابة تخلف، منهم: كعب بن مالك ، وهلال بن أمية الواقفي ، ومرارة بن الربيع ، وأبو خيثمة ، لكن أبو خيثمة كان متزوجاً بامرأتين، كل امرأة تهيئ المقام لـأبي خيثمة ، مهيئة الخيمة ومبردة ماء ومحضرة طعام، فدخل أبو خيثمة ووجد النساء متهيئات، أول ما جلس تذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: بخ بخٍ يا أبا خيثمة ! يعاتب نفسه، أبو خيثمة بين امرأتين حسناوين! وظل ظليل! وماء بارد! ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والشمس، والله ما هذا بالنصر! وقام قال: والله لا أطعم طعام واحدة منكن ولا أشرب شراب واحدة منكن، وجهز نفسه ومشى.
وأبو ذر أبطأ عليه بعيره، ترك البعير ومضى، أخذ الخرج ومضى على رجله، لأن قلبه ممتلئ حماساً، مع أنه ربما كانت الدابة مع مشيتها البطيئة أسرع منه، لكن قلبه شاب.
فكانت الغزوة في غاية الصعوبة، وبدأ بعض المسلمين يتفلت، وتفلت كثير من المنافقين، فأنزل الله هذه الآية تثبيتاً له: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ... [التوبة:40] في هذه الغزوة هو لا يحتاج إليكم، لقد نصره بغير واحد منكم، ما احتاج لكم، كان هو وصاحبه فقط ونصره الله عز وجل، فلو تخليتم عنه في هذه الغزوة فلا عليكم أن تتخلفوا، إلا تنصروه في هذه الغزوة وتقفوا موقف الرجال فلا حاجة لله فيكم: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] فنصره الله عز وجل.
فلا نريد أن ندخل تحت هذه الآية ونتقاعس، لابد من دراسة جدول حياتنا، لماذا خلقنا؟
وهل الخط الذي نمشي فيه خط سديد؟
هل إذا قابلنا الله عز وجل وسألنا عن ديننا سندلي بحجة ونتخلص بعذر، أم سنقف بلا عذر ولا حجة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر