فصل: ويحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقداً كالمكيلين والموزونين، وإن تفرقا قبل القبض بطل، وإن باع مكيلاً بموزون جاز التفرق قبل القبض والنسأ وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النسأ، ولا يجوز بيع الدين بالدين.
فصل: أحكام الصرف، ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض، والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد فلا تبدل، وإن وجدها مغصوبة بطل ومعيبة من جنسها أمسك أو رد، ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين مطلقاً بدار إسلام وحرب.
باب بيع الأصول والثمار: إذا باع دار شمل أرضها وبناءها وسقفها والباب المنصوب والسلم والرف المسمرين والخابية المدفونة دون ما هو مودع فيها من كنز وحجر ومنفصل منها كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح].
تقدم لنا فيما سلف تعريف الجنس، وكذلك أيضاً تعريف النوع، وأن الجنس هو اسم خاص يشمل أشياء مختلفة في أنواعه، وأما النوع فهو ما يشمل أشياء مختلفة بأشخاص، وذكرنا فائدة معرفة الأجناس والأنواع، يعني إذا حكمنا بأن هذا جنس فإنك إذا بادلته بجنس آخر جاز التفاضل، وأما إذا حكمنا بأنه نوع فإنك إذا بادلته بنوع آخر لم يجز التفاضل، هذه فائدة معرفة الجنس والنوع، وتقدم لنا ما يتعلق بمسألة مد عجوة ودرهم، وذكرنا أن لها صورتين، وأن ضابطها مبادلة ربوي بجنسه، ومع أحدهما، أو مع كل منهما من غير جنسهما، كأن يبادل الذهب بذهب آخر معه ريالات، ذهب قديم بذهب جديد، ومع أحدهما ريالات، نقول بأن هذا غير جائز؛ لأنه داخل في مسألة مد عجوة ودرهم.
كذلك أيضاً تقدم لنا ما يتعلق بمسألة المحاقلة، والمزابنة، والعرايا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى).
لا يباع تمر نزع نواه بتمر فيه نوى؛ لأن التساوي هنا متعذر، والتمر بالتمر لا بد أن يكون يداً بيد مثلاً بمثل، فأحدهما اشتمل على ما ليس من جنسه، فالتساوي هنا غير موجود فلا يصح.
قال المؤلف رحمه الله: (ويباع النوى بتمر فيه نوى) لاختلاف الجنس، النوى بالتمر الجنس هنا مختلف، فيجوز التفاضل، وقوله: (فيه نوى) النوى ليس مقصوداً في الجنس الآخر، ولهذا قال: يباع النوى بتمر، المقصود هو التمر فيه نوى، جاء على سبيل التبع وليس مقصوداً، وسبق أن ذكرنا في مسألة مد عجوة ودرعة أنه إذا كان التابع ليس مقصوداً فإنه لا يضر فيها النوى، ليس مقصوداً يباع النوى بتمر فيه نوى، فالنوى مع التمر مع الجنس الآخر هذا ليس مقصوداً، وإذا كان التابع للربوي ليس مقصوداً فإنه لا يضر.
كذلك أيضاً قال المؤلف رحمه الله: (ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف)، يبيع اللبن، والصوف على المذهب ربوي لأنه موزون، واللبن ربوي لأنه مكيل على المذهب، (بشاة) الشاة هذه ليست ربوية فيصح ذلك، وقوله: (ذات لبن وصوف) اللبن في الشاة هل هو مقصود أو ليس مقصوداً؟ ليس مقصوداً، والصوف أيضاً ليس مقصوداً، فالمبادلة هنا حصلت للبن والصوف بالشاة، وأما وجود الصوف مع الجنس الآخر، أو وجود اللبن مع الجنس الآخر فهذا ليس مقصوداً، وهذا لا يضر، كما أسلفنا أنه عند مبادلة ربوي بجنس، وإذا كان أحدهما ليس مقصوداً فإنه لا يضر مع أن الربوي هنا ليس مقصوداً التابع هنا لبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف، واللبن والصوف هذا مع الجنس الآخر ليس مقصوداً والمقصود هو الشاة وهنا بادل مكيلاً أو موزوناً بمعدود وهذا لا يضر.
هذا من الضوابط الربوية، سبق أن ذكرنا جملة من الضوابط الربوية، ومن الضوابط التي ذكرنا أنه إذا اشترط التساوي عند مبادلة جنس ربوي بمثله فإنه لابد أن يكون التساوي بالمعيار الشرعي، كيلاً في المكيلات ووزناً في الموزونات، وهنا أراد المؤلف رحمه الله أن يبين لنا ما هو ضابط المكيلات؟ وما هو ضابط الموزونات؟ فعندما نبادل ربوياً بجنسه يشترط التساوي، والتساوي هنا لابد أن يكون بالمعيار الشرعي، لكن ما هو المعيار الشرعي؟ ما هي التي تضبط بالكيل؟ وما هي التي تضبط بالوزن؟
قال المؤلف رحمه الله: (ومرد الوزن بعرف مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والكيل مرده لعرف المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) وعلى هذا ما كان مكيلاً في عهد النبي صل الله عليه وسلم في المدينة فهو مكيل إلى يوم القيامة، وما كان موزوناً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فهو موزون إلى يوم القيامة، ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة ).
وقوله: (ما لا عرف له هناك) الذي ليس له عرف في مكة وفي المدينة، قال: نعتبره عرفاً في موضعه، يعني إذا وجدنا شيئاً ليس له عرف، لا في مكة، ولا في المدينة، فيقول المؤلف رحمه الله: (اعتبر عرفه في موضعه) مثلاً هناك شيء من المطعومات ليس له عرف في مكة أنه موزون، وفي المدينة ليس له عرف أنه مكيل نعتبر عرفه في موضعه، فإذا كان في موضعه مكيل فهو مكيل، وإذا كان في موضعه موزون فهو موزون، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، وهذا قول الشافعية.
الرأي الثاني في المسألة: رأي الحنفية، يقولون: الأصناف الستة موزونة ومكيلة: الذهب والفضة موزونان، والأصناف الأربعة السابقة مكيلة، وما عدا الأصناف الستة يرجع في ذلك إلى العرف، إلى أعراف الناس، لكن هذا يختلف فمثلاً: الأرز يرجع إلى عرف الناس، وعرف الناس يختلف باختلاف الزمان والمكان، فما تعارف عليه الناس أنه مكيل فهو مكيل، وما تعارف عليه الناس أنه موزون فهو موزون، فمثلاً الذرة والدخن التي لم يرد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء نرجع إلى أعراف الناس.
وعلى كل حال: العلماء رحمهم الله ضبطوا هذه الأشياء، يعني المكيلات والموزونات وجعلوا لها ضوابط، فعندك أولاً الحبوب كلها مكيلة، ثانياً: الثمار مكيلات مثل التمر، اللوز، الجوز، التين، العنب، هذه مكيلات.
ثالثاً: سائر المائعات مكيلات مثل اللبن والحليب والدهن، هذه مكيلات.
رابعاً: الذهب والفضة موزونان.
خامساً: بقية المعادن موزونة مثل الحديد، والرصاص، والنحاس، والصفر.. إلخ.
سادساً: اللحم، والشحم، والسكر، ونحو ذلك هذه موزونة.
سابعاً: الصوف، والوبر، والشعر، والحرير، والكتان، هذه موزونة، هذا على القول بأن العلة هي الكيل والوزن، ولكن لو قلنا: إن العلة هي الثمنية، والاقتيات والادخار، فهذه الضوابط لا نحتاج إليها.
فعلى القول بأن العلة هي الكيل والوزن، فالأمر ظاهر، وعلى القول أن العلة هي الثمنية ما نحتاج إلى معرفة الوزن في الحديد والصفر والنحاس؛ لأن الربا لا يأتي في مثل هذه الأشياء، ولا نحتاج إلى معرفة الوزن في الشعر والصوف والقطن والكتان؛ لأن هذه الأشياء لا يجري فيها الربا؛ ولأننا نحتاج أن نعرف أنها موزونة وأن معيارها الوزن، لكن الذي يجري فيه الربا يحتاج إلى أن نعرف معياره، فمثلاً: البر والشعير والأرز والدخن، والثمار، كما سلف نحتاج أن نعرف معياره، وأيضاً اللحم والشحم نحتاج أن نعرف معياره، وأيضاً الذهب والفضة نحتاج أن نعرف معياره، فالذي يجري فيه الربا هو الذي نحتاج أن نعرف معياره.
الضابط الثامن: كل عوضين اختلفا في العلة فإننا لا نشترط شيئاً، مثال ذلك: ذهب بأرز، الذهب ربوي، لكنهما يختلفان في العلة، فنقول: لا نشترط، بع كيف شئت، لا يشترط التساوي، ولا يشترط أيضاً التقابض.
مثال آخر: أرز بريالات، كل منهما ربوي، لكنهما يختلفان في العلة، الأرز علته الاقتيات والادخار أو الطعم مع الكيل، والريالات علتها الثمنية.
الضابط التاسع: إذا تخلفت العلة في أحد العوضين، أو في كل منهما فإننا لا نشترط شيئاً، مثال ذلك: كتب بريالات، الريالات فيها العلة موجودة، وهي الثمنية، لكن الكتب العلة فيها ليست موجودة، فليست ثمناً، وليست مطعومة.. مكيلة.. ليست مقتاتة مدخرة فعلة الربا تخلفت عنها، فنقول: لا نشترط شيئاً. أيضاً إذا تخلفت العلة عن كل من العوضين فإننا لا نشترط شيئاً، مثاله: كتب بسيارات أو ثلاجات، تخلفت العلة في كل من العوضين، فلا نشترط شيئاً، بع كيف شئت، فيجوز التفاضل، ويجوز أيضاً تأخير القبض.
قوله: (اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقداً) لماذا قال المؤلف رحمه الله: ليس أحدهما نقداً؟ يعني: إذا كان أحد العوضين نقداً، مع أنهما يتفقان في العلة، يقول المؤلف رحمه الله: يجوز تأخير القبض، لأنه لو اشترط التقابض لانسد باب السلم في الموزونات، فعلى المذهب هم يستثنون. والأصل أنك إذا بادلت ربوياً بربوي آخر يتفق معه في العلة ويختلف معه في الجنس فإنه يشترط التقابض، واستثنى المؤلف رحمه الله هذه المسألة، فقال: (ليس أحدهما نقداً) لو كان أحدهما نقداً لا بأس في التأخير، مثال ذلك: ذهب بحديد يتفقان في العلة على المذهب، كل منهما موزون، الذهب موزون والحديد أيضاً موزون، فيتفقان في العلة، ومع ذلك يقول المؤلف: يجوز التأخير، مع أن الأصل أنهما إذا اتفقا في العلة لا يجوز التأخير فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، ومع ذلك قال المؤلف رحمه الله: يجوز التأخير، لماذا جوز ذلك؟ قالوا: لئلا ينسد باب السلم في الموزونات، والسلم جائز كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وهذا مما يضعف التعليل بالوزن. ابن القيم رحمه الله رد التعليل بالوزن بأنه يصادم حديث ابن عباس الذي فيه جواز السلم، فتعطيه ذهباً وتأخذ حديداً، يقول: لو أن العلة هي الوزن، ما كان هناك سلم، لابد من التقابض، ولذلك المؤلف رحمه الله لكي لا يورد سد باب السلف في الموزونات، قال: إذا كان أحدهما نقداً، فإنه لا بأس، وإذا كان كل منهما نقداً فإنه لا يجوز.
قال: (كالمكيلين والموزونين) المكيلان مثل بر شعير، المكيلان يتفقان في العلة فيجب التقابض. والموزونان مثل الحديد بشعر، كل منهما موزون فيجب التقابض.
قال رحمه الله: (وإن تفرقا قبل القبض بطل).
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ).
وهذا أشرنا إليه أنه إذا اختلفت العلة فإنه لا يشترط شيء، حتى إذا بادلت ربوياً بربوي آخر لكنهما يختلفان في العلة لا يشترط شيء، فمثلاً بر بحديد، أو ذهب بقطن، أو ذهب بدخن، يختلفان في العلة؛ البر بالحديد، البر علته تخالف علة الحديد، بع كيف شئت لا يشترط شيء، أيضاً ريالات بدخن، العلة هنا مختلفة بع كيف شئت.
قوله: (وإن باع مكيلاً بموزون) ذهب بأرز بع كيف شئت؛ لأنهما يختلفان في العلة.
قوله: (جاز التفرق قبل القبض والنسيء)، ويجوز أيضاً التفاضل من باب أولى.
ما لا كيل فيه هذا أيضاً ذكرناه من الضوابط، وهو إذا تخلفت العلة في العوضين، أو في أحدهما فإنه لا نشترط شيئاً.
قوله: (كالثياب)، مع الكتب كل منهما ليس ربوياً فلا نشترط شيئاً، تخلفت العلة في أحدهما كالثياب مع الريالات أحدهما ليس ربوياً وهو الثياب، لا نشترط شيئاً، قال: (يجوز فيه النسأ).
بيع الدين بالدين له صور، وستأتينا هذه الصور إن شاء الله في باب السلم، لكن المشهور من المذهب أن بيع الدين بالدين له ثلاث صور:
الصورة الأولى: بيع ما في الذمة بثمن مؤجل لمن هو عليه، مثال ذلك: أنا أريد منك ريالات، قلت: ما معي ريالات، لكن أعطيك بدل الريالات جنيهات، لا بأس أعطني جنيهات، واتفقنا أن الريالات مثلاً ألف ريال تساوي ألف جنيه، اتفقنا على ألف جنيه، آخذها منك بعد أسبوع، هذا بيع الدين، على من هو عليه بثمن مؤجل، هذا ما يجوز، وبيع الدين على من هو عليه في المذهب يرون أنه غير جائز، والصحيح أنه يجوز لكن بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه.
الشرط الثاني: التقابض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة، فمثلاً في المثال السابق، أنت تريد من شخص ألف ريال سعودي، فيقول: ما أقدر أعطيك، ما عندي ألف ريال، لكن عندي الآن عملة ثانية عندي جنيهات مصرية، أعطيك جنيهات مصرية، فاتفقتما على أن يأخذ بدل الريالات جنيهات، نقول: يشترط شرطان: الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، أنا أريد منه ألف ريال عند التصارف كم يساوي بالجنيهات؟ قال: يساوي الريالات ألف جنيه.
الشرط الثاني: التقابض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيء فعندما تبادل الريالات بجنيهات يشترط القبض، لا بد أن يكون يداً بيد ما تقول: غداً تأخذهم، لا، لكن لو كنت أريدهم ريالات، فقال: ما عندي ريالات، أعطيك بدل الريالات ثياباً، فنشترط شرطاً واحداً فقط أن يكون بسعر يومه، أما القبض فلا يشترط لأن العوضين لا يجري بينهما ربا النسيئة فيجوز التأخير، فمثلاً لو قال: أريد منك عشرة آلاف ريال، فقال: ما عندي عشرة آلاف، لكن عندي سيارة، نقول: نشترط أن يكون بسعر يومه، أما القبض حتى لو ما قبضت السيارة إلا بعد يوم أو يومين فهذا لا بأس، وهذا بيع الدين على من هو عليه، لأني أريد منك هذه الألف، بعت عليك هذه الألف بالسيارة، هذه الصورة الأولى من صور بيع الدين.
كذلك أيضاً الصورة الثانية: جعله رأس مال سلم، وهذا من قلب الدين، مثلاً أنا أريد منك ألف ريال، جئتك وقلت: أعطني ألف ريال، قلت: ما معي ألف ريال، لكن أعطيك بعد شهر، هذا رأس مال سلم أعطيك بعد شهر عشرة أثواب، لا يجوز هذا من قلب الدين وهذا محرم، جعله رأس مال سلم.
هذا ليس بسعر يومه، ونحن قلنا: يشترط شرطان في المسألة السابقة على الصحيح، لكن هنا؛ لأنه في السلم تقديم الثمن وتأخير المثمن، لا شك أن المثمن إذا كان مؤخراً سيكون هناك زيادة، فأنا جئت أعطني ألف ريال فأنا أريد منك ألف ريال، فيقول: ما عندي ألفاً لكن أعطيك بدلاً منها ثياباً بعد شهر، فهذه الثياب إذا كانت رأس مال سلم.. فإن السلم سيكون زيادة في المثمن، ويكون هذا من قبيل قلب الدين، ألف ريال أثواب، والأثواب هذه تكون بألف ومائة أو ألف ومائتين.
الصورة الثالثة: من المذهب، قال: (وكذا بحال لم يقبض قبل التفرق) هذه أيضاً من صور بيع الدين: (بحال لم يقبض قبل التفرق) مثلاً أنا أريد منه ريالات، قلت: أعطني ريالات، قال: ما عندي ريالات، وكذلك لو قال: أنا أريد منه ذهباً مثلاً قال: ما عندي ذهب لكن أعطيك بدلاً من الذهب أثواباً، على المذهب يجب القبض وإذا ما قبضت وتفرقا دخل في بيع الدين بالدين والصحيح أنه إذا كان يجري بينهما ربا النسيئة يجب القبض، والذهب على الأثواب لا يجري بينهما ربا النسيئة، فعلى المذهب أنه يجب القبض، والصواب أنه لا يجب.
وأما في الاصطلاح فالصرف: بيع نقد بنقد سواء كان من جنسه أو كان من غير جنسه، قال: (ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض).
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد )، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يداً بيد مثلاً بمثل ).
وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض)، فإن كان لم يقبض الجميع بطل في الجميع، وإن كان قبض في البعض صح فيما قبض، أما ما لم يقبض فإنه لا يصح.
كذلك أيضاً حتى لو اشترى الذهب ولم يقبضه، يعني بعض الناس يشتري الذهب، ويقول: دعه عندك حتى آتي بفلوس. لا يجوز هذا، بل يجب قبل التفرق من المجلس التقابض هذا يقبض الثمن وهذا يقبض المثمن، أما التأخير فإنه محرم ولا يجوز، وسنتكلم إن شاء الله عن شراء الذهب بالبطاقات.
والتعيين أن يعينها في العقد فيقول: بهذه الدراهم بهذه الدنانير فتتعين بالتعيين، فإذا عينها في العقد فإنها تتعين، مثلاً لو قال: بعني هذا الذهب بهذه الفضة، فدرهم الفضة يتعين بقوله: بهذه الدراهم من الفضة، ولو قال: بعني هذه الدنانير بهذه الكتب أو نحو ذلك، نقول: بأنها تتعين بالتعيين، ويترتب على ذلك أنها لا تبدل، هذه المسألة الأولى التي تترتب على كلام المؤلف رحمه الله، أنها تتعين بالتعيين.
فإذا قال: بعتك هذا الذهب أو هذه الدنانير بهذه الأثواب تعينت، ولا يجوز أن تبدل هذه الدنانير؛ لأن العقد وقع على عينها وأصبحت ملكاً للآخر، فلا يجوز لك أن تبدلها لأنها صارت ملكاً للغير.
بطل البيع، هذه المسألة الثانية إذا وجدها مغصوبة بطل البيع؛ لأنه باع شيئاً لا يملكه، فمثلاً: لو قال: بعتك هذه الدنانير أو هذه الدراهم، بهذه الأثواب، ثم تبين أن هذه الدنانير التي باعها أنها مغصوبة، قال المؤلف: (بطلت) قلنا لأنه باع شيئاً لا يملكه، وتقدم أن من شروط صحة العقد أن يكون العاقد مالكاً، أي أن يكون العقد صادراً من مالك.
هذه المسألة الثالثة إذا وجد فيها عيباً من جنسها، والعيب في الذهب البياض، فأن يجد في الذهب بياضاً هذا عيب فيه، والعيب في الفضة أن يجد فيها اسوداداً، هذا عيب فيها، فإذا وجدها معيبة، وكان التبادل فالتبادل لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: قال: (من جنسها) فلا يجوز له أن يأخذ الأرش، فمثلاً اشترى ذهباً بذهب، فلما رجع إلى البيت وجد الذهب الذي اشتراه به عيب، نقول له رده وإلا أمسك بلا أرش، رده وخذ ثمنه، وإلا أمسك بلا أرش؛ لأنه لو أخذ الأرش سيترتب على ذلك الزيادة، فقال: إذا كان التبادل بين نقدين من الجنس ثم وجد العيب ليس له الأرش، أي لو أخذ الأرش لأخذ على ذلك زيادة، وهذا غير جائز، فليس له إلا أن يمسك أو أن يرد ويأخذ عوضه بلا أرش.
الأمر الثاني: إن كان التبادل من غير جنس كما لو بادل ذهباً بفضة فيجوز أن يأخذ الأرش؛ لأن التبادل بين الجنسين إذا اختلفا يجوز التفاضل، فإذا بادل ذهباً بفضة ثم وجد فيما أخذه عيباً البياض في الذهب، والاسوداد في الفضة، فنقول: يجوز لك أن تأخذ الأرش، ولك أن تمسك بلا أرش، ولك أن تفسخ إلخ، كما تقدم لنا في خيار العيب.
المؤلف رحمه الله تعالى نص على هذه المسألة؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله استثتنى هذه المسألة فقال: يجوز الربا بين المسلم وبين الحربي، هذا رأي أبي حنيفة رحمه الله، ولهذا نص عليها المؤلف رحمه الله، وجماهير العلماء على أنه يحرم الربا بين المسلم وبين الحربي لعمومات الأدلة.
قال رحمه الله: (وبين المسلمين مطلقاً، بدار إسلام أو بدار حرب).
أيضاً المؤلف رحمه الله نص على هذه المسألة؛ لأن أبا حنيفة يخالف فيها ويقول: إن اختلفت الداران جاز، يعني إذا كنا لسنا في دار الإسلام وإنما في دار الحرب فيجوز الربا، هذا رأي أبي حنيفة رحمه الله، والصواب في هذه المسألة: ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله لعمومات الأدلة.
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله تعالى لما يتعلق ببيع الأصول والثمار، والأصول جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيره أو ما يتفرع عليه غيره، والثمار جمع ثمرة وهي ما يجنى من الأشجار، وبيع الأصول والثمار حكمها كسائر المبيعات، إلا أن العلماء رحمهم الله تعالى يفردونها بباب مستقل؛ لأنها تختص ببعض الأحكام.
فقال: (إذا باع داراً شمل أرضها) هذا الأمر الأول مما يدخل في بيع الدار أنه يشمل أرضها، يعني يشمل القرار إلى الأرض السابعة، وعلى هذا لو أراد شخص أن يمرر أنابيب تحت بيتك لك أن تمنعه لأنك الآن ملكت القرار إلى الأرض السابعة، قوله: (شمل أرضها) هذا الأمر الأول.
وقوله: (وبناءها) هذا الأمر الثاني يشمل بناء هذه الدار.
قوله: (وسقفها) هذا الأمر الثالث، يشمل السقف.
وقوله: (والباب المنصوب والسلم والرف المسمرين) هذا الأمر الرابع ما كان متصلاً بهذه الدار، فالأشياء المتصلة مثل الأبواب ومثل النوافذ ومثل المراوح، والآن يوجد عندنا مثل المكيفات ومثل المطبخ، هذه كلها داخلة في البيت، فلو أنه باع الدار ثم جاء البائع يفك المطبخ نقول: ما يجوز؛ لأنه دخل في البيت، ولهذا قال: (والباب المنصوب والسلم والرف المسمرين) مدقوق بجدار المطبخ، ومثله أيضاً الفرش، الفراش قد يكون ملصقاً في الأرض نقول: هذا داخل في البيت، فكل ما كان متصلاً بهذه الدار يكون داخلاً في الوقف، وفي الهبة، وفي البيع.
قوله: (والخابية المدفونة) الخابية تسمى بالحِب، يعني شيء مثل الزير، يكون من الطين الحر، ويدفن في الأرض، ويوضع فيه الطعام أو يوضع فيه العيش، أو البر، أو الشعير، وكان يستعمل في القديم في بعض البلاد، وسمعت أنه يستعمل حتى الآن في بعض البلاد، يحفر ويوضع فيه هذه الحبوب، فالخابية المدفونة، يقول المؤلف رحمه الله: أنها داخلة في البيع؛ لأنها متصلة.
كم ذكرنا أنه يدخل؟ أربعة أشياء، الخامس الأشياء المودعة، ومثل هذه الأشياء الدراهم أو نحو ذلك، كان في الزمن السابق خوفاً على الأموال من السرقة يحفرون أماكن في الجدران أو في الحيطان أو في الأرض ويودعون الأموال، فهل هذه الأموال المودعة داخلة في البيع أو نقول أنها ليست داخلة في البيع؟
يقول المؤلف رحمه الله: أنها ليست داخلة في البيع؛ لأنها مرادة للنقل.
قال رحمه الله: (وحجر ومنفصل منها كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش) هذا الأمر السادس، الأشياء المنفصلة ليست داخلة في البيع ولا في الوقف ولا في الهبة ولا في الوصية، فمثلاً الثلاجة هل هي داخلة أو ليست داخلة؟ نقول: ليست داخلة، لو باع البيت ثم أراد البائع أن يأخذ الثلاجة، فله ذلك؛ لأن هذه منفصلة: فالثلاجة والكتب والغسالة والأواني وكراسي الجلوس ونحو ذلك، هذه الأشياء ليست داخلة في البيع.
قوله: (وفرش ومفتاح).
الأمر السابع: الأشياء المنفصلة وهي التابعة لمتصل، مثل المفاتيح، فالمفاتيح منفصلة لكنها تابعة لمتصل، فبالنسبة لهذه المفاتيح لمن تكون على كلام المؤلف؟ تكون للبائع، وعلى هذا يحتاج المشتري أن يشتريها مرة أخرى من البائع، وإلا تضيع عليه، يقول: يغير بيوت المفاتيح، فعلى كلام المؤلف ما دام أنها منفصلة فإنها تكون للبائع.
والرأي الثاني: ما دام أنها تابعة لشيء متصل، فإنها تكون للمشتري، وهذا القول هو الصواب، ويظهر -والله أعلم- أنها تكون للمشتري؛ لأنها ما دام أنها تابعة لشيء متصل فنقول بأنها للمشتري.
الأمر الثامن: ما فيها من غرس الأشجار كما لو كان فيها نخل أو أشجار توت أو زيتون أو برتقال أو تفاح أو غير ذلك، نقول: هذه الأشجار تكون تابعة للدار، وعلى هذا تكون ملكاً للمشتري، وملكاً لمن وهبت له.
الأمر التاسع: الزروع التي توجد في هذه الدار لو كان فيها زرع، فالزرع ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يجز مرة واحدة.
والقسم الثاني: ما يجز مراراً أو يلقط مراراً، فالذي يجز مرة واحدة، مثل البر يجز مرة واحدة نقول: هذا للبائع، أما الذي يجز مراراً أو يلقط مراراً، مثل الكراث، البرسيم، أو يلقط مراراً مثل الطماطم والباذنجان تأخذ الثمرة ثم تعود مرة أخرى، فهذا يقول العلماء: الجزة الظاهرة واللقطة الظاهرة؛ لأنها متهيئة للأخذ تكون للبائع، وما عداها يكون للمشتري.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر