بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير والبشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد سبق الحديث عن أغلب الأحكام التي تتعلق بعبادة الصيام، فذكرنا أن للصوم أحكاماً وشروطاً للوجوب وشروطاً للصحة، وأن للصوم مفسدات، وأن هناك أموراً يتحرج منها كثير من الناس ظناً منهم أنها تفسد الصيام وهي لا تفسده، ومن ذلك: الحجامة، ونقل الدم، وبلع الريق، والنخامة، وما يشق الاحتراز منه كغبار الطريق، وغبار الصنعة، ومما لا يفسد الصيام ولكن ينقص أجره: كالغيبة وذكر الناس بالسوء، وكذلك من الأمور التي تجوز في الصيام: التبرد بالماء والانغماس فيه، وتذوق الطعام، فلو أن الإنسان احتاج إلى أن يتذوق الطعام أو الشراب ليعرف حلاوته من ملوحته فلا حرج، واستخدام السواك سواءً كان بعود رطب أو يابس فلا حرج فيه، وكذلك لو أصبح الصائم جنباً، كأن تصيب الإنسان جنابة بالليل ولم يغتسل منها ويطلع عليه الفجر وهو صائم فلا حرج في ذلك كله إن شاء الله.
وهناك مندوبات ينبغي للصائم أن يحرص عليها، من ذلك:
تعظيم هذا الشهر المبارك بالطاعات والإكثار من تلاوة القرآن فيه؛ فإن رمضان هو شهر القرآن؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في تلاوة القرآن في رمضان، فينبغي للصائم أن يحرص على الإكثار من تلاوة القرآن؛ لأن الأجر في رمضان مضاعف؛ ولذلك نعود أنفسنا في رمضان على أن نقرأ القرآن على كل حال، في حال القيام والقعود وكذا الركوب والمشي، وفي حال الانفراد عن الناس أو الاختلاط بهم.
ونعود أنفسنا كذلك على تدبر القرآن ومدارسته كما (كان جبريل يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عام من رمضان فيدارسه القرآن مرة، ولما كان العام الذي توفي فيه -صلوات ربي وسلامه عليه- نزل عليه جبريل فدارسه القرآن مرتين، وقال عليه الصلاة والسلام: وما أراني إلا قد حضر أجلي).
ومما يندب إليه في رمضان: الاجتهاد في العشر الأواخر منه، وهي الليالي التي يلتمس فيها ليلة القدر، والتي تعدل فيها العبادة عبادة أشهر كثيرة، قال الله عز وجل: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد التماساً لهذه الليلة المباركة.
ومما يندب في رمضان: الحرص على أكلة السحر؛ لأن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: ( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( تسحروا فإن في السحور بركة )، ونحرص على أن يكون السحور متأخراَ؛ لأن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يؤخره.
ومن مندوبات الصيام: تعجيل الفطر؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قال في ذلك: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، وإن أحب الخلق إلى الله أعجلهم فطراً)، فبمجرد ما يتحقق الإنسان من غروب الشمس فإن عليه أن يبادر إلى الإفطار ولا يتنطع.
ومن مندوبات الصيام: أن الإنسان يكثر فيه من الدعاء؛ لأن نبينا عليه الصلاة والسلام أخبرنا ( بأن ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والمسافر حتى يرجع، ودعوة الوالد لولده ). ويتأكد استحباب الدعاء عند الإفطار، قبله وبعده، وكان نبينا عليه الصلاة والسلام إذا تناول إفطاره قال: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله )، ولربما قال: ( اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ).
الصوم الذي يجب قضاؤه إذا فسد:
إن أول صوم يجب قضاؤه إذا فسد هو: الصوم الواجب، وقد سبق الكلام فيه حيث قلنا: إن الصوم الواجب على ثلاثة أنواع: صوم رمضان، وصوم النذر، وصوم الكفارة.
فلو كان الإنسان صائماً في رمضان ففسد صومه بواحدة من المفسدات التي سبق ذكرها؛ كتعمد القيء مثلاً، أو تعمد إخراج المذي، فإنه يجب عليه القضاء.
ومثله أيضاً: من أفسد يوم قضائه؛ فإنه يجب عليه القضاء. كما لو كان يقضي يوماً من رمضان وفي أثناء صيامه لهذا اليوم فسد عليه صومه فإنه يجب عليه قضاؤه.
فلو أنه أفسد صيام يوم نذر أو أفسد صيام يوم من أيام الكفارة؛ ككفارة اليمين مثلاً؛ فإنه يجب عليه القضاء، وقال العلماء: يستثنى من ذلك: لو أن الإنسان نذر صيام يوم معين فأفطر بسبب خارجٍ عن إرادته؛ كمرضٍ أو حيض أو إكراه فلا يجب عليه قضاؤه؛ لأن النذر كان محدداً بوقت معين وقد فات هذا الوقت بعذر أوجب الشرع فيه الفطر. فلو أن إنساناً نذر أن يصوم لله الثلاثة الأيام البيض من كل شهر، وهي: اليوم الثالث عشر والربع عشر والخامس عشر؛ فقدر الله في تلك الأيام أن تكون المرأة التي نذرت حائضاً في هذه الأيام؛ فلا يجب عليها القضاء؛ لأنها نذرت وقتاً معيناً وهذا الوقت حصل لها فيه عذر أوجب الشرع بسببه الفطر؛ فإنها تفطر ولا تقضي.
ومثال ما يستثنى أيضاً: أن بعض الناس قد ينذر صيام الخميس دائماً، فإذا قدر الله عليه في يوم خميس مرضاً شديداً فإنه يفطر ولا يقضي؛ لأن الوقت الذين عينه قد فات بعذر أوجب الشرع فيه الفطر.
ومن الصوم الذي يجب قضاؤه عند المالكية: صوم التطوع، إذا أفسده الإنسان متعمداً، فلو أن إنساناً صام يوماً تطوعاً ثم أصابه فوجد طعاماً أعجبه فأكل أو أنه عانى من شدة الحر فشرب، فهذا الإنسان يجب عليه قضاء هذا اليوم رغم كونه تطوعاً؛ واستدلوا بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] وقالوا: من شرع في عمل صالح وجب عليه إتمامه.
واستدلوا ببعض الأحاديث الواردة في السنة: فمنها حديث: ( أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما أصبحتا يوماً صائمتين فأهدي إليهما طعام فأفطرتا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: اقضيا يوماً مكانه ). وهذا الحديث من المراسيل التي في الموطأ، وهي من مراسيل الإمام مالك في الموطأ.
ونحن نعلم بأن كتاب الموطأ الذي جمع فيه الإمام مالك رحمه الله سنناً وآثاراً ثبتت عنده، والموطأ ليس كل ما فيه صحيحاً! فليس كل ما فيه ثبت بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى من رويت عنه، بل هناك بلاغات؛ فحين يقول مالك رحمه الله: بلغني كذا أو بلغني كذا؛ فهذه مراسيل، والحديث المرسل: هو ما سقط منه الصحابي، وهنا مالك رحمه الله روى: (أن عائشة و حفصة أصبحتا يوماً صائمتين فأهدي إليهما طعام فأفطرتا؛ فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: اقضيا يوماً مكانه)، ولكن جمهور العلماء قالوا: إن المتطوع لو أفطر فإنه لا يجب عليه القضاء. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه)، وكذلك للحديث الذي رواه أبو داود عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! قد أفطرت وقد كنت صائمة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أكنت تقضين شيئاً؟ -يعني: صيام أداء أو صيام قضاء- فقلت: لا، فقال لها عليه الصلاة والسلام: لا يضرك إن كان تطوعاً).
إذاً: عرفنا بأن الصوم الذي يجب قضاؤه عند المالكية هو الصوم الواجب، وصوم التطوع لو أفسده الإنسان باختياره، أما إذا كان بإكراه أو كان بعذر؛ كمرض ونحوه أو كان بأمر من تجب طاعته؛ كالوالدين أو أحدهما فلا يجب القضاء.
وهناك صوم إذا فسد فإنه يجب الإمساك فيه، وهو أنواع:
النوع الأول: صوم رمضان، لو أفسده الإنسان سواء كان متعمداً أو ساهياً؛ فإنه يمسك بقية يومه.
مثال ذلك: لو أن إنساناً عصى الله في رمضان فجامع أهله، فقد فسد صومه بإجماع المسلمين ويجب عليه القضاء والكفارة، ولكن عليه أن يمسك بقية يومه.
وكذلك لو أن إنساناً أكل أو شرب ناسياً؛ فقد سبق الكلام أن المالكية يقولون: إنه يجب عليه القضاء، قياساً للصوم على الصلاة، لكونه قد فات عليه أحد ركني الصيام وهو الإمساك، لكن المالكية يقولون: رغم كونه فاسداً إلا أنه يجب عليه الإمساك في بقية يومه.
النوع الثاني من أنواع الصوم الذي يجب فيه الإمساك إذا فسد: صوم الكفارات التي يجب التتابع في صومها. فمثلاً: كفارة القتل الخطأ، قال الله عز وجل: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [النساء:92]، وفي كفارة الظهار قال الله عز وجل: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [البقرة:196]، يعني: الرقبة فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [النساء:92]، وكذلك من أفطر في رمضان بجماع أو بطعام أو بشراب عالماً عامداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام أوجب عليه صيام شهرين متتابعين، فإذا كان الإنسان يصوم كفارة من هذه الكفارات فتناول شيئاً يفسد الصيام سهواً أو غلبة فإنه يمسك بقية يومه.
النوع الثالث: صوم التطوع، فلو أن الإنسان أكل فيه سهواً فإنه يمسك بقية يومه كذلك.
وهناك نوعان من الصيام: صيام يفسد فيجب فيه القضاء فقط دون الكفارة، وصيام يفسد فيجب فيه القضاء مع الكفارة.
فمثال الصوم الذي يفسد ويجب فيه القضاء دون الكفارة: لو أن إنساناً أفطر يوماً من أيام رمضان بعذر، كمن كان مريضاً أو على سفر، أو أن المرأة كانت حاملاً أو مرضعة فأفطرت فلا يجب عليها شيء سوى القضاء، وكذلك من أفطر يوماً من رمضان بتأويل قريب، ومثاله: من أكل ناسياً في رمضان فظن أن صومه قد فسد فتمادى في الأكل، فهذا الإنسان لا يجب عليه إلا القضاء؛ لأنه متأول.
ومثاله أيضاً: من سافر دون مسافة القصر فظن أنه يحل له الفطر فأفطر، فلا يجب عليه إلا القضاء، أو من طلع عليه الفجر وهو جنب فظن أن صومه لا يصح فأفطر، فلا يجب عليه إلا القضاء، وكذلك من احتجم وهو صائم فظن أن صومه قد فسد، لأنه كان قد سمع الحديث الذي فيه: (أفطر الحاجم والمحجوم) فلا يجب عليه إلا القضاء.
ومثاله أيضاً: بعض الناس قد يأكل أو يشرب فيسمع أذان الفجر فيمسك ويمتنع عن الطعام والشراب، لكنه بعد ذلك ظن أنه قد فسد صومه؛ لأنه لم يمسك قبل الفجر بوقت كاف، لأن أكثر الناس يعتقدون بأن هناك وقتاً للإمساك أي: ينبغي له أن يسبق الأذان فيمسك قبله بخمس دقائق أو عشر دقائق أو ربع ساعة -على خلاف تقديرات الناس-، فهذا كله تأويل قريب لا يجب فيه إلا القضاء.
وأما القضاء والكفارة معاً، فإنهما يلزمان أولاً: من أفطر متعمداً، سواءً كان أفطر بجماع أو بطعام أو بشراب.
ومثاله: لو أن إنساناً أفطر يوماً من رمضان متعمداً من غير رخصة رخصها الله له؛ فإن هذا الإنسان يجب عليه القضاء والكفارة.
وكذلك: من أفطر بتأويل بعيد، ومثاله: لو أن إنساناً اعتاد أن تأتيه الحمى في يوم معين من أيام الشهر. كمن تعمد أن يكون محموماً في اليوم العاشر من كل شهر، فلما كان اليوم العاشر من رمضان أصبح مفطراً؛ لأن اليوم هذا هو يوم الحمى عنده، والرجل سيتعب قائلاً: إن الحمى تأتيني في مثل هذا اليوم فأستعد لها فأفطر، فقام من الصباح فأكل وشرب، فهذا الإنسان يلزمه القضاء والكفارة، سواءً جاءت الحمى أو لم تأت؛ لأن هذا تأويل بعيد.
ومثله أيضاً: امرأة اعتادت الحيض في وقت معين؛ كمن اعتادت أن تحيض في كل شهر من اليوم العاشر إلى اليوم الخامس عشر، وفي اليوم العاشر من رمضان أصبحت مفطرة؛ لأن هذا اليوم اعتادت أن تأتيها الحيضة فيه، فهذه يجب عليها القضاء والكفارة، سواءً جاءت الحيضة أو لم تأت؛ لأنها أفسدت اليوم بالإفطار قبل أن يحصل السبب الذي يجب به الإفطار.
وللكفارة ثلاث خصال وهي على التخيير:
الخصلة الأولى: عتق رقبة، ويشترط فيها أن تكون مؤمنة وسالمة من العيوب، إلحاقاً لها بكفارة الظهار أو بكفارة القتل الخطأ؛ لأن الله عز وجل قيدها بالإيمان فقال: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، والآن لا يوجد رقاب أصلاً.
الخصلة الثانية: صيام شهرين متتابعين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي جامع في نهار رمضان: (أعتق رقبة أو صم شهرين متتابعين)، فلو أن هذا المكفر قطع التتابع في صيام الكفارة من غير عذر شرعي لوجب عليه الاستئناف للصوم. أي: لو أنه صام الشهر الأول والشهر الثاني صام فيه مثلاً: خمسة وعشرين يوماً، فصار المجموع خمسة وخمسين يوماً، ثم في يوم السادس والخمسين أفطر، فهذا الإنسان يجب عليه أن يستأنف الصيام من جديد؛ لأنه قطع التتابع من غير عذر.
وصاحب الكفارة مخير إما أن يبدأ الكفارة من أول الشهر وإما أن يبدأها من نصف الشهر، يعني: لو أن إنساناً وجب عليه صيام شهرين متتابعين، فيمكنه أن يصوم رجب وشعبان، فإذا ابتدأ من أول رجب فإنه لا يضره أن يكون الشهران تسعة وخمسين يوماً، أو ثمانية وخمسين يوماً، فلو فرض بأن رجب كان تسعة وعشرين وشعبان تسعة وعشرين فلا حرج عليه؛ لأن الله قال: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ[النساء:92] وقد حصل المقصود بصيام الشهرين.
أما لو ابتدأ الشهر من النصف فلا بد أن يكمل ستين يوماً. فمثلاً لو أن إنساناً بدأ الصيام من يوم عشرة ربيع أو من يوم خمسة ربيع؛ ففي هذه الحالة لا بد أن يكمل ستين يوماً؛ فلو أنه قطع التتابع بعذر، من مرض أو سفر أو حيض أو إكراه؛ فإنه يبني على ما مضى ويقضي الأيام التي أفطرها، أي: وبعد زوال العذر يعوض الأيام التي أفطرها. يعني: لو أن إنساناً بدأ صيام الكفارة في اليوم العاشر من ربيع الأول، واستمر صائماً فقدر الله عليه مرضاً، فأفطر يومين، فبعد زوال المرض يواصل في صيامه، وفي نهاية الأمر يقضي مكان اليومين يومين آخرين ولا حرج عليه إن شاء الله.
الخصلة الثالثة: الإطعام، وهو: أن يتصدق بستين مداً من قمح على ستين فقيراً أي: لكل فقير مد. والمد هو: ملء الكفين المعتدلتين، ويختلفون في تقدير هذا المد.
وأجاز علماؤنا هذه الصورة وهي: بدلاً من أن يملك الفقير هذا المد أنه يمكن أن يطعمه، وهذا هو الأنسب والأكثر تحقيقاً لمراد الشرع، فبدلاً من أن يوزع القمح على الفقراء يمكن أن يصنع منه طعاماً ويدعوهم فيطعمهم، ويكون مع هذا الخبز ما يؤتدم به من ملاح أو لحم ونحوه، فأدعو هؤلاء المساكين منفردين أو مجتمعين فأطعمهم.
قالوا: ويجوز أن تعطي الأسرة الواحدة أمداداً بعدد أفرادها، فإذا وجب عليك إطعام، وعندك جار فقير له أسرة تبلغ عشرة أفراد فيمكن أن تعطيهم عشرة أمداد من غير تفريق بين كبير أو صغير.
قالوا: ولا يجزئ أن يعطى هذه الأمداد لمسكين واحد بل لا بد من إطعامهم بالعدد الذي عينه الشرع.
والكفارة تتعدد بتعدد الأيام التي أفسدها الصائم، فلو أن إنساناً أفطر عامداً عالماً ثلاثة أيام من رمضان فإن عليه ثلاث كفارات، ولو أنه أفطر عشرة أيام فإن عليه عشر كفارات.. وهكذا، ومن أفطر رمضان كله فعليه ثلاثون كفارة، فتتعدد الكفارات بتعدد الأيام التي فسد فيها الصوم، وهذا الذي يسميه علماؤنا بتعدد الموجب، ولا تتعدد الكفارات بتعدد المفسد في اليوم الواحد؛ فمن جامع في نهار رمضان ثم أكل متعمداً ثم شرب متعمداً ثم أمنى متعمداً -مثلاً- فهذا قد تعددت الأسباب الموجبة للكفارة في حقه في يوم واحد، لكن ليس عليه إلا كفارة واحدة، فمن جامع وأكل في يوم واحد فليس عليه إلا كفارة واحدة.
والكفارة لا تلغي القضاء، فعليه القضاء والكفارة معاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه ذلك الأعرابي الذي جامع في نهار رمضان أمره النبي عليه الصلاة والسلام بأن يصوم يوماً مكان اليوم الذي أفسده، ثم أخبره عليه الصلاة والسلام بالكفارة.
وهناك سنن قد هجرها كثير من الناس في رمضان مثل: سنة الاعتكاف.
والاعتكاف في اللغة معناه: اللزوم والحبس، ومنه قول إبراهيم عليه السلام لقومه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، ومنه: قول الله عز وجل: قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهمْ [الأعراف:138].
والاعتكاف معناه في الشرع: أن يلزم الإنسان مكاناً مخصوصاً لا يتعداه وهو المسجد على عمل مخصوص دون سواه، وهو الذكر والقرآن والدعاء والاستغفار والصلاة على شروط أحكمتها السنة.
وهذا الاعتكاف قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه، وكان يعتكف في رمضان، واعتكف أزواجه من بعده، ( فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يعتكف العشر الأوائل من رمضان، فنزل عليه جبريل وقال له: يا محمد! إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأواسط من رمضان، فقال له جبريل: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر من رمضان ) واستمر على هذا الهدي عليه الصلاة والسلام ولم يترك الاعتكاف إلا مرتين عليه الصلاة والسلام: الأول: لأنه خرج في غزوة الفتح، والثاني: بسبب مشكلة عائلية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بخبائه فضرب، فجاءت عائشة فأمرت بخبائها فضرب إلى جوار خباء الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم جاءت زينب فأمرت بخبائها فضرب إلى جوار خباء النبي عليه الصلاة والسلام، ثم جاءت زوجة ثالثة فأمرت بخبائها فضرب، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ما هذه الأخبية؟ فقالوا: لـعائشة و زينب وفلانة، فقال عليه الصلاة والسلام: آلبر أردن؟ ). يعني: هل اعتكاف هؤلاء الزوجات لوجه الله ومن أجل البر؟ أو أنه نوع من الغيرة والتنافس على الزوج؟ فأمر بالأخبية كلها فقوضت، حتى خباءه وترك الاعتكاف.
ثم اعتكف العشر الأول من شوال؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ( كان إذا عمل عملاً أثبته )، فعندما ترك الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان اعتكف مكانهن العشر الأوائل من شوال.
والسنة التي لم يعتكف فيها بسبب السفر، اعتكف مكانها منها في السنة التي تليها عشرين يوماً من رمضان، فبدلاً من أن يعتكف عشرة أيام اعتكف عشرين يوماً، فكأنه يقضي الأيام التي فاتته عليه الصلاة والسلام.
والاعتكاف رياضة للروح، وتربية للنفس، واعتزال للناس في هذه الأيام المعلومة من أيام السنة، كأن الإنسان يعزل نفسه في مصحة نفسية، فيبتعد فيها عن ضجيج الحياة وشهواتها وسيطرة المادة، يعتزل ويخلو بربه جل جلاله، فيدعوه ويرجوه ويذكره ويستغفره ويتملقه ويناجيه، ويكثر من نوافل الصلاة والذكر والتسبيح وتلاوة القرآن وما إلى ذلك.
وليس الاعتكاف كما يظن كثير من الناس أنه أنس ومرح ولعب وكلام بالهاتف الجوال وما إلى ذلك، فهذا كله مما يناقض المراد من الاعتكاف.
وأقل الاعتكاف عند المالكية يوم وليلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتكف أقل من ذلك. وقالوا: إن الاعتكاف لا يصح إلا بصيام، والصوم أدناه يوم، وأما أفضله فهو عشرة أيام.
فالمالكية رحمهم الله يقولون: لا اعتكاف إلا بصوم، ولكنا نقول: الصحيح أنهما عبادتان منفصلتان، فيصح للإنسان أن يعتكف وهو صائم ويصح له أن يعتكف دون صيام.
والدليل على ذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأوائل من شوال )، ولا يتصور أنه كان صائماً يوم العيد؛ فعلم بذلك أنهما عبادتان منفصلتان؛ فكما يصح الصوم بلا اعتكاف فإنه يصح الاعتكاف بلا صوم.
ويبدأ المعتكف اعتكافه من الليل قبل غروب الشمس، بحيث يستقبل الليل وقد دخل معتكفه؛ لأنه ورد ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان دخل معتكفه قبل غروب شمس يوم العشرين )، من أجل أن يستقبل ليلة إحدى وعشرين وقد لزم معتكفه عليه الصلاة والسلام.
والاعتكاف يلزم بالنذر فيه؛ فلو أن الإنسان نذر أن يعتكف في مسجد معين فلا يلزمه الوفاء بهذا النذر إلا إذا كان للمسجد خصوصية. فمن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام مثلاً فهذا يلزمه، لكن لو أن إنساناً نذر أن يعتكف في مسجد لا خصوصية له، فلا يلزمه أن يعتكف فيه، بل يجزئه في أي مسجد؛ لأن المساجد كلها سواء، ومن نذر أن يعتكف في مسجد له خصوصية أجزأه أن يعتكف فيما هو أفضل منه.
مثاله: من نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى فإنه يجزئه أن يعتكف في المسجد النبوي، ومن نذر أن يعتكف في المسجد النبوي أجزأه أن يعتكف في المسجد الحرام، ومن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لزمه الوفاء به؛ لأنه لا أفضل منه، ويدل على ذلك: ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف في بيت المقدس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعتكف هاهنا )؛ لأن مسجد المدينة أو مسجد مكة أفضل من المسجد الأقصى.
والاعتكاف يشترط له شروط:
الشرط الأول: النية، أي: نية التقرب إلى الله عز وجل.
الشرط الثاني: الإسلام؛ لأن أي عمل بغير إسلام فهو باطل.
الشرط الثالث: التمييز؛ فلا يصح الاعتكاف من فاقد العقل؛ لأن فاقد العقل ليس أهلاً للتكليف.
الشرط الرابع: الصوم كما هو مذهب المالكية، فلا يصح عندهم اعتكاف من غير صوم، قالوا: لأن الله قرن بين العبادتين فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ [البقرة:187]؛ فقد ذكر الله الاعتكاف مع الصيام، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف وهو صائم، وقال ابن عمر: لا اعتكاف إلا بصيام.
الشرط الخامس: الكف عن الجماع؛ لأن الله قال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ [البقرة:187]. وليس المقصود من الآية النهي عن الجماع في المسجد؛ فهو لا يتصور أصلاً، وإنما النهي عن الجماع حال الاعتكاف. فلو أن إنساناً خرج من المسجد؛ لأن المسجد ليس فيه حمامات، وذهب إلى بيته من أجل أن يقضي حاجته، فجامع أهله في ليلة من الليالي التي يعتكف فيها فقد فسد اعتكافه.
وكذلك من لمس امرأته أو قبلها بشهوة فقد بطل اعتكافه أيضاً.
ولا مانع للمعتكف أن يغتسل ويتطيب ويتنظف ويرجل شعره ويحافظ على حسن مظهره؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يدخل رأسه لـعائشة وهو معتكف في المسجد فترجله وهي حائض)؛ وهذا لأن بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم -الحجرات- كانت مجاورة للمسجد، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً هنا فقد كان يدخل رأسه إلى عائشة فترجله وهي في بيتها وهي حائض رضي الله عنها.
وركن الاعتكاف: لزوم المسجد، ولذلك لا يصح الاعتكاف في غير المسجد، فإذا كان اعتكاف العشر الأواخر لا بد أن يكون في مسجد جامع تقام فيه الجمعة؛ لأنه لو خرج من المعتكف لصلاة الجمعة فقد بطل اعتكافه، ولو ترك صلاة الجمعة بدعوى الاعتكاف فقد أثم، لأنه اشتغل بسنة عن واجب، ولذلك نقول: لا بد أن يكون الاعتكاف في مسجد جامع، أما إذا كان الاعتكاف في أيام لا يكون فيها يوم جمعة، كمن اعتكف ثلاثة أيام مثلاً ليس فيها جمعة فيجزئه أن يعتكف في مسجد غير جامع، وهو ما يسمى بالزاوية، وهذا مصطلح اتفق الناس على تسميته في زماننا بالزاوية.
إذاً: شروط الاعتكاف هي:
الشرط الأول: النية. الشرط الثاني: الإسلام. الشرط الثالث: التمييز. والشرط الرابع: الصوم عند المالكية. والشرط الخامس: ترك الجماع ومقدماته.
نقف عند هذا الحد، ونسأل الله أن ينفعني وإياكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر