أما بعد:
فيا أيها المسلمون! اتقوا الله تعالى واعبدوه واشكروا له وإليه ترجعون.
في هذه الأيام نتسامع عن كثير من سنن الله الكونية في بعض الدول، زلازل وبراكين وأعاصير وفيضانات أذهبت آلافاً من البشر، وأخفت مدناً بأكملها، وأهلكت الحرث والنسل.
إن إهلاك أولئك وأخذهم له أسباب، على المسلم أن يحذرها تمام الحذر، أتدورن ما هو سبب إهلاك تلك الأمم وأخذها وحصول البلاء والمحن؟ السبب في الجملة الإعراض عن منهج الله عز وجل، واقتراف المعاصي، والمجاهرة بذلك من الداني والقاصي.
قال الله عز وجل: فأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأنعام:6].
وقال سبحانه: فأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [آل عمران:11].
قال الله عز وجل: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة:49]، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
فالمصائب والإهلاك يأتي نتيجة لترك الحكم بما أنزل الله عز وجل، وترك المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:139].
وقال عليه الصلاة والسلام: ( فاتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة )، والظلم سبب للإهلاك وحصول المصيبات، قال الله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59].
فالله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، قال عز وجل: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76]، وقال سبحانه: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ [الشعراء:209].
أما ظهور الربا في هذا الزمن فهو أمر واضح، كما تتعامل به غالب المؤسسات المالية، حيث يتعاملون بالربا سراً وعلانية، وحيلة وصراحة، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279].
وأما الزنا فسبب ظهوره أمران:
الأول: تساهل أولياء النساء في الوقاية، بحيث يترك الرجل زوجته أو ابنته أو أخته تخرج إلى الأسواق والمجامع العامة متبرجة، وكذلك يدخل أو يسمح بإدخال الأجهزة التي تبث أنواع الفساد في العقائد والأخلاق، وتسبب عمل الفاحشة.
وأما الأمر الثاني فأيضاً: تساهل أولياء أمور النساء في الرقابة، بحيث تفشو المجلات السيئة في البيوت وتبث الأفلام الفاسدة، وتذاع الأغاني السافلة، ويوجد التساهل في الاختلاط بين الرجال والنساء في المجامع العامة.
اتقوا الله تعالى وخذوا حذركم بالأخذ بما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عما نهى عنه، واتقوا الله إن الله شديد العقاب، ولا تأمنوا مكر الله وبأسه وخاصة في أعقاب الغفلات فإن أخذه أليم شديد، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
وقال سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47].
أيها المسلمون! كفوا عن السوء وانهوا عنه، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ينجكم الله من عذابه وعقابه إذا حل بالظالمين الفاسقين، الناسين ما ذكروا به، قال الله عز وجل: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:164-165].
اللهم اجعلنا من الناجين المتقين، اللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، اللهم صلِ وسلم وبارك على نبينا محمد.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في موعظة له بعنوان: جزاء المخالفين لأمر رب العالمين، قال: مخالفة الأمر توجب سخط الآمر، والإصرار على المخالفة أعظم منها، ما أسرع العقوبة إلى المسارع إلى المعصية! وما أبعد الفلاح عمن لا تؤدبه العقوبة! كيف يطمع في الزيادة منه مضيع للشكر؟ وكيف تدوم التوسعة لقوم كلما اتسعت أرزاقهم ضيقوا على فقرائهم؟ المستعين بالنعم على المعاصي مستوجب للسلب، ومن لا يتأدب بالرزية في ماله أدبته الرزية في نفسه، ثم قال: فتوبوا إلى الله مما أنتم عليه من العصيان، تبصروا فإنكم عن قريب إليه صائرون، فهل أنتم على عذابه صابرون، أو على بأسه قادرون؟ فاتقوا الله بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، وإدامة الذكر له، استشعار الخشية منه، ولا تكونوا ممن ينام تحت الضرب ويظهر الجلد، فإن الله إذا عاقب لم يقم لعقابه أحد.
قال رحمه الله: غضب بعض الملوك على بعض من هو تحت يده، فحبسه في دار واسعة وأجرى عليه رزقاً واسعاً، ثم سأل عنه فقيل: إنه متجلد غير مكترث، فأمر بنقله إلى ما هو أضيق منه وأشد، ثم لم يزل كذلك كلما أخبروه عنه بقلة مبالاته بعقوبة الملك، نقله إلى ما هو أضيق منه وأشد حتى أمر بقتله، فكذلك العبد إذا عصى ربه وجه إليه أخف عقابه، فإن هو استقال واستغاث بربه أقاله وأغاثه، وإن هو أصر على ذنبه واستهان بعقوبته شدد عليه ما يوجه إليه من العذاب، كذلك أبداً حتى يكون أحد أمرين: إما أن يتوب إلى الله من معاصيه، وإما أن يتمادى في طغيانه ويصر على عصيانه، ففي الأول يعاقبه الله ويصطفيه، وفي الثاني يخلده في دار نقمته.
ثم قال رحمه الله: العذاب مصبوب على أهل سخط الله، والسخط حال على أهل معصية الله، والمعصية لازمة لمن له الشيطان ملازم، وإنما يلازم الشيطان من عشا عن ذكر الله ونسيه، فاحذروا الغفلة عن ذكر الله، فإنه أصل كل بلية وجالب كل رزية، انتهى كلامه رحمه الله.
وقال الله عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
عباد الله! خذوا العبرة ممن حولكم، وارجعوا إلى ربكم قبل أن يحل بكم ما حل بهم، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27]، فارجعوا إلى ربكم أيها المسلمون! واعبدوا الله ولا تشركوا به، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وذروا ظاهر الإثم وباطنه، واشكروه واستغفروا له، مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147]، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
اللهم اجعلنا من المتقين الناجين الذين لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا من الشاكرين القانتين المستغفرين، اللهم إنا نعوذ بك من الشرك وحال الخاسرين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، اللهم عليك بأئمة الكفر وصناديدهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في فلسطين، اللهم احفظ المسلمين في العراق وفي كل مكان، اللهم احقن دماءهم، اللهم عليك بعدوك وعدوهم، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم صلِ وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر