الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيما يتعلق بالمتبقي من الأحاديث نورد شيئاً من ذلك.
أول هذه الأحاديث هو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله جل وعلا: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] قال: تمام الحج أن تحرم به من دويرة أهلك ).
هذا الحديث رواه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بن نوح عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث منكر لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعاً، وذلك لتفرد جابر بن نوح به، وهو منكر الحديث، وقد أنكره عليه غير واحد من الأئمة كـالبيهقي رحمه الله فإنه قال: فيه نظر، وأعله به ابن عدي رحمه الله في كتابه الكامل، وابن الصلاح رحمه الله، وقد تفرد بهذا الحديث عن محمد بن عمرو به عن أبي سلمة عن أبي هريرة به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث جاء موقوفاً على علي بن أبي طالب عليه رضوان الله من حديث شعبة بن الحجاج ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة عن علي بن أبي طالب موقوفاً عليه، وجاء أيضاً عن عمر بن الخطاب من حديث الزهري عن عمر بن الخطاب ، والموقوف أمثل من المرفوع، والمراد بقوله: ( أن تحرم به من دويرة أهلك )، يعني: أن تنشئ الحج والعمرة من بلدك التي أنت فيها ولو كنت قبل الميقات، وهذا يخالف ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عباس وحديث عبد الله بن عمر .
الحديث الثاني: وهو حديث بلال عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له لما فسخ الحج قال: فسخ الحج لنا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لنا خاصة ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد ، و أبو داود ، و النسائي ، و ابن ماجه ، من حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وهو ربيعة الرأي، يرويه عن الحارث بن بلال عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث منكر، بل هو باطل، وقد تفرد بهذا الحديث ربيعة عن الحارث، و الحارث مجهول، وهو مخالف للأحاديث التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاءت في حديث جابر حينما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فسخ العمرة، قال عليه الصلاة والسلام: (بل لأبد الأبد)، يعني: للناس عامة، وقد أنكر هذا الحديث الأئمة، فأنكره الإمام أحمد ، و البيهقي ، و ابن القيم ، وغيرهم، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص شيء من المناسك به وبأصحابه، ولهذا أخذ هذا الحديث على الحارث يرويه عن بلال، و الحارث مجهول، وقد أنكره عليه ابن عدي رحمه الله أيضاً في كتابه الكامل، وقد أقسم ابن القيم رحمه الله على نكران هذا الحديث وبطلانه.
الحديث الثالث: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته استغفر وسأل الله الجنة، واستعاذ به من النار ).
وهذا الحديث حديث منكر، رواه أحمد و البيهقي وغيرهم، ورواه الشافعي في كتابه الأم من طريق إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن صالح بن محمد بن زائدة ، عن القاسم ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث وقع فيه اضطراب، أولاً: إسناده منكر، وذلك لأن إبراهيم منكر الحديث، وإن توبع عليه فـصالح بن محمد أيضاً منكر الحديث، وقد ضعفه عامة الأئمة، وقد اضطرب في هذا الحديث فتارة يرويه عن القاسم مرسلاً، وتارة يجعله مسنداً، ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء أو ذكر معين مع التلبية شيء، وإنما جاء في البخاري التهليل بعد التلبية.
الحديث الرابع: هو حديث عبد الله بن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المعتمر يلبي حتى يستلم الحجر )، وحديث عبد الله بن عباس هذا حديث منكر أيضاً، وذلك أنه معلول الإسناد ومنكر المتن، وأما نكارة إسناده فهي أنه يرويه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن عبد الله بن عباس ، وهذا الحديث تفرد برفعه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وفيه تحديد التلبية في استلام الحجر، و محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإن كان فقيهاً إلا أنه ليس بضابط، وهو ضعيف الحديث، وقد جاء هذا الحديث موقوفاً، رواه عبد الوهاب و همام عن عطاء عن عبد الله بن عباس موقوفاً، وهذا فيه إشارة إلى أن أهل الرأي من الكوفيين يرفعون الأحاديث، ولهذا عبد الوهاب و همام وقفا الحديث عن عبد الله بن عباس، و محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى رفع الحديث.
ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر إسناداً، ومنكر من جهة المتن برفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام لمخالفته للثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يلبي إلى أدنى الحل )، وذلك ما جاء في الصحيح من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر يلبي إلى أدنى الحل، وهذا أصح من حديث عبد الله بن عباس ، ومن العلماء من قال: إن المعتمر يختلف عن الحاج، فالمعتمر يلبي إلى الحجر، وأما الحاج فيلبي إلى حدود الحرم، والصواب أن الحاج أو المعتمر يشتركان في التلبية، وهذا بالنسبة لابتداء الإنسان ودخوله حدود الحرم، إذا كان خارجاً منها، وأما بالنسبة للإنسان إذا كان محرماً في يوم التروية أو يوم الثامن فإنه يلبي إلى رمي جمرة العقبة، وذلك لاشتراك المفرد والقارن والمتمتع في دخول الحرم بالإحرام، ثم يمسكون عن التلبية إلى الانتهاء من العمرة، فإذا انتهى المتمتع من العمرة تحلل، وحينئذ لا يلبي، أما المفرد والقارن فإذا طاف طواف القدوم ثم سعى سعياً للحج تقديماً فهل يستمر بالتلبية باعتبار أنه لم يتحلل؟ نقول: يستمر بالتلبية بعد سعيه على الصفا والمروة، باعتبار أنه كان محرماً، وأمسك عند دخول حدود الحرم، ونقول: الأصح في هذا ما جاء في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية عند أدنى الحل ).
الحديث الخامس: هو حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد و الترمذي وغيرهم من حديث عطاء بن السائب ، عن طاوس بن كيسان ، عن عبد الله بن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث معلول بالوقف، فقد رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث إبراهيم بن ميسرة ، و عبد الله بن طاوس ، كلاهما عن طاوس بن كيسان موقوفاً عليه، وهو الصواب، ولا يصح هذا الحديث مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن عبد الله بن طاوس و إبراهيم بن ميسرة أوثق من عطاء بن السائب في روايته عن طاوس ، و عطاء بن السائب يخلط في بعض حديثه، وربما رفع الموقوف، ثم إن في قوله: إلا أنكم تتكلمون فيه، مثل هذا أقرب إلى الموقوف من المرفوع من جهة المعنى، وذلك أنه يباح للإنسان إذا طاف غير الكلام، كعدم استقبال القبلة، والحركة، وكذلك إذا نقض الإنسان وضوءه ذهب وتوضأ ورجع باتفاق العلماء فأتم طوافه، وهذا عند عامة العلماء ولم يخالف في هذا إلا قول ينسب إلى الحسن ، وهذا يدل على أن المستثنى من الطواف أكثر من الكلام.
وهذا يستدل به من قال بوجوب الطهارة للطواف، والصواب أن الطهارة للطواف سنة، ولا خلاف في سنيتها؛ لأنه من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث عائشة ، وأما بالنسبة للأمر أن الطواف صلاة وأن لازم ذلك الوضوء، فنقول: إن الاستدلال باللازم في قوله: ( الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه )، يلزم من هذا أن نقيس عليه غير الطهارة، من استقبال القبلة، وهذا متعذر، والحركة وهذا مناف لأصله أصلاً، وإلا لم يسم طوافاً، وهذا يدل على أن هذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام من جهة المعنى، وإنما هو من أقوال عبد الله بن عباس التي يفتي بها على سبيل الاعتراض ربما لبعض الناس.
الحديث السادس: حديث عبد الله بن عباس: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلبي ويقول: لبيك اللهم عن شبرمة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي وغيرهم، من حديث عبدة بن سليمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن عزرة ، عن قتادة ، وجعله مرفوعاً، وهذا الحديث الصواب فيه الوقف على عبد الله بن عباس من حديث عبدة بن سليمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن عزرة عن قتادة عن سعيد عن عبد الله بن عباس موقوفاً عليه، وذلك أن هذا الحديث يرويه عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة ، وخالف فيه سائر أصحاب سعيد بن أبي عروبة ، و سعيد من يروي عنه من أهل بلده أوثق ممن يروي عنه من غيرهم، وأهل بلده يروون عنه هذا الحديث موقوفاً على عبد الله بن عباس ، بخلاف رواية عبدة بن سليمان.
كذلك فإن هذا الحديث جاء من غير هذا الوجه من حديث الحارث عن قتادة به موقوفاً، ومن نظر إلى كلام الأئمة النقاد يجد أنهم يعلون هذا الحديث بالوقف، فقد أعله الإمام أحمد رحمه الله، وقال: في رفعه خطأ، وقال يحيى بن معين: ليس يرفع إلا من هذا الوجه، وقال ابن المنذر عليه رحمة الله: ليس بثابت، يعني مرفوعاً، وأعله أيضاً الطحاوي رحمه الله ومال إلى صحة الموقوف، وهذا الحديث يتفرع عنه المسألة التي يتكلم عليها العلماء في مسألة النيابة، أن الإنسان إذا حج عن غيره ولم يحج عن نفسه أنه يلزمه أن يجعل الحجة هذه عن نفسه وإلا لم يجز له الحج أصلاً، قال بعضهم وهو ظاهر المذهب: أن الإنسان إذا حج عن غيره ولم يحج عن نفسه فإن تلك الحجة تقع عن نفسه، وأنها لا تنصرف إلى غيره، وعليه أن يأتي بحجة عن غيره أخرى، وهذا القول فيه نظر، والصواب صحة النيابة عن الغير، ولو لم يحج عن نفسه إذا كان معذوراً بعدم الإتيان إلى مكة، كأن يكون الإنسان مثلاً من أهل الآفاق ولا يستطيع الذهاب إلى مكة، وليس لديه مال، فجاءه رجل رغب أن يحج عنه، فنقول: إن حجته تلك صحيحة، وغاية ما في هذا الحديث في قول عبد الله بن عباس : ( حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )، إشارة إلى الأولى وليس المراد بذلك هو إسقاط الحج وأجره، وأن المراد بهذا هو ألا يفرط الإنسان وهو قادر.
الحديث السابع: هو حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تقضي الحائض المناسك إلا الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة )، وهذا الحديث رواه الطبراني في كتابه المعجم من حديث عيسى بن يونس ، عن عمر بن صهبان ، عن نافع عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث منكر من جهة المتن، ومنكر من جهة الإسناد، أما من جهة المتن فقوله: ( إن الحائض تقضي المناسك إلا الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة )، فهو مخالف لحديث عائشة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )، يعني: أنه يباح لك أعمال المناسك إلا الطواف بالبيت، ولم يذكر في الاستثناء الصفا والمروة، وأما النكارة الإسنادية فإن هذا الحديث صوابه أنه موقوف على عبد الله بن عمر ، وليس بمرفوع، والدليل على ذلك أن هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: تقضي الحائض المناسك إلا الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، و عبيد الله بن عمر هو من أوثق إن لم يكن أوثق أصحاب نافع ، وقد روى هذا الحديث موقوفاً على عبد الله بن عمر ولم يرفعه، وهذا هو الصواب.
الحديث الثامن: هو حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أنه قال: ترفع الأيدي عند البيت، بحديث أتم من هذا، وهذا الحديث رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث منكر، وذلك أنه لا يثبت رفع لليدين عند رؤية البيت.
هذا الحديث رواه الشافعي وعنه البيهقي ، ورواه الدارقطني وغيرهم من حديث سعيد بن سالم ، عن ابن جريج ، عن نعيم بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عباس ، وفي إسناده انقطاع، وهذا الحديث جاء موقوفاً على عبد الله بن عباس كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث محمد بن فضيل عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن عبد الله بن عباس ، وجاء أيضاً من مرسل ابن جريج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الشافعي و البيهقي في رفع اليدين عند رؤية البيت، وحديث ابن جريج مرسلاً معضل، ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر في رفع اليدين عند رؤية البيت.
الحديث التاسع: حديث عائشة عليها رضوان الله أنها قالت: ( حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بنا الرهبان سدلت إحدانا جلبابها على وجهها ).
هذا الحديث رواه أحمد في المسند و أبو داود ، وغيرهم من حديث يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد بن جبر ، عن عائشة به، وهذا الحديث معلول بتفرد يزيد بن أبي زياد به عن مجاهد ، و يزيد بن أبي زياد له مناكير يتفرد بها، وقد تقدم شيء منها، وقد ضعفه عامة الأئمة، وظاهر حاله أنه لا يقبل حتى في المتابعات، وأعل بالانقطاع بين مجاهد و عائشة ، مع أن حديث مجاهد عن عائشة في الصحيحين، إلا أن يحيى بن سعيد القطان قد أعل رواية مجاهد عن عائشة بالانقطاع، وقال: لم يسمع مجاهد من عائشة ، ومثل هذا ما كان من الروايات التي في الصحيحين، ويقول بعض العلماء: أن الراوي لم يسمع من شيخه، سواءً كان من التابعين عن الصحابة أو من أتباعهم عمن فوقهم، والموقف من ذلك أن ما كان في الصحيحين ينبغي ألا يعل ما استقام المتن، وإذا كان في المتن شيء من النكارة فلا حرج من الإعلال، ولو كان أصل الرواية في الصحيحين، وعادة الأئمة أن المتن إذا وقع فيه شيء مما يستنكر أنهم يردون الحديث بأدنى العلل، ولو كان مما يخرجه البخاري عادة، سواءً من الرواة أو كان من السماع، ولهذا بمثل هذا الحديث إذا قيل: إنه تفرد به يزيد بن أبي زياد العلة في ذلك ظاهرة، وقد لا يحتاج إلى ذكر رواية مجاهد عن عائشة .
الحديث العاشر: هو حديث عبد الله بن عمرو: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التزم البيت وقال: هنا تسكب العبرات ).
هذا الحديث رواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و المثنى بن الصباح منكر الحديث وهو متروك، وقد رواه البيهقي وغيره، وقد جاء التزام البيت في غيرما خبر ولا يثبت من ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصح ما جاء في هذا هو عن عبد الله بن عباس .
الحديث الحادي عشر: هو حديث جابر بن عبد الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى طوافه ذهب إلى المقام وقال: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127] ثم صلى خلف المقام ركعتين، وقرأ فيهما بـ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] ).
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد ، قال: ولا أحسبه إلا يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه غيره فيمن يرويه عن جعفر بن محمد ، كـيحيى بن سعيد ، و يونس ، ورواه أيضاً في بعض الوجوه حاتم بن إسماعيل ، وما ذكر هاتين السورتين، ويظهر والله أعلم أن هذا ليس من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من فعل جابر ، وإنما من قول أو فعل محمد ، وقد أنكر هذا الحديث أبو حاتم، يعني: قراءة السورتين، والخطيب البغدادي في كتابه الفصل، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة سورة معينة في ركعتي الطواف، ولكن ظاهر أمره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطيل، وهذا هو السنة في صلاة السفر عموماً حتى الفريضة، أن تكون يسيرة، فيقرأ فيها في القصار ولو كانت فجراً، فيقرأ فيها بقصار السور، فهذا ظاهر عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين وغيرهم.
الحديث الثاني عشر: هو حديث عبد الله بن عباس أنه ذكر قصة الرجل الذي وقصته ناقته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تغطوا وجهه ).
وجاء في الصحيح من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس ، ولكن ليس في الصحيحين ذكر تغطية الوجه، وإنما جاء في مسلم ، وقد روى هذا الحديث عن سعيد بن جبير اثنا عشر راوياً، وأكثرهم على عدم ذكر تغطية الوجه، رواه أيوب ، و عمرو بن دينار ، و الحكم ، وغيرهم، عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس ، وأكثر الروايات على عدم ذكرها، وقد أعل هذه الرواية البخاري رحمه الله، وأن ذكر تغطية الوجه للمحرم في حديث عبد الله بن عباس غير محفوظة، وأن الصواب هو النهي عن تخمير الرأس لا تغطية الوجه، ويؤيد القول بالإعلال أن ظاهر الحديث في قوله: ( ولا تغطوا وجهه )، أن تغطية الوجه للمحرم من محظورات الإحرام، وليس كذلك، فعمل عامة العلماء من الصحابة على تغطية الوجه للمحرم، جاء هذا عن عثمان بن عفان ، و عبد الرحمن بن عوف ، و زيد بن ثابت ، و جابر بن عبد الله ، و سعد بن أبي وقاص ، وغيرهم أنهم يقولون بجواز تغطية الوجه للمحرم، قال ابن قدامة : ولا نعلم في ذلك خلافاً، يعني عنهم، ولكنه قد جاء من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما فوق الذقن من الرأس فلا يغطه المحرم، ومثل هذا الحديث عن عبد الله بن عباس لو كان ثابتاً في النهي عن تغطية وجه المحرم لما كان عامة العلماء على عدم العمل به من الصحابة.
ومن قرائن الإعلال: أن الحديث إذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يعمل به الصحابة أو عامتهم أن هذا من قرائن الإعلال، ومثل هذا الحكم في تغطية الوجه يحتاج إليه كثيراً، ثم نجد أن عامة الصحابة على جواز ذلك، فهذا دليل على عدم ثبوت النهي أصلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذكر الزيادة في هذا الحديث منكرة، وكذلك لو ثبت هذا النهي لنقل عن عبد الله بن عباس، فـعبد الله بن عباس من الفقهاء ومن أبصر الناس بالمناسك، وقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما نقل عنه القول بمنع تغطية وجه المحرم، وهذا قرينة على الإعلال.
الحديث الثالث عشر: هو حديث عبد الله بن عباس أيضاً أنه قال: ( عجباً لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله، قال: إنما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ومن هنا اختلفوا )، يعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج حجةً واحدة فالقصة لم تتعدد، اختلافهم أن هناك من رأى شيئاً وآخر رأى شيئاً آخر فنقلوا، فمنهم من قال: أهل عند الشجرة بعد الصلاة لما رأوه كذلك، ومنهم من سمع إهلاله بالتلبية فظن أن هذا أول الإهلال فابتدأ من هنا، وهذا إشارة إلى الخلاف، لكن هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود و البيهقي من حديث خصيف عن مقسم عن عبد الله بن عباس ، وهذا الحديث أعل برواية خصيف عن مقسم ، و خصيف في حديثه لين، ورواياته المرفوعة عن مقسم فيها ضعف، وقد تفرد بهذا الحديث بهذا التمام عن عبد الله بن عباس ، ولهذا نقول: إن هذا الحديث إسناده ليس بقوي، وإن جاء عن عبد الله بن عباس الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عند الشجرة، ولكن عبد الله بن عباس في هذا الحديث زاد تفصيلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اختلف عليه لاختلاف الرائين، لاحتمال وقوع التلبية في بعض الروايات مثلاً في حال العمرة، أن تقول التلبية في حال العمرة ولكن عبد الله بن عباس جعل الخلاف على موضع واحد، وهو إحرام النبي صلى الله عليه وسلم في حجه، وأن ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام فهو كذلك.
الحديث الرابع عشر: هو حديث ابن جريج: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل البيت ورآه قال: اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً، وتكريماً ).
الخبر، هذا الحديث رواه الشافعي و البيهقي من حديث ابن جريج معضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يثبت دعاء عنه عليه الصلاة والسلام عند رؤية البيت، ولا عند دخوله إلا ما جاء في دخول المسجد عاماً، وأمثل ما جاء في ذلك ما رواه قتادة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى البيت قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وحينا ربنا بالسلام، وأما في المرفوع فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء.
نقف عند هذا الحد ونكمل إن شاء الله في الغد ما تبقى، ونختم بإذن الله تعالى، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر