فصل: وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لا في الوطء، وعماده الليل لمن معاشه نهار والعكس بالعكس، ويقسم لحائضٍ ونفساء ومريضة ومعيبة ومجنونة مأمونة وغيرها، وإن سافرت بلا إذنه أو بإذنه في حاجتها، أو أبت السفر معه، أو المبيت عنده في فراشه فلا قسم لها ولا نفقة، ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أو له، فجعله لأخرى جاز، فإن رجعت قسم لها مستقبلاً، ولا قسم لإمائه وأمهات أولاده، بل يطأ من شاء متى شاء، وإن تزوج بكرًا أقام عندها سبعًا ثم دار، وثيبًا ثلاثًا، وإن أحبت سبعًا فعل وقضى مثلهن للبواقي].
تقدم شيء من أحكام العشرة بين الزوجين، وأن العشرة بين الزوجين مرجعها إلى العرف، وأنه يجب على كل واحدٍ من الزوجين أن يحسن عشرته للآخر، فلا يمطله حقه ولا يتكره لبذله، وتقدم أيضًا ما يتعلق بتسليم الحرة وما يشترط لذلك، وكذلك أيضًا ما يتعلق بتسليم الأمة وما يشترط لذلك، وإذا استمهل أحد الزوجين وطلب المهلة، هل يمهل أو لا يمهل؟ وإذا سافر الزوج متى يجب عليه أن يقدم، ومتى لا يجب عليه، وما شرط ذلك؟
قال رحمه الله: (وله منعها من إجارة نفسها).
هذه المسألة تقدمت الإشارة إليها، وذكرنا أن إجارة الزوجة لنفسها ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون إجارةً خاصة، وهي: التي قدر نفعها بالزمن، بمعنى: أن تؤجر نفسها من الساعة الفلانية إلى الساعة الفلانية، فهذا للزوج أن يمنعها منه؛ لأنه يفوت شيئاً من حقه بسبب هذه الإجارة، إلا إذا كان هناك شرط لفظي أو عرفي، كأن اشترطت المرأة على زوجها أن تعمل ونحو ذلك، فالمسلمون على شروطهم، ويجب التوفية به.
القسم الثاني: أن تكون الإجارة مشتركة، وهي: التي قدر نفعها بالعمل، كأن تعمل في بيتها في الخياطة، أو في الطبخ، أو في الكتابة وغير ذلك من الأعمال المشتركة، فهذا ليس للزوج أن يمنعها؛ لأن ذلك لا يفوت حقًا واجبًا له، لكن إذا كان يلحقه ضرر فله أن يمنعها، إذ: ( لا ضرر ولا ضرار ).
أي: له أن يمنعها من أن ترضع ولدها من غيره، كما لو كانت هذه المرأة قد طلقت أو توفي عنها زوجها ولها ولد، فله أن يمنعها من أن ترضع هذا الولد الذي من الزوج السابق؛ لأن إرضاعها لهذا الولد سيشغلها وحينئذٍ سيفوت شيء من حق الزوج، فهذا نوع من الإجارة الخاصة، أو هو كالإجارة الخاصة.
قال رحمه الله تعالى: (إلا لضرورته).
يعني: إلا لضرورة الولد، بأن لم يقبل إلا ثدي أمه، فإذا كان لا يقبل هذا الطفل إلا ثدي أمه فليس له أن يمنعها من أن ترضع ولدها؛ لقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، وقال سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29] ولا شك أن منعها من أن ترضع هذا الولد وهو مضطر إليه فيه قتل لنفسٍ معصومة.
ويؤخذ من قوله رحمه الله: ومن إرضاع ولدها من غيره، أن إرضاعها ولدها من الزوج نفسه ليس له أن يمنعها منه، فلو أنجبت من هذا الزوج ولدًا وأرادت أن ترضعه ورفض الزوج أن ترضعه؛ لأن هذا يشغلها عن حقه من استمتاعٍ ونحو ذلك، فليس له أن يمنعها من أن ترضع ولدها منه، لكن له أن يمنعها من أن ترضع ولدها من الزوج السابق.
هذا الفصل في القسم بين الزوجات، وما يتعلق بذلك من الأحكام.
والقسم: هو توزيع الزمان على الزوجات إذا كان له أكثر من زوجة.
وقبل أن نذكر حكم العدل بين الزوجات سنذكر مسألة أخرى، وهي: حكم القسم لزوجته أو زوجاته.
لكن بالنسبة للزوجات إذا كان له أكثر من زوجة، هل يجب عليه أن يقسم لهن، أو لا يجب عليه أن يقسم لهن؟ هذه المسألة تقدم الكلام عليها، وأن للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيين:
الرأي الأول وهو رأي جمهور أهل العلم: أنه يجب عليه أن يقسم لزوجاته، بمعنى: أن يبيت معهن في فرشهن، وتقدم دليل ذلك من قول الله سبحانه وتعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] وليس من العشرة بالمعروف أن يهجر فراش زوجاته، وأيضًا قول الله عز وجل: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34] ، فالهجر إنما يكون عند النشوز، وإذا لم يكن هناك نشوز فإنه لا هجر.
والرأي الثاني رأي الشافعية حيث يرون أنه لا يجب على الزوج أن يقسم لزوجاته، واستدلوا بما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما المخرج في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فراش للزوج، وفراش للزوجة، وفراش للضيف، والرابع للشيطان ) وهذا الحديث تقدم الجواب عليه.
والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم: أنه يجب على الزوج أن يبيت مع زوجاته في فرشهن وأن يقسم لهن، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا الهدي هديًا، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أحسن الهدي.
يقول المؤلف رحمه الله: وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم، وهذا باتفاق الأئمة: أن الزوج يجب عليه أن يعدل بين زوجاته في القسم، فيوزع حصص الزمان بينهن بالعدل، فهذه ليلة وهذه ليلة، وهذه يوم وهذه يوم، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] وليس من المعروف أن يفضل إحدى الزوجات على الأخرى، وأيضًا هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعدل في قسمه بين أزواجه، جاء في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل ) رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي ، لكنه ضعيف لا يثبت مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأمر الأول.
قال رحمه الله تعالى: (لا في الوطء).
هذا هو الأمر الثاني وهو من الأمور التي لا يجب على الزوج أن يعدل فيها بين زوجاته وهو الجماع والاستمتاع؛ لأن مبعث الوطء هو المحبة، والمحبة ميل قلبي لا يملكه الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه الثابت في الصحيح سئل: ( أي الناس أحب إليك؟ قال:
لكن قال العلماء رحمهم الله تعالى: لا يجوز للزوج أن يجمع نفسه لإحدى الزوجات، بمعنى: أن يؤجل الوطء إلى أن تأتي نوبة الأخرى فيطأ، فهذا لا يجوز، بل إذا اشتهى فيجب أن يعدل في ذلك وأن يطأ.
الأمر الثالث: المحبة -كما تقدم- وهذه لا يجب العدل فيها.
الأمر الرابع: النفقة، ويجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته فيها، وضابط العدل في ذلك هو أن يعطي كل واحدة من زوجاته قدر كفايتها، فهذه المرأة لها أولاد وتحتاج من الطعام كذا، ومن الخبز كذا، ومن اللحم كذا، ومن الخضار كذا فيعطيها، وهذه ليس عندها أحد، أو هذه يكثر عليها الداخل وهذه لا يكثر عليها الداخل، وهذه قد تحتاج في الشهر ألف ريال، وهذه قد تحتاج خمسمائة ريال، فهذه يعطيها ألفاً وهذه يعطيها خمسمائة، وهذا هو ضابط العدل، وهذا سبق أن تكلمنا عليه عندما تكلمنا على العدل بين الأولاد.
الأمر الخامس: العدل في الهبة، بمعنى: إذا قام بالواجب من النفقة، وأراد أن يوسع عليهن، فهذه أعطاها نفقتها من الطعام والشراب والكساء، وهذه أعطاها نفقتها من الطعام والشراب والكساء بقدر الكفاية، فهل الزائد على ذلك يجب عليه أن يعدل فيه بينهن أو لا يجب؟ وهل له أن يعطي هذه ألف ريال، وهذه يعطيها خمسمائة ريال؟
أكثر أهل العلم على أنه لا يجب عليه فله أن يوسع على هذه، وأن يقتر على تلك ما دام أنه قام بالواجب؛ لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل، وما ورد الأمر بالعدل إلا بين الأولاد.
والرأي الثاني وهو رأي الحنفية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يجب عليه أن يعدل بين زوجاته في الهبة، فليس له أن يوسع على هذه وأن يضيق على تلك، وهذا هو الأقرب وهو الذي يدل له قول الله عز وجل: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] وليس من المعروف أن يوسع على تلك ويضيق على تلك.
الأمر السادس: العدل في السفر، وهذا يجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته فيه، وسيأتينا إن شاء الله بيان ذلك.
عماده، يعني: الأصل في القسم هو الليل لمن معاشه النهار، وهذا هو حال غالب الناس اليوم، معاشهم في النهار، فالموظف والعامل ونحو ذلك معاشهم هو النهار، فالأصل في القسم هو الليل، والنهار يكون تابعًا لليل.
ويترتب على ذلك أن الفقهاء يقولون: لا يدخل على غير صاحبة النوبة ليلًا إلا لضرورة، وأما في النهار فيدخل عليها لحاجة، وبعض العلماء وسع في النهار، فقال: يدخل لحاجة ولغير حاجة، وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة.
إذاً: الأصل في القسم لمن معاشه نهارًا هو الليل، والعكس بالعكس: فمن معاشه في الليل فالأصل في القسم بالنسبة له هو النهار، فمثلًا: الحارس ورجل الأمن الذي يشتغل ليلًا عماد القسم بالنسبة له هو النهار، والليل يكون تابعًا.
للعلماء رحمهم الله تعالى في ضابط المرأة التي يقسم لها قولان:
القول الأول: أن ضابط المرأة التي يقسم لها: كل امرأةٍ تطيق الوطء وإن امتنع وطؤها، شرعًا أو حسًا أو طبعًا، كمن امتنع وطؤها لكونها حائضًا أو نفساء، أو مريضةً، أو معيبًة ونحو ذلك، وذلك أن المقصود بالقسم هو حصول الألفة والأنس والمحبة بوجود الزوج، وليس المقصود هو مجرد الوطء فقط وهذا يكون مع المريضة، والحائض، والمعيبة ونحو ذلك، اللهم إلا إذا كان هناك عرف، فلو تعارف الناس على أن النفساء لا يقسم لها ونحو ذلك، فيرجع حينئذ إلى العرف، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
القول الثاني: قال به بعض الحنابلة أنه يقسم لكل زوجةٍ مميزة، ولكن الأقرب ما تقدم -وهو قول جمهور أهل العلم- أن كل امرأةٍ مطيقة للوطء فإنه يقسم لها، وإن امتنع وطؤها لما ذكرنا من العلة.
قال رحمه الله: (ومريضة ومعيبة ومجنونة مأمونة).
إذا كانت هذه المجنونة مأمونة لا يخشى ضررها على الزوج، فهذه يقسم لها، أما إن كان يخشى ضررها على الزوج فإنه لا يجب عليه أن يقسم لها، يعني: إذا كانت هذه المرأة بسبب فقد العقل ربما تؤذي الزوج وتضره، فلا يقسم لها؛ إذ لا ضرر ولا ضرار.
قال رحمه الله: (وغيرها).
كالمرأة التي ظاهر منها فهذه يجب عليه أن يقسم لها، وإن كانت لا توطأ؛ لأنه لا يجوز له أن يطأ المرأة التي ظاهر منها حتى يكفر، وكذا المرأة التي آلى منها، يجب عليه أن يقسم لها، والضابط كما سلف.
وأما الزوج الذي يجب عليه القسم فللعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:
الرأي الأول: أنه كل زوجٍ مطيقٍ للوطء، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
والرأي الثاني: أنه كل زوج مميز فإنه يجب عليه أن يقسم بين زوجاته.
هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان مسقطات القسم، والأصل عدم سقوط القسم، وأنه يجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته في القسم، لكن هناك حالات يسقط القسم وهي ما ذكرها المؤلف رحمه الله بقوله: (سافرت بلا إذنه) وهذا المسقط الأول: إذا سافرت الزوجة بلا إذنه سقط قسمها لمعصيتها إياه، وهذا نوع من النشوز.
قال رحمه الله: (أو بإذنه في حاجته).
هذا المسقط الثاني: إذا سافرت لحاجتها فإنه يسقط حقها من القسم؛ لأن الامتناع من القسم إنما جاء من جهتها.
قال رحمه الله: (أو أبت السفر معه).
هذا المسقط الثالث: إذا أبت السفر معه، فحقها من القسم يسقط؛ لأنها عاصية له، والواجب عليها أن تسافر مع زوجها، اللهم إلا إذا كان يلحقها في السفر مضرة، وهل يجب على الزوج أن يقضي لها إذا رجع أو لا يجب عليه؟ سيأتي بيانه بإذن الله.
قال رحمه الله: (أو المبيت عنده في فراشه).
إذا أبت الزوجة المبيت عنده في فراشه يسقط حقها من القسم أيضًا؛ لأنها ناشز، والامتناع إنما جاء من جهتها، وهذا هو المسقط الرابع.
قال رحمه الله: (فلا قسم لها ولا نفقة).
وهذا سيأتينا إن شاء الله في باب النفقات.
المسقط الخامس: إذا سافرت بإذن الزوج لحاجته، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، والذي يظهر -والله أعلم- أنه يسقط حقها، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أنه لا يسقط حقها من القسم؛ لأنه قيد ذلك بأن يكون في حاجتها، فيؤخذ منه: أنه إذا كان لحاجة الزوج فلا يسقط حقها من القسم.
المسقط السادس: إذا سافرت بإذن الزوج لحاجة أجنبي، فالمذهب وهو مذهب الشافعية: أنه يسقط حقها من القسم؛ لأن الامتناع إنما جاء من جهتها، وذهب بعض الشافعية إلى أنه لا يسقط حقها من القسم؛ لأنها سافرت بإذنه، والأقرب في هذه المسألة: أنه يسقط حقها من القسم.
قال رحمه الله: (ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أو له، فجعله لأخرى جاز)
هذا المسقط السابع: إذا وهبت قسمها، فإن هذا لا يخل من ثلاثة حالات:
الحالة الأولى ذكرها في قوله: (ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه) أي: إذا وهبت قسمها لضرتها، فإنه يسقط حقها من القسم ويكون للضرة الموهوبة، لكن لا بد من إذن الزوج؛ لأن الزوج تعلق بالقسم، فهو يفوت حقه من القسم عند هذه المرأة، ويفوت حقه من الاستمتاع إذا كانت محلًا للاستمتاع، فلا بد من إذن الزوج، ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، فإن سودة رضي الله تعالى عنها تنازلت عن قسمها لـعائشة رضي الله تعالى عنها، فنقول: إذا وهبت نوبتها لإحدى الضرات فقالت: هو لفلانة، وأذن الزوج في ذلك، فإن حقها يسقط ويكون للموهوبة.
قال رحمه الله: (بإذنه أو له).
هذا الحالة الثانية: إذا وهبت نوبتها وقسمها للزوج فحقها من القسم سقط، لكونها وهبت هذه النوبة للزوج، لكن هل للزوج أن يخص به بعض الزوجات، أن حقها يكون كالمعدوم؟ فلو أن الزوج له أربع زوجات، فقالت الأولى: حقي من القسم لك، فهل له أن يجعله للأولى أم للثانية أم للثالثة أم للرابعة؟ أو نقول: إن حقها قد أصبح كالمعدوم؟ أي: هل يقسم لثلاث زوجات، كل واحدة تأخذ ليلة، أم نقول: له أن يخصصه بالثانية فتكون للثانية ليلتان؟ هذا موضع خلاف.
قال رحمه الله: (فجعله لأخرى جاز).
يعني: على كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه لا بأس أن يخصص به بعض نسائه، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو أيضًا قول الشافعية.
والرأي الثاني رأي المالكية: أنه ليس له أن يخصص به إحدى الزوجات؛ لوجوب العدل، وقد تقدم أن العدل يجب في القسم ابتداء، فكذلك يجب العدل في القسم وسطًا فيما إذا وهبته إحدى الزوجات حقها من القسم، فإنه يجب عليه أن يعدل في هذا القسم، ويكون حق الواهبة كالمعدوم، فلا يخصص به إحدى الزوجات، بل يقسم لكل واحدة ليلةً مستقلة، وهذا القول هو الصواب؛ لعموم أدلة العدل بين الزوجات.
الحالة الثالثة: أن تهب ذلك لجميع الزوجات، فالقسم يكون لهن جميعاً، فيكون حقها كالمعدومة.
قال رحمه الله: (فإن رجعت قسم لها مستقبلاً).
يعني مثلًا: وهبت قسمها لإحدى الزوجات، أو وهبته للزوج، ثم رجعت في هبتها، فيقسم لها مجددًا، ولا يقضي لها ما مضى، لأن ما مضى حقها وقد أسقطته، وأما في المستقبل فهي هبة لم تقبض فلها أن ترجع فيه؛ لأن القسم يتجدد شيئًا فشيئًا، بخلاف الماضي فقد استقر وانتهى، ولا تملك أن ترجع فيه.
الرأي الأول: أنه لا يجوز المعاوضة على القسم وهذا قول أكثر أهل العلم، فلو أنها عاوضت زوجها على القسم، أو أن إحدى الزوجات أيضًا اشترت منها حقها من القسم، قالت: خذي كذا وكذا ولا قسم لك، أو اتفقت معها إلى آخره، فذلك لا يجوز؛ لأن هذا ليس حقًا ماليًا، بل هو حق بدني لا تجوز المعاوضة عنه.
القول الثاني: أنه لا بأس أن تعاوض الزوجة زوجها على إسقاط القسم، وهذا قول المالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ويدل لذلك قول الله عز وجل: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] يعني: الزوجة إذا أرادت أن يطلقها زوجها مقابل عوض، وهذا في حل عقد النكاح فكذلك أيضًا في إسقاط القسم، ويدل لذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128] يعني: من خافت من زوجها أن يعرض عنها، وأن يطلقها، فلها أن تتنازل عن شيءٍ من حقوقها كالقسم والنفقة... لكي يمسكها زوجها، كما فعلت سودة رضي الله تعالى عنها، فهذا جائز ولا بأس به، حتى ولو كان فيه عوض؛ لعموم قوله تعالى في الآية: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128] ، وهذا القول هو الصواب، يعني: ما ذهب إليه المالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم من أنه يجوز للمرأة أن تسقط حقها من القسم بعوض.
وفي هذه المسألة لا يجوز للزوجة أن ترجع في صلحها، إذا كان ذلك عن طريق العوض؛ لقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، وهذا بخلاف المسألة السابقة وهي ما إذا تنازلت عن حقها من القسم مجانًا، فإنه يجوز لها أن ترجع.
الأمة: هي السرية التي شراها بملك يمينه، وهذه لا قسم لها، بل له أن يطأ من شاء منهن متى شاء، فلو كان عنده خمس إماء أو عشر إماء فله أن يطأ هذه وأن يترك هذه، وله أن يقسم لهذا وأن يترك هذه، ويدل لذلك قول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، مما يدل على أن القسم ليس واجبًا، وأنه لا يجب عليه أن يعدل بين إمائه في القسم.
وكذلك أيضًا بالنسبة لأمهات أولاده، لأن أم الولد أمة حتى يموت سيدها، فإذا مات سيدها عتقت بموت سيدها، وأم الولد: هي التي أنجبت من سيدها ما تبين فيه خلق إنسان، يعني: إذا وطئها ثم وضعت منه ما تبين فيه خلق إنسان، فلو وضعت قطعة لحم قد تبين فيها شيء من تخطيط اليد أو الرجل أو الرأس ونحو ذلك إلى آخره، فهي أم ولد تعتق بموت سيدها، فإذا كان له اثنتان من أمهات الأولاد أو ثلاث، فإنه لا يجب عليه أن يعدل بينهن في القسم، لما تقدم من الآية.
هذا ما عليه جمهور أهل العلم: إذا تزوج البكر فإنه يقيم عندها سبع ليال، وإن تزوج الثيب فإنه يقيم عندها ثلاث ليالٍ، ويدل لذلك حديث أنس رضي الله تعالى عنه، قال: ( من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً، ثم قسم ) خرجاه في الصحيحين، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم خلافًا للحنفية، الذين يقولون: لا فضل للجديدة في القسم، ويستدلون على ذلك بحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ( لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، قسم لها ثلاثًا وأراد أن يخرج قال: إن شئت سبعت لكِ، وإن سبعت لكِ سبعت لبقية نسائي ) فهذا مما يدل على أنه سيسبع لها ثم سيسبع لبقية النساء، وهذا يدل على أنه لا فضل للجديدة على القديمة، وهو ما ذهب إليه الحنفية رحمهم الله.
والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وأن البكر تفضل بسبع ليالٍ والثيب تفضل بثلاث، وهو ما دلت عليه السنة، كحديث أنس رضي الله تعالى عنه، وأما حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن شئت سبعت لكِ، وإذا سبعت لكِ سبعت لبقية نسائي ) فقال العلماء: إن الثيب إذا أرادت أن تأخذ سبعًا، فقد أرادت أن تأخذ حق غيرها، وإذا أخذت حق غيرها فهذا اعتداء، وإذا كان فيه اعتداء سقط حقها من التفضيل، فهذه هي العلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبعت لبقية نسائي ).
والصواب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، وحديث أنس رضي الله تعالى عنه صريح في ذلك، والحكمة في أن البكر تفضل بسبع: أن البكر يغلب عليها الحياء ولم تجرب الرجال، بخلاف الثيب، فإنها جربت الرجال وزال عنها كثير من الحياء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر