ولا سنة ولا بدعة لصغيرة وآيسة وغير مدخول بها ومن بان حملها.
وصريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه غير أمر ومضارع، ومطلقة اسم فاعل فيقع به، وإن لم ينوه جاد أو هازل، فإن نوى بطالق من وثاق أو في نكاح سابق منه، أو من غيره أو أراد طاهراً فغلط لم يقبل حكماً، ولو سئل: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم، وقع، أو: ألك امرأة؟ فقال: لا، وأراد الكذب فلا.
فصل: وكنايات الظاهرة نحو: أنت خلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وأنت حرة وأنت الحرج، والخفية نحو: اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، واعتدي، واستبرئي، واعتزلي، ولست لي بامرأة، والحقي بأهلك، وما أشبهه، ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق إلا بنية مقارنة للفظ إلا في حال خصومة وغضب وجواب سؤالها، فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً، ويقع مع النية الظاهرة ثلاث وإن نوى واحدة، وبالخفية ما نواه].
تقدم لنا جملة من أحكام الطلاق، ومن ذلك أنه يشترط في المطلق أن يكون مختاراً، وعلى هذا إذا كان مكرهاً فإن الطلاق لا يقع، وذكرنا أن الإكراه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون بحق، فهذا يقع طلاقه، والقسم الثاني: أن يكون بغير حق، فهذا لا يقع طلاقه.
وتقدم لنا أيضاً ما يتعلق بشروط الإكراه، ومما يدخل في الإكراه طلاق الغضبان، هل يقع طلاق الغضبان أو لا يقع؟ وذكرنا أن هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وبينا حكم كل قسم.
وتقدم لنا ما يتعلق بطلاق الموسوس، وطلاق المسحور.
ثم شرعنا بعد ذلك فيما يتعلق بطلاق السنة وطلاق البدعة، وأن طلاق السنة ما جمع أربع صفات:
الصفة الأولى: أن يطلقها طلقة واحدة.
والصفة الثانية: أن يكون في طهر.
والصفة الثالثة: ألا يكون قد جامع في هذا الطهر.
والصفة الرابعة: أن يتركها حتى تنقضي عدتها، بحيث لا يتبعها طلقة في أثناء العدة.
وشرعنا في الصفة الأولى وهي أن يطلقها طلقة واحدة، وذكرنا أنه إذا طلقها أكثر من طلقة فإما أن يطلقها ثلاثاً، وإما أن يطلقها اثنتين، وبينا الحكم التكليفي لطلاق الثلاث، وطلاق الاثنتين، وأن الصواب أنه محرم ولا يجوز، فلا يجوز للزوج أن يطلق زوجته ثلاث طلقات، ولا يجوز له أن يطلقها طلقتين.
وأما الحكم الوضعي ففيه ثلاثة آراء: الرأي الأول: وهو رأي جمهور أهل العلم، أن الثلاث تقع، سواء جمعها بلفظ واحد، فقال: أنت طالق ثلاثاً، أو كرر الجملة فقال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وبعض العلماء فصل، فقال: إن جمعها فهي طلقة، وإن كرر فهي ثلاث.
الرأي الثاني: أنها طلقة واحدة.
والرأي الثالث: رأي ابن حزم أنها لغو، وأنه لا يقع به شيء، وذكرنا أدلة الجمهور، وانتهينا من أدلتهم، وذكرنا أيضاً رأي شيخ الإسلام، وذكرنا من أدلته حديث ابن عباس ، وقول الله عز وجل: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، بمعنى أن يكون دفعة بعد دفعة، بحيث تستقبل في كل طلقة عدة، ومن أدلته قول الله عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والطلاق للعدة أن يطلق طلقة تستقبل بها عدة، ولا يطلق طلقة لا تستقبل بها عدة، وعلى هذا إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، وقلنا: بأنه يقع طلقتين، فالطلقة الثانية لم تستقبل بها عدة، استقبلت العدة بالطلقة الأولى، أما الثانية فليس لها عدة.
ومن الأدلة على ذلك: حديث ركانة رضي الله تعالى عنه أنه طلق امرأته ثلاثاً، فحزن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( واحدة )، لكن هذا الحديث مضطرب، لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على ذلك: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أي: فعمله مردود عليه، ولا شك أن طلاق الثلاث عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون مردوداً.
بقي كلام ابن حزم رحمه الله، حيث يقول بأنه لغو، وغير معتبر، ودليله على ذلك أن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، يعني أن عمله مردود عليه، وهذا الكلام الذي ذكره ابن حزم صحيح، لكن لا نقول بأنه مردود جملة، نقول: الذي ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم هو المردود، أما الذي عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فليس مردوداً، فهذا الرجل قال: أنت طالق، فقوله: أنت طالق، هذا عمل عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقع ثم قال الثانية: أنت طالق، فهذه ليس عليها أمر الله ولا أمر رسوله، فلا تقع.
وإذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فقوله: أنت طالق، هذا عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله: ثلاثاً، هذا ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والأصل في كلام المكلف إعماله لا إهماله، فكوننا نهمله بالكلية هذا فيه نظر، فالصواب في هذه المسألة هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو قول لبعض الحنفية وبعض المالكية وبعض الحنابلة، أن الطلاق الثلاث يكون واحدة، لكن كما جاء في حديث ابن عباس إذا رأى القاضي أو الإمام أن يمضيه من باب التعزير، وأن المصلحة تقتضي ذلك، فإنه يمضيه، هذه الصفة الأولى من صفات طلاق السنة، وهي: أن يطلقها طلقة واحدة.
الصفة الثانية: أن يطلقها في طهر، فإذا طلقها في غير طهر فإن هذا لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يطلقها في حال الحيض، الأمر الثاني: أن يطلقها في النفاس.
الرأي الثاني: وهو قول الظاهرية والخوارج، والشيعة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن طلاق الحائض غير واقع، ولهذا قال ابن عبد البر رحمه الله: هذا القول لم يقل به إلا أهل الأهواء والبدع، لكن هذا هو الحق، وقد دل عليه القرآن والسنة، وهذه من المسالك التي خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأئمة الأربعة، ولكل منهم دليل.
أما الذين قالوا بأنه يقع فاستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عمر أن يأمره بمراجعتها قال: ( مره فليراجعها )، والرجعة فرع عن الطلاق، وهذا يدل على أن الطلاق وقع، وورد في البخاري معلقاً من حديث ابن عمر قال: حسبت علي تطليقة.
وورد عن ابن عمر نفسه كما في صحيح مسلم أنه قال: فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها.
وفي سنن أبي داود والدارقطني أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هي واحدة )، هذا في سنن أبي داود وسنن الدارقطني، فهذه أدلة الجمهور الذين يقولون بأن طلاق الحائض يقع.
الرأي الثاني: الذين قالوا بأنه لا يقع، استدلوا بقول الله عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والطلاق للعدة أن يطلق في حال الطهر، ولهذا في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء )، والله عز وجل يقول: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والنبي صلى الله عليه وسلم بين طلاق العدة: أن يطلقها في الطهر قبل الجماع، فدل على أن الطلاق في حال الحيض ليس طلاقاً للعدة، وإذا كان كذلك فإنه يكون مردوداً، لأنه ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم غضب، وأمر ابن عمر أن يراجع زوجته، مما يدل على أنه ليس واقعاً، وليس كما يقول الجمهور بأنه واقع، وسنبين هذه المسألة.
شيخ الإسلام يقول بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها يدل على أن الطلاق ليس واقعاً، والجمهور يقولون بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها يدل على أن الطلاق واقع، لأن الرجعة فرع عن الطلاق، وسيأتي كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وكلام تلميذه ابن القيم .
واستدلوا على ذلك بقول ابن مسعود في قول الله عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، قال ابن مسعود : طاهرات من غير جماع، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر في سنن أبي داود ، أن ابن عمر طلق امرأته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يرها شيئاً، وأيضاً ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الرجل أيطلق امرأته وهي حائض؟ قال: لا يعتد بذلك، رواه عبد الرزاق وصححه الحافظ ابن حجر وابن حزم ، مما يدل على أن الآثار عن ابن عمر مختلفة، فتارة كما في صحيح مسلم أنه حسب الطلقة، وتارة أفتى بأن من طلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك.
وكيف الجواب عن أدلة الجمهور الذين قالوا: بعدم الوقوع؟
الدليل الأول حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها، أجيب عن الأمر بالمراجعة بجوابين:
الجواب الأول: قال شيخ الإسلام: لا يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالمراجعة وقد وقع الطلاق، لأنه سيطلق، فإذا قلنا بأن الطلاق واقع وأنه أمره بالمراجعة، ففي ذلك إضرار؛ لأنه سيترتب عليه وقوع طلقة ثانية، وتطويل العدة، فلا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: راجعها والطلاق واقع، ما الفائدة من أن يقول له راجع وهو سيطلق؟
الجواب الثاني: ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن المراجعة في لسان الشارع أعم منها في لسان الفقهاء، فالمراجعة في لسان الشارع تطلق على إطلاقات: المراجعة بعد الطلاق، والرد إلى الحالة الأولى، وهذا هو المراد هنا، ومن ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم للنعمان بن بشير لما نحل ولده دون بقية أولاده، أمره أن يرتجع هذه الهبة، أي: أن يردها إلى الحالة الأولى، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم هو أن ترد إلى الحالة الأولى، بمعنى أن الطلاق ليس واقعاً.
وتطلق المراجعة في لسان الشارع على ابتداء النكاح، فالمراجعة في لسان الشارع أعم منها في لسان الفقهاء، وأما قول ابن عمر : وحسبت لها التطليقة التي طلقتها، فنقول: الآثار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مختلفة.
وجاء في البخاري معلقاً وحسبت من طلاقها، لا يدرى من الحاسب، ليس فيه تصريح بأن الذي حسبها هو النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود : ( هي واحدة )، لا يدرى من قالها كما ذكر ابن القيم رحمه الله، هل قالها ابن وهب أم نافع أم ابن أبي ذئب ؟
ويظهر والله أعلم أن الرأي الثاني وهو عدم وقوع طلاق الحائض أنه أقوى دليلاً، وهذا يعني التمسك بالأصل، فالأصل هو بقاء النكاح، مع أن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
الصفة الثالثة من صفات طلاق السنة: أن يطلقها في طهر لم يجامع فيه، والكلام في هذه المسألة كما سلف، إذا طلقها في طهر جامعها فيه، فالحكم التكليفي أنه محرم ولا يجوز، لأنه خلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهل يقع أو لا يقع؟ جمهور العلماء الأئمة الأربعة يرون أنه يقع، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه لا يقع، والدليل على ذلك حديث ابن عمر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حتى تحيض ثم تطهر، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء )، وتقدم أثر ابن مسعود أنه قال: طاهرات من غير جماع.
وعلى هذا لو راجع لكي يطلق، فهل يجوز ذلك أو لا يجوز؟ نقول: لا يجوز لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، فالرجعة من شروطها إرادة الإصلاح كما سيأيتنا إن شاء الله.
قوله: (وإن طلق من دخل بها).
هنا قيد يخرج غير المدخول بها، وسيأتينا الكلام عليها.
وقوله: (فبدعة يقع، وتسن رجعتها).
هذا على القول بأن الطلاق واقع، قال بعض العلماء: يجب أن يراجعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمراجعة، أما إذا قلنا بأن الطلاق ليس واقعاً فهي لا تزال زوجة.
لا سنة ولا بدعة لصغيرة، يعني التي لم تحض، فيطلقها متى شاء، وما شاء من العدد، فلا سنة لها ولا بدعة في زمن أو عدد، كما هو ظاهر كلام المؤلف.
والرأي الثاني: أن البدعة في العدد، أما الزمن فصحيح، يطلقها في أي وقت، أما بالنسبة للعدد فلا يجوز له أن يطلقها أكثر من واحدة.
قال رحمه الله: (وآيسة).
يعني التي انقطع عنها دم الحيض، فلا سنة لها أيضا ولا بدعة.
قال رحمه الله: (وغير مدخول بها).
يعني المرأة التي لم يدخل بها، لو طلقها وهي حائض صح، ويجوز أن يطلقها ثلاثاً، وهذه على كلام المؤلف لا سنة لها ولا بدعة، لا في الزمن ولا في العدد، والصحيح كما تقدم أن لها سنة وبدعة في العدد، أما الزمن فلو طلقها وهي حائض فليس لها عدة، فتبين بمجرد أن يطلقها، هذا هو الصواب في غير المدخول بها، وسيأتينا إن شاء الله طلاق غير المدخول بها، وهل يقع عليها الطلاق ثلاثاً، أو أنها تبين إلى آخر ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
قال رحمه الله: (ومن بان حملها).
يعني الحامل، وهذه مسألة يغلط فيها عامة العوام، يرون أن طلاق الحامل من أشد الطلاق حرمة، مع أنه طلاق سنة، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـابن عمر: ( فليطلقها طاهراً أو حاملاً )، فطلاق الحامل طلاق سنة؛ لأنها تشرع في العدة، حتى لو وطئها في هذا الحمل ثم طلقها، فالطلاق يقع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليطلقها طاهراً أو حاملاً )، ولأنه لا تطويل عليها في العدة، فهي تشرع في العدة، بمجرد الطلاق، وعدة الحامل وضع الحمل، ويسمونها أم العدد؛ لأنها تقضي على كل عدة.
كيف نعرف الصريح من الكناية؟ للعلماء رحمهم الله في ذلك مسلكان:
المسلك الأول: الرجوع إلى اللغة، فالصريح لفظ الطلاق وما تصرف منه، بمعنى أنه لا يحتمل إلا الطلاق.
والمسلك الثاني: الرجوع إلى العرف، فما تعارف الناس عليه أنه من الصريح فهو صريح، وهذا القول هو الأقرب، فمثلاً: كلمة: أنت مخلاة، أو خليتك، في عرف الناس اليوم أنه صريح، فما تعارف الناس على أنه طلاق فإنه طلاق.
فالصريح على كلام المؤلف هو ما لا يحتمل إلا الطلاق، والكناية ما يحتمل الطلاق وغيره، والمسلك الثاني: أن المرجع في ذلك إلى العرف.
وقول المؤلف رحمه الله: لفظ الطلاق وما تصرف منه، أي كطلقتك، وطالق، ومطلقة، قال: غير أمر: أطلقي، فهذا لا يقع به الطلاق، ومضارع: تطلقين، فلو قال: أنت تطلقين، أو باسم فاعل: أنت مطلَّقة، فهذا إخبار، وليس إنشاء، فلا يقع الطلاق.
والصريح ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن ينوي غير الطلاق، كما لو قال: أنت طالق، وقال: قصدي أنت طالق من وثاق، فهل يقع به الطلاق أو لا يقع؟
قال المؤلف رحمه الله: (فيقع به وإن لم ينوه جاد أو هازل، فإن نوى بطالق من وثاق، أو في نكاح سابق منه أو من غيره، أو أراد طاهراً فغلط لم يقبل حكماً).
فإذا قصد غير الطلاق، فقال: أنت طالق، وقال: أنا قصدي أنت طاهر لكن غلطت، أو قصدي أنت طالق من وثاق، أو قصدي أنت حرة، قال المؤلف: (لم يقبل حكماً) فلو أن المرأة رافعته إلى القاضي فإنه يحكم بالطلاق؛ لأن هذا صريح، والقاضي يحكم بالظاهر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما أقضي على نحو ما أسمع )، والبواطن لها الله عز وجل.
لكن هل ترافعه المرأة، أو لا ترافعه؟ تقدم الكلام عليه في الفروق، والشيخ السعدي رحمه الله يقول: إن كان هذا الزوج يعرف منه الصدق والديانة، وأنه لن يقدم على مثل هذا اللفظ، فلا يجوز لها أن ترافعه، لأنه إذا رافعته سيحكم عليه بالطلاق، وإن كان هذا الزوج يعرف منه الكذب والتساهل وقلة الدين ونحو ذلك، فهنا يجب عليها أن ترافعه، فيرجع إلى القرائن.
القسم الثاني: أن ينوي الطلاق، فيقع الطلاق.
القسم الثالث: إذا لم ينو شيئاً، فالمؤلف رحمه الله يرى أنه يقع عليه الطلاق؛ لأنه صريح، والصريح لا يحتاج إلى نية، الذي يحتاج إلى النية الكناية، وبعض الشافعية يرى أنه مادام لم ينو فلا يقع الطلاق.
قال المؤلف رحمه الله: (جاد أو هازل).
أما الجاد فهذا كما تقدم يقع طلاقه، وهو: الذي قصد اللفظ في الظاهر وقصد معناه في الباطن، أما الهازل فهو: من قصد اللفظ في الظاهر، لكنه لم يقصده في الباطن، وهل يقع طلاق الهازل أو لا يقع؟ ذكرنا كما تقدم أن للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:
الرأي الأول: وهو رأي جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة، أنه يقع طلاق الهازل، للحديث المشهور حديث أبي هريرة : ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد )، وذكر منهن الطلاق.
الرأي الثاني: رأي ابن حزم رحمه الله أنه لا يقع طلاق الهازل؛ لقول الله عز وجل: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227]، وهذا ما عزم الطلاق، إنما أراده في الظاهر، ولم يقصده في الباطن، وأيضاً عندنا قاعدة الرضا، وهو هنا لم يرض بالطلاق، وإن أراده في الظاهر، لكنه لم يرض به في الباطن، وهذا القول هو الأقرب والله أعلم، ولأن الأصل بقاء النكاح، والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ضعيفة، كلها فيها ضعف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولو سئل: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم، وقع).
لو قيل له: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم، وقع الطلاق، وظاهر كلام المؤلف حتى ولو أراد الكذب، هذا المذهب؛ لأن نعم صريح في الجواب، والجواب الصريح للفظ الصريح أو للسؤال الصريح صريح، لكن كما تقدم لنا أنه إذا قال: أنت طالق، ونوى غير الطلاق، فالمؤلف رحمه الله يقول: لا يقع إلا حكماً كما سلف، والصواب في هذه المسألة أنه إن أراد الكذب -وهذا يحصل كثيراً- فإنه لا يقع طلاقه، وإن لم يرد الكذب فإنه يقع طلاقه.
قال المؤلف رحمه الله: (أو ألك امرأة؟ فقال: لا، وأراد الكذب فلا).
يعني لا تطلق، هنا إذا أراد الكذب لا تطلق، لماذا فرقوا بين المسألتين؟ المسألة الأولى يعتبرونها من الصريح، والمسألة الثانية يعتبرونها من الكناية، والكناية تحتاج إلى النية، فلو قيل له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم، يعني كأنه قال: نعم، طلقتها، فيقع عليه الطلاق، ولو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا، وأراد الكذب فلا يقع؛ لأنه ليس صريحاً، بل كناية، والكناية تحتاج إلى نية، فعلى هذا إذا أراد الطلاق بقوله: لا، وقع الطلاق، وإن لم يرد الطلاق وإنما أراد الكذب فلا يقع الطلاق، وإن لم ينو شيئاً فلا يقع الطلاق.
فالأقسام ثلاثة: إن أراد الكذب فلا يقع، وإن أراد الطلاق يقع، وإن لم ينو شيئاً فلا يقع، بخلاف المسألة الأولى: إن أراد الطلاق وقع، وإن لم ينو شيئاً وقع لأنه من الصريح، وإن أراد الكذب فالمذهب أنه يقع؛ لأنه صريح، ويظهر والله أعلم أنه لا يقع.
إلى آخره، لما تكلم المؤلف رحمه الله عن الصريح وذكرنا ما هو الصريح وما هو الكناية، شرع في بيان أقسام الكناية، وأنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: كنايات ظاهرة، والقسم الثاني: كنايات خفية، والفرق بينهما:
أولاً: الكنايات الظاهرة والخفية تتفق في حكم، وهو أنه لابد فيها من النية أو وجود القرينة، كما سيأتي، وسيأتينا أن الصواب أنه لابد من النية، والصواب في القرينة أنها غير معتبرة إذا لم توجد النية، فالكنايات الظاهرة والخفية تتفق في أنه لابد من وجود النية، وتختلف في:
أولاً: أصل وضع اللغة، فالكنايات الظاهرة أظهر من الخفية في إرادة الطلاق.
الثاني وهو المهم: أن الكناية الظاهرة موضوعة للبينونة الكبرى، تغلق على صاحبها الباب، فلو قال لزوجته مثلاً: أنت خلية، أو أنت برية، أو أنت بتة، وقعت ثلاثاً، سواء نوى واحدة، أو نوى اثنتين، أو نوى ثلاثاً، مع أن الصريح لا يغلق الباب، فلو قال لزوجته: أنت طالق، ونوى واحدة، فواحدة، أو لم ينو شيئاً فواحدة، أو نوى اثنتين، فاثنتين، أو نوى ثلاث، فثلاثاً، فالكناية الظاهرة أشد من الصريح، هذا كلام الفقهاء رحمهم الله، فليس لك فيها خيار.
أما الخفية فعلى حسب النية، فلو قال لها: اخرجي، فهذه خفية، فإن نوى طلقة، فطلقة، وإن نوى اثنتين، فاثنتين، وإن نوى ثلاثاً، فثلاثاً، وإن لم ينو شيئاً فطلقة، مثل الصريح، لكن المشكلة في الكنايات الظاهرة، فهي كما يقولون: موضوعة للبينونة الكبرى، ولهذا ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يتحرج من الإفتاء بالكنايات الظاهرة، فهو صعب أن تقول له: زوجتك بانت منك، وقالوا بأن هذا وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
والكنايات الظاهرة خمس عشرة جملة، عددها المؤلف رحمه الله فقال: أنت خلية، وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وأنت حرة، وأنت الحرج، زاد في الروض المربع: وحبلك على غاربك، وتزوجي من شئت، وحللت للأزواج، ولا سبيل لي عليك، أو لا سلطان لي عليك، وأعتقتك، وغطي شعرك، وتقنعي. هذه كلها كنايات ظاهرة، وتقع كما تقدم بينونة كبرى، حتى ولو نوى واحدة أو اثنتين، أو لم ينو فهي بينونة كبرى.
قال المؤلف رحمه الله: (والخفية).
والخفي كما تقدم للطلقة الواحدة، إلا إذا نوى أكثر، وهي خمس وعشرون جملة، لا عشرون جملة.
قال المؤلف رحمه الله: (والخفية، نحو: اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، واعتدي، واستبرئي، واعتزلي، ولست لي بامرأة، والحقي بأهلك، وما أشبهه).
كقوله: لا حاجة لي فيك، وما بقي شيء، وأغناك الله، وإن الله قد طلقك، والله قد أراحك مني، وجرى القدم، ولفظ: فراق وسراح، وما تصرف منهما.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق إلا بنية مقارنة للفظ).
لأن الكناية تحتمل الطلاق وغيره، فلابد في الكناية من النية.
وقال رحمه الله في القرينة: (إلا في حال خصومة، وغضب، وجواب سؤالها، فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً).
في حال الخصومة، وفي حال الغضب، وفي حال السؤال لا يحتاج نية، إذا تخاصم الزوجان فقال: أنت بتة، أو قال: اخرجي ثم قال: أنا ما نويت الطلاق، يقع الطلاق، ولا يحتاج إلى نية، ويحكم عليه القاضي بالطلاق بمجرد القرينة، وهذا صعب، أنه كلما حصل خصام بين الزوجين فقالت مثلاً: طلقني، فقال: اخرجي، أو تجرعي، يقع الطلاق، وأنه لا حاجة إلى النية، مادام أن القرينة وجدت.
والصحيح في الكناية لو قالت: طلقني، في حال السؤال، أو حال الخصومة، أو حال الغضب، أنه لابد من النية، وأنه لا يكتفى بالقرينة.
وهل ترافعه الزوجة أو لا ترافعه؟ الصواب أنها لا ترافعه؛ لأنه أصلاً لابد من النية، وهو الآن ينكر النية، والله أعلم بما في نفسه.
قال المؤلف رحمه الله: (ويقع مع النية بالظاهرة ثلاث وإن نوى واحدة، وبالخفية ما نواه).
هذا تقدم الكلام عليه، وذكرنا أنه على المذهب أن الكنايات الظاهرة موضوعة للبينونة الكبرى، وقالوا بأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كـابن عباس وأبي هريرة وعائشة .
نقف عند هذا، ونريد من أحد الإخوان أن يخرج لنا الآثار عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في الكنايات الظاهرة، مثل: خلية ومخلاة وبرية، وينظر ما يصح منها وما لا يصح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر