أما بعد:
فما الذي يؤدي بالغيرة إلى الاضمحلال والضعف؟!
ما الذي يؤدي بالرجل إلى أن يفقد نخوته فلا يغار على أهله؟!
ذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: (يا رسول الله! نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟ فقال: تنهونهم عما نهاكم الله، وتأمرونهم بما أمركم الله) فبعض الرجال ضائع، وأهله ومحارمه في عالم الفضائيات، والمسلسلات المدبلجة التي تدرب الفتاة على العلاقات المحرمة، وتربيها على التمرد مع الأغاني الخليعة التي يسمونها (فيديو كليب)، ومحارمه في عالم مع السائق يخرجن متى أردن، ويرجعن متى أدرن، ويذهبن حيث أردن، لا استئذان، ولا مراجعة، هم في عالم وهو في عالم آخر، غارق في أعماله مع أصحابه، غافل عن مسئولياته التي ضيعها، جاهل بحجم الإثم الذي يتراكم عليه يوماً بعد يوم، هذا الجهل وتلك الغفلة يؤديان إلى ضعف الشعور بالغيرة على المحارم.
وقد اجتمعت بجماعة كثيرة، منهم رجل عاقل أديب، يحفظ شيئاً كثيراً، وأنشدني أشعاراً وكتبتها عنه، فلما طال الحديث بيني وبينه قلت له: بلغني عنكم شيء أنكرته ولا أعرف صحته، فبدرني وقال: لعلك تعني السمر؟
قلت: ما أردت غيره.
فقال: الذي بلغك من ذلك صحيح، وبالله أقسم! إنه لقبيح، ولكن عليه نشأنا، وله مذ خلقنا ألفنا، ولو استطعنا أن نزيله لأزلناه، ولو قدرنا لغيرناه، ولكن لا سبيل إلى ذلك مع مر السنين عليه واستمرار العادة به.
هذه التجربة التاريخية القريبة تبين بشكل واضح عملي سبباً رئيساً من أسباب موت الغيرة على الأعراض في قلب الإنسان ألا وهو السكوت عن المنكر، واعتياد رؤيته، ومؤانسة أهل المنكر والفساد واحترامهم ومجاملتهم، ومن ثم يتبلد القلب، ويتبلد ويتبلد حتى يصبح الأمر عنده طبيعياً، فإذا به يسري في أهله، ولا تستغربوا، فهي عقوبة الله تعالى التي ينزلها على عباده شاءوا ذلك أم أبوا، أحسوا بذلك أم لم يحسوا، كما قال ذلك الرجل العاقل من بين قومه: وبالله أقسم! إنه لقبيح، يعني: هو يدرك ذلك، ولكن يقول: عليه نشأنا، وله مذ خلقنا ألفنا، ولو استطعنا أن نزيله لأزلناه، ولو قدرنا لغيرناه، ولكن لا سبيل إلى ذلك مع مر السنين عليه واستمرار العادة به.
ألفوا المنكر، والسفور، وخروج نسائهم على أي حال كن، واعتادوا على ذلك، ومع مرور الزمن فقدوا القدرة على تغيير الواقع الكئيب الذي يعيشونه؛ لأن الغيرة قد ماتت في قلوبهم، هذه عقوبة الله: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11] نسأل الله السلامة.
وكما قال مالك بن دينار : اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضاً، ولا ينهى بعضنا بعضاً، ولا يذرنا الله تعالى على هذا -أي: لن يتركنا دون عقوبة- فليت شعري أي عذاب ينزل ونحن نشهد.
إذاً: ضعف الإيمان وترك النهي عن المنكر والجهود الشيطانية المستميتة التي يقوم بها أهل الفساد، وتطاول الزمان على هذا الحال دون صرخات مسموعة من أهل الغيرة كل هذه الأمور أدت إلى الواقع الذي يعيشونه اليوم، أسأل الله أن يصلح الحال، وأن يكشف الهم والغم، لم يتغير مجتمعهم في فترة قصيرة بين عشية وضحاها، بل استدعى ذلك سنين من الإلهاء والإفساد، قام به من عنتهم الآية الكريمة: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].
في إحدى هذه البلاد جاء في إحدى الصحف لقاء مع رئيسة قسم الأشعة في كبرى المستشفيات عندهم من نساء ذلك البلد، كان من ضمن الأسئلة التي وجهوها إليها: ما رأيك في العباءة؟ مضى على هذا اللقاء أيها الإخوة (37) سنة، وقتها كان معظم نساء ذلك البلد يلبسن العباءة ويُحسنَّ الستر، حتى تعرفوا أن مكر هؤلاء يطول، وقد يستغرق سنين عديدة.
قالت رداً على السؤال: العباءة ستزول حتماً، ولكن مهما بلغت الفتاة الفلانية -ووصفت الفتاة ببلدها- من التعليم، وسافرت إلى الخارج، وخلعت الحجاب عليها أن تحافظ على التقاليد، تقول: ولا أعني هنا التقاليد القديمة البالية، بل أعني أن على المرأة أن تحافظ على كرامتها كامرأة... إلى آخر كلامها.
سؤال آخر: الاختلاط أمل ينشده الكثيرون، سواء من الشباب أو الفتيات، فما رأيك في ذلك؟
قالت: أثناء دراستي في لندن كنت مع اثنتين فقط مع ستين طالباً ووصفت بمسمى البلد التابعين له، تقول: كنا نختلط بهم في حدود الزمالة والصداقة، ولكننا في -وذكرت بلدها- لا يمكن لي أو لغيري من الفتيات أن نسلم على من درسنا معهم، لماذا؟ لأن التقاليد لا تسمح بذلك، تقول: ولكن المستقبل سيكون حتماً في صالحنا. وفعلاً -أيها الإخوة- فوضع بلدها اليوم كما كانت تتمنى وتتوقع أن يكون، لماذا؟
لأن النهي عن المنكر لم يكن قائماً عندهم، بل كان معدوماً ومنذ سنين عديدة، وقليلاً قليلاً تبخرت الغيرة من قلوب معظم الرجال، فآل واقعهم إلى ما هو عليه اليوم، ونحن -أيها الإخوة- إن لم نتدارك الانحدار المستمر في عالم الغيرة في مجتمعنا فسوف ينتهي بنا الحال إلى واقعهم وأسوأ.
هذا الانبهار بالغرب، والانهزام النفسي أمامهم يسقط الغيرة من قلب هذا المفتون، وتبدأ الدياثة تحل محلها تدريجياً في قلبه.
أتدرون متى يغضب إذاً؟! إذا تمادت زوجته أو بناته بالظهور بلباس خليع؟!
كلا، يا ليت يغضب .. ويزبد .. ويرعد.. إذا نصحه غيره فذكَّره بأهله، هنا لا يقف هيجانه وغضبه عند حد، يتحول ذلك الرجل من بارد إلى بركان، فالنصيحة -في مفهومه منقصة له- وتَدَخُّلٌ في شأنه الخاص، ويزيد من غفلته عن أهله ومعاشرته ومخالطته أهل الترف من أمثاله، فالدياثة لها علاقة قوية بالترف، وغالباً ما تجد الفساد مستشرياً بشكل مخيف بين كثير من الطبقات المترفة، كما حدث في قصر ملك مصر وما فعلته زوجته وصديقاتها من نساء المجتمع المخملي في قصة نبي الله يوسف عليه السلام.
فكل الملذات متاحة ومتوفرة، فيدخل الشيطان من خلال النفس الشرهة إلى جميع الشهوات، فيزين للمرأة التي أتخمها الترف، واعتادت أن تكون طلباتها ورغباتها قيد التنفيذ، يزين لها الشيطان الزنا كي تستكمل متعتها في بيئة أهملها رب الأسرة، وغاب عن أسرارها، فهو مشغول بنفسه وبلذائذه الخاصة، وصفقاته وجلسائه، نسي متابعة أهله، واستهان بأخلاق وتصرفات نسائه، حتى غلقت زوجته الأبواب على غلامها وقالت: هيت لك.. هلم.. تعال، فلما علم بهذه المصيبة العظيمة في عقر داره، كيف كان أثرها على قلبه؟
كان أثرها على قلبه ما أفصحه لسانه: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29] هكذا بكل برود، هذا ما يصنعه الترف في الغيرة.. يقتلها، فبالرغم من معرفته بخيانة زوجته، وفساد سلوكها لم يعاقبها، ولا حتى فرق بينها وبين يوسف حتى لا تراوده مرة أخرى، ولو كان فيه أدنى غيره لعاقبها.
وأنا لم أذكر المواد الأخرى كالفضائيات وما تقدمه من أفلام وبرامج استعراضية وقحة، ولم أذكر المجلات وما تسهم به في عملية تعميق السفور ونزع الحياء، فكل هذه الأشياء تصب في برنامج تدمير الغيرة، نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يحفظ علينا ديننا.
إذاً: فخيار الناس وأتقياؤهم بل وأنبياؤهم، لم يأمنوا على أنفسهم من الفتنة، لم يأمنوا على أنفسهم من الوقوع في المحرم، فكيف بنا نحن؟
كيف بنسائنا وأبنائنا؟ كيف نأمن عليهم ألا يقعوا في المحذور؟
كيف نأمن وقد أهملناهم بهذه الصورة؟ ألَّا تميل قلوبهم إلى مصيبة العلاقات المحرمة، نسأل الله من لطفه؟
كيف نأمن أننا لم نجعلهم بالفعل أداة إغراء وإغواء وفتنة للرجال؟
كيف نأمن في عصر كهذا العصر؟ في عصر يقبض فيها على حالات الخلوة المحرمة بين الرجل والمرأة في هذه المدينة بمعدل يومي!
كيف نأمن في عصر لا يمر يوم إلا وتسجل فيه حالة هروب فتاة من المدرسة .. من الكلية .. من بيت أهلها؟ نعم هذا هو الواقع بدون مبالغة، إن خفاء الأرقام والأحداث من هذا النوع -يا إخوة- لا يعني أنها غير موجودة ولا يعني أنها ليست معاناة يعيشها مجتمعنا اليوم.
إذاً: فالغفلة عن العواقب التي تنتج إثر إهمال المحارم، الغفلة عن مدى فداحتها وخطورتها يؤدي بالغيرة إلى الضعف والبرود.
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى ضعف الغيرة بل وموتها في قلوب الكثير، ذكرنا منها: ضعف الإيمان، واتباع الهوى، وذكرنا الجهل بعظم الإثم، وخطورة الدياثة، وتضييع المسئولية، وذكرنا سبباً آخر مهماً وهو السكوت عن المنكر، وعدم قيام المجتمع به، وأقصد عدم قيام أهل المروءة فيه من رواد المساجد من أمثالكم -أيها الأخيار- وعدم قيامنا جميعاً بالتعاون على إنكار المنكر باللسان، أو بالكتابة إلى المسئولين -وما أسهل ذلك- فواجب النهي عن المنكر لا ينحصر في هيئة، ولا فئة علماء، ولا طلبة علم ومشايخ، لا. واجب النهي عن المنكر واجبنا جميعاً كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
ولا يمكن أن يُدحر المنكر إلا بتعاون الجميع، الملتحي وغير الملتحي، والعالم والعامي، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، الجميع يتعاونون على هذه الفريضة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وذكرنا من الأسباب: ربط بعض المفتونين الحضارة والتقدم بالدياثة، فحتى نلحق بركب التطور الذي يقوده الغربيون اليوم، يجب أن نرمي الغيرة في مخلفات التقاليد البالية حسب تعبيرهم، وأن نظهر أمامهم بالمظهر اللائق الذي يرضيهم، لا حجاب، ولا ملفع، ولا عباءة.
وذكرنا كذلك أن الترف والغيرة نادراً ما يجتمعان، فحياة الترف ومخالطة المترفين تحرف مفهوم الرجولة، ويصبح الاهتمام بمتابعة لباس الزوجة والبنات ودخولهن وخروجهن رخواً، بل معدوماً في بعض البيوت.
وذكرنا الإعلام ودوره في تعميق الدياثة في المجتمع، وتشجيع تبني المبدأ العلماني في أن تقول المرأة ما تشاء وتفعل ما تريد بلا قيود الحياء ولا وصاية الدين، وعلى الرجل أن يفسح لها المجال وأن يتنحى عن طريقها.
ثم ذكرنا الأمن الزائد، والغفلة عن العواقب الناتجة عن إهمال المحارم، وعدم الغيرة عليهن، ولو تأمل الحصيف في واقع اليوم لأثبت الغيرة في قلبه وبقوة.
فإذاً: أمامنا العلاج، فضعف الإيمان يقابله تقوية الإيمان، والجهل بعظم الإثم يقابله العلم بمصير الديوث، وترك إنكار المنكر يقابله العزم على أداء واجب الإنكار وهكذا.
أيها الإخوة! إن اندثار الغيرة نذير شؤم على المجتمع، ونحن نحمد الله تعالى على أن الغيرة ما زالت باقية بحجمها العملي الصحيح عند كثير من الناس، ممن سلمت فطرتهم من الانتكاس، ومع هذا الخير الباقي إلا أن مظاهر ضعف الغيرة آخذة في الازدياد وبشكل مخيف، فهل من تدارك لهذا الانحدار؟! هل من تدارك يا أهل الغيرة؟!
اللهم احفظ علينا ديننا وأعراضنا، اللهم أصلح أمرنا وشأننا، واستر عوراتنا وآمن روعاتنا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر