الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
تقدم في المجلس السابق الكلام على طلاق المرأة المفوضة وكذلك تكلمنا على شيء من المسائل المتعلقة بالمهر, ومتعة الطلاق.
نتكلم في هذا المجلس بإذن الله عز وجل على الآية التي تليها وهي قول الله عز وجل: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ[البقرة:237].
بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حكماً تالياً للحالة الأولى, وذلك أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس, أن لها حالين.
الحالة الأولى: هو أن يطلقها وقد فرض لها شيئاً بيناً, مهراً بيناً.
الحالة الثانية: ألا يفرض لها شيئاً, وهذه هي التي تمتع بمتعة الطلاق.
وتقدم الإشارة معنا إلى النوع الثاني, أما بالنسبة للنوع الأول وهو ما يتعلق بالمرأة المطلقة التي فرض زوجها لها شيئاً من المهر, فضرب لها شيئاً محدداً, ثم طلقها قبل أن يدخل بها, فما الحكم في ذلك؟
الله سبحانه وتعالى بيَّن هذه المسألة أن المرأة إذا طلقت قبل أن يمسها زوجها وقد فرض لها فرضاً, فإن لها نصف ما فرض, وهذا محل اتفاق عند العلماء, يتفق العلماء على هذه الصورة ولا إشكال عندهم, لا من المتقدمين ولا من المتأخرين, وإنما ثمة إشكال في بعض الصور, وكذلك في بعض فروع هذه المسألة, يأتي الكلام عليها بإذن الله.
إنما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الآية وبين هذا الحكم بعدما ذكر الله عز وجل المرأة التي تطلق ولم يمسها زوجها ولم يفرض لها, فذكر المتعة, ثم ذكر الله سبحانه وتعالى المرأة التي فرض لها دفعاً للبس الذي يطرأ على الإنسان, فإن الإنسان ربما يطرأ عليه شيء من اللبس وذلك لقرينة أن الله سبحانه وتعالى ذكر الحالة الأدنى, فإن الحكم لبيان الأدنى يشمل الأعلى من باب أولى, بخلاف الأعلى فإنه لا يشمل الأدنى, والأعلى في ذلك هو ما يتعلق بالمرأة التي فرض لها شيء, فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل لها النصف.
فذكر الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بهذه المرأة التي فرض زوجها لها, فإن لها نصف المهر إذا لم يمسها, وتقدم معنا الإشارة إلى أن المهر تستحقه الزوجة بأمرين:
الأمر الأول: بالمسيس.
الأمر الثاني: بالفرض, إذا فرض زوجها لها فإنها تستحق النصف إذا طلقها قبل, وإذا طلقها بعد فإن لها المهر المعين, وإذا مسها فإن لها ذلك المهر إذا سمي, وإذا لم يسم فلها مهر المثل, وهذا أمر معلوم.
ذكر الله سبحانه وتعالى هذا النوع وهو الأغلب, وتقدم معنا أن القرآن يبين الأحكام تارة نادرة الوقوع ويصدرها على غيرها, أو قليلة الوقوع ويؤخر الكثيرة, وهذا لعلة: أن قليل الوقوع يقع فيه اللبس, وأما كثير الوقوع فإن الناس تتداعى وتشتهر أحكامهم, فالله سبحانه وتعالى يرتب أمثال هذه الأمور؛ لحكمة يقتضيها ويعلم أحوال الناس فيها, ويعلم فطر الناس في هذا الباب من جهة شح الأنفس في أبواب الأموال.
ذكر الله سبحانه وتعالى هنا الطلاق قبل المسيس, والمراد بالمسيس هو الجماع, هذه العبارة تقدم أن الله عز وجل يذكر المسيس ويذكر الملامسة ويذكر الجماع ويذكر الوطء ويذكر النكاح, وهذه كنايات عن وطء المرأة وجماعها.
والله سبحانه وتعالى هنا ذكر المس, هل يدخل في هذا الباب خلوة الرجل بامرأته من غير مس, هل تستحق بهذه الخلوة المهر كاملاً؟
هذا من مواضع الخلاف عند العلماء, ذهب جمهور العلماء إلى أن الخلوة موجبة للمهر الذي يسمى كاملاً, ولكن يختلف الفقهاء, في تقدير الخلوة, منهم من يقول: إذا خلا بها وأرادها, فإنه يتمكن من ذلك, وإذا لم يتمكن من ذلك فإنها لا تسمى خلوة, والعلماء عليهم رحمة الله تعالى يعتدون بمصطلح ويتفقون عليه, حد أعلى ولكن يختلفون في الأدنى.
وكذلك يتفقون في زمن ويختلفون في زمن من جهة الخلوة, وهذا من المواضع التي هي من أمور الاجتهاد, منهم من يقول: اليوم والليلة, ومنهم من يقول: ساعة وغير ذلك, وهذه فيما أرى من جهة الزمن ألا حاجة إليها, وأن العبرة في ذلك أن يخلو الرجل بامرأة لو أراد أن يمسها لمسها, ثم لم يتمكن من ذلك, فإن هذا الأمر يدخل في هذا الباب, ذهب إلى هذا جمهور العلماء, وهذا قول الإمام مالك , وقول أبي حنيفة , و الشافعي في قول له, وهو قول الإمام أحمد عليه رحمة الله.
أن الخلوة في ذاتها لو لم يمسها فإنها موجبة للمهر, وأما بالنسبة لذكر الله عز وجل للمس هنا: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ[البقرة:237], أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا الأمر حكاية على الغالب.
وأما بالنسبة للقول الثاني, فذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله في قوله الجديد, وجاء هذا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, جاء عن عبد الله بن عباس , فقد جاء من حديث ليث بن أبي سليم , عن طاوس بن كيسان عن عبد الله بن عباس , وهذا إسناد فيه ضعف, لكن جاء معناه من وجه آخر عند ابن جرير الطبري من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال: الخلوة لا توجب المهر حتى يطأها, وهذا على ما تقدم وهو قول الشافعي في الجديد, والأصح في ذلك والأظهر هو ما ذهب إليه جمهور العلماء, وهذا الذي كان يقضي به الخلفاء الراشدون, وهو الأصوب من جهة الدليل, والأحظ والأوفر من جهة التعليل.
أما من جهة الدليل فذلك أن الخلفاء الراشدين الأربعة.
كانوا يقضون بهذا الأمر ولا خلاف عندهم في هذا الأمر, فقد صح ذلك عن عمر بن الخطاب كما رواه البيهقي في كتابه السنن, قال: وما شأنهن إذا كان العجز منكم, يعني: من الرجال, يعني: أنه ربما يخلو بامرأة لشهر وشهرين وما ذنبها, أن زوجها لم يمسها ولا تستحق بهذا المهر.
ثم أيضاً من جهة الأجل بعض الفقهاء ينظر إلى آجال الخلوة ونحو ذلك, وهذه لا تنضبط, ثم الأمر الآخر أننا إذا قلنا بعدم المس, فربما الزوجة تبقى عند زوجها سنة وعشر سنوات, ولا يمسها, ألا يمكن هذا؟ ممكن هذا, قد يكون مريضاً، ألا يمكن؟ ترضى به ويرضى بها, ألا يرد هذا؟ يرد, من عالج مثل هذه القضايا أو يستفتى في مثل هذه القضايا, أو عمل قاضياً, ترد عليه قضايا كثيرة مثل هذا الجنس.
ولهذا نقول: إن مثل هذا الأمر إذا لم يعلق به مهر, هذا أمر لا يأتي من جهة التعليل, لا يمكن أن زوجة تبقى مع زوجها عشر وعشرين سنة, ثم يربط المهر بمس, ولهذا نقول: إن مثل هذا الأمر فيه ما فيه.
ثم أيضاً أن الأمر لو ربط بمس, وقام العذر في الزوجين, كالشيوخ, قد يتزوج رجل عمره سبعين, من عجوز عمرها سبعين, إذاً: لا يكون ثمة مهر؛ لأنه لا يوجد مس, أو شيخ كبير عاجز, عمره تسعين أو مائة, وتزوج امرأة, فعلى هذا لا يكون لها من جهة مهرها إلا النصف.
هذا من جهة التعليل, يؤثر على كثير من المسائل, ولهذا الأسلم والأحكم والمطرد في هذا والموافق لقضاء الخلفاء الراشدين, أن يقال: أن مجرد الخلوة كافية في إيجاب المهر.
أما ما يعلل به البعض أن الشارع ذكر المس هنا, نقول: إن النصوص في الشريعة تعلق الأحكام بالأغلب.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً[البقرة:237], تقدم في الآية السابقة ما يتعلق بالحكم, أن الرجل إذا طلق زوجته ولم يمسها ولم يفرض لها, هنا ذكر أنه فرض لها شيئاً مقدراً, فهذه الصورة اختلفت عن الصورة الأولى بالفرض، أنه ثمة شيء محدد, هذا على ما تقدم أن لها النصف, وهل هذا محل اتفاق عند العلماء؟
نقول: إذا كان تحديد المهر في العقد, يعني: ابتداء, فإن هذا محل اتفاق عند العلماء ولا خلاف عندهم من السلف ومن قول الأئمة الأربعة لا يختلفون على هذا, أن للزوجة نصف المهر, إذا طلقها زوجها قبل أن يمسها, وأما إذا كان تحديد المهر بعد العقد, بمعنى: أنه عقد عليها في أول الشهر ثم لم يضرب لها شيئاً معيناً, ثم ضرب لها في نصف الشهر قبل دخوله, ثم طلقها بعد ذلك وهذا يحدث.
هذا اختلف فيه العلماء على قولين:
القول الأول: ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو قول الإمام مالك و الشافعي والإمام أحمد , وكذلك قول أبي حنيفة في رواية, وذهب إليه أصحاب أبي حنيفة: محمد بن الحسن , و أبو يوسف , إلى أن المهر لازم, بالنصف إذا طلقها فرض لها في العقد, أو فرض لها بعد العقد, شريطة أن يكون ذلك قبل الطلاق, وإذا طلقها ثم فرض لها شيئاً بعد طلاقه, كأن يطلقها أن يعقد عليها السبت, ثم يطلقها الإثنين, ثم يقول: إنني قد بيت في نفسي, أو تستحقين ألفاً أو ألفين, فهذا ضرب وقع بعد الطلاق, فلا عبرة به.
وأما من جهة التبرع والتطوع فهذا باب آخر, وأما من جهة فرض الشريعة, فإن المطلق لا يجب عليه في مثل ذلك إلا ما فرض لها قبل طلاقه.
والقول الثاني: ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله, وقيل: إنه رجع عنه إلى أن فرض المهر بعد العقد أنه ليس بمعتبر ولا بملزم, ولا يوجب للمرأة النصف إذا طلقها قبل أن يمسها, وهذا قول ضعيف, وأما ضعفه فإن ظاهر الآية يخالفه, وذلك أن الله عز وجل يقول: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً[البقرة:237].
يعني: هذا في موضع حال, في قوله: وَقَدْ فَرَضْتُمْ[البقرة:237], يعني فرضتم متى؟
فرضتم قبل الطلاق, فكل وقت قبل الطلاق فهو داخل في هذا الباب, فإذا نزل الفرض, فرض المهر في مثل هذا الموضع, فإنه يلزم الزوج بأن يدفع للمرأة نصف المهر, وهذا ظاهر الآية.
وأما بالنسبة لضعفه من وجه آخر, أن أبا حنيفة عليه رحمة الله, فرق بين العقد وبين فرض المهر, والفيصل في ذلك من جهة الإلزام والشروط وغير ذلك, أبو حنيفة رحمه الله يرى أن الشروط تابعة للعقد, إذا اتفق عليها الطرفان بعد العقد فإنها ملزمة, ما لم يكن ثمة شيء داخل في بعد النكاح, فهذا لا يلتزم فيه من جهة العقد, بحيث يربط بفساد العقد أو صلاحه, فهو يرى هذا.
فكل شيء تم الاتفاق عليه, لا يصح العقد من جهة الأصل إلا به وذلك كالمهر, فسواء سمي في موضع العقد أو سمي بعد ذلك, فإنه لا يضر تأخر الزمن أو تقدمه في هذا الباب.
ولهذا نقول: إن القول بعدم وجوب نصف المهر للزوجة إذا فرض لها بعد العقد هو قول ضعيف, ولم يذهب إليه كبير أحد من السلف.
وهنا مسألة تتعلق بالخلوة التي تكون بين الزوج والزوجة التي لا تعتبر, بعض العلماء يقيد الخلوة, بخلوة يحرم معها المس, وخلوة يجوز معها المس.
الخلوة التي يحرم معها المس: كأن يكون الرجل أو المرأة محرمين, أو أحدهما, أو أن يكون الرجل أو المرأة في صيام فرض لا ينقض, أن مثل هذا لا يتحقق معه المس الذي ذكره الله سبحانه وتعالى, قالوا: فمثل هذا الأمر لا يعد خلوة, ومنهم من ذكر بعض الصور, إذا كان أحدهما مريضاً, مثله لا يَمس ولا يُمس, قالوا: فإن هذه الخلوة لا تعتبر؛ لوجود العجز أو المانع والحائل من المس, ذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء, ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله, وأشار إلى هذا المعنى الإمام الأوزاعي عليه رحمة الله.
قال: إذا كانت الخلوة ولو طالت إذا كان ثمة شيء من المانع الشرعي أو المانع الطبعي, فإنه لا اعتبار بتلك الخلوة حتى يزول في ذلك السبب.
ومن العلماء من لا يعتد بشيء من هذا, قال: ما وجدت في ذلك الخلوة, قالوا: لأن الشارع إنما ذكر هذا لاختيار الإنسان بأمر الخلوة, أن يجعلها في حرام أو في حلال, أو في صيام أو في غيره, واختياره له في مثل هذا الموضع لا يسقط الحق الواجب للزوجة بمثل هذا الأمر.
والله سبحانه وتعالى قد بين الحكم على سبيل الإجمال, والحكم يلحق فيه بمجرد ورود الخلوة, إذا نفينا اعتبار المس وأنه إنما ذكر للأغلب.
وقول الله سبحانه وتعالى: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ[البقرة:237], تقدم أن هذا من جهة الأصل محل اتفاق عند العلماء, أن للمرأة نصف المهر, إذا فرض لها وطلقها قبل أن يمسها.
ومن العلماء من يفسر الخلوة ويقول: هي الخلوة المحرمة التي لو وجدت من الإنسان لأثم, وسواء كان ذلك في بيته أو في بيت أهلها أو نحو ذلك, قالوا: ويتحقق بمثل هذا المهر.
في قوله سبحانه وتعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[البقرة:237] ذكر الله عز وجل العفو هنا في هذين الموضعين, و(يعفون) هنا ابتداءً قيل المراد بذلك: الأزواج, وهذا الذي ذهب إليه عامة المفسرين من السلف, جاء هذا عن عبد الله بن عباس و سعيد بن المسيب و عكرمة و مجاهد و الحسن و إبراهيم النخعي , وجاء عن غيرهم, ولا يعلم لهم مخالف في هذا, إلا ما جاء عن محمد بن كعب القرظي , ذهب إلى القول بأن المراد بذلك هو الزوج, ولم يوافق على هذا القول, وله قول يوافق القول الأول, ويحتمل أن القول الذي نقل عنه في هذه الآية المراد بذلك هو الزوج, وليس المراد بذلك هن النساء في قوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ[البقرة:237].
أنه فسر المعنى الثاني اللاحق: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[البقرة:237], فحمل على المعنى الأول وهو من المفسرين, ويبعد أن يخالف في مثل هذا الأمر, والعلم عند الله.
(يعفون) في الموضع الأول على ما تقدم المراد بذلك هن الزوجات, فإذا عفت المرأة عن حقها الذي لها وهو النصف, ولم ترد من حقها شيئاً, فيسقط من ذلك الحق الذي لها عند زوجها.
وذكر الله سبحانه وتعالى هنا للعفو مع أنه معلوم من جهة النظر أن الإنسان إن عفا عن كل شيء له, سواء كان بمثل هذا السبب أو تبرع بقدر زائد, فإن هذا حق له, فلماذا ذكر العفو هنا وهو أمر من جهة النظر مفروغ منه, أن الإنسان إذا أسقط حقه أياً كان, فإن هذا ساقط.
ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الأمر تشويفاً له, وذلك يؤكد ما تقدم في الآية السابقة, أن الله جل وعلا ذكر متعة المرأة المفوضة لم يفرض لها زوجها شيئاً ولم يمسها, فإن لها على زوجها المتعة, جعل الله سبحانه وتعالى ذلك أمراً إلى الزوج, وجعله من جملة الإحسان؛ لأنه لم يكن بين الزوجين شيء من الحق, ولم يهب أحد منهم شيء مما يستحق في ذلك المكافأة, فجعل هذا الباب من أبواب الإحسان.
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أمر الفرض, شوف إلى العفو في هذا الباب, وأول ما ذكر الله عز وجل في أمر العفو هو عفو الزوجة عن حقها, فذكر الله عز وجل العفو هنا, العفو الأول ما يتعلق بالزوجة أن تعفو عن حقها.
والعفو الثاني: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[البقرة:237], الذي بيده عقدة النكاح اختلف العلماء فيه, فقيل: إنه الزوج, أن يعفو عن النصف الذي له عندها, فهو فرض فرضاً كاملاً, كمائة, وتستحق النصف, عفو الزوج أن يسقط النصف الآخر فتستحق المهر كاملاً, وعكس عفو الزوجة, أن تسقط النصف الذي لها فلا تأخذ من ذلك شيئاً, وكأن الشريعة شوفت إلى المسابقة في أمر العفو, ولكن الله جل وعلا قَّدم عفو الزوجة على عفو الزوج, لأنها أحق بهذا المهر وأولى بالمبادرة بذلك, وحتى لا يضر الزوج بمثل هذا, فإن المرأة لا تتضرر, والضرر إنما يكون على الزوج, وأما المرأة فلا تتضرر من جهة المادة.
ثم إن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن أن هذا الأمر حق من الزوج لزوجته وهو المهر, بين أنه لا يسقط إلا بعفو ومسامحة, وعادة فالذي يعفو هو صاحب اليد العليا أنه متفضل, فجعل الله عز وجل حق المرأة من جهة المهر فرض على الزوج يجب أن يعطيه زوجته, ثم شَّوف الزوجة أن تقوم بالعفو عن حقها على زوجها حتى تكون يدها في ذلك هي العليا, ويكون لها منة في ذلك؛ لأن الله عز وجل ما أراد أن يجمع على الزوج الضرر المادي وربما معنوي في مثل هذا, ويجمع على الزوجة الضرر المعنوي, أما بالنسبة للمادة فإنها لم تتضرر في مثل هذا الأمر؛ لأنها لم تنفق شيئاً, فأراد الله عز وجل تطييب خاطرها وحفظ حقها وكرامتها وألا يساء بحقها, أن زوجها إنما تركها لعيب؛ لأن المعيبة تطلق ولا تستحق من ذلك شيئاً, وذلك أن المرأة إذا طلقها زوجها ووجد بها عيباً, فهذا العيب الذي يكون في الزوجة إذا طلقها قبل أن يمسها, فعلم بها عيباً كتب عليه فيه فلا تستحق من ذلك المهر, ولكن لما لم يكن بها عيب أوجب الله عز وجل لها من ذلك المهر الذي قدره الله سبحانه وتعالى, ثم شوفها إلى العفو بذلك حتى لا يلحق الضرر.
فحفظ للأمر أمرها وشأنها وكرامتها في ذلك, ألا تكسر عند أزواج يريدون أن يخطبوها بعد ذلك, فلا يظن بها ظن السوء, أو يظن بها أن بها عيباً, أو ما تركت إلا لسوء, فأوجب الله عز وجل لها حقها في ذلك حتى تدفع هذه الظنة.
وكذلك حث الله سبحانه وتعالى الذي بيده عقدة النكاح على العفو والصفح, وهو أن يعفو عن حقه الذي فرض لها, وعلى ما تقدم فإن الله جل وعلا أوجب للزوجة على زوجها إذا طلقها قبل أن يمسها وفرض لها مقداراً معيناً من المهر أن لها النصف, ثم شوف الطرفين إلى المسابقة بالعفو, قال: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[البقرة:237].
هنا ذكر الله سبحانه وتعالى العفو, ولا يعفو إلا صاحب الحق, أما بالنسبة للزوجة فيظهر في ذلك حقها من جهة المهر؛ لأن الله عز وجل سماه فريضة, أما بالنسبة للزوج فما حقه في ذلك؟
نقول: إن الزوج إذا فرض لزوجته مهراً, فهو على حالين.
الحالة الأولى: أن يكون قد سلم الزوجة مهرها بكامله فقبضته.
الحالة الثانية: أنه سمى لها مهراً ولم تقبض الزوجة من ذلك شيئاً.
فالحالة الأولى شوف الشارع إلى أن يبقي المال عند الزوجة ولا يأخذ منه شيئاً, وإن سابقته بالعفو أن يسابقها بترك ذلك النصف, وعلى هذا تشوف وعمل بهذا جماعة من السلف عليهم رحمة الله.
أما بالنسبة للحالة الثانية: فإنها تأخذ الحالة الأولى من وجه, وذلك الوجه أن الشريعة إنما حفظت مهر المرأة وحقها في مثل هذا الأمر عند نفسها وعند الناس أيضاً, فالناس ربما يعلمون أنه ضُرب لها ألف, أو ضُرب لها مائة, ولكن لا يعلمون هل قبضت أو لم تقبض؟ فإذا ألحق الحكم الثاني بالأول, تحقق من ذلك المصلحة والمقصد من ذلك وهو حفظ المرأة من أن تكسر, أو تضعف من جهة أمرها بعد طلاقها, فأراد الله عز وجل أن يبقي لها حظاً في مثل هذا الأمر بالعفو.
في قول الله جل وعلا: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[البقرة:237], اختلف العلماء في المراد بالذي بيده عقدة النكاح على قولين:
القول الأول: قالوا بأنه الزوج, وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف, وهو قول عبد الله بن عباس و شريح القاضي وذهب إليه جماعة من الفقهاء من السلف, كـإبراهيم النخعي و الحسن و أبو حنيفة عليه رحمة الله, وهو قول للإمام أحمد عليه رحمة الله.
القول الثاني: قالوا بأن الذي بيده عقدة النكاح هو ولي الزوجة, وهو أبوها أو أخوها أو ابنها الذي أنكحا ذلك الزوج, فله حق أن يعفو عن ذلك.
نأخذ من ذلك فائدة: أن المهر في هذا هو حق للزوجة, لا يملك الولي أن يعفو عنه, لماذا جعل للذي بيده عقدة النكاح أن يعفو في مثل هذا الموضع على القول الثاني, أن الولي له أن يعفو, فإذا عفا أبوها عن المهر, فإنه قوله نافذ ولو أبت الزوجة.
يدل على أن الشريعة إنما جعلت المهر قبل دخول الزوج على زوجته وطلاقه لها قبل هذه الحال, أن المراد بذلك هو حفظ كرامة المرأة لا إحقاق مادي مجرد, وأن الشارع لما أثبته لها حقاً, أراد أن تكون اليد العليا لها, سواء بوليها أو بها, حتى يثبت الحق بعد فراقهم, وهذا يظهر تلك العلة, ويتشوف إلى هذا الأمر.
من العلل في هذا الباب: أن الشارع لما علق أمر العفو بيد الزوجة في قوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ[البقرة:237], قدَّم أمرها على وليها, ثم قال: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[البقرة:237], وهو على أحد التأويلين: أنه ولي الزوجة, أراد أن يوسع دائرة العفو, فالعفو إذا كان من طرفين فإنه أقل وقوعاً من إذا كان من ثلاثة, وإذا كان يشترك فيه أربعة أو خمسة, وأي واحد يستطيع أن يسقط الحق فإنه أقرب, فأراد الشارع أن يوسع دائرة العفو في هذا, حتى لو حصل من واحد لوقع ذلك العفو, وهذا يدل على تشوف الشريعة لأبواب العفو والمسامحة.
ثم يدل على ما تقدم الإشارة إليه, أن الشريعة إنما جاءت في مثل هذا الأمر, أرادت بذلك حفظاً لكرامة المرأة, ألا يجسر الرجل عليها بخطبتها ثم يعقد عليها ثم يطلق فيستهين الناس بالعقد على النساء في مثل هذا الأمر.
القول الثاني على ما تقدم فيمن بيده عقدة النكاح: أنه الولي, وقد ذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء وهو قول الإمام مالك و الشافعي , وقول آخر لـعبد الله بن عباس عليه رضوان الله, رواه عنه جماعة كـعكرمة و عمرو بن دينار عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله, وهو قول آخر لـشريح القاضي قيل: إنه رجع عنه, وذلك أنه قد ناظره في ذلك عامر بن شراحيل الشعبي فناظره في هذا القول فرجع إلى القول الأول, وكان يباهل عليه أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
فالذي بيده عقدة النكاح يحتمل الأمرين: يحتمل الزوج ويحتمل الولي:
أما احتماله للزوج فهو أوسع باعتبار الذي بيده عقدة النكاح الولي ابتداء, يبتدئ أنه بيده ويتساوى مع الزوج, أنه يستطيع أن يوجب والزوج يقبل, حينئذٍ يكون عقدة النكاح بينهما, أما بعد العقد فينفرد الزوج بأنه هو الذي بيده عقدة النكاح.
إذاً: فهو أوسع مدلولاً وأقوى, وذلك أنه بعد العقد لا يملك الولي من عقدة النكاح شيئاً.
وإنما هو ناظر يمضي شروط العقد, وهذا يقوي القول بأن الذي بيده عقدة النكاح إنما هو الزوج وليس هو الولي, وكلا القولين له حظ من النظر, وقائل بها من السلف.
وهنا أعاد سبحانه وتعالى كلمة العفو في الموضع الثالث، قال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[البقرة:237], ذكر الله سبحانه وتعالى العفو حضاً وحثاً عليه وتشوفاً لوقوعه من هؤلاء, إما أن يكون من الزوج, وإما أن يكون من الزوجة, وإما أن يكون من الولي على هذا المعنى, توسيعاً تلك الدائرة.
وذلك أن العفو لا يكون إلا من كريم, والمؤاخذة والتشديد في ذلك لا يكون إلا من لئيم, جاء الشح في نفسه وغلب عليه, في هذه الآية في قول الله جل وعلا: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[البقرة:237], (للتقوى) يعني: تقوى الله سبحانه وتعالى, ألا يأخذ أحد منكم نصيب الآخر, فالمسامحة في هذا لأنه ثمة حد مشترك, إذا كان بينك وبين أحد شراكة كخمسين وخمسين, ما بين هذه الخمسون: التسعة والأربعون من هنا والتسعة وأربعون من هنا, هذا حق متوهم في مثل هذا الأمر, فدعت الشريعة إلى شيء من المسامحة في مثل هذا الأمر, حتى تطيب النفوس ولا يقع فيها شيء, ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى أمر العفو هنا، قال جل وعلا: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[البقرة:237].
يدل على أن أكثر الناس عفواً أكثرهم تقىً لله سبحانه وتعالى, وأن أقلهم عفواً وصفحاً أقساهم قلباً, لعدم حضور الله سبحانه وتعالى في قلبه, وذلك أن النفوس مجبولة على الشح, وحب الأثرة: الأثرة المعنوية, أو الأثرة المادية, الأثرة المادية أن يستأثر بحقه من غيره, أما الأثرة المعنوية يحب أن تكون يده هي العليا, وهو الأغلب, وهو الأقدر, وهو المنتصر ونحو ذلك وشوفت الشريعة إلى مراقبة أمر الله سبحانه وتعالى, ولهذا الله عز وجل يقول: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ[النساء:128], والمراد بالشح هو الذي يكون في نفس الإنسان من طمع, بعض الناس يظن أن الشح إنما يكون في الماديات, لا. أيضاً حب انتصارك على غيرك شح, حب المغالبة, حب أن تكون أكثر محمدة, أكثر منقبة, أكثر وجاهة, هذا نوع من الشح المعنوي الذي يكون في نفس الإنسان, النفوس أحضرت, يعني: الشح حاضر فيها, قد تشربته ولا يبتعد عن ذلك إلا من وافقه الله سبحانه وتعالى فأخذ بالعفو والصفح.
في قوله جل وعلا: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[البقرة:237], نستطيع أن نقول: إنه كلما استكثر الإنسان عفواً زاد تقى, وكلما قل عفواً فإنه يقل في جانب التقوى.
وكذلك في هذه الآية دليل على التلازم بين الطبع والشرع, من جهة القرب من الله سبحانه وتعالى والبعد عنه.
وفي هذه الآية أيضاً إشارة إلى السياسة الشرعية في التعامل مع النفوس، الشريعة تتعامل مع النفوس وتعالجها كما تعالج القضايا المادية من جهة حسمها, الشريعة والحكم أمكن في ذلك أن الله سبحانه وتعالى يبين أن للمرأة نصف المهر وانتهى الأمر, لا. دفع الله سبحانه وتعالى إلى ما يصلح النفوس بعد ذلك؛ لأنهم سيتفرقون بعد هذا الأمر, فدعا إلى التشوف والمصالح, أن يغلب أحدهما الآخر بالعفو عن حقه، لأنه أدعى لكسر النفس, وإساءة الظن, أنه ما فارقها كرهاً لها أو كرهاً لأهلها, أو عدم حب لهم أو نحو ذلك, فيكون ثمة شيء من العهد في مثل هذا الفعل, فيذكر الواحد الآخر, فإذا وضع مهره كله وأبقاه, يذكر بخير ولا يذكر بسوء, كذلك أصلح لحالهما بعد, فإن النفوس تتشوف في حال الكره, تتشوف على إظهار معايب الآخر, فيظهر الرجل, فإذا أكرمت الزوجة من خطبها ونحو ذلك بعفوها عن مهرها بالكامل ذكرها بخير, وانقبضت النفس عن بسط السوء الذي يعلمه من حالها أو من حال أهلها أو نحو ذلك, ذكرهم بخير, وإذا غلب شحهم في ذلك, في مثل هذا الأمر, فإن هذا يدفع النفوس إلى إخراج هذا السيئ, جاءت الشريعة بمعالجة هذا الأمر, ووأده في نفس الزوجين, حتى يصلح حال الزوجين, ويصلح حالهم بعد ذلك إذا استقبلت الزوج زوجاً آخر, أو استقبل الزوج زوجة أخرى, وهذا يدل على عناية الشريعة في مثل هذا الأمر.
ثمة معنى لطيف في هذا الباب في قوله جل وعلا: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[البقرة:237], هنا ما هو الفضل والزوجة مع زوجها جديد ولم يدخل بها, فرض لها فقط ثم الله عز وجل يسمي ثمة فضلاً بين الزوجين, لم يدخل بها, ولم يخل بها, قد يكون رآها أو خطبها لرؤية غيره لها, ثم ذكر الله سبحانه وتعالى: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[البقرة:237].
بعض العلماء يقول: إن المراد بالفضل هنا هو الحق الذي يكون للآخر عليه, عليه أن يضعه, ومعنى الفضل فيما أرى أنه أوسع من هذا.
أريد أن أبين أن الإنسان يؤاخذ بزلة حاضرة ويغيب عنه فضل سابق, فإذا أخذ بالزلة الحاضرة غاب عنه كل ما مضى, الله عز وجل يذًّكر عباده أن الإنسان قد يكون بينه وبين شخص من المودة وحسن العشرة والصداقة أو الشراكة في التجارة, أو الجوار لعشر سنوات أو نحو ذلك, يكون ثمة موقف ينسى معه حسن المعشر السابق, فيهدم كل ما كان, ولهذا الله عز وجل يدعو النفوس إلى الإنصاف, وما هو الإنصاف؟
إذا وقع شيء بين اثنين اختلفا أو تخاصما أو افترقا على أي شيء من أسباب الدنيا, عليه أن يتذكر الماضي ثم يضع الكفة؛ لأن النفوس تأخذ حرارة الشيء الحاضر فتتألم وتلغي ما مضى, فأراد الله عز وجل أن يذكر النفس في مثل هذا الأمر بالفضل السابق, فكيف بزوجين يكون بينهما عشرة لعشر سنوات, من مأكل ومشرب ومأنس ومنكح ومسكن ومودة ورحمة يكون بينهما, وربما من ذرية وستر أحدهما للآخر, يكون بزلة واحدة ينسى ما بعد ذلك أو يربط بهذا الأمر, فأراد الله سبحانه وتعالى أن يشير إلى عباده في مثل هذا الأمر, ألا ينسوا الفضل بينهم فيما سبق من صلة, ومن علاقة, ولهذا فإن هذه الآية صالحة لكل مختلفين, ولكل مفترقين, ولكل متخاصمين, أن يتذكرا في حال ورود خصومة, أن يتذكرا ما مضى من فضل, ثم ضعهما في ميزان عقل متجرد, وأبعدها عن حرارة وألم الحاضر, وضعها مع فضل الماضي, ثم زنها بعيداً عما تجده في ألم نفسك, ستجد في ذلك أنك منصف؛ لأن كثيراً من الناس من يختلفون ويتخاصمون ويتنافرون ونحو ذلك, يقومون باتخاذ قرار في أمر بقول أو فعل, بسبب حرارة أو ألم حاضر, ثم إذا ابتعدوا عن ذلك الألم بسنة أو سنتين غاب عنهم ذلك الألم الحاضر, وتذكروا الأمر الماضي, ثم ندموا على ما هم عليه, لماذا الندم في ذلك؟ لأنهم نسوا الفضل الذي كان بينهم, وهذا هو عدل النفوس.
ولهذا الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237], يعني: أن الله جل وعلا حينما يحكم لا يحكم لألمك لهذه الساعة، الله عدل, لا يؤاخذ عبده لأنه أخطأ عليك في هذه اللحظة أو بهذا المال أو بهذا الفعل أو بهذا القول أو يؤاخذ الزوجة بعمل زوجها في موضع ويؤاخذ الزوج بمعاملته لزوجه في موضع واحد, الله عز وجل ينظر إلى ما سبق, وينظر إلى هذه الحال في ميزانه سبحانه وتعالى, ولا يعد المظلمة الصغيرة وينسى فعل الإنسان, مما يدل على أن فعل الله سبحانه وتعالى وحكمه أعدل من حكم العباد, وبعض الناس يبغي من جهة الظلم, إذا وقعت لديه مظلمة من شخص قد أحسن عليه إحساناً كبيراً, ثم وقع عليه بغي وظلم في حالة, أو في قضية أو نحو ذلك, يقوم بالدعاء عليه, ويقوم بذكر مثالبه ومساوئه وغير ذلك, وينسى جبال فضله كاملة, فالله سبحانه وتعالى يأخذ دعاءه بقدر المظلمة لا بقدر الحرارة القلبية التي يجدها في مثل هذا الأمر, ثم يقرنها الله جل وعلا بفضله السابق, ويجد الإنسان ويكتشف أن هذا أمر جزء يسير جداً.
لهذا نقول: إن الإنسان إذا أراد أن يتوازن في مواضع الخلاف, ومواضع الخصومات, عند من يود أو بينه وبينه صلة, أن يزن الأمور الحاضرة بالأمور السابقة, الأمور اللاحقة بالأمور السابقة, ينظر إليها ثم يوازنها, فيخرج بحكم عدل لا يندم معه أبداً, والناس الذين يندمون يأخذون قراراً حاضراً لألم حاضر, وينسون ما مضى, ثم بعد ذلك إذا ذهبت حرارة هذا الحاضر بعد سنتين, فارقت زوجتي وندمت, فارقت شريكي, فارقت صاحبي, فارقت صديقي في موقف, ونحن عشنا عشر سنوات ونحو ذلك, ما الذي جعله يندم؟ أنه نسي الفضل الذي كان بينهم, فأخذ بميزان آخر, والله عز وجل لا ينظر إليه, ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].
يعني: يعلم سابق أمركم, ويعلم اللاحق من أموركم, فعليكم أن تعدلوا مع أنفسكم, ولا تظلموا ولا تبغوا, ولا تعتدوا على أحد وتجحفوا, تغضوا الطرف عن حسنات كثيرة وتنظروا إلى سيئات يسيرة.
كذلك فيه تشويف ما بين الزوجين, أن ينظروا إلى الأمور الحسنة من الخير والفضل والإحسان الذي يكون بينهم, ولا يستحضروا أمور السوء, وهذا فيه مغالبة لأمور القلب, أن النفوس دائماً تذكر السيئ, والشيطان يحرص على تغييب الحسن, الله عز وجل هنا يريد دفع هذا الأمر, ويذكر بغيره, ولهذا نقول: من العدل مع النفوس أن الإنسان إذا استحضر مظلمة أحد فليستحضر حسنته وعدله, فإذا جاءه الشيطان فذكر السيئ فليستحضر غيرها حتى يعالج بعضها بعضاً, حتى يقوم الإنسان بالإنصاف, وهذا هو موضع العدل الذي لا يلقاها إلا صابر وتقي ومن وفقه الله سبحانه وتعالى إلى عدل وإنصاف.
نكتفي بهذا القدر, وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وأسأله جل وعلا أن يجعلنا من أهل العفو والفضل والمسامحة والصفح, وأسأله سبحانه وتعالى أن يطهر نفوسنا وقلوبنا من شحها, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر