الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وإليك خاصمنا، وعليك توكلنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر اللهم لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله لنا إلا أنت!
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء،
هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] هو الأول الذي لا شيء قبله، وهو الآخر الذي لا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
إلهي وسيدي ومولاي!!
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وبت أشكو إلى مولاي ما أجد
فقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أموراً أنت تعلمها ما لي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين ومن عتقائه من النار في رمضان، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله: وهكذا قد انتهى رمضان، ومضى شهر الصيام والقيام والقرآن، وودعنا شهر البر والجود والإحسان، وقد ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقبل فيه من قبل، وطرد فيه من طرد، فيا ليت شعري من المقبول منا في رمضان فنهنيه، ويا ليت شعري من المطرود منا في رمضان فنعزيه!
فيا عين جودي بالدموع على فراق ليال ذات أنوار
على ليال لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار
ما كان أحسننا والجمع مشتمل منا المصلي ومنا القانت القاري
فابكوا ليالٍ قد مضت واغتنموا ما قد بقى من فضل أعمار
أيها الأحبة في الله: لقد رأينا المساجد معطرة في رمضان بأنفاس الصائمين، وشهدنا المساجد عامرة في رمضان بصفوف المصلين، وسمعنا للمساجد في رمضان دوياً بكتاب رب العالمين، وأسعد قلوبنا في رمضان تسابق أهل البر والجود من المحسنين، ولكن مما يؤلم القلب ويحزن النفس ويدمي العين، أن نرى المساجد بعد رمضان مباشرة خالية خاوية تشتكي حالها إلى الله جل وعلا، وأن نعرض إعراضاً عن كثير من الطاعات والعبادات التي افترضها علينا رب الأرض والسماوات، وكأن الناس في رمضان يصلون لرب، ويقرءون القرآن لرب، ويعتكفون في المساجد لرب، ويتسابقون في أصناف البر والجود لرب، فإذا ما انتهى شهر رمضان وجاءت الشهور الأخرى كأن لهذه الشهور ربّاً غير رب رمضان والعياذ بالله.
إن رب رمضان هو رب بقية الشهور: ( يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت )، نرى المساجد بعد رمضان خالية تشتكي حالها إلى الله جل وعلا! أين المصلون.. أين الصائمون.. أين القائمون والتالون لكتاب رب العالمين.. أين المحسنون وأين المنفقون بعد رمضان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون؟
رب رمضان هو رب الشهور كلها
إن رب رمضان هو رب شوال، وهو رب الشهور كلها، فينبغي أن نطيعه في كل لحظة وفي كل أوان وفي كل زمان، لأن من أعظم القربات والطاعات إلى الله جل وعلا: المداومة على الأعمال والطاعات وإن قلَّت، كما جاء في الحديث الذي رواه
البخاري و
مسلم من حديث
عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).
فيا من جعلت لنفسك ورداً يومياً وليلياً مع كتاب الله! ويا من جعلت لنفسك ساعة يومية مع الاستغفار والذكر والصلاة والسلام على رسول الله! ويا من جعلت لنفسك تسابقاً في أوجه البر والخير والطاعات في رمضان! ويا من حرصت كل الحرص على أن تؤدي الصلاة في بيوت الرحيم الرحمن؛ اعلم أن من أحب القربات إلى الله أن تداوم على هذه الطاعات وأن تستمر على هذه الأعمال، فإن أحب الأعمال إلى الله جل وعلا أدومها وإن قل، ومن ثم لما جاء الصحابي الجليل
سفيان بن عبد الله رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً جامعاً في أمر دينه، فقدم له الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الوصية الغالية التي ينبغي أن نضعها اليوم في قلوبنا، وأن نغمض عليها أجفاننا، وأن نحولها إلى واقع عملي متحرك مضبوط.
قال له
سفيان : (
يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟)، فلخص له الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أمر السعادة في الدنيا والآخرة في كلمتين اثنتين، فأعيروني القلوب والأسماع، فهي وصية رسول الله لنا لنسعد في الدنيا والآخرة: (
يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم)، وهذا لفظ
مسلم ، ولفظ
الترمذي بسند حسن صحيح: (
قال سفيان : يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به، فقال صلى الله عليه وسلم: قل ربي الله ثم استقم، قال
سفيان : فما أخوف ما تخاف علي يا رسول الله؟ قال: فأخذ رسول الله بلسان نفسه ثم قال صلى الله عليه وسلم: أخوف ما أخاف عليك هذا).
الأعمال بالخواتيم
من عاش على شيء مات عليه
الاستقامة أصل السعادة
أخي! (قل: آمنت بالله ثم استقم) قل ربي الله ثم استقم ولا تضيع الصلوات، ولا تترك القراءة في كتاب رب الأرض والسماوات، ولا تنتقل عن الاستغفار والذكر والعبادة والطاعات.
عباد الله: إن الاستقامة على الطاعة أصل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، يقول الحافظ
ابن رجب الحنبلي في كتابه القيم (جامع العلوم والحكم): وأصل الاستقامة استقامة القلب على توحيد الله جل وعلا، فإذا استقام القلب على توحيد الله استقامت الجوارح كلها على الطاعة، لأن القلب هو الملك، ولأن الأعضاء والجوارح هي جنوده ورعاياه، فإذا صلح هذا الملك صلحت الجنود والرعايا، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه
البخاري و
مسلم من حديث
النعمان بن بشير : (
ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
فأصل الصلاح هو القلب، ومحط الاستقامة هو القلب، فإذا استقام القلب استقامت الجوارح، وإذا طهر القلب وأشرق فيه مصباح التوحيد استقامت الجوارح كلها على طاعة العزيز الحميد، وإذا كان القلب في أغلفة تلو الأغلفة كفر بربه، وكفرت الجوارح بربها والعياذ بالله، وإذا نكس القلب عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي نافقت الجوارح الناس، وتناست رب الناس الذي يعلم السر وأخفى.
القلوب تنقسم إلى أربعة أقسام، كما قال
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رواه الإمام
أحمد في مسنده والإمام
الطبراني في معجمه الصغير، و
أبو نعيم في الحلية، إلا أن من علمائنا الكبار من ضعف هذا الحديث كالإمام
الذهبي والإمام
الهيثمي ، ومدار تضعيفهم لهذا الحديث على
الليث بن أبي سليم وهو متكلم فيه، إلا أن حديثه لا يرد كما قال الإمام
أحمد ، لذا فإن الحديث حسن إن شاء الله تعالى، يقول
حذيفة : القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، -نسأل الله أن يجعلنا إياكم من هؤلاء- وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمي، فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما، فتارة تراه في وسط القلوب المؤمنة، وتارة تراه في وسط القلوب المنافقة، وهذا يخشى عليه والعياذ بالله، أنه لا يدري متى سيأتيه ملك الموت، هل سيأتيه وقلبه في جانب أهل الإيمان، أم سيأتيه وقلبه في جانب أهل النفاق.
القلب الأول: هو القلب الذي أشرق فيه مصباح التوحيد، وأنار فيه مصباح الإيمان، وذلك هو القلب السليم الذي سلم من الشرك وسلم من الشك، وسلم من الغل والحقد، وسلم من الحسد، وسلم من الشهوات والشبهات، فانقادت له الجوارح بالطاعة لرب الأرض والسموات، ذلك القلب صاحبه في جنة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة في الآخرة، وذلكم هو القلب الذي ينفع صاحبه يوم القيامة:
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ *
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
إن القلب لا يسلم إلا بشروط خمسة، تعرف عليها اليوم لتتعرف على سلامة قلبك، وأين يقع قلبك بين هذه القلوب الأربعة.
يقول الإمام
ابن القيم رحمه الله: ولا يسلم القلب حتى يسلم من خمسة أشياء.
تلك هي أركان سلامة القلب، وتلك هي شروط صحته وطهارته ونقائه واستقامته، لتستقيم الجوارح بعده على طاعة الله جل وعلا:
يقول: لا يسلم القلب حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، ومن غفلة تناقض الذكرى، ومن شهوة تناقض الأمر، ومن هوى يناقض الإخلاص.
تلك هي شروط سلامة القلب، وتلك هي أركان صحة القلب.
سلامة القلب من الشرك
سلامة القلب من البدعة
سلامة القلب من الغفلة
سلامة القلب من الشهوة
سلامة القلب من الهوى