أحبتي الكرام! ذكرنا سابقاً مقدمة لابد من ذكرها لطالب العلم؛ حتى يعرف أهمية أصول الفقه وفوائده، وذكرنا الخلل الحاصل في المرحلة العلمية في هذا العصر؟ وسببها وغير ذلك.
والآن سوف نشرح هذا الكتاب، والغرض من الشرح ليس فقط فك رموز كلام المؤلف، بل الغرض هو ما يمكن أن يستفيده طالب العلم من الكتاب، فلن نهتم بفك العبارات، والاعتراضات ورد الاعتراضات، والأخطاء التي وجدها العلماء في التعريفات وغير ذلك، لكننا سنشير إليها على عجالة.
المؤلفون رحمهم الله حين التأليف أول ما يذكرون حمدهم لله سبحانه وتعالى، والثناء عليه بما هو أهله، ثم يذكر بعضهم بعد ذلك سبب تأليفه لهذا الكتاب، إما رغبةً في تيسير هذا العلم، وإما لاختصاره، أو شرحه، وإما طلباً ممن لا يسعه مخالفتهم، وإما أنه قد شرح كتاباً من كتبه؛ فأراد أن يفصله، أو يفك ألغازه.
وهكذا ينبغي لطالب العلم أول ما يشق طريقه أن يتوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن يستعين به، وأن يكثر من الدعاء والثناء على الله سبحانه وتعالى، فإذا أراد أن يفهم باباً من أبواب الفقه، أو أن يستوعب كتاباً من الكتب؛ فعليه أن يكثر من الاستعانة بالله سبحانه وتعالى.
وهذا مما يغفل عنه طالب العلم؛ فتجده يجهد جهده في أن يسأل العلماء وطلبة العلم: أي الكتب أحسن؟ وأيها أضبط؟ ولا يكثر من الاستعانة بالله والاستخارة.
ويبتدئ الأئمة رحمهم الله كتبهم بالحمد لله اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يكتب كتبه بأبي هو وأمي -عليه الصلاة والسلام- إلى الحكام وغيرهم، مبتدئه بالحمد لله رب العالمين.
فالصلاة: فيها أوامر، وهي جزئيات كثيرة، والزكاة فيها أوامر. والمستحب قضية كلية، يندرج تحته جزئيات في الصلاة والصيام وغير ذلك. هذا معنى قضية كلية، تندرج تحتها قضايا جزئية.
والمؤلف رحمه الله مهتم بالأصول، وقد ألف كتاباً اسمه: تحقيق الأمل، ذكر فيه مسائل الأصول، وأدلة كل فريق، والرد على المخالف، والاعتراض على الردود، وقد يذكر أحياناً توقفاً في المسألة، أو ترجيحاً.
وأنت سترى أنه أحياناً يختار الراجح؛ مما يدل على أن كلا المسألتين محتملة عنده، وأحياناً لا يشير إلى القول الراجح؛ مما يدل على أن هذه واضحة عنده؛ لا تحتاج إلى مزيد بحث وإطناب.
قوله: (فهذه قواعد الأصول ومعاقد الفصول)، المؤلف هنا لم يسر على ما سار عليه الذين ألفوا القواعد الأصولية، بأن يذكروا القاعدة، مثل: الأصل في الأوامر الوجوب، ثم يذكرون أمثلة عليها، والأصل في الأمر التكرار أو عدم التكرار، ثم يذكرون الأمثلة، والأصل في العموم أنه على عمومه ما لم يرد تخصيصه، ثم يذكرون الأمثلة، وإنما سار على طريقة علماء الأصول في ذكرهم للمختصرات، فكأنه قال: تحقيق الأمل هو شرح لكلام الأصوليين، وهذا الكتاب زبدته، فكأنه قعَّده واختصره.
ولهذا تجدون: أئمة التحقيق كشيخنا عبد العزيز بن باز ، وشيخنا ابن عثيمين يهتمون بالتحقيق، فلو قلت للشيخ محمد : ما هو قول أبي حنيفة في كذا؟ ربما لم يعرف هذا القول أو يستحضره، كما قال في مسألة من المسائل: أما الأقوال فلا أحفظها، ولكن الراجح كذا، لماذا؟ لأنه حقق المسألة، وقرأ الأقوال، ثم اختار، وهذا هو الذي ينبغي لطالب العلم.
قوله: [ وتبصرةً للراغب المستعين، وبالله أستعين، وعليه أتوكل ]، وهكذا ينبغي لطالب العلم ألا يتكل إلى نفسه، فإن الإنسان إذا وكل إلى نفسه ولو طرفة عين؛ هلك وعطب.
والصحيح أن تقول: توكلت على الله في توكيلك لهذا الأمر، فقد استخرت ربي، وسألته؛ فاختار لي أن أوكل غيري مكاني وهو فلان، فلا تقل: توكلت على الله ثم عليك؛ لأنك تقول: فوضت أمري إلى الله، ثم فوضت لك وهذا خطأ، فأنت لم تفوض العاقبة والنتيجة والمصير، فهذا كله إلى الله قال تعالى: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غافر:44]، أما المخلوق؛ فإنه ينوب عنك في العمل.
والأصل: ما ينبني عليه غيره، فأصول الفقه: أدلته. والغرض منه: معرفة كيفية اقتباس الأحكام والأدلة، وحال المقتبس ].
المؤلف رحمه الله عرف أصول الفقه، ومن عادة المؤلفين في أصول الفقه أنهم يعرفونه تعريفين: تعريف على أنه مركب إضافي، فيذكرون تعريف الأصول ثم تعريف الفقه، فيفصلون بينهما، ويسمى التعريف مركباً إضافياً.
والتعريف الثاني: على أنه علم مخصوص من علوم الشريعة، ويسمى تعريف باللقب. والمؤلف عكس، فعرفه أولاً تعريفاً باللقب، على أنه علم مخصوص، فقال: أصول الفقه كذا، ثم بعد ذلك ذكر تعريفه بالمركب الإضافي، أصول وفقه وفصلها، ولا مشاحة في ذلك، فكأن المؤلف أراد أن يغير هذه الطريقة من باب تشويق الطالب لما سوف يأتي بعد ذلك.
وقوله: (إجمالاً)، عبر به ليخرج أدلة الفقه التفصيلية التي يعد الاشتغال بها من عمل الفقيه وليس من عمل الأصولي، وبحث الأصولي لا يتعلق ببحث آية، أو حديث، أو قياس معين، إنما يعتمد على الاحتجاج بالكتاب، وكيفية الاحتجاج به، فهل يحتج بالقراءة الشاذة؟ وهل يحتج بالآية التي خالفت الرسم العثماني؟ هذا هو بحث الأصولي.
أما الفقيه فيقول مثلاً في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، في قراءة ابن مسعود : فاقطعوا أيمانهما، فينظر للدليل التفصيلي. أما الأصولي فهو ينظر إلى حجية الكتاب، وكيفية الاستفادة منها، وحجية السنة، وحجية القياس، وشروط القياس، بغض النظر عن قياس معين في مسألة معينة، فالقياس في مسألة معينة دليل تفصيلي ينظر إليه الفقيه.
قول المؤلف: (معرفة دلائل الفقه)، الفقه هنا قصد به المؤلف فقه الأحكام الشرعية، فيدخل في ذلك العقائد، الفقه الذي دل عليه الدليل صراحة، والفقه الذي يحتاج معه الدليل إلى استنباط، مثل: حكم الاستمناء باليد. فإن الأحاديث في هذا الباب كلها ضعيفة، فيستنبط الفقيه -وهذا هو الفقه- حكم التحريم من عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7]، فالفقه: هو معرفة الأحكام الاجتهادية المستنبطة.
ولهذا يقول بعض الفقهاء: ليس الفقيه الذي يحفظ مسائل الفقه بالتقليد وحفظ الدليل، إنما الفقيه الذي يفهم الدليل، ويستنبطه.
وبعض الناس أعطي فهماً للنص، فقد يأتي بأدلة تؤيد ما يقول، وإن كان لم يذكرها الفقهاء رحمهم الله. مثال ذلك: أن بعض طلبة العلم يرى أن ذبح البهيمة مثل الدواجن، وهي تذبح بقطع أوداجها، يقول: الواجب مع الإمكان والقدرة التسمية على الذبيحة المعينة، لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، فهذا في حال القدرة، أما في حال العجز وعدم الإمكان؛ فيكفي أن يسمي على الجميع، وأن يسمي بين الفينة والأخرى، ولا يلزم أن يسمي على المعين، فالذي يذبح يكفيه أن يقول: باسم الله، الله أكبر، ولو ذبح أربعاً أو خمساً، ثم يسمي بعد ذلك، والدليل أنه في حال القدرة تجب التسمية هذه الآية، والدليل أنها لا تجب في حال عدم القدرة ما في الصحيحين من حديث أبي ثعلبة الخشني ( إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله )، فقد ترسل الكلب في الليل، ولا تدري أيصيد أرنباً أو حبارى، أو غزالاً، أو غير ذلك، والكلب هو في حكم الآلة، وذكرك اسم الله لعدم إمكانية تعيين الذبيحة أو الصيد في الغالب، فيأخذ هذا الحكم، وأرى أن هذا استنباط حسن، ولفتة حسنة.
قول المؤلف: (وكيفية الاستفادة منها)، يعني بذلك: الطرق التي نستفيد منها الأحكام، وهذه الطرق تشمل الدلالة اللفظية، والدلالة العقلية، وطرق نصب الدليل التي توصل إلى الدليل، فمثلاً: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، هذه أحياناً نفهمها من النص، فكيف نستفيد في حكم مسألة الاستمناء؟ بدلالة عموم اللفظ العام.
والرسول صلى الله عليه وسلم ( عندما سئل عن الخيل؟ قال: الخيل لثلاثة، قيل: يا رسول الله! فالحمر هل فيها أجر؟ قال: لم ينزل علي في الحمر شيء، إلا هذه الآية الفاذة الجامعة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8] )، هذه الآية، أخذ منها النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أحسن إلى الحمير، ووهبها للغير، وأكرم التعامل معها؛ فإنه يثاب، والدليل فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]، فهذا يدل على الاستنباط وكيفية الاستدلال، فنفهم منه أن عموم الآيات يدخل فيه بعض الأفراد.
وإذا رأينا حيواناً لأول مرة فإننا نسأل: هل هذا الحيوان يأكل بمخلبه، أو بنابه؟ فإن قيل لنا: لا بنابه، ولا بمخلبه، إنما يأكل الحشيش والنبات، قلنا: هذا فرد من أفراد العام فإن ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير )، فإذا لم يكن من هذين ولا من الخبائث، فإنه يجوز أكله، هذه طريقة الاستفادة من الدليل.
قوله: (وحال المستفيد)، المستفيد شخصان: المجتهد والمقلد، أما المجتهد: فهو الذي يستفيد الحكم من الدليل أو الأمارة التي نصبها الشارع؛ لتهديه إلى الحكم، فالمجتهد يبحث عن الأدلة، أما المقلد فهو يستفيد الحكم من المجتهد حين سؤاله والاستفسار منه.
ولهذا قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات: كلام العالم لدى العامي ككلام الرسول صلى الله عليه وسلم لدى المجتهد، ومعنى كلامه: أن العامي إذا سمع العالم الفلاني الذي يثق بدينه وعلمه يقول شيئاً، فإنه يأخذ به ولو كان لا يفقه الدليل، وبهذا نعرف أنه لا يلزم العالم إذا سئل أن يذكر الدليل لكل أحد، وهذه طريقة الأئمة، أنهم أحياناً لا يذكرون الأدلة، كما في المصنفات وكمسائل أحمد وغيرها.
وهذا التعريف حسن من المؤلف رحمه الله، وإن كان الأولى ألا يقل: وكيفية الاستفادة منها؛ لأن الكيفية مصدر صناعي من الكيف، والمصدر الصناعي ليس فصيحاً، والأولى أن يقول: وصفة الاستفادة منها، وحال المستفيد.
(واصطلاحاً: معرفة أحكام الشرع المتعلقة بأفعال العباد)، وعرفه بعضهم بأنه: معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال العباد من أدلتها التفصيلية، فالمؤلف لم يذكر من أدلتها التفصيلية، والأولى ذكرها، وإن كان بعضهم يقول: معرفة أحكام الشرع المتعلقة بأفعال العباد، لابد أن تكون تفصيلية. وعليه: فالفقيه إذا قيل له: ما الدليل على استحباب السواك عند الوضوء؟ بحث عن دليل تفصيلي لهذه المسألة، فيقول حديث: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ).
وقوله: (المتعلق بأفعال العباد)، أفضل من قولنا: بأفعال المكلف، لأن من الفقه معرفة أحكام الصبي والمجنون، فالصبي والمجنون يتعلق بهما ولهما حكم.
أما لهما: فما يكون لهما من الحق، وأما عليهما فكما لو أتلفا شيئاً؛ ضمناه.
(والأصل: ما يبنى عليه غيره)، الأصل يطلق على معان:
المعنى الأول: تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، تعني بذلك القاعدة المستمرة، فالقاعدة المستمرة: هي أن أكل الميتة لا يجوز، فإذا اضطر إليها الإنسان؛ جازت خلافاً للأصل، فالقاعدة المستمرة يطلق عليها الأصل.
ويطلق الأصل أيضاً: على المقيس عليه، فتقول: يجري الربا في الأرز، ولو كان غير مذكور في القرآن أو السنة؛ لأن الأرز فرع عن أصل مقيس عليه وهو البر، فالبر هو الأصل، فكل قياس فيه فرع، وفيه أصل، وفيه علة جامعة بينهما.
ويطلق الأصل أيضاً على الدليل، تقول: أصل وجوب الحج الكتاب والسنة والإجماع، وأصل وجوب الزكاة الكتاب والسنة والإجماع.
ويطلق الأصل أيضاً على مخرج المسألة الفرضية، فتقول: أصل المسألة من اثنين، أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو من اثني عشر، أو من ثمانية عشر، أو من أربعة وعشرين، وهذه أصول المسائل، فلو هلك هالك عن زوج وأب، فإن المسألة من اثنين، للزوج النصف، وللأب الباقي، أو غير ذلك من مسألة الحمارية وغيرها، فهذه الأصول تسمى مخرج المسألة الفرضية.
ويطلق الأصل أيضاً كما يقول الأصوليون: على الاستصحاب. فتقول مثلاً: إذا توضأت لصلاة المغرب، ثم خرجت، وجاء وقت صلاة العشاء، هل أنا طاهر أم لست بطاهر؟ نقول: هل توضأت لصلاة المغرب، ولم يطرأ عليك حدث؟ فإن قلت نعم، قلنا: ارجع إلى الأصل وهو الطهارة، وإن قلت: دخلت دورة المياه ولم أتوضأ، قلنا: ارجع إلى الأصل وهو عدم الطهارة، ولهذا يسميه العلماء الراجح.
ولأصول الفقه فوائد:
أولاً: التفقه في الدين، ومعرفة ما للمكلف وما عليه من حقوق، فالفقيه الأصولي يستطيع أن يعرف ما الذي يجب على الولد تجاه والده؟ وما الذي يجب على الوالد تجاه ولده؟ وما الذي يجب على الزوجة تجاه زوجها؟ وما الذي يجب على الزوج تجاه زوجته؟ من استنباطه وكيفية الاستفادة من الأدلة.
قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، أخذ أهل العلم من هذا الدليل: أن من كان له زوجتان وجب عليه أن يعدل بينهما في العطية، ولو كانت أحدهما كبيرة والأخرى صغيرة، ومن المعلوم: أن كبيرة السن نفقتها ليست مثل نفقة صغيرة السن، قال ابن تيمية رحمه الله: يعطيهما بالسوية لقوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]؛ لأن الزوجة الكبيرة لو لم تعط مثل الزوجة الصغيرة؛ لوقع ذلك في قلبها، ولم يحسن معاشرتها، والقول الثاني: أن لكل امرأة بحسبها.
الثاني: معرفة الحكم الشرعي لكل ما يجد من الحوادث، فالإيجار المنتهي بالتمليك يبحث فيه الفقيه والأصولي، فينظر الأصولي القواعد العامة: الأوامر، والمناهي، هل دخل فيها الفساد؟ وخطاب الوضع، هل دخل فيه مانع؟ وهل فيها شروط صحة أو شروط فساد؟ بحيث يستطيع أن يطبقها الفقيه.
وأيضاً: الأصولي يعرف حكم الشريعة وأسرارها، فكل من تأمل النص، وعلم علته؛ صار عنده معرفة بالحكمة أفضل من غيره.
الثالث: مواجهة خصوم الإسلام، وأعداء الدين، الذين يقولون مثلاً: الشريعة متناقضة، مثل من ضعف حديث: ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم؛ فليغمسه، ثم لينزعه )، قال: كيف يغمسه ثم لينزعه؟ هذه قذارة تتنزه الشريعة عنها، والحديث في صحيح البخاري ، والفقيه يبحث عن الدليل، لماذا أمر الشارع بذلك؟ ( فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وإنه ليتقي بجناحه الذي فيه الداء )، فيعرف الفقيه العلة.
وينظر في الربا لم حرم؟ هل لأجل أنه ظلم على المرابي فقط؟ وبهذا تعرف خطأ بعض من يقول من الناس: سأذهب إلى البنك لأن عندي مشروع برج، وسوف أطلب من البنك أن يشتريه بفائدة خمسة بالمائة ربوية، وسوف يدر علي عشرة بالمائة، خمسة بالمائة أعطيها البنك، وخمسة بالمائة أستفيدها منه، فليس فيها أي ضرر، بل بالعكس سأستفيد ويستفيد البنك.
فنقول: ليست علل الربا علة واحدة وهي الظلم، ولكن لـ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر:7]، فلو أن معك نقداً مائة ألف ريال، وجاءك شخص، قال لك: أريد قرضاً أو مرابحة لأجل أن أنتفع منها، كأن يقول: أريد أن أبني، أو أكمل منزلي، فقلت له: عندي مائة ألف، أعطيك هذه المائة وبعد سنة تردها لي مائة وعشرين، فالمستفيد الطرفان وهذه من علل منع الربا، لكن حينما نقول: إن النقد لا يلد نقداً، والواجب هو التعامل بالنقد لا التعامل في النقد، فاذهب مثلاً واشتر سيارة بمائة ألف، ثم بعها عليه بالآجل بمائة وعشرين ألفاً.
فبعض الناس يقول: هذا كله إطالة وتعب لا فائدة منه، نقول: لا، إذا اشتريت السيارة بمائة ألف المستفيد هو البائع، ولو كانت السلعة تحتاج إلى نقل، سوف ينقلها العمال، ولو أنها تحتاج إلى تنزيل، فسوف ينزلها أصحاب العمالة الذين ينزلون البضاعة، ثم سوف أبيعها على طالب المال بمائة وعشرين ألفاً، فبعته عيناً بنقد، والرجل سوف يبيعها أيضاً في السوق وسوف يربح، ويحدث فيها مثل هذه التنقلات.
ولهذا في مسألة التورق حرم أن يبيعها على الذي باعها عليه، أو يبيع على طرف ثالث بينهما حيلة ثلاثية، لأنه لا ينتفع إلا الثلاثة، وهذا هو مقصد الشارع من تحريم الربا، علمه من علمه وجهله من جهله.
الرابع: من فوائد معرفة أصول الفقه: حماية الفقيه من التخبط والتناقض، فكلما كان الفقيه مستحضراً قواعد الأصول وقواعد الفقه؛ كلما كان خلله أو تناقضه قليلاً، ولكن ومع ذلك لا يوجد إمام إلا وله تناقض في أصوله، يقول ابن تيمية رحمه الله في القواعد النورانية: وما من إمام من أئمة الإسلام إلا وقد اضطرب في أصوله، وذلك ليكون الدين كله لله، فقد تجد إماماً يرى أن قول الصحابي ليس بحجة، فترد عليه مسألة ليس فيها إلا قول صحابي، فيأخذ هذا الإمام بقول هذا الصحابي، وهذا تناقض في أصله. ونجد أن بعضهم يأخذ بالمصالح المرسلة، أو سد الذرائع ثم يخالفها، وتجد آخراً لا يرى سد الذرائع كالشافعي ، ثم تجده في بعض المسائل يأخذ بها، يقول ابن تيمية : وذلك ليكون الدين كله لله.
المؤلف ذكر أن الغرض من علم الأصول ثلاثة أبواب، الحكم ولوازمه، فبدأ بالباب الأول، بقوله: (الحكم)، والحكم في اللغة: هو المنع، والحكم قد يكون شرعياً، وقد يكون لغوياً، فالأصل أن المبتدأ يقدم، والخبر يؤخر. هذا حكم لغوي، والأصل وجوب الحج، هذا حكم شرعي، والأصل أن الواحد زايد واحد يساوي اثنين، هذا حكم عقلي رياضي.
والمؤلف أراد هنا الأحكام الشرعية، سواء كانت في الفقه أو في العقائد. قول المؤلف: (قيل فيه حدود)، يعني: أن الحكم اختلف العلماء في تعريفه، ومعنى (حدود) يعني: تعاريف، قوله: (أسلمها من النقد والاضطراب)، الأصوليون يحاولون أن يكون التعريف جامعاً مانعاً، ولهذا سموه الجامع المانع، والحد هو: معرفة ماهية الشيء، وعندما بالغ الأصوليون في أخذ التعاريف بهذه الطريقة، جاء بعض الأئمة ورد عليهم، وقال: أصلاً أنتم تتكلفون ما لا تعلمون، فمطالبتكم أن يكون التعريف جامعاً مانعاً، وأن تعرف ماهية الشيء وذاته، ولا يعرفها إلا الله، فيه تكلف، وطريقة السلف: أنهم لا يهتمون بأن يكون التعريف جامعاً مانعاً، بل كانوا يعطون طالب العلم صورة بالرسم أو بالمثال للتعريف.
والمؤلف ممن تأثر بعلماء المنطق فقال: (أسلمها من النقض والاضطراب)، بمعنى أنها أقلها من النقد والاضطراب، وقوله رحمه الله هذا كأنه يقول لمن جاء بعده: إذا اعترضت علي هذا التعريف الذي سأختاره، فإني عالم به، ولكني أرى أنه أقل التعريفات اعتراضاً، فلو أتيتني بشيء؛ لاعترضته عليك، وهذا حسن فإنه يحسن بطالب العلم ألا يقطع في المسائل، لأنك تجد بعض طلاب العلم في المناقشات، كأنه يريد أن ينهي المناقشة، فيقول: والذي أدين الله به، وأرى أن غيره لا يجوز، ولو فعلته؛ لوقعت وتقحمت الحرام، والذي لا أشك فيه هو كذا، أو ومن لم يقل بغير هذا؛ فإنه جاهل من رأسه إلى أخمص قدميه، فهذه الكلمات أحياناً نسمعها، ولا تنبغي لطالب العلم.
بل يقول: والذي يظهر، أو والذي يظهر حين النظر والتأمل فيه، فإن شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله كان كثيراً إذا أراد أن يعترض على المعترض قال: هذا محل نظر، أو يقول: هذا محل تأمل، ولو قيل بكذا لم يكن بعيداً، وأحياناً يختار قولاً ويقول لغيره ممن لم يختاره: وهذا القول وجيه.
يقول ابن القيم في شفاء العليل: ليس وظيفة المجتهد أن يرد على كل اعتراض أو كل شبهة. وقال الإمام أحمد : كنت أقول بطلاق السكران، ثم تأملته؛ فرأيت ألا أوقعه، قال: لأني إذا أوقعته؛ وقعت في ثلاثة محاذير، وإني إن لم أوقعه؛ وقعت في محذورين، فإنه يرى أنه لابد من وقوع الاعتراض، فكوني أقع في محذورين خير لي من أن أقع في ثلاثة محاذير، وهذا من فقهه رحمه الله.
والحكم قد عرف بتعريفات كثيرة، قال المؤلف: (أسلمها أنه قضاء الشارع على المعلوم بأمر ما نصاً أو استنباطً)، قوله: (قضاء الشارع)، الشارع اسم فاعل، والمقصود بالشارع هو الله سبحانه وتعالى، لأن الحاكم هو الله، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مبلغ عن الله، ولهذا رأى بعض الأصوليين وبعض العلماء: أنه لا يجوز إطلاق الشارع على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشارع هو الله وحده، وقال بعضهم: لا يجوز إطلاق الشارع على الله، لأن الشارع اسم فاعل فهو اسم، والأصل في أسماء الله أنها توقيفية.
وأرى والله أعلم: أن إطلاق الشارع على الله سبحانه وتعالى ليس تسميةً، ولكنه فعل، والأفعال يتوسع فيها ما لا يتوسع في الأسماء، كما حقق ذلك ابن تيمية و ابن القيم ، والثاني: لا مانع من قولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم: الشارع؛ لأن الله يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فهو شارع من هذا الباب، وإن كان بأبي هو وأمي وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وعليه: فلا بأس بالتسمية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شارع وإن كان مبلغاً، كما نسب الله القرآن إلى جبريل، فقال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40]، ومعناه: إن المبلغ عن الله كتاب الله الذي تكلم به جل جلاله وتقدست أسماؤه كلاماً يليق بجلاله وعظمته جبريل، وإن كان قد نسب إليه. فعليه نقول: لا بأس بإطلاق الشارع على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا التعريف فيه كلفة، لأن المؤلف يقول: (قضاء الشارع على المعلوم)، والمعلوم هو إما أن يكون فعل الأمر من الله، أو على المكلف.
وقوله أيضاً: (بأمر إما نصاً أو استنباطاً)، لأن الدليل إما أن يكون صريحاً للمكلف، وإما أن يأخذه استنباطاً، وما أخذه إلا لأن الشارع نصب أمارات لهذا الحكم، علمه من علمه وجهله من جهله، مثل: حكم التأمين التجاري. نقول: التأمين التجاري لم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عهد الصحابة، لكن الشارع نصب أدلة، وبين لنا أن الغرر محرم فقد ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر )، والغرر هو المجهول العاقبة، فإذا كان في التأمين التجاري غرر وهو كثير؛ فإنا نقول: هو حرام، وهذا الحكم مستنبط.
ورأى بعض الأصوليين: أن تعريفه -وهو أولى- أنه مقتضى خطاب الله أو الشارع، المتعلق بأفعال العباد، بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وقولنا: (خطاب الله)، يخرج بذلك خطاب المخلوق، فالمخلوق لا يجب اتباعه، ولا يجوز اتباعه بالاستدلال إلا إذا استدل بالكتاب والسنة، يقول ابن تيمية رحمه الله: ومن نصب إماماً أو شخصاً يؤخذ منه ويترك في كل شيء، وأنه معصوم؛ فإنه يستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه جعله مشرعاً.
وقوله: (المتعلق بأفعال العباد)، أولى من قولنا: المتعلق بأفعال المكلفين؛ لأنه يدخل فيه الصبي والمجنون، والاقتضاء معناه الطلب، والطلب ينقسم إلى: طلب الفعل، وطلب الترك، وطلب الفعل ينقسم إلى قسمين: طلب الفعل جازماً؛ فيكون واجباً، وطلبه على غير الجزم؛ فيكون مستحباً، وطلب الترك ينقسم إلى قسمين: طلب الترك جازماً؛ فيكون محرماً، وطلبه على غير الجزم؛ فيكون مكروهاً.
وقولهم: (أو التخيير)، يدخل فيه المباح، وهل المباح يدخل في الأحكام التكليفية أم لا؟ هذا محل بحث طويل عند الأصوليين، والأقرب والله أعلم: أنه يدخل، من باب أنه إذا أبيح؛ فقد شرعه الله سبحانه.
وقولهم: أو الوضع، الوضع معناه: الأمارة التي يضعها الباري، وليس للعبد وفعله فيها شيء، فبر الوالدين متعلق بفعل العبد. إذاً: هو حكم تكليفي، لكن دخول وقت الصلاة خطاب وضع، فإذا دخل الوقت؛ أذن المؤذن، ولهذا كان الوضع هو السبب، والشرط، والصحة، والفساد، والعزيمة، والرخصة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر