وهو ترك ما يدعو إلى نكاحها، ويرغب في النظر إليها من زينة وطيب وتحسين بنحو حناء، ومصبوغ لزينة وحلي وكحل أسود، وتجب العدة في وفاة في المنزل حيث وجبت، وإن تحولت لخوف أو قهر، أو لحق انتقلت حيث شاءت، ولها الخروج نهارا لحاجتها فقط، وتأثم بترك إحداد، وتنقضي العدة بمضي الزمان.
باب الاستبراء.
من ملك أمة، يوطأ مثلها، ولو من امرأة أو صغير، حرم وطأها ودواعيه حتى يستبرئها، واستبراء حامل بوضع، ومن تحيض بحيضة، وصغيرة وآنسة بشهر ].
الإحداد في اللغة: المنع، ومنه سمي البواب حداداً؛ لأنه يمنع من الدخول والخروج، وأما في الاصطلاح: فهو منع المتوفى عنها زوجها مدة العدة من أشياء مخصوصة.
وقال المؤلف رحمه الله تعالى: (يجب إحداد).
أفاد المؤلف -رحمه الله- أن الإحداد واجب، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى، ويدل لهذا حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهرٍ وعشراً)، وقوله: ( لا يحل )، ثم بعد ذلك استثنى إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، هذا يدل على الوجوب؛ لأنه استثناه من التحريم، كونه استثنى من التحريم، هذا يدل على أنه واجب.
وأيضاً مما يدل لذلك أن الحادة تمنع من بعض الأشياء، والأصل الحل، مما يدل على أن هذا واجب، يعني: أن الشارع نهاها عن بعض الأشياء، والنهي يقتضي التحريم، مما يدل على أن الإحداد واجب، والرأي الثاني: ما ذهب إليه الشعبي والحسن ، وأنه ليس واجباً، واستدلوا بما يروى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب قال النبي عليه الصلاة والسلام لامرأته: ( تسلبي ثلاثاً ثم اصنعي ما شئتي )، فقوله: (واصنعي ما شئتي) يدل على عدم الوجوب، لكن هذا الحديث ضعيف، ولا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، والصواب في ذلك أن الإحداد واجب، كما سيأتينا إن شاء الله، وكما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى.
والإحداد كان موجوداً في الجاهلية، لكنه في الجاهلية كان موجوداً على أسوأ الأحوال، فقد كانت المرأة في الجاهلية تحد سنة كاملة في أضيق بيت وأوحشه، ولا تقرب الماء، ولا تقص الظفر ونحو ذلك، فجاءت الشريعة فنقلت هذا إلى الإحداد مدة أربعة أشهر وعشراً، ولم تمنع الحادة من التنظف والتطهر إلى آخره، خلافاً لما كان عليه أهل الجاهلية، لكن منعت من الأشياء التي تدعو إلى نكاحها؛ لأنها ممنوعة من النكاح زمن العدة.
والحكمة من الإحداد:
أولاً: القيام بحق الله عز وجل، وهو الاستجابة لأمره، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: القيام بحق الزوج، وهو إظهار الحزن، والأسى على فقده، وأيضاً القيام بحق هذا العقد عقد النكاح؛ لأنها تمتنع من هذه الأشياء التي تدعو إلى نكاحها؛ لأنها ممنوعة من النكاح؛ لكي لا تختلط المياه، وتشتبه الأنساب، ونحو ذلك.
الإحداد يشترط له شروط:
الشرط الأول: أن يكون في نكاح صحيح، فإن كان النكاح فاسداً فإنه لا يجب الإحداد، وإن كان في غير نكاح من باب أولى لا يحب الإحداد، فلو أنه وطء امرأة لشبهة ثم مات، فإنه لا يجب أن تحد.
الشرط الثاني: أن تكون مكلفة، وهذا رأي أبي حنيفة، يعني: أن تكون بالغة عاقلة، فإن كانت غير مكلفة، فإنه لا يجب الإحداد، هذا عند أبي حنيفة، وعند الجمهور أنه يجب الإحداد حتى ولو كانت صغيرة حتى ولو كانت مجنونة يجب أن تحد، أما عند أبي حنيفة فلا يجب الإحداد؛ لأنها مرفوع عنها القلم، وعند الجمهور يجب الإحداد؛ لأن الإحداد هو المنع من بعض الأشياء، فتمنع من هذه الأشياء كما تمنع من المحرمات، كما أن وليها يمنعها من شرب الخمر واستماع الغنا ونحو ذلك، فكذلك أيضاً يمنعها من هذه الأشياء.
الشرط الثالث: أن تكون مسلمة، أيضاً عند الحنفية يشترطون أن تكون مسلمة، وعلى هذا إذا كانت ذمية لا يجب عليها الإحداد؛ لأن أهل الذمة ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة، وعند جمهور أهل العلم أنه يجب عليها الإحداد، كما يجب على المسلمة، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( تؤمن بالله واليوم الآخر )، فهذا ليس قيداً، وإنما هو من قبيل الإغراء والحث، فالتي تؤمن بالله واليوم الآخر هي التي تستجيب لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: هذا من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر، فالصواب في ذلك أنه يجب أيضاً حتى على غير المسلمة، الذمية يجب عليها أن تحد.
وقوله: (عدة وفاة) يخرج عدة الطلاق، الطلاق ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون رجعياً، فهذه لا يجب عليها الإحداد، ولا يشرع، بل المشروع لها أن تتجمل وأن تتزين لزوجها، وكما ذكر بعض أهل العلم يحتمل أن يقال لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهرٍ وعشراً ) في المتوفى عنها.
القسم الثاني: أن يكون الطلاق بائناً، فهل يجب أو لا يجب؟
الجمهور أنه لا يجب على البائن، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( على ميت )، فدل على أن عدة الوفاة إنما تكون على الميت.
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة أنه يجب على البائن، ودليلهم على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة عن الحناء، وقال: ( الحناء طيب )، لكن هذا الحديث ضعيف لا يثبت، والصواب أنه لا يجب، لكن إذا قلنا لا يجب، هل يشرع ويستحب؟ أو نقول يباح، المشهور من المذهب أنه يباح لها أن تحد، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يستحب لها أن تحد.
الإحداد يشتمل على أشياء:
الشيء الأول قال: (يرغب النظر إليها من زينة).
هذا الشيء الأول، الزينة في الثياب، والضابط في ذلك العرف، فما تعارف الناس على أنه زينة من الثياب فإنه لا يجوز، وإذا كان من الثياب التي ليست من ثياب الزينة المعتادة فهي جائزة، حتى ولو كانت ملونة، حتى ولو كانت مشجرة إلى آخره، والتزام لون بعينه كاللون الأسود ونحو ذلك أو اللون البني، هذا كله لا أصل له، بل يظهر أن هذا لا يجوز؛ لأن هذا من التشبه، إما بأهل الكفر أو بأهل البدع والفسق، المهم أنها تلبس ثوباً ليس من ثياب الزينة عرفاً وعادة، حتى ولو كان ملوناً أو كان مشجراً ونحو ذلك، ويدل لهذا حديث أم عطية في الصحيحين: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهرٍ وعشراً، ولا تكتحل، ولا تختضب ) إلى أن قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إلا ثوب عصب )، فاستثنى النبي عليه الصلاة والسلام ثوب العصب، وفي حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قال: ( ولا تلبس الممشق من الثياب ).
الثاني: قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وطيب).
الحادة ممنوعة من الطيب؛ لحديث أم عطية ، وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولا تمس طيباً )، والتطيب يشمل بدنها وثوبها، ويشمل أيضاً ما تطعمه من شراب وأكل، فمثلاً الزعفران تكون ممنوعة منه، فالطيب ممنوعة من الطيب سواء كان في البدن أو في الثياب أو في الطعام، أو في الفراش، ونحو ذلك؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولا تمس طيباً ) يستثنى من ذلك إذا طهرت من حيضتها فإنها تطيب مكان الحيض؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إلا نبذة من قسطٍ أو أظفار ) فتطيب مكان الحيض؛ لكي تذهب الرائحة الكريهة، هذه مستثناة.
قال: (وتحسين بنحو حناء).
يعني: تجميل البدن بالحناء ونحو ذلك من الأصباغ التي تستعملها النساء في البدن مما فيه التجميل والتحسين نقول بأنها ممنوعة من ذلك.
قال: (ومصبوغ لزينة) كما تقدم.
قال: (وحلي).
هذا الرابع الحلي، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله، أنها ممنوعة من الحلي، سواء كان الحلي من الذهب أو من الفضة، أو من الجواهر، أو من اللؤلؤ، أو من الياقوت، أو غير ذلك، المهم كل ما كان من حلي فإنها ممنوعة منه؛ لحديث أم سلمة وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولا الحلي ).
والرأي الثاني: رأي الظاهرية أن الحلي مباح للحادة، ويستدلون أن الأصل هو الحل، وأما حديث أم سلمة فهو ضعيف، لكن أولاً تضعيف الحديث هذا غير مسلم، وثانياً حتى ولو قلنا بأن الحديث ضعيف فالشريعة ما تفرق بين المتماثلات، كيف أن الشارع يمنع الحادة من الكحل، ( ولا تكتحل ) كما في الصحيحين، ويمنعها من الخضاب، ويمنعها من الطيب، ثم نقول: لها أن تلبس ما شاءت من الحلي، ما الفرق كونه يمنعها من هذه الزينة، ثم بعد ذلك نقول لها: تتجمل بما شاءت من أنواع الجواهر والذهب إلى آخره، فهذا بعيد أن الشارع يفرق بين الأمرين.
الرأي الثالث: رأي عطاء رحمه الله يقول: تباح الفضة ولا يباح الذهب، لكن الصواب كما ذكرنا رأي جمهور أهل العلم.
وعلى هذا فالمرأة تخلع كل ما عليها من حلي إذا توفي عنها زوجها، حتى ولو كان هذا الحلي قد جرت العادة بلبسه إلى آخره، كالخاتم والسوار، ونحو ذلك، فنقول: يجب عليها أن تقوم بخلع مثل هذه الأشياء.
قال: (وكحل أسود).
الكحل؛ لحديث أم سلمة في الصحيحين: ( أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن زوج ابنتها توفي، وأنها اشتكت عينها، أفنكحلها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، مرتين أو ثلاثاً )، فدل ذلك على أن الكحل محرم، لكن لو احتاجت إليه للعلاج، نقول: إذا كان يوجد غيره فلا يجوز لها أن تكتحل، يعني: يوجد غيره من المستحضرات الطبية الآن لا يجوز لها أن تكتحل، لكن إذا تعين هذا الكحل، فالظاهرية يمنعونه، والجمهور يقولون: تضعه بالليل، وتمسحه بالنهار، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة لما تأيمت من أبي سلمة وقد وضعت على وجهها صبراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه يشب الوجه، ضعيه بالليل وامسحيه بالنهار )، فنقول: إن تعين الكحل للعلاج تضعه بالليل وتمسحه بالنهار، وأما المرأة التي منعها النبي عليه الصلاة والسلام أنها تكتحل، فقد ذكر النووي رحمه الله أن النبي عليه الصلاة والسلام عرف من حالها أنها ليست ضرورة، وأنها ممكن أن تتداوى بغير الكحل، فمنعها النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
هذا الأمر السادس مما يجب على الحادة أن تلبث في المنزل الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه حتى يبلغ الكتاب أجله، واللبث هذا هل هو واجب أو ليس واجباً؟ عند الجمهور أنه واجب؛ لحديث فريعة في السنن، وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله)؛ ولأن هذا وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كـعمر وغيره، وذهب بعض العلماء إلى أن هذا التربص في المنزل ليس واجباً؛ لأن الحديث فيه ضعيف.
على كل حال؛ ما دام أنه وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيصار إلى ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
وما هو المنزل الذي يجب عليها أن تتربص فيه؟ المنزل الذي يجب أن تتربص فيه هو المنزل الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه، ليس المنزل الذي توفي زوجها وهي موجودة فيه، بل المنزل الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه؛ لأنها قد تخرج من بيتها مثلاً نزهة، أو لزيارة أو لسفر، فتوجد في مكان آخر، فنقول: المكان الذي كانت ساكنة فيه ومستقرة فيه، هو الذي يجب عليها أن ترجع فيه وأن تتربص، فالعبرة بذلك أن المنزل الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه، فهذه يجب عليها أن تلزمه حتى يبلغ الكتاب أجله.
وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- أنها تخرج في الليل لضرورة إذا اضطرت لذلك، كخوف، يعني: تخاف، أو لحاجة إلى دواء، أو حريق، ونحو ذلك، في الصباح تخرج للحاجة أوسع من ذلك، إذا احتاجت للخروج تخرج في الصباح، مثلاً تريد أن تشتري شيئاً، تشتري طعاماً، ونحو ذلك من الحوائج ليس هناك أحد يقوم بهذه الأشياء، فيظهر أن هذه حاجة، وأنها تخرج لها، ومن ذلك إذا كانت تعمل ولا تمكن من الإجازة فهذه حاجة، ربما أنها تفصل من عملها، هذه حاجة، أو مثلاً تؤدي امتحاناً، ولا تعطى رخصة، فهذه حاجة، تخرج لهذه الأشياء.
تحولت لخوف، يعني: البيت أصبح مخوفاً، الحكم يقول لك المؤلف: انتقلت حيث شاءت، تنتقل إلى أي بيت وتتربص فيه، أو قهراً، أخرجت من البيت ظلماً أيضاً، فتعتد في أي بيت، لكن إذا استقرت في هذا البيت لا تخرج -كما تقدم- إلا في الليل للضرورة، وفي النهار للحاجة، حتى يبلغ الكتاب أجله.
قال: (أو لحق).
يعني: هذا البيت مستأجر، وصاحب البيت أخرجها، أو طلب فوق الأجرة ونحو ذلك، هل يجب على المرأة أن تستأجر البيت لكي تسكن فيه أو لا يجب عليها؟
وأيضاً مسألة أخرى: هل يجب على الورثة إذا كان البيت غير مستأجر أن يمكنوها من البقاء في هذا البيت أو لهم أن يخرجوها منه؟ يعني: الورثة قالوا: نريد أن نبيع البيت أو نسكن وهي واحد من الورثة، فهل يجب عليهم أن يمكنوها، أو نقول: بأنه لا يجب عليهم أن يمكنوها؟
هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى، العلماء رحمهم الله لهم في ذلك رأيان:
الرأي الأول: أنه لا يجب عليهم أن يمكنوها، إن تبرعوا ومكنوها فلهم ذلك، وإن لم يتبرعوا فليس عليهم شيء، وهذا المذهب.
الرأي الثاني: رأي المالكية أنه يجب عليهم أن يمكنوها؛ لأنه يجب عليها أن تحد في هذا البيت.
أما عند الحنابلة فيقولون: لا يجب، ويستدلوا على ذلك أن البيت الآن أصبح للورثة، (ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه)، يعني: البيت انتقل لهم، والمرأة ليس لها إلا الربع أو الثمن، أزيد من ذلك لم يجعله الشارع لها، وقول الحنابلة رحمهم الله أقوى.
وعلى هذا؛ نقول: إن رضي الورثة أن تبقى فيجب عليها أن تمكث، فإذا لم يرض الورثة وأخرجوها، نقول: لهم ذلك.
لكن إذا طلب الورثة أجرة هل يجب عليها أن تستأجر أو لا يجب عليها ذلك؟ أو مثلاً البيت هو مستأجر، فهل يجب عليها أن تستأجر، أو لا يجب عليها أن تستأجر؟
المشهور من المذهب أنه ما يجب عليها أن تستأجر.
والرأي الثاني: أنه يجب عليها أن تستأجر؛ لأن هذا حق واجب عليها، وما دام أنه حق واجب فيجب عليها أن تستأجر، كما أنه يجب عليها أن تشتري الماء للوضوء، وأن تشتري الثوب لكي تستر العورة في الصلاة، ونحو ذلك. والأقرب في هذه المسألة أنه ينظر إلى حالة المرأة، وإلى قدر الأجرة، فإذا كان هذا ليس فيه إجحاف بمالها، ولا يلحقها بذلك ضرر ولا مشقة وجب أن تستأجر، وإلا فإنه لا يجب في هذه الحالة.
لو أنها تركت الإحداد، نقول: العدة لا تنتهي، ومدة الإحداد هو مدة العدة أربعة أشهرٍ وعشراً، فلو أنها خالفت ولبست الزينة واكتحلت ونحو ذلك، نقول: تأثم، لكن العدة لم تنته.
المشهور من مذهب الإمام أحمد ومالك أن لها ذلك؛ لأن الأصل في ذلك الحل، والزينة هنا غير ظاهرة، فهو كحال الماء، كحال الغسل والتنظف، لها أن تدهن بدنها، وعند أبي حنيفة والشافعي ليس لها ذلك، والصواب أن لها ذلك ما لم تكن هذه الأدهان مطيبة، فإذا كانت مطيبة فإنه لا يجوز.
كذلك أيضاً: ما يتعلق بالغسل وأخذ سنن الفطرة هذه كلها جائزة، يعني: هي كغيرها، تغتسل وتتنظف وتسرح شعرها، وتأخذ ما زاد من الأظافر، وتأخذ الشعور الزائدة إلى آخره، تنظف بدنها بالمنظفات من الصابون وغير ذلك، هذه كلها نقول بأنها جائزة؛ لأن الأصل في ذلك الحل.
المسألة الأولى: إذا كانت الحادة مسافرة فإنها ترجع، كما تقدم فالواجب عليها أن تحد في البيت الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه، لكن إذا خرجت لحج أو عمرة، فما الحكم؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، المشهور من مذهب الإمام أحمد أنها إن أحرمت بالحج أو العمرة فإنها تمضي، فإذا انتهت من نسكها رجعت، وإن لم تحرم يعلقون الأمر بمسافة القصر، إن بلغت مسافة القصر لها أن تذهب، أما دون مسافة القصر فترجع؛ لأنهم يرون أن مسافة القصر في حكم البعيد، أو السفر الطويل، أما دون مسافة القصر فهو في حكم القريب، وإذا أحرمت فلا يمكن لها أن ترجع؛ لأنها الآن اشتغلت بالإحرام، والله عز وجل يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فلا بد أن تتم.
ومذهب الشافعية قريب من مذهب الحنابلة، وعند المالكية يقولون: إن أحرمت مضت، وإن لم تحرم رجعت، وهذا القول هو الأقرب، نقول: الأقرب في ذلك إن أحرمت فإنها تمضي؛ لأن الله عز وجل يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، وإن لم تحرم فإنه يجب عليها أن ترجع، إذا تمكنت مع وليها ونحو ذلك أن ترجع، فإنه يجب عليها أن ترجع؛ لأن تربصها في البيت هذا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فواجب.
الاستبراء في اللغة: مأخوذ من البراءة، وهي التمييز والقطع، وأما في الاصطلاح، فهو تربص يقصد به العلم ببراءة رحم ملك يمين، أيضاً نضيف على ذلك، وما يلحق بذلك؛ لأنه كما سلف أن أشرنا إلى أنه على المذهب يضيقون الاستبراء، يجعلون الاستبراء لملك اليمين فقط، يعني: ملك اليمين بالجملة، والصحيح في ذلك أن الاستبراء أعم من ذلك كما أشرنا، والاستبراء لملك اليمين بمنزلة العدة للمتزوجة، كما سلف، ولما ذكر المؤلف -رحمه الله- العدد ناسب أن يذكر الاستبراء؛ لأن العدد فيها معرفة براءة رحم المتزوجة، والاستبراء فيه معرفة براءة رحم ملك اليمين.
الاستبراء للأمة يجب في ثلاثة مواضع:
الأول: قال لك: (من ملك أمة يوطأ مثلها) إذا ملك أمة ببيع، يعني: عن طريق الشراء، أو بالهبة، أو غير ذلك، فإنه يجب عليه أن يستبرئها، وظاهر كلام المؤلف أنه يجب عليه أن يستبرئ، ولو أن البائع استبرأ، وسيأتينا إن شاء الله هذا.
الموضع الثاني: أن من أراد أن يخرج الأمة عن ملكه يجب عليه أن يستبرئها قبل أن يخرجها، فلو أن البائع استبرأ هل يجب على المشتري أن يستبرأ أو لا يجب؟ على كلام المؤلف: يجب عليه أن يستبرأ، فيكون هناك استبراءان، وهذا فيه نظر، والصواب أنه إذا استبرأ البائع فالمشتري لا يجب عليه أن يستبرئ.
كذلك أيضاً قال لك: لو ملكها من امرأة أو صغير، أو كانت بكراً يجب أن يستبرئ، يعني: المرأة لا تطأ، الصغير لا يطأ، يجب أن يستبرئ، وهذا ما ذهب إليه المؤلف.
والرأي الثاني: أنه لا يجب أن يستبرئ في هذه الحالة، ما الفائدة من الاستبراء إذا ملكها من امرأة، أو ملكها من صغير، أو كانت بكراً، ولهذا جاء في البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( ولا تستبرئ العذراء )، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن البكر، وإذا ملكها من صغير، أو ملكها من امرأة، ونحو ذلك أن هؤلاء لا يجب فيهن الاستبراء.
إذاً: الموضع الأول: إذا ملك أمة إلى آخره، وذكرنا أن المؤلف رحمه الله تعالى يرى أنه إذا ملك أمة، ولو من امرأة أو من صغير، أو كانت بكراً ونحو ذلك، أو أن البائع استبرأ فإنه يجب عليه أن يستبرئ، والصواب في ذلك أنه لا يجب أن يستبرئ، إذا استبرأ البائع أو ملكها من امرأة أو من صغير، أو كانت بكراً إلى آخره، تقدم الكلام على هذا.
أيضاً: يقول لك المؤلف رحمه الله: (حرم وطؤها ودواعيه) يعني: قبل الاستبراء يحرم عليه أن يطأ، أن يجامع، وكذلك أيضاً مقدمات الجماع محرمة، كالقبلة والمس بشهوة ونحو ذلك؛ لأن هذه المقدمات وسيلة إلى الوطء المحرم، وما كان وسيلة إلى محرم فإنه يكون محرماً.
والرأي الثاني: أن هذه جائزة ولا بأس بها، يعني: المقدمات هذه جائزة ولا بأس بذلك، وهذا اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لأن الذي يحصل به المحضور هو الوطء، الذي يحصل به اختلاط المياه واشتباه الأنساب هو الوطء، وليس ما يتعلق بالاستمتاع، وهذا القول هو الصواب، إلا إذا كان يظن أو يعرف من نفسه أنه إذا حصلت له مثل هذه الأشياء ستوقعه في الوطء المحرم، فنقول: أنه يحرم في هذه الحالة؛ لأن ما كان وسيلة إلى محرم فإنه محرم.
الموضع الثاني الذي يجب عليه فيه الاستبراء: إذا ملك أمة ووطئها أيضاً، ثم أراد أن يخرجها عن ملكه بتزويج، أراد أن يزوجها، أو ببيع، أو هبة ونحو ذلك، فإنه لا يجوز له أن يخرجها حتى يستبرئها؛ لأن المشتري ربما أنه لا يستبرئ، وعمر رضي الله تعالى عنه أنكر على عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه لما باع جارية قبل أن يستبرئها، فإن كان لم يطأ، يعني: ملك هذه الأمة لكن لم يطأها، ما يجب عليه أن يستبرئ، لكن العلماء يقولون: يستحب له أن يستبرئ.
الموضع الثالث مما يجب فيه الاستبراء: إذا مات عن الأمة، أو أعتقها، يعني: أعتق أمته، أو أعتق أم ولده، أو مات عنها فإنه يجب عليها أن تستبرئ نفسها إذا أرادت أن تتزوج به؛ لأنها فراش للسيد.
بين المؤلف -رحمه الله- ما يحصل به الاستبراء، فقال: استبراء الحامل يكون بوضع كل الحمل، وإن كانت تحيض فبحيضة واحدة، ويدل لهذا حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا توطء حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة) في السبايا، وإن كانت آيسة أو لم تحض للصغر، فهذه استبرائها يكون بشهر؛ لأن الشهر يقوم مقام الحيضة في العدة، فكذلك أيضاً في الاستبراء، الله عز وجل قال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وقال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق:4] في الأشهر قال: ثلاثة، مما يدل على أن كل شهر يقوم مقام كل قرء، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر