أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فالأمن شعور يقابله الخوف، وشعور نفسي مهم يلح في طلبه الإنسان منذ صغره إلى آخر لحظة في حياته، فكل الناس يبحثون عن الأمن باستمرار، وإذا وجدوه حرصوا على الحفاظ عليه، وقد يبذلون الأموال الطائلة في سبيل الإبقاء على هذا الشعور، وقد يفرون فيختبئون أو يهاجرون فيتركون الأرض والدار بحثاً عن الأمن، ويقاسي الكثيرون في الحصول على شيء منه فقط، ويتأرجح الآخرون بين الأمن والهلع، ولا يزال الناس هكذا متباينة أحوالهم في هذا الشأن، ويبقى الأمن مطلباً ملحاً وضرورياً لحياة هانئة مطمئنة.
يسألهم إبراهيم ثم يجيب هو بنفسه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
واللبس: التغطية والخلط، أي: لم يخلطوا أو يغطوا إيمانهم بظلم، والمقصود بالظلم هنا الشرك، كما في قوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فالشرك ظلم، وجميع المعاصي ظلم، ولكن بتفاوت بينها، فظلم العبد نفسه بالكبائر أشد من ظلمه لها بالصغائر، والحاصل أن الأمن إنما يختل عند العبد إذا تلبس القلب بالظلم، فإذا ما بادر العبد إلى تطهير قلبه من جميع أنواع الظلم اكتمل الأمن في قلبه، فلا تستطيع أي قوة في الأرض بعد ذلك أن تنزع الأمن من قلبه.
فالأمن حالة للقلب تأتي وتزول، وترتفع وتنخفض بحسب قوة التدين في القلب، بل إن الإيمان ذاته كما قال البعض: أصله في اللغة من الأمن الذي هو ضد الخوف، فمعنى: آمن أي: صار داخلاً في الأمن.
أيها الإخوة! إن الأجواء التي نعيشها هذه الأيام تحملنا على الحديث في هذا الجانب المهم من جوانب الحياة، فالقلق من حرب مرتقبة، والخوف من آثار تلك الحرب في المنطقة كلها مثيرات عكسية تخفض الشعور بالأمن لدى الناس، ومن ثم كان التذكير ببعض المبادئ الإيمانية الضرورية التي نحتاج إليها جميعاً فيما يتعلق بالأمن والخوف مناسباً، ونافعاً إن شاء الله تعالى.
ولذلك يبتلى المؤمن بالخوف، فيرى هل يكون موقفه بما يقتضيه إيمانه أم لا؟! نعم يبتلى المؤمن بالخوف، وهو صريح الآية: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156] فالخوف إذاً شعور يبتلى به المؤمن، فإما أن يرضى بقضاء الله ويصبر، أو يسخط ويتضجر.
وقد يكون سبب الابتلاء بالخوف هو امتحان العبد في مدى تعظيمه لأمر الله ونهيه على تقديمه لأهواء غيره من المخلوقين، كتقديمه لرغبات رئيسه، أو قائده وسيده الذي يخاف منه أشد من خوفه من الله، وفي هذا إشراك في عبادة الخوف، وقد نهى الله عن ذلك النوع من الخوف في أكثر من آية: فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي [المائدة:44] .. فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [المائدة:3] .. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ [الأحزاب:39] .. إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18] .. إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
وقد روى ابن حبان بسند جيد عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس) فكلنا إذاً نخاف ولابد، ولكن ما مدى الخوف، وما هي أبعاده؟ وما مواقفنا بعده؟ وممن نخاف؟ وهل نخاف الله حقاً؟!
كان الربيع بن خيثم إذا مر بكير -الكير الذي ينفخ به على النار- يغشى عليه، فقيل لـعلي بن أبي طالب ذلك، فقال: إذا أصابه ذلك فأعلموني، فأصابه، فأعلموه، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية -أي: تنفسه وضربات قلبه- قال: [أشهد أن هذا أخوف أهل زمانكم] يخاف من الكير لأنه يذكره بنار جهنم.
فالخائف من الله تعالى هو الذي يخاف أن يعاقبه إما في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا قيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يعذب به.
لقد فرض الله تعالى على عباده أن يخافوه فقال: وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] والانحراف في الخوف أن تخاف من المخلوق أشد من خوفك من الله تعالى، وأن تفعل من جراء الخوف ما لا يرضي الله تعالى، وبه يضطرب الأمن في النفس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم ولا ترجهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفاً من الله لا منهم ).
نرى الله تعالى ينصر عباده الصالحين بالأمن في قلوبهم، والفزع والرعب في قلوب أعدائهم في أكثر من معركة، ومنها معركة بدر التي كان الأعداء فيها ثلاثة أضعاف المسلمين، قال تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11] قال القرطبي : يقال: أمن أمنة وأمناً وأماناً كلها سواء إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11] أمان، والنعاس حالة الآمن الذي لا يخاف، الذي يخاف لا يستطيع أن ينام، لكن الآمن ينعس وينام، وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم عجيباً مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، ولكن الله ربط جأشهم، عن علي رضي الله عنه قال: [ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح يدعو الله عز وجل ويبتهل]، ذكره البيهقي .
قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12] ألقى الأمن في قلوب المؤمنين.. قال هنا: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12] هكذا ينصر الله بالأمن والخوف.
فيقولون: وما موعود الله؟!
فيقول: [الجنة لمن مات، والظفر لمن بقي].
فيقول رستم : قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟
فيقول ربعي : نعم. كم أحب إليكم. يوماً أو يومين؟
فيقول: لا. بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤسائنا ورؤساء قومنا.
فيقول ربعي : ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.
فيقول: أسيدهم أنت؟
فيقول: لا. ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم.
ثم يجتمع رستم برؤساء قومه فيقول: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فيقولون: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا، وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟!
فيقول: ويلكم.. لا تنظروا إلى الثياب وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب.
والآن أعيد السؤال: ما تظنون الأمر الذي جعل ربعي بن عامر رضي الله عنه يقف مثل هذا الموقف العظيم الذي أرعب الفرس وهزمهم قبل بداية المعركة؟
إنه الإيمان أيها الإخوة، الإيمان الذي يجعل القلب آمناً مطمئناً في أحرج المواقف.
فقال أبو بكر : ما قلت هذا، فظن المعز أنه رجع عن قوله، فقال: كيف قلت إذاً؟!
قال: قلت: ينبغي أن نرميكم أنتم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر، يعني العكس.
قال: ولِمَ؟
قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الله، وادعيتم ما ليس لكم.
فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب بالسياط في اليوم الثاني ضرباً شديداً مبرحاً، ثم أمر به فسلخ في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين رقة عليه! فمات رحمه الله.
هذا الموقف الثابت الراسخ، هذه السكينة التي ينزلها الله على قلب العبد لا تتحقق إلا بإيمان راسخ، وخوف من الله وإجلال له يطغى على جميع المخاوف.
فقال: هل جرى هذا؟
فقال الشيخ: نعم. الحانة الفلانية تباع فيها الخمور.
فقال: يا شيخنا! هذا من أيام أبي.
فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22] فأمر السلطان بإقفال الحانة على الفور.
ولما سأل الشيخ أحد تلاميذه: أما خفته؟
قال الشيخ: والله يا بني إني استحضرت هيبة الله فصار السلطان أمامي كالقط.
وإذا أخذنا بالأسباب فما علينا إلا الاطمئنان إلى قضاء الله؛ لأن القدر محتوم لا مفر منه مهما حاول الإنسان، والله أحكم الحاكمين، قال تعالى: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:2-3] ولذلك لا يأتي القلق الممرض على التاجر خوفاً على رزقه، ولا على المجاهد خوفاً على نفسه إلا من ضعف الإيمان بالقضاء والقدر، وضعف التوكل على الله، ولذلك صح عند الحاكم من حديث أبي ذر (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتلو هذه الآية: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] قال: فجعل يرددها حتى نعست، فقال: يا أبا ذر! لو أن الناس أخذوا بها لكفتهم).
ولقد جاء التوجيه من الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه في الرد على مزاعم المنافقين الذين لا يفقهون الإيمان بالقضاء والقدر، ولا التوكل على الله، جاء التوجيه في سياق قوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50] قُلْ أي: قل لهم يا محمد قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:51-52].
أيها الإخوة: إن السكينة والأمن الذي نود أن يلازمانا في كل مرحلة من مراحل حياتنا لا ينتظمان لنا إلا بانضباط الخوف في قلوبنا، وتوجيه الخوف الوجهة الصحيحة، ولا ينتظمان إلا باجتهادنا في زيادة الإيمان في قلوبنا، وتقوية صلتنا بربنا، وإصلاح ما بيننا وبينه تبارك وتعالى بترك الذنب والنهي عنه، وفعل الطاعة والأمر بها إرضاءً له وحده سبحانه، هكذا وعد الله تعالى في قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
السكينة والأمن في القلب لا ينتظمان إلا بإحسان التوكل على الله تعالى، والاطمئنان إلى قضائه وقدره بعد الأخذ بالأسباب.
ألا تحملنا هذه الحقيقة على الزهادة في الدنيا، لماذا إذاًَ لا نحقق في قلوبنا الأمن اليوم ببذل أسبابه حتى يتحقق لنا يوم نلقى الله تعالى؟! نحن لسنا مسئولين عما تئول إليه النتائج في الدنيا بعد موتنا، وإنما نسأل عما عملنا في سبيل تحقيقها، ونسأل هل سلكنا الطريق الصحيح في ذلك، هل اتبعنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم أم هدي غيره؟
هذا هو نداء الله يوم العرض: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] ما الذي يرجوه العبد الصالح الذي يعبد الله بالخوف والرجاء .. ما الذي يرجوه؟! ألا يرجو رحمة الله؟ ألا يرجو جنته؟ ألا يرجو نعيم القبر قبل الحشر؟ بلى. هذا ما يرجوه الآمن، كل الناس يفرون من الموت خوفاً منه إلا المؤمن فإنه لا يخاف الموت؛ لأن خوفه من الله وحده بعث الأمن في قلبه من كل ما يحيط به من الأحداث.
ولقد وصف بعض أهل العلم الصحابة المجاهدين بقوله: أولئك الزاهدون المحبون لله تعالى، قاتلوا في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص، وانتظروا إحدى الحسنين، وكانوا إذا دعوا إلى القتال يستنشقون رائحة الجنة، ويبادرون إليها مبادرة الظمآن إلى الماء البارد؛ حرصاً على دين الله أو نيل رتبة الشهادة، وكان من مات منهم على فراشه يتحسر على فوت الشهادة، حتى إن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما حضر الموت وهو على فراشه كان يقول: [كم غررت بروحي -أي: منيتها- وهجمت على الصفوف طمعاً في الشهادة، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء] لقد عاش أبو سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه آمنا في نفسه بالرغم من وقوفه على حافة الموت طوال حياته، ذلك لأنه خشي الله تعالى فأمنه الله.
صح في البخاري عن القاسم بن محمد ، قال: قالت عائشة : وا رأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك لو كان وأنا حي -يعني: لو متِ وأنا حي- فأستغفر لك وأدعو لك، فقالت
بعد أن حققنا الأمن في نفوسنا، ماذا عن بقية أوجه الأمن الاجتماعي، والاقتصادي والعسكري؟ هل تحقق بمجرد تقوية صلتنا بالله بالعبادة الذاتية وصلاة صيام وصدقة وذكر لله ورضاء بقضائه وقدره؟ هل تكفي هذه العبادات لتحقيق أوجه الأمن الأخرى؟
.
إن المجتمع لا يستطيع أن يقاوم أو يضبط الفساد المستتر مهما بلغ أفراد المجتمع من صلاح وتقوى، نعم. لا يخلو مجتمع مهما صفا من معصية، وإن المسلم إذا خلا بنفسه، واستتر عن أعين الناس إنما يضبطه إيمانه الذي يبعث الخوف في قلبه من الله تعالى، والإيمان كلما قل، قل على اثره الخوف من الله، وعندها يضعف العبد ويخضع لهواه فيزل الزلة ويخطئ، ولكنه بالرغم من خطورة موقفه هذا لا يزال معافى، فقد صح في مسلم من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) قال العلماء: معافى أي: عفى الله عنه لخوفه من الذنب الذي يفعله، أو معافى بمعنى سلمه الله من الخزي والفضيحة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً -أي: منكراً ما- ثم يصبح وقد ستره ربه، فيقول: يا فلان! قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، قال: فيبيت يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه).
فالمعافى هو ذلك الذي يعرف أن ذنبه الذي يرتكبه عيب ينبغي أن يستتر من أجله، فهو رغم ارتكابه للذنب خائف متضجر من نفسه، يستحي أن يظهر ذنبه للناس، ويتمنى أن يعافيه ربه من ذلك الذنب، بينما الآخر لا. لا يُكِن في قلبه أي تحقير لما يفعله، بل يفتخر بإشهار الذنب، ويرفع عقيرته به، ولا يبالي بالله ولا بالناس نسأل الله السلامة.
لأننا لو تركنا النهي عن المنكر مطلقاً، ولم نأخذ على يد السفيه المجاهر، وتركنا الحبل على الغارب لا إنكار على الأهل ولا الأولاد، ولا الأقارب، ولا المجاهرين عموماً، ولا نصيحة، ولا رفع للمسئولين، ولا مكاتبة، ولا إبداء لأي نوع من أنواع الإنكار، فقد فسحنا المجال لزيادة المنكر وانتعاشه وانتشاره مع مرور الزمان، فتنشأ في الأمة أجيال لا تفرق بين المعروف والمنكر، لا أحد ينكر المنكر، إذاً: كيف يفرقون بين المعروف والمنكر؟ بل ربما أنكرت المعروف تلك الأجيال ونصرت المنكر، أجيال تترعرع وهي ترى المعاصي أمامها لا ينكرها أحد فتألفها، ثم إذا كبرت مارستها، وهو أمر مشاهد قريب فيما نراه من انحدار مخيف ومستمر في المجتمعات المسلمة حولنا، حتى أصبح في بعض الدول القريبة منا أمراً عادياً مألوفاً أن يكون للفتاة المسلمة صديق حميم، بل إننا لنرى في مجتمعنا هنا في الأسواق وعلى الشواطئ، والمطاعم، والمستشفيات، نرى حولنا من مظاهر المنكر، والجرأة على الظهور به ما لم يكن بالسابق، ولا غرابة فإن من أمن العقوبة أساء الأدب، والناس يقلدون بعضهم بعضاً فيما يفعلون ويتركون، وهم خلق لا يتمالك كما صح في الحديث، يعني: إذا أهمل فإنه لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات ما لم يكن للناس دين قوي يردع ويمنع، أو أناس يمنعونهم من المنكر تبجحوا واجترءوا، وفي حديث رسول صلى الله عليه وسلم الذي سأذكره بعد قليل إن شاء الله، والذي يرويه ابن مسعود إشارة واضحة إلى ما يئول إليه الأمر إذا تُرك النهي.
فبنو إسرائيل حين تركوا المعاصي تشيع فيهم دون أن تسود فيهم روح التناهي عن تلك المعاصي، انتهوا إلى أن أصبحوا مستحقين للعن، بل لعنوا فعلاً، والأمر لو تأملنا لم يأت عليهم بين يوم وليلة، وإنما تدرجوا فيه، فقد كانوا من قبل أحسن، ولكن مرت عليهم السنون وضعف الإيمان، ومن ورائه ترك الإنكار، حتى ألفوا المعصية في البيت والشارع دون أن تتحرك لإنكارها قلوبهم، روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله -أي: وهو مقيم على معصيته- فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:78] الآية. ثم قال صلى الله عليه وسلم-وانظروا كيف انفعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين سبباً رئيساً من أسباب لعن بني إسرائيل-: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً) رواه أبو داود ، إياكم أن تكونوا مثلهم، وليس الظالم الذي أمرنا أن نرده إلى الحق مقتصراً على الذي يظلم الناس لا، وإنما المعنى أوسع من ذلك، إنما المعنى يشمل جميع المجاهرين، علينا أن نردهم إلى الحق ما استطعنا، ولابد أن ينالنا شيء من الأذى إذا سلكنا هذا السبيل.
والذي يظن أنه باستطاعته أن يسير في دروب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقوماً للمعوج، ومحارباً للأهواء والشهوات، وناصراً للمظلوم، ثم لا يلحقه شيء مما لحق بهم فهو واهم في ذلك، إلى هذا أشار لقمان وهو يعظ ابنه حين قال: يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17] والأمر لا شك يسهل حين يكون الإنكار على الأقربين، فإذا ترك الإنكار حتى على الأقربين فماذا بقي، كيف للمسلم الشهم الكريم أن يرى زوجته أو ابنته تخرج بزي أقل ما يوصف به أنه عيب، ثم يبقى جامداً كلوح الثلج لا ينكر ولا يمنع ولا ينهى، كيف لا يقوم بدوره؟ كيف لا يقوم بمسئوليته؟ ولا يظهر غيرته على دين الله؟ ولا يظهر غيرته على أهله؟ ولا يظهر رجولته؟ كيف؟!
سبحان الله! إن القرآن أيها الإخوة يصف لنا طريق الخلاص، ولكن هل من متبع؟ الإيمان والتقوى، تقوية الصلة بالله تعالى، التوكل عليه حق التوكل، الإيمان بالقضاء والقدر، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي من أهم الأسباب في الأمن النفسي والأمن الاجتماعي والاقتصادي والعسكري.
ولا أعني بهذا الكلام بأن نعيش في عالم الأحلام، فنعزل أنفسنا عن الواقع، ونركن إلى القدر، ولا نأخذ بالأسباب التي ذكرتها آنفاً، ونقتصر على الدعاء، ثم نتمنى على الله الأماني، كلا. يجب أن نعمل، يجب أن نبدأ بمراجعة تفاصيل حياتنا، هل هي فعلاً لله وفي الله وبالله؟
هل بذلنا ما يقوي العلاقة بيننا وبين الله تعالى قبل أي مخلوق؟
هل بدأنا بإصلاح بيوتنا تقرباً إليه تعالى؟
هل عظمنا حدود الله ومحارمه فبدأنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟
الأماني لوحدها لا تنفع بدون عمل، ولا نريد في الوجه الآخر أن ننظر إلى الأحداث نظرة اليائس، وكأن خالق الأحداث ومدبر الكون هو ما يسمى بالدولة العظمى هذه أو تلك بمعزل عن تدبير الله سبحانه وتعالى، ما هكذا ينظر المؤمن إلى الدنيا وأحداثها، بل يجب أن يؤمن إيماناً راسخاً لا يضطرب بأن الله تعالى هو الخالق البارئ المدبر، وهذا ما جاء في سياق كثير من الآيات في القرآن وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].
انتبهوا أيها الإخوة!! نحن الآن نعيش حالة ابتلاء مع إيماننا ويقيننا بربنا، فالمؤمن لا يربط مصيره بقرار دولة أو هيئة أمم، وإنما يربط مصيره بالله العزيز الحكيم قبل ذلك، نعم هم يؤثرون في الأحداث، ولكنهم لا يخلقون الأحداث، وإنما هي سنة الله من تعامل معها بحزم وصدق أفلح ونجح يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:7-8]
فهل لنا من بناء عزيمة مؤمنة من جديد؟! عزيمة تحسن التعامل مع سنة الله، عزيمة تستمطر النصر والعزة والتمكين من خالقها وواهبها الله جل في علاه.
اللهم يا سابغ النعم! ويا دافع النقم! ويا فارج الغم! ويا كاشف الظلم! ويا أعدل من حكم! اجعل لأمة الإسلام من همها فرجاً، ومن ضيقها مخرجاً.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دِقها وجلها، علانيتها وسرها، أولها وآخرها، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم احفظنا بحفظك، وجُد علينا بعفوك.
اللهم احفظ المسلمين في العراق وفلسطين ، وفي كل بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم احفظنا وإياهم من بين أيدينا، ومن خلقنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
اللهم عليك بأعداء الإسلام والمسلمين من نصارى ويهود وهندوس ومنافقين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا في شارون آية من آياتك، اللهم اشف صدورنا بهلاكه، اللهم عليك بأعوانه وأنصاره الذين يمدونه بالدعم والتأييد، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم إله الحق اجعلها بفضلك ساعة إجابة: انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم أيدهم بنصرك، واحفظهم وأهليهم بحفظك، اللهم اشف مرضانا ومرضاهم، وفك أسراهم يا رب العالمين.
ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا وانصرنا على من بغى علينا، اللهم انصر كتابك ودينك وعبادك المؤمنين، وأظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم على الدين كله ولو كره المجرمون الكافرون.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يفرح بلقائك، ويقنع في هذه الدنيا بعطائك، اللهم اهد أبناءنا وبناتنا وجميع المسلمين، واغفر لنا ولوالدينا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا، ولا تجعل لأعدائنا علينا سلطاناً يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، واجعل اعتمادنا عليك وتوكلنا عليك أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر