أما بعد:
عيون حمراء تختلف عن العيون الحمراء التي تسهر على الذنوب والمحرمات، فهناك عيونٌ حمراء تتعاطى المخدرات .. عيون حمراء تسهر في المعاكسات .. عيونٌ حمراء بكت لفراق عشيقها أو محبوبها، أو فراق صديقها .. عيونٌ حمراء لكنها لم تبك لله عز وجل، فلن نتكلم عن هذا كله في هذه الليلة، لكن سوف نتكلم هذه الليلة عن عيونٍ حمراء بكت لكنها بكت لله عز وجل، بكت لكن ليس لأجل الدنيا، سوف نتكلم عن أغلى بكاء على وجه هذه الأرض، وأغلى من دمعت عينه، فهي أغلى الدموع، وأغلى البكاء، إنه بكاء النبي عليه الصلاة والسلام.
بكى المصطفى عليه الصلاة والسلام، لكن لمَ بكى؟ وكيف بكى؟ وإن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام أعظم الناس خلقاً، وأكثرهم رحمة، حتى قال أثناء بكائه لما سأله سعد بن عبادة : (أتبكي يا رسول الله؟! قال: نعم. هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) وكان الصحابة والتابعون يبكون، ولكن لا يظهرون بكاءهم، أحدهم عشرون سنة يبكي على وسادته عند زوجته لا تعلم عنه زوجته.
أيوب السختياني رحمه الله كان إذا جلس في المجلس، وغلبته عيناه تظاهر أنه مصاب بالزكام، فإذا غلبته عيناه قام وخرج، حتى لا يعلم عنه أحد.
وكان الشخص منهم يقوم في الصف فتسيل دموعه ولا يعلم الذي بجنبه أنه يبكي، بكاءٌ لله لا لغيره، ولهذا يتفاجئون إذا رأوا غيرهم يبكي، البكاء عندهم بالسر، البكاء بالخلوات.
قال ابن القيم رحمه الله وهو يجمع بين فعل بعض الناس لما يأتيه خبر موت ابنه، أو حبيبه، أو صاحبه فيبتسم، فيقال له: لم تبتسم؟ قال: رضا بقدر الله عز وجل، يقول ابن القيم : إن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم، لِمَ؟ لأنه جمع بين صفتين، صفة الرضا وصفة الرحمة: (وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) .. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فوصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة.
يوماً من الأيام سمع أن ابنة من بناته ماتت، فغسلت، وكفنت، وذهب النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة ليصلي عليها، يقول الصحابي: فرأيته بعد الصلاة جالساً عند قبرها يبكي عليه الصلاة والسلام، فقال للصحابة: (أيكم لم يقارف الليلة؟ -أي: أيكم لم يجامع زوجته الليلة؟- فقام
يقول أنس : (ذهبنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنه
انظروا إلى قلبه الرحيم عليه الصلاة والسلام، يدخل عليه يوماً من الأيام الأقرع بن حابس ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن والحسين ابني علي ، وكان يحبهما حباً جما، بل كان أحياناً يداعبهما عليه الصلاة والسلام، ويوماً من الأيام كان ساجداً، فرقى الحسن على ظهره عليه الصلاة والسلام، فلم يرفع رأسه من سجوده؛ لأجل أن الحسن قد رقى على ظهره.
فرآه الأقرع يقبل الحسن ، فقال الأقرع بن حابس : (والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) ما فيك رحمة، ماذا أصنع لك؟! وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
ليس فقط لأولاده؛ بل يوماً من الأيام سمع أن سعد بن عبادة يحتضر رضي الله عنه، وهو صحابي جليل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم يزوره، فلما دخل وجد عند سعد بن عبادة أهله، ووجد خدمه، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أقضى -يعني مات- قالوا: لا يا رسول الله!) إلى الآن ما مات، يقول الصحابي: فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يبكي، يبكي على من؟ يبكي على صاحبه الذي يحتضر .. يبكي على أخيه .. يبكي على من يحبه، قال: (فإذا النبي يبكي، فنظر الصحابة إليه، فبكى الصحابة جميعاً حوله -كل الصحابة بكوا وهم ينظرون إلى هذا المنظر- ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله عز وجل لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه) من يجزع .. من يصرخ .. من ينوح .. من يلطم .. هذا الذي يعذب الله عليه، قال: (يعذب بهذا -وأشار بلسانه- أو يرحم، إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) .. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
يوماً من الأيام قرأ آيتين من القرآن، ثم بكى، قرأ قول الله عز وجل على لسان إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36] وقرأ قول الله عز وجل: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فرفع يديه إلى السماء وأخذ يبكي، وقال: (اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، فقال الله لجبريل: يا جبريل! -والله أعلم جل وعلا- اذهب إلى محمد فسله: ما الذي يبكيك؟ فذهب جبريل يسأل النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: أمتي -يبكي على أمته- فرجع جبريل إلى الله عز وجل فأخبره الخبر، فقال الله عز وجل لجبريل: يا جبريل! اذهب إلى محمد فأخبره أنا سنرضيك في أمتك).
أسمعتم بحديث الشفاعة؟
حديث الشفاعة الطويل الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس بعد أن ذهبوا إلى آدم، ونوح، وإلى إبراهيم، وموسى، وعيسى كلٌ منهم يقول: (نفسي نفسي، فيأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فيقول: أنا لها، أنا لها، فيذهب إلى الله عز وجل فيخر ساجداً، فيلهمه الله تسابيح وتحاميد لم يعرفها في الدنيا، ثم يقول الله عز وجل له: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيرفع رأسه إلى الله جل وعلا، فيقول: اللهم أمتي أمتي) ينتظرهم عند الحوض فيأتي أصحابه فيشربون من الحوض، ويستقبلهم محمد عليه الصلاة والسلام، فتأتي الملائكة تذود بعض الناس -تبعد بعضهم- فيقول لهم: ( أصحابي أصحابي -تمنعون أمتي؟- فيقولون له: يا محمد! لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ) بدلوا سنتك، وتجاهلوا شرعك، لم يحكموا بهديك، هجروا سنتك وهديك يا محمد!
لو عاش بيننا اليوم النبي عليه الصلاة والسلام ماذا سيقول؟ وماذا سيفعل؟
هل تعلمون أن بعض الناس من رمضان إلى اليوم ما قرأ القرآن مرةً واحدة، وما ختم القرآن مرةً واحدة؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يشتكي إلى الله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30] يشتكي إلى الله أن أمته هجرت القرآن.
ماذا يصنع النبي عليه الصلاة والسلام لو كان الآن بيننا؟ ماذا يفعل وهو يرى الألف مليون مسلم يحكمون بغير هديه ويستنون بغير سنته، إلا من رحم ربي في هذه الأمة؟
ماذا يصنع اليوم لو يرى في بعض بلاد المسلمين توزع وتباع كتب، ينال فيها من المصطفى عليه الصلاة والسلام؟
يقول عبد الرحمن بن عوف قبل المعركة: غمزني عن يميني شاب صغير فالتفت، فقال لي: يا عم! أين أبو جهل ؟ يسأل عن زعيم الكفر وفرعون هذه الأمة، عن رئيس المعركة والقائد، والقائد لا بد أن يكون بطلاً، لا بد أن يكون في حماية، لا بد أن يتترس بالتروس، وهذا الشاب الصغير، وهذا الغلام يسأل عن زعيم الكفر وفرعون هذه الأمة.
قال: وما شأنك وشأنه يا بني! فقال: يا عم! سمعت أنه -قيل لي- كان يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام -يقول: سمعت أنه سب النبي عليه الصلاة والسلام- قال: فوالله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا.
إما أموت أو يموت، لا نبقى نحن الاثنان على ظهر هذه البسيطة، يموت واحدٌ منا، فأنا لا أعيش، ولا أحيا ولا أبقى في هذه الدنيا، وعلى الأرض يمشي رجلٌ سب النبي عليه الصلاة والسلام، انظر الحب للنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول عبد الرحمن: فتعجبت! يقول: فغمزني شابٌ آخر عن يساري، فقال لي الكلام نفسه. يبحثان عمن؟ عن أبي جهل، يقول: فلما اشتدت المعركة، وكان الشابان خلف عبد الرحمن بن عوف، لا غرض لهما في المعركة إلا أبا جهل، يقول: فلما رأيته في المعركة قلت لهما: هذا صاحبكما، يقول: فانقضا عليه كما ينقض الصقر على الفريسة، هذا يضربه من أمامه، وهذا من خلفه، وهذا على رأسه، وهذا على ظهره، وهذا على كتفه، كل واحد يضربه من جهة، حتى سقط أبو جهل على الأرض وخر صريعاً، فجاءه عبد الله بن مسعود فحز رأسه.
فذهب الغلامان إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل واحدٌ منهما يقول: يا رسول الله! قتلت أبا جهل، ويقول الآخر: بل أنا يا رسول الله! فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بسيفيهما ونظر الدم على السيفين، فقال: (كلاكما قتله) .. لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
تخيل لو كان النبي عليه الصلاة والسلام بيننا الآن، ويرى ماذا يصنع الناس أوقات الكسوف؟
فاليوم بعض الناس يجعل كسوف الشمس وخسوف القمر مظهراً من مظاهر الترفيه والسياحة، فيجلسون يصورون، ويتمتعون وهم يشاهدون الشمس تنكسف، والقمر ينخسف، كأن الأمر متعة، وكأن الأمر ترفيه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يبكي في الصلاة.
يوماً من الأيام كان يمشي مع الصحابة فإذا به ينحاز -يبتعد عن الصحابة- فذهب إلى قبر وجلس عنده وأخذ يبكي عليه الصلاة والسلام، فلما انتهى جاء إلى الصحابة فاستفسروا: لم بكيت يا رسول الله! عند القبر؟ هل تعرفون قبر من هذا؟
إنه قبر أمه عليه الصلاة والسلام، جلس عند قبر أمه وأخذ يبكي، ثم قال: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي) ما أذن الله لي، فهذا دين يا إخوان! الحق حق، والولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين، أمه ما ماتت على الإيمان والتوحيد، قال: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، إن هذه القبور تذكركم الآخرة ألا فزوروها) وهو يبكي عليه الصلاة والسلام. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
يوماً من الأيام كان في الجعرانة ، وكان يوزع اللحم عليه الصلاة والسلام، فجاءت امرأة عجوز تمشي، فلما اقتربت المرأة العجوز نزع النبي صلى الله عليه وسلم لها رداءه، وألقاه على الأرض، فجاءت المرأة العجوز وجلست على الرداء، وجاء لها باللبن والماء والطعام، فقال الصحابة: سبحان الله! من هذه المرأة التي ينـزع النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لأجلها؟ تعرفون من هي؟ إنها مرضعته عليه الصلاة والسلام، حليمة السعدية التي أرضعته.
تخيل! لو كانت أمه حية ماذا كان سيصنع لها؟
إذا كانت مرضعته ينزع رداءه لتجلس عليه ويقرب إليها الطعام والشراب، ويخدمها عليه الصلاة والسلام، فكيف لو كانت أمه حية، ماذا كان سيصنع لها؟
أمه لم تمت على التوحيد، فيجلس عند قبرها يبكي عليه الصلاة والسلام، فتخيل! لو ماتت أمه على التوحيد ماذا كان سيصنع عليه الصلاة والسلام؟ فهو صاحب قلب رحيم، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
فكانت أخلاقه عظيمة حتى إنه تأثر به المشركون من أخلاقه، يقول عبد الله بن سلام : [لما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة -وكان عبد الله يهودياً قبل الإسلام- نظرت في وجهه، فعلمت أن هذا الوجه ليس بوجه كذاب] .. وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
يوماً من الأيام بعد معركة بدر ، بعد أن قتل من قتل من المشركين، وأسر من أسر، جاء النبي عليه الصلاة والسلام فسأل أبا بكر : ماذا نصنع بالأسرى؟ لأنه لم ينـزل فيهم حكم، أو وحي، فالمسألة اجتهاد، قال: يا أبا بكر ! ماذا نصنع بالأسرى؟ قال: نطلب -يا رسول الله!- فداء، هذه أول معركة، وربما نتألف قلوبهم. ثم جاء عمر فقال: يا عمر! ما رأيك؟ قال: نقتلهم يا رسول الله! حتى يعرف الناس هذا الدين، ويضعوا له هيبته، فمال النبي لرأي أبي بكر ، فإذا به يفدي الأسارى، مأسور يأتي أقرباؤه ويدفعن أموالاً فيطلق النبي عليه الصلاة والسلام أسيرهم، حتى جاء الصحابة بامرأة وقالوا: يا رسول الله! هذه المرأة ليس عندها شيء، وتريد أن تخرج زوجها من الأسرى، فقالوا: ما عندها إلا قلادة، فنـزعت المرأة قلادتها، قالت: هذه القلادة أفدي بها زوجي، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام أخذ يبكي، سكت الصحابة، لَمِ يبكي؟ فلما اقتربوا منه يسألونه: يا رسول الله! لم بكيت؟ قال: (والله لقد ذكرتني هذه المرأة بـ
نعم. إنها رحمةٌ في قلب النبي عليه الصلاة والسلام، لقد ذكرته هذه بـخديجة التي طالما دمعت عينه من أجلها، التي كان يبشرها ببيتٍ في الجنة، من قصب لا نصب فيه ولا وصب، لما ماتت ما فرج عن النبي صلى الله عليه وسلم وما سري عنه إلا بالإسراء والمعراج، حتى ينسى ألمه ومصيبته بـخديجة رضي الله عنها، (خيركم خيركم لأهله) أي قلبٍ هذا؟ أي نفسٍ هذه؟ أي رحمةٍ في قلبه؟ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
أرسل الثلاثة إلى المعركة، والرسول عليه الصلاة والسلام كان في المدينة ، وفجأة والنبي عليه الصلاة والسلام عند الصحابة في المدينة، والمسافة بينهم وبين الشام بيعدة، قام النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة فإذا هو يبكي، نزل عليه الوحي، علم ما الذي جرى بالمعركة، الصحابة الآن ينتظرون خبراً، ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام وهو يبكي: (أخذ الراية
يوماً من الأيام كان حبيبه أسامة في معركةٍ من المعارك، فإذا بمشركٍ من المشركين يثخن بالمسلمين الجراح، يقتل المسلمين، ولأنه قوي، قتل فلاناً وفلاناً وفلاناً وجرح المسلمين، فقام له أسامة ، وتصدى له رضي الله عنه، فاقترب أسامة منه، فلما وصل إليه ورفع السيف لقطع رأسه، قال الرجل: لا إله إلا الله، فقتله أسامة ، فـأسامة الأمر واضح والأمر ظاهر عنده، أن الرجل ما قالها إلا ليتخلص من السيف، قتَّل المسلمين، وسفك الدماء، والآن عندما أُريد قتله قال: لا إله إلا الله، فرجع أسامة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ذي القلب الرحيم، فقال له الخبر، فسأله النبي عليه الصلاة والسلام: (أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! ما قالها إلا ليتخلص من السيف، قال: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! ما قالها إلا ليتخلص من السيف، قال: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ -الآن
أرأيت -يا عبد الله!- حبه للناس، ورحمته بالبشر، إذا قال: لا إله إلا الله اتركه ودعه، لا تقل: قالها لأجل السيف، أو تخلصاً من هذا، نقول: نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
سمع أن يهودياً مرض، فزاره ودعاه إلى الإسلام، فلما أسلم الشاب ومات خرج النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه متهلل، يقول: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
يوماً من الأيام بعد معركة بدر ، وقد بكى لأجل تذكره لـخديجة ، وفي اليوم الثاني، يقول عمر بن الخطاب : (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم و
يأتيه بلال رضي الله عنه بالليل فيراه يبكي، فيقول: (لم تبكي يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ -تورمت رجلاه وهو يصلي- قال: يا
عائشة تتأخر عن البيت ليلة من الليالي بعد صلاة العشاء، فلم تأت كعادتها، فإذا به يسألها: يا عائشة ! أين كنتِ؟ قالت: كنت في المسجد يا رسول الله! قال: ماذا تصنعين؟ قالت: كنت أستمع لقراءة أحد أصحابك -أحد الصحابة في المسجد يقرأ القرآن بصوت خاشع، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها وذهب إلى المسجد يستمع القرآن، تقول عائشة : فجلس وأخذ يستمع ويبكي، ويقول: (الحمد لله الذي جعل في أمة محمد أمثال هؤلاء) جلس يبكي وهو يسمع القرآن.
وكان صوت بكائه في الصلاة كالصوت الذي يصدره القدر إذا كان فيه ماء، وأخذ يغلي الماء، فهكذا صوت بكاء النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة، له صوتٌ كأزيز المرجل من البكاء، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
ودخل على أصحابه يوماً من الأيام فرآهم يضحكون، فقال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) يقول: فغطى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رءوسهم ولهم خنين من البكاء.
يوماً من الأيام وأبو بكر خليفة قرب إليه إناء فيه ماءٌ وعسل، فشرب أبو بكر ثم بكى، قالوا: لم تبكي يا أبا بكر ؟! قال: كنت يوماً من الأيام مع النبي عليه الصلاة والسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيديه هكذا وهكذا وقال: (إليك عني إليك عني، فقلت: يا رسول الله! تكلم من؟ قال: تمثلت لي الدنيا فقلت لها: إليك عني إليك عني، فقالت الدنيا للنبي عليه الصلاة والسلام: والله إن نجوت مني فلن ينجو من بعدك) فبكى أبو بكر ، يخشى أن الدنيا تفسده، وهو صديق هذه الأمة. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5].
وكذا عمر ، ففي خلافته لما حج قبّل الحجر، ثم بدأ يبكي رضي الله عنه، وهو فاروق هذه الأمة، في وجهه خطان أسودان من البكاء.
زار أبا الدرداء يوماً، فقال له أبو الدرداء : (يا
ألا يا عين ويحك أسعديني بطول الدمع في ظلم الليالي |
لعلك في القيامة أن تفوزي بخير الدهر في تلك العوالي |
وهذا عمر بن عبد العزيز في يوم من الأيام كان غلاماً صغيراً، فرأته أمه يبكي، تخيل الصبي على أي شيءٍ يبكي، ربما فاتته لعبة، ربما ضُرب، ربما سقط، ربما جاع، فجاءته أمه فقالت له: يا بني! ما الذي يبكيك؟ فقال لأمه: يا أماه! ذكرت الموت فبكيت. وهو غلام، فبكت أمه معه.
يوماً من الأيام خرج إلى المسجد يخطب في الناس، فلما قام واستفتح وأثنى على الله عز وجل، وبدأ الخطبة، فقرأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] فبكى، ثم قال: وما شأن الشمس؟ وهو يبكي، ثم قال: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير:2] وبكى وقال: وما شأن النجوم؟ ثم أخذ يقرأ حتى وصل إلى قول الله عز وجل: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [التكوير:12-13] فعلا بكاؤه فتوقف، وبكى أهل المسجد، يقول الراوي: فارتج المسجد بالبكاء، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].
الربيع بن خثيم رحمه الله، يقول عنه ابن مسعود : [والله لو رآك النبي لأحبك] كان كل ليلة يبكي بكاءً شديداً فقالت له أمه: يا بني! لِمَ كل هذا البكاء؟ لعلك قتلت نفساً -أي: لابد أنك عملت جريمة، أو قتلت إنساناً، فإنه لا يبكي هذا البكاء إلا القاتل- فقال لها: نعم. يا أماه! قتلت نفساً، قالت: يا بني! ومن قتلت؟! قال: يا أماه! قتلت نفسي. رجلٌ صالح .. رجلٌ عابد .. رجلٌ تقي، يقول: يا أماه! قتلت نفسي، دعيني أبكي حتى يرضى الله عني.
يا عاذل الأواب دعه فإنه يطوي على الزفرات غير حشاك |
لو كان قلبك قلبه ما لمته حاشاك مما عنده حاشاك |
واسمع إليهم كيف كانوا يبكون، وانظر إلى أحوالنا في هذا الزمن، وفي هذه الأيام، هل سمعت بـابن سيرين ؟ هذا الرجل كان يضحك في النهار، ويسامر أصحابه ويتحدث، الذي يراه لا يقول: إن هذا الرجل تدمع عينه يوماً من الأيام، فإذا أرخى الليل ستوره، وهدأت الأصوات، وحل الظلام، جلس في مصلاه طوال الليل وهو يبكي، كأنه قتل أهل القرية جميعاً.
نهاري نهار الناس حتى إذا بـدا الليل هزتني إليك المضاجع |
أقضي نهاري بالحديث وبالمنـى ويجمعني والهم بالليل جامع |
ما يبكون أمام الناس، بل بكاؤهم بالليل، وبالخلوات، وبالمصلى، يقوم أحدهم في الصلاة تسيل عيناه ولا يشعر الذي بجنبه، بكاءٌ وإخلاص.
يقولون عن ابن المبارك أنه كان جالساً مع أصحابه يوماً من الأيام فانطفأ السراج، فقام رجل يصلح السراج، فلما أشعل السراج نظروا إلى ابن المبارك فإذا لحيته قد ابتلت بالدموع، قالوا: لم تبكي يرحمك الله؟ قال: تذكرت القبر وظلمته.
ثابت البناني كان يبكي: حتى تختلف أضلاعه من شدة البكاء، ويضيق صدره من شدة البكاء.
إذا ما الليل أظلم كابدوه ويسفر عنهم وهم ركوع |
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع |
لهم تحت الظلام وهم سجـودٌ أنينٌ منه تنفرج الضلوع |
وخرسٌ بالنهار لطول صمـتٍ عليهم من سكينتهم خشوع |
هكذا الصالحون، ترى أحدهم في النهار فتقول: هذا الرجل لا يبكي، فإذا جاء الليل وخلا بنفسه، (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
مالك بن دينار يقرءون عنده قول الله عز وجل: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] فبكى، يقولون: أمن أول آية؟! فواصل الرجل يقرأ حتى إذا وصل إلى قول الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7] اشتد بكاء مالك ، يقولون: حتى سقط على الأرض وأغمي عليه، لم يتحمل سماع هذه الآية.
الفضيل بن عياض عابد الحرمين، يوماً من الأيام قرأ شخص وهو عند باب البيت آية، فسمع بكاؤه ونشيجه من فوق السطوح، بكاء من هذا؟ إنه بكاء أبي علي الفضيل بن عياض ، حيث سمع قوله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ [ق:19].
سفيان الثوري كان يذهب إلى المقبرة ويلف على وجهه ثوباً حتى لا يعرفه أحد، فيجلس بين المقابر ويبكي رحمه الله، ويوماً من الأيام دخل في بيته رجل، وما شعر به، يقول الرجل: ما علم أنني دخلت، يقول: فرأيته جالساً في غرفته، يقرأ قول الله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف:80] فقال سفيان: بلى يا رب! بلى يا رب! أي: أعلم أنك تعلم سرنا ونجوانا، يقول: ثم يتعجب وينظر إلى سقف بيته، يقول الراوي: وكان لا يشعر بي، يقول: فرأيته ودموعه تسيل على خديه، وهو يقرأ قول الله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف:80] ويقول: بلى يا رب! وهو تسيل دموعه على خديه.
عينان كلتاهما في الليل ساهرةٌ وتحت ثوب الدجى والصمت تلتحف |
في كل رعشة جفن منهما ألقٌ إلى السماء ونحو الخلد منعطف |
إحداها في سبيل الله قائمةٌ على الثغور في جفن الردى تقف |
وأختها في سكون الليل خاشعةٌ مقروحة الجفن في المحراب تعتكف |
عثمان كان يجلس عند المقبرة يبكي، ويقول: [هذا أول منازل الآخرة].
وكان علي يجلس في المحراب ويقبض على لحيته وتسيل دموعه على خديه.
إذا اشتبكت دموعٌ في خـدودٍ تبين من بكى ممن تباكى |
ليست القضية تصنعاً، أو تظاهراً، وليست القضية رياء، بل القلوب انفجرت قبل العيون، فسالت العيون بالدموع: (عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله -ليست لأجل فراق حبيبٍ أو عزيز، بل بكت من خشية الله- وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله).
أبو عمران الجوني صالحٌ من الصالحين يبكي، ويقول مخاطباً نفسه: هبك تنجو، بعد كم ستنجو؟ احسب أنك ستنجو من جهنم، لكن كم ستصيبك النار، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28].
أبو عبدة الخواص كثير البكاء، لما كبر عمره وشاب شعره أخذ لحيته، فكان يكلم ربه ويدعوه ويقول: يا رب! قد كبرت فاعتقني من النار، وهو يبكي.
ألوذ بباب من أدعوه فرداً وآمل أن أقرب من حبيبي |
إذا نامت عيون الناس طرة قرعت الباب بالقلب الكئيب |
الناس يبكون على الدنيا .. على ملذاتها .. على شهواتها .. أرأيت رجلاً يبكي على عشيقته كيف يبكي؟ أرأيت رجلاً يبكي على حبيبته كيف يبكي؟ أرأيت امرأة تبكي على فراق حبيبها كيف تبكي؟ أما الذين آمنوا وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165].
يقول الفضيل : دخلت البيت يوماً فرأيت ابني علياً يجول في البيت ويبكي، فقلت: يا بني! يرحمك الله لم تبكي؟ لم هذا البكاء؟ قال وهو يبكي: يا أبتِ! تفكرت في النار، كيف الخلاص منها، فبكيت. ثم قال: يا أبتِ! سل الذي وهبك إياي في الدنيا أن يهبك إياي في الآخرة وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
أخي: لا تظن أنهم يبكون لتعاسةٍ يعيشونها، أو بؤس يحيون به، لا. لا تظن أنهم بؤساء أو أشقياء أو تعساء، فأولئك البكاءون أسعد الناس على وجه الأرض، يبكون وصدورهم منشرحة، يبكون وقلوبهم مطمئنة، يبكون ويحسون بالانشراح.
هذا إبراهيم بن أدهم كان كثير البكاء، ينام على الأرصفة، ويلبس الصوف، وطعامه كسرة خبز، يفترش الأرض ويلتحف السماء، يقول: والله! لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
فهم يبكون لكنهم أسعد الناس، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] يأتي صحابي عند الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي، قال: ما الذي يبكيك؟ قال: يا رسول الله! كنت في البيت، ففكرت فيك، وتذكرتك، وذكرت الموت، فقلت: أخشى أن أموت فيفرق الموت بيننا فبكيت.
أرأيت هذا الحب؟ حبٌ صادق، يقول: بكيت وخفت أن الموت يفرق بيني وبينك، فأنزل الله عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69] يقول أنس : (ما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بهذه الآية) وهي أن الذي يطيع الرسول صلى الله عليه وسلم يجمع معه في الجنة.
ألا تريد هذا يا عبد الله؟!
قال: ما النجاة يا رسول الله؟! قال: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك) اجلس في البيت، وابكِ على ذنوبك، وخطاياك، وارفع يديك إلى الله وقل دوماً: أبوء لك -أعترف- بنعمتك علي وأبوء بذنبي. قل دائماً: فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
ربما يرى الله منك دمعة فيمسح ذنوبك كلها بدمعةٍ واحدة ولو كانت كرأس الذبابة، (عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله) لا تقل: يا شيخ! ما أستطيع، بل تستطيع، عوّد العين على البكاء، كن لوحدك ولا يراك أحد، هذا هو الإخلاص، ألا يعلم عنك أحد، ولا يراك أحد، (ورجل ذكر الله خالياً) لا يعلم عنه أحد، أي: لوحده، قال: (ففاضت عيناه) ودمعت عيناه، جرب ربما تنجو بهذه الدمعة، كسرة قلبٍ ودمعةٍ عينٍ فيهما نجاتك عند الله عز وجل يوم القيامة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكم بهذه الكلمات، أقول هذا القول، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وجزاكم الله خيراً على حسن استماعكم وإنصاتكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر