أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فمتاع الدنيا قليل والحساب طويل، فتهيئوا قبل أن يفجع الرحيل، واستعدوا بالزاد ليوم المعاد، واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وتحللوا من المظالم، وخذوا على يد السفيه والظالم، جدوا ولا تكسلوا، فحشرة الموت أشد من سكرة الموت، ومن علامة إعراض الله عن العبد أن يشغله فيما لا يعنيه، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39].
عباد الله! لقد أكرم الله بني آدم، واتفقت الشرائع والملل على أنهم سواسية في التكاليف والمسؤوليات، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70]، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7].
دين الله الذي جاءت به الرسل عليهم السلام دعا إلى العدل والتعاون على الخير والبر والصلاح، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ [النحل:90]، وقال سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وأما في دين الإسلام فإِن السماحة والرحمة تأتي في أصول مبادئه وتعاليمه، وفي روح أحكامه وتشريعاته، فرحمة ربنا وسعت كل شيء، وهي قريبة من المحسنين، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو رحمة الله للعالمين أجمعين، وتأملوا رحمكم الله كيف جاء الاقتران بين النهي عن الفساد في الأرض وأمل الحصول على رحمة الله عز وجل: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
فاتقوا الله وارجوا اليوم الآخر، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، وأقبلوا على ربكم بصدق القلوب، واحذروا الخطايا والذنوب، لعل الله أن يثبت لكم في الصادقين قدماً، ويكتب لكم في التائبين صحيح الندم، فالحسرة كل الحسرة لنفوس ركنت إلى دار الغرور والخراب، وقلوبها عمرت بالباطل والزور.
وهذا الابتلاء ميدان تظهر فيه مكنونات النفوس، ومخفيات الصدور، ليميز الله الخبيث من الطيب، وليعلم الذين نافقوا، والمؤمن الصادق شاكر في السراء ثابت في الضراء، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3]، وَنبَلَوْنهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168].
ففي حكمة الابتلاء تسيطر النفوس، وترق القلوب، وتصدق المحاسبة، وفي ساعات الابتلاء يتجلى الثبات في الشديد من اللحظات وسط صرخات اليائسين، وتبرم الشاك، وقلق الشاكين، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62].
وإن الاستقامة على الحق، وملازمة العمل الصالح من أعظم أسباب الثبات في الأزمات والملمات، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68].
إذا أطلت الفتن برأسها، ودلهمت الخطوب بويلاتها، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
إن هذا الإفساد يستهدف الجميع، وتهدد نتائجه وآثاره الجميع.
يجب توعية الناشئة، وتذكيرهم ليعظموا أوامر الله وحرماته، ويحذروا سخطه ونواهيه، وكما تدرك الأمة عظم ذنب تارك الصلاة، يجب أن تدرك عظم هذا الإفساد وخطره على الدين والدنيا، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، وهو الذي قال: (لزوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دم مسلم) وهو الذي قال: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وهو الذي قال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)، وهو الذي قال: (من خرج على أمتي بسيفه يضرب برها وفاجرها فليس مني ولست منه)، وهو الذي قال: (من رفع علينا السلاح فليس منا).
إننا بحاجة إلى المواجهة بكلمة الحق والقول السديد لكل فساد على اختلاف أنواعه، ينهض به العالم والمعلم، والواعظ والخطيب، والمفكر والكاتب، فإلى الله المشتكى من نابتة أغرار، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، ركبوا رؤوسهم، وتكبروا على المسلمين غروراً وتيهاً، فأحدثوا فتناً وفواجع وشروراً، وبكل مرارة وأسى، إنهم أبناؤنا بغوا علينا، وأولادنا خرجوا علينا، كفى بهم لؤماً ودناءة أن ينشئوا على تراب هذه البلاد، ويأكلوا من خيراتها، ثم يقلبوا لها ظهر المجن، نسفاً وتخريباً.
لقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الظلم والطغيان مداه، ووصل الأمر منتهاه، ذرفت الدموع الشجام، وترملت النساء الكرام، وتيتم الأطفال، لقد أوسعونا من الفوضى والتخريب والعبث.
وفي الصحيح من حديث أسامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـأسامة لما قتل المشرك، وكان متأولاً: (أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ وما زال عليه الصلاة والسلام يقول لـ
اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم ردهم إلى جادة الصواب، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منا وما بطن، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! إن من أعظم أسباب انحراف هؤلاء الجهل والعزلة عن المجتمع، وعدم أخذ العلم من أهله، وغفلة الأسرة، والعجب بالنفس، وهذه كلها من الصوائل على الحق، وعلاجها أخذ العلم من أهله وأبوابه.
ومن الأسباب أيضاً الغلو في دين الله، والغلو هو سبب الهلاك، قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، الغلو مشاقة لهدي الإسلام، وإعراض عن منهجه في الوسطية والاعتدال والرحمة واليسر والرفق، الغلو ظلم للنفس وظلم للناس، صد عن سبيل الله؛ لما يورثه من تشويش وتمثيل.
والغلاة يتعصبون لجماعتهم، ويجلعونها مصدر حق، ويغلون في قادتهم ورؤسائهم، ويتبرءون من غيرهم.
قال أبو قلابة: ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، يجمعون بين الجهل بدين الله وظلم عباد الله، وبئست الطامتان الداهيتان.
إن مصير الغلاة هو الهلاك بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون).
إن مسالك الغلو لا تهزم القيم ولا تقيم المنجزات، ولا تحرر شعباً، ولا تقيم مذهباً، ولا تنصر حزباً.
إن الغلو وسفك الدماء لا يكون شريعة، ولا يكون مسلكاً مقبولاً.
إن الغلو والعنف لا يحمل غير التخريب والإفساد، لا يفلح في مسلكه، ولن يكسب تعاطفاً، بل يؤكد الطبيعة العدوانية لتوجهات أصحابه الفكرية، فالعقول كلها تلتقي على استنكاره ورفضه والبراءة من أصحابه، ومن ثم فإنه يبقى علامة شذوذ، ودليل انفراد وانعزالية.
وإننا لندعو هؤلاء الذين ضلوا بأفكارهم أن يداووا أنفسهم، وأن يرجعوا إلى الله تعالى، وأن يعودوا إلى رشدهم، وألا ينجرفوا وراء أحد في الضلال، وأن يقبلوا على العلم الشرعي من الكتاب والسنة، وأن يسألوا عما أشكل عليهم من الشبه من أهل العلم الموثوقين ليرشدوهم ويزيلوا عن قلوبهم هذا العمى، وأن يحذروا هذه الأعمال المجحفة، وأن يتذكروا عظم ذنبها عند الله عز وجل.
اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم صلِ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة المبشرين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم انصر المسلمين عليهم، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد رميهم، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، اللهم ارحم موتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم أكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ربنا هب لنا من أزواجنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر