وهو مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة كممر بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض، وينعقد بإيجاب وقبول بعده وقبله متراخياً عنه في مجلسه، فإن تشاغلا بما يقطعه بطل وهي الصيغة القولية، وبمعاطاة وهي الفعلية، ويشترط التراضي منهما فلا يصح من مكره بلا حق، وأن يكون العاقد جائز التصرف، فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي، وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة، كالبغل والحمار ودود القز وبزره والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد إلا الكلب والحشرات والمصحف والميتة والسرجين النجس والأدهان النجسة ولا المتنجسة].
في الدرس السابق أتممنا ما يتعلق بباب عقد الذمة، وبهذا نكون أتممنا ما يتعلق بالعبادات، وسنشرع فيما يتعلق بالمعاملات، والعلماء رحمهم الله يرتبون تآليفهم، فيبدءون بالعبادات؛ لأن الأصل في العبادات الحظر، وأن المسلم لا يتعبد بأي عبادة إلا بدليل، وبتوقيف من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن حاجة المسلم إلى العبادة أكثر من حاجته إلى المعاملة، ولهذا فالصبي المميز تصح عباداته ويؤجر عليها وأجرها له ولوليه.
فلهذا العلماء رحمهم الله يبدءون بأحكام العبادات، ثم بعد ذلك يبدءون بأحكام المعاملات؛ لأن الأصل في المعاملات الحِل، ويُقدمون أحكام المعاملات على أحكام الأنكحة؛ لأن الحاجة إليها أكثر، فما يمر يوم إلا وقد باع المسلم أو اشترى أو أجر أو استأجر ونحو ذلك، ولهذا فهو بحاجة إلى الطعام والشراب، ولا يمكن أن يتمكن من الطعام والشراب إلا بالبيع والشراء.
ثم بعد ذلك يتكلمون عن أحكام الأنكحة؛ لأن الحاجة إلى النكاح إنما تكون في فترة معينة بخلاف البيع والشراء وأحكام المعاملات، وأحكام المعاملات هذه يُحتاج إليها قبل البلوغ، كما سلف أن الإنسان بحاجة إلى الطعام والشراب والسكن والانتفاع بما في أيدي الآخرين من أعيان، ولا يتمكن من هذه الأشياء إلا عن طريق المبادلة بالبيع والشراء أو الاستئجار ونحو ذلك.
ثم بعد ذلك يتكلمون عن أحكام الجنايات، القصاص في النفس، وفيما دون النفس بالحدود؛ لأن الأصل في المسلم أنه لا يجني، ولهذا أخروا ما يتعلق بالجنايات بعد أحكام الأنكحة؛ ولأن الإنسان إذا حصلت له شهوة البطن بالبيع والشراء، وشهوة الفرج في النكاح ربما يحمله ذلك على البغي والظلم فيجني، فناسب أن تُذكر أحكام الجنايات بعد أحكام الأنكحة.
ويبدءون بأحكام القصاص قبل أحكام الحدود؛ لأن أحكام القصاص المغلب فيها حق الآدميين بخلاف الحدود فإن المغلب فيها هو حق الله عز وجل.
ثم بعد ذلك يختمون تآليفهم بما يتعلق بأحكام القضاء، وما يُلحق به من أحكام الشهادات والإقرارات والدعاوى والبينات وغير ذلك، لأن مثل هذه المسائل إنما يحتاج إليها فئة خاصة من الناس.
البيع في اللغة: مطلق المبادلة.
وأما في الاصطلاح فكما عرفه المؤلف رحمه الله تعالى بأنه: (مبادلة مال ولو في الذمة، أو منفعة مباحة بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض).
وقال بعض العلماء في تعريف البيع: بأنه مبادلة مال بمال، لكن ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى من تعريف البيع أعم، فقال: (مبادلة مال ولو في الذمة).
ما المراد بقوله: ولو في الذمة؟ وما المراد بقوله: مبادلة مال؟
المالُ: هو كل عينٍ مباحة النفع، وكذلك أيضاً يُطلق المال على الأعيان التي يُباح الانتفاع بها مثل: السيارة، والعقار، والأرض، والكتاب... إلى آخره، فهذه الأعيان أموال.
كذلك أيضاً يُطلق المال على المنفعة، فالمنافع المباحة تعتبر أموالاً تصح المعاوضة عليها.
كذلك أيضاً يُطلق المال على الديون، والدين إما أن يكون ثابتاً في الذمة كالقرض ثمن المبيع ونحو ذلك، وإما أن يكون موصوفاً في الذمة، ولهذا قال رحمه الله: (مبادلة مال ولو في الذمة).
والمراد هنا إطلاقات المال، فالمال يشمل الأعيان التي يُنتفع بها، ويشمل المنافع المباحة، ويشمل الديون، وكذلك أيضاً يشمل الحقوق المالية.
وفي قوله رحمه الله تعالى: (مبادلة مال) المراد بقوله: (مال) هنا العين.
والمراد بقوله: (ولو في الذمة) الموصوف في الذمة.
وقوله: (منفعة) المراد بها منافع الأعيان مثل منفعة البيت، منفعة الدكان... إلى آخره.
فعندنا ثلاثة أشياء: الأول: عين، والثاني: موصوف في الذمة، والثالث: منفعة، فعندما تبادل عيناً مثلاً قلت لك: بعتك هذا الكتاب بعشرة ريالات, فالعشرة هذه نسميها ديناً؛ لأنها موصوف في الذمة، فالدين يُطلقونه على الموصوف في الذمة، ويُطلقونه أيضاً على ما ثبت في الذمة من القروض، أو ثبت في الذمة من أثمان المبيعات، أو أروش الجنايات، أو قيم المتلفات... إلى آخره.
ولو قلت لك: بعتك هذا الكتاب بهذه أصبح عندنا مبادلة بعين، لكن لو قلت لك: بعتك هذا الكتاب بعشرة أصبحنا نبادل بدين، وهو المال الموصوف في الذمة.
الصورة الأولى: مبادلة عين بعين، مثال ذلك: بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب، أو بعتك هذا الكتاب بهذه العشرة، فهذا مبادلة عين بعين؛ لأن كل منهما معين.
الصورة الثانية: مبادلة عين بدين، أو مال في الذمة كما يقول المؤلف، مثال ذلك: بادلتك هذا الكتاب بعشرة ريالات، فهنا الآن بادلنا عيناً بدين، أو بمال في الذمة.
الصورة الثالثة: مبادلة عين بمنفعة، قال رحمه الله: (كممر بمثل أحدهما) فاشتريت منك منفعة المرور في أرضك، فهذا رجل له هذه الأرض وجاره له هذه الأرض, ولا يستطيع أن يمر على الشارع العام إلا عن طريق جاره فيشتري منفعة المرور، فهذه مبادلة عين بمنفعة، فهو يملك الانتفاع بالمرور، لكن لا يملك التصرف في الأرض، فلا يملك أن يحفر، ولا يملك أن يبني... إلى آخره، وإنما يملك المنفعة فقط، فهذه مبادلة عين بمنفعة، هذه ثلاث صور: عين بعين، عين بدين، عين بمنفعة.
الصورة الرابعة: مبادلة دين بدين، مثال: اشتريت منك سيارة صفتها كذا وكذا بعشرة آلاف فهذا بيع دين بدين؛ لأن السيارة موصوفة في الذمة، وكذلك أيضاً العشرة موصوفة في الذمة, فلم نقل: بهذه العشرة، وإنما وصفنا الثمن أنه عشرة، وأنها من الريالات السعودية، فهنا بادلنا ديناً بدين.
الصورة الخامسة: مبادلة دين بعين, مثال: اشتريت أو بعتك سيارة صفتها كذا وكذا بهذه السيارة، فهذا دين بعين.
الصورة السادسة: مبادلة دين بمنفعة, مثال: بعتك سيارة صفتها كذا وكذا بمنفعة المرور على أرضك، أو منفعة استخدام السطح كمكان لحفظ الأشياء.
الصورة السابعة: مبادلة منفعة بمنفعة، مثال: اشتريت منفعة المرور في أرضك بمنفعة السطح عندي تستفيد منه.
الصورة الثامنة: مبادلة منفعة بعين, مثال: المرور في هذه الأرض بهذه السيارة.
الصورة التاسعة: مبادلة منفعة بدين, مثال: المرور في هذه الأرض بسيارة صفتها كذا وكذا. فهذه الصور كلها داخلة تحت البيع.
فقوله رحمه الله: (مبادلة مال) فهمنا منه أن المراد بقوله: (مال) يعني الأعيان، وبقوله: (ولو في الذمة) أي: الموصوف في الذمة ويسمونه ديناً، أو منفعة.
وقوله: (على التأبيد).
هذا يُخرج الإجارة، والإجارة فيها مبادلة لكنها ليست على التأبيد، إنما هي على التأقيت, فتقول: استأجرت منك منفعة البيت لمدة سنة بهذه العشرة، فهنا مبادلة عين بمنفعة لكن لا نسميها بيعاً في الاصطلاح وإن كانت في الحقيقة بيعاً؛ لأن المبادلة موجودة فيها، لكنها في الاصطلاح لا تسمى بيعاً؛ لأنها ليست على التأبيد، وإنما هي على التأقيت.
فالربا فيه المبادلة، لكن لا يسمى بيعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]. وتقول: بعتك هذا الذهب عشرين غراماً بذهب خمس وعشرين غراماً، فهنا المبادلة موجودة وهي مبادلة عين بعين, لكن لا يسمى بيعاً؛ لأنه محرم شرعاً والله سبحانه وتعالى غاير بين البيع وبين الربا فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
فالمبادلة موجودة؛ لأنك تعطيه ذهباً وتأخذ ذهباً بعد شهر لكنه لما كان داخلاً في الربا فإنه لا يسمى بيعاً لأنه محرم.
وقوله: (وقرض) أيضاً القرض فيه المبادلة موجودة، فأنت تعطيه ألف ريال وتأخذها بعد شهر فهنا بادلت ألفاً بألف، لكن هذا لا نسميه بيعاً وإن كانت المبادلة موجودة، وهي مبادلة عين بدين, لأنك ستأخذ بعد شهر ألف ريال، وهذا الألف غير معين بل موصوف في الذمة فهو دين.
فيسمى هذا بالقرض ولهذا حرم في القرض قصد العوض فيه لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( كل قرض جر نفعاً فهو ربا ). فهو من عقود الإرفاق وليس من عقود المعاوضة، ولهذا القرض -كما سيأتينا- صورته صورة ربا النسيئة؛ لأنك تقرضه ذهباً، أو تقرضه ألف غرام ذهباً، وتأخذها بعد شهر، لو كان بيعاً هل يجوز هذا أو لا يجوز؟ لا يجوز. فلو كان بيعاً لابد أن يكون يداً بيد، لكن لما كان من عقود الإرفاق ولا يُقصد به العوض، أجاز الشارع التأخير في مثل هذا، وإلا عندما تبادل ذهباً بذهب فالأصل أن يكون مثلاً بمثل ويداً بيد، لكن في صورة القرض تعطيه ألف غرام ذهباً وتأخذها بعد شهر، فهذا جائز، وإذا كان بيعاً نقول: بأن هذا لا يجوز.
ولهذا لما كان القرض من عقود الإرفاق والإحسان خفف فيه الشارع وأجاز لك أن تؤخر القبض، ولم يجوِّز لك أن تقصد فيه العوض كما سيأتينا إن شاء الله.
والبيع حلال بالإجماع؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]. وسيأتينا إن شاء الله كثير من الأحاديث في السنة.
سنذكر هنا كلام الفقهاء رحمهم الله تعالى، ثم بعد ذلك نذكر ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
يقول الفقهاء رحمهم الله: إن البيع له صيغتان: قولية وفعلية، وأضيق الناس في هذه المسألة هم الشافعية، فالشافعية هم أضيق الناس فيما يتعلق في باب المعاملات، مع أن باب المعاملات الأصل فيه الحِل والصحة وليس متوقفاً على الدليل بخلاف العبادات، فالعبادات أمرها ضيق؛ لأنها متوقفة على الدليل, ولهذا نجد أن الشافعية رحمهم الله يمنعون البيع بالصيغة الفعلية، بل في سائر العقود يمنعون جريان الصيغة الفعلية فيها وإن كانوا يستثنون بعض الصور، لكنهم في الجملة يمنعون الصيغة الفعلية.
على كل حال؛ فالعلماء رحمهم الله يقولون: بأن صيغة البيع تنقسم إلى قسمين: صيغة قولية, وصيغة فعلية.
والوكيل هو: الذي استفاد التصرف في حال الحياة، والوصي: من استفاد التصرف بعد الممات، والولي هو: القائم على القصر من المجانين والصغار، والناظر هو: القائم على الأوقاف.
أما القبول فهو: اللفظ الصادر من المشتري أو من يقوم مقامه، والذي يقوم مقام المشتري كما تقدم في البائع هم أربعة. الوكيل أو الولي أو الوصي أو الناظر.
والصيغة القولية يشترط لها شروط:
الشرط الأول: تقدُم الإيجاب على القبول، ولهذا قال: (وينعقد بإيجاب وقبول بعده) فلابد أن يتقدم الإيجاب على القبول، واستثني المؤلف رحمه الله فقال: (وقبله) يعني يصح، يقولون: يصح أن يتقدم القبول على الإيجاب إذا كان بلفظ الطلب أو كان بلفظ الماضي المجرد عن التمني أو الترجي أو الاستفهام.
فبلفظ الطلب مثل أن يقول المشتري بعني سيارتك. فيقول البائع: بعتك، فهنا تقدم القبول على الإيجاب لكن بلفظ الطلب فيصح, ولا حاجة لأن يقول مرة أخرى: قبلت؛ لأن العقد تم الآن.
ومن ذلك حديث سهل رضي الله عنه في قصة الواهبة، قال الرجل:(يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ملكتها بما معك من القرآن )، فهنا تم العقد.
وكذلك يصح بلفظ الماضي, لكن بشرط أن يكون مجرداً عن التمني أو الترجي أو الاستفهام.
فمثلاً: لو قال: اشتريت سيارتك بكذا وكذا، فقال: بعتك، فيصح، لكن إذا كان هناك تمنٍ أو ترجٍ أو استفهام فلا يصح، كما لو قال: أتبيعني سيارتك؟ أو: لعلك تبيعني سيارتك أو: ليتك تبيعني سيارتك، فلو قال البائع: بعتك، فلابد للمشتري أن يقول بعد ذلك: قبلت.
فتلخص لنا الشرط الأول أن تقدم القبول على الإيجاب يصح في موضعين:
الموضع الأول: أن يكون بلفظ الطلب، والموضع الثاني: أن يكون بلفظ الماضي, لكن بشرط أن يكون مجرداً عن التمني والترجي والاستفهام.
قال رحمه الله: (متراخياً عنه في مجلسه).
هذا الشرط الثاني من شروط الصيغة القولية, وهو الفورية بين الإيجاب والقبول فلا يكون هناك تراخي، لكن لا بأس بالتراخي بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون في مجلس العقد، ولهذا قال: (في مجلسه), فإن حصل تراخي بين القبول والإيجاب، قال رحمه الله: مادام أنهما في المجلس فلا بأس، وهذا الشرط الأول من شروط حصول التراضي.
والشرط الثاني: ألا يتشاغلا بما يقطعه, فمثلاً لو قال: بعتك، والثاني قال: ما قبلت ثم قاما عن المجلس، فمادام أنهما تفرقا عن المجلس وطال الفصل فإنه لا يصح، ولابد من إعادة الإيجاب مرة أخرى.
ومثلاً قال: بعتك وهما في المجلس وبدأ يتكلمان في أمور الزراعة أو في أمور الصناعة ونحو ذلك ثم بعد ذلك قال: قبلت، فهذا البيع لا يصح، فإذا حصل تراخٍ فلابد من شرطين: الشرط الأول: أن يكون ذلك في المجلس، الشرط الثاني: ألا يتشاغلا بما يقطعه.
الشرط الثالث والأخير من شروط الصيغة القولية: التوافق بين القبول والإيجاب، فمثلاً لو قال: بعتك سيارة بعشرة آلاف ريال، قال: قبلت بتسعة، نقول: لا يصح هذا, لأنه لم يتم العقد، أي: لابد أن يقول مرة أخرى: قبلت بعشرة، فلابد من التوافق بين القبول والإيجاب.
ما تقدم هي الصيغة القولية، وتبين لنا أن الصيغة القولية مركبة من الإيجاب والقبول، وذكرنا أيضاً ما يتعلق بشروط الصيغة القولية.
القسم الثاني: الصيغة الفعلية، والصيغة الفعلية هي: المعاطاة الدالة عليها، فجرى في عرف الناس اليوم أنه يذهب إلى البقال ويأخذ حاجته ويضع ثمنها، يأخذ الخبز ويضع الريال ويذهب، فليس هناك قول بإيجاب ولا قبول، فهذه هي الصيغة الفعلية، وعلى هذا جرى عمل المسلمين.
فهذا ما يتعلق بالصيغة الفعلية والصيغة القولية، وكما ذكرنا أن هذا هو المشهور عند الفقهاء رحمهم الله، وإن كانوا يختلفون في بعض التفاصيل، وذكرنا أن الشافعية رحمهم الله يضيقون في المعاملات، وسيأتينا في باب الشركات أنهم يمنعون كثيراً من صور الشركات، وكذلك أيضاً يأتينا في العقود أنهم يُحجرون فيها... إلى آخره.
لكن الصواب في ذلك: أن أمر المعاملات العموم والشمول؛ لأنها ليست متوقفة على الدليل وأن الأصل فيها الحِل. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول: وينعقد البيع بكل ما دل عليه العُرف من قول أو فعل متعاقب أو متراخٍ، وله رسالة فيما يتعلق بصيغ العقود، وأن العقود ليس لها صيغ خاصة، حتى في عقد النكاح، ففي عقد النكاح لعِظم شأنه تجد أن الفقهاء يُشددون فيه، فهم لا يقولون في عقد النكاح مثل عقد البيع أنه ينعقد بكل لفظ، فلا ينعقد النكاح إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج فقط.
ومثلهم أيضاً المالكية والحنفية، لكنهم يتوسعون شيئاً يسيراً، فنجد أن المالكية يجعلون الألفاظ خمسة، والحنفية قريباً من ذلك, فهم يُشددون في عقد النكاح. وتجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يُرجع الأمر إلى العُرف حتى في عقد النكاح، وأن عقد النكاح ينعقد بما دل عليه العُرف.
فنجد مثلاً الرضا شرطاً في سائر العقود، ففي عقد البيع لابد من الرضا، وفي الإجارة والشركة وعقود المعاوضات كذلك, والرضا في عقود التبرعات أشد منه في عقود المعاوضات، فالرضا في عقود التبرعات لابد أن يكون ظاهراً وباطناً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء:4]. فلو وهبك شيئاً حياءً وخجلاً لا يجوز لك أن تأخذه؛ لأن الله عز وجل قال: طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء:4]. فنقول بأن الرضا -كقاعدة عامة- شرط في سائر العقود.
وكون الفقهاء يستثنون بعض الصور منها: في النكاح مثلاً أن الأب له أن يُجبر ابنته البكر البالغة على الزواج، كما يقول جمهور أهل العلم ويخالفهم في ذلك الحنفية، فالمهم عندنا في الجملة أن هذا شرط في سائر العقود حتى ما يتعلق بعقد النكاح.
وقوله: (فلا يصح من مكره بلا حق) يؤخذ منه أنه إن كان الإكراه عن حق فإن هذا لا بأس فيه، ومن صور ذلك: إذا حصل إعسار للشركة واستولى القاضي على الشركة وباعها فإن هذا إكراه بحق، ومن صور ذلك: الاستيلاء على أموال المدين إذا حُجر عليه واستُولي على أمواله كما سيأتينا إن شاء الله في باب الحجر.
ومن ذلك أيضاً: إذا لم ينفق على أهله، أي: لم ينفق على زوجته وأولاده، واستُولي على أمواله من قِبل القاضي، وباعها لكي ينفق على أهله وأولاده، فنقول: هذا إكراه للحق، والمهم أن الضابط في ذلك إذا كان الإكراه عن حق فإن هذا جائز ولا بأس به، أما إذا لم يكن عن حق فإن هذا لا يجوز.
وقول المؤلف: (من مكره) يدل له قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29].
هذا الشرط الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف، وجائز التصرف هو: من جمع أربع صفات: الصفة الأولى: البلوغ، والصفة الثانية: العقل، والصفة الثالثة: الحرية، والصفة الرابعة: الرشد، فهذه أربع صفات، وعلى هذا فالعقد لا يصح إلا من جائز التصرف، وهذا في الجملة، يعني سواء كان عقد البيع أو عقد الإجارة أو الشركة أو الهبة، وأيضاً عقود التبرعات، ففي عقود التبرعات يضاف إلى ذلك أن يكون العاقد مالكاً للتبرع.
فعندنا الصفة الأولى: البلوغ، فالصبي لا تصح عقوده، ويستثنى من ذلك مسألتان:
المسألة الأولى: الأمور اليسيرة عُرفاً، فنقول: إن عقود الصبي جائزة, مثلاًكون الصبي يقوم في البقالة ويبيع، أو يقوم في المكتبة ويبيع، فالصبي المميز يبيع في مثل هذه الحالات بريال أو ريالين أو عشرة ريالات فهذه أمور يسيرة عُرفاً، فلا بأس أن يتصرف فيها، لكن أن يقوم في المكتب العقاري ويبيع الأرض أو يبيع السيارة ونحو ذلك، نقول: لا يصح، فنستثني الأمور اليسيرة عُرفاً التي لا بأس أن يتصرف فيها الصبي.
المسألة الثانية: إذا راهق وقارب البلوغ، فهذا يصح تصرفه مطلقاً، يعني في الأمور اليسيرة وغير اليسيرة، فإذا راهق وقارب البلوغ فهذا لا بأس أن يأذن له وليه في بعض التصرفات؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6] يعني اختبروهم، واليتيم: هو من مات أبوه ولم يبلغ، ففي قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] دليل لهذه المسألة.
الصفة الثانية: العقل، فالمجنون لا تصح تصرفاته، لا في قليل ولا كثير، أما المعتوه، وهو الذي في عقله خِفة, ليس مجنوناً، فعقله لا يزال موجوداً لكنه ناقص العقل، فهذا يقول العلماء رحمهم الله: بأن حكمه حكم الصبي المميز لأن عنده إدراك, فتصح العبادات منه ولا تجب عليه، وأجرها له ولوليه كالصبي المميز، وهذا في العبادات البدنية المحضة أو العبادات المركبة بين المال والبدن بخلاف العبادات المالية فهذه تجب حتى على المجانين وحتى على الصبيان غير المميزين والمعتوهين... إلى آخره.
وأما بالنسبة للمعاملات، نقول: إن المعتوه حكمه حكم الصبي المميز كما تقدم فيما يتعلق بالأمور اليسيرة، فلا بأس أن يشتري ويبيع الأمور اليسيرة، كذلك أيضاً إذا أردنا أن نعرف هل رشد واكتمل عقله فلا بأس أن يؤذن له في بعض التصرفات.
الصفة الثالثة: الحرية، فالحرية تخرج الرقيق، فالرقيق يصح تصرفه بإذن سيده، فإذا أذن له سيده في البيع والشراء أو التأجير أو الشركة أو الوكالة ونحو ذلك, نقول: بأن تصرفه صحيح.
الصفة الرابعة: الرشد, فالرشد يُخرج السفيه، والرشد يختلف باختلاف أبواب الفقه، فالرشيد في باب المعاملات هو: الذي يُحسن التصرف في المال, والرشيد في باب النكاح هو: الذي يعرف الكفؤ ومصالح النكاح، والرشيد في باب العبادات: العدل في دينه.
فالرشد يختلف من باب إلى باب، والمهم عندنا هنا السفه في المعاملات، فالسفيه في المعاملات: هو الذي لا يُحسن التصرف في ماله، وهذا حكمه فيما يتعلق بالمعاملات كحكم الصبي المميز، فنقول: هذا السفيه في الأمور اليسيرة عرفاً لا بأس أن يتصرف فيها.
كذلك أيضاً إذا أردنا أن نختبره وأن نعرف هل رشد أو لم يرشد فلا بأس أن يؤذن له في بعض التصرفات. قال المؤلف رحمه الله: (فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن وليه).
الشرط الثالث: قال رحمه الله: (أن تكون العين مباحة النفع)، وهنا ضابط نقول: ما أُبيح نفعه أُبيح بيعه، أو أُبيح العقد عليه إلا ما استثناه الشارع.
وهذا الضابط أو هذه القاعدة تريحك كثيراً, فإذا رجعت إلى المطولات تجد أن الفقهاء رحمهم الله يطيلون الكلام عن الحشرات: هل يصح بيع الحشرات أو لا يصح بيع الحشرات؟ ويتكلمون عن البغال والحمير والسرجين، وقد ذكر المؤلف رحمه الله جملة من ذلك, فيُعددون أشياء كثيرة، فإذا رجعت مثلاً إلى كتاب المغني أو الشرح الكبير أو بدائع الصنائع للحنفية وغير ذلك فتجد أنهم يطيلون ويعددون, لكن لهذا ضابط يقول: ما أُبيح نفعه أُبيح بيعه والعقد عليه إلا ما استثناه الشارع، يعني أن هناك أشياء أباح الشارع لك أن تنتفع بها، لكن لم يجز لك أن تعقد عليها وهي ما يسمى بالمختصات، كما سيأتينا.
وهنا قال المؤلف: (كالبغل)، ضرب لك مثالاً، ولا حاجة إلى ذكر الأمثلة هذه، كالبغل والحمار، فالبغل يجوز لك أن تبيعه؛ لأنه مباح النفع كالركوب وحمل الأمتعة ونحو ذلك, والحمار ودود القز مثله, فدود القز هذا حيوان يُقتنى لما يخرج منه من الحرير، قوله: (وبزره) يعني ولد دود القز, وكذلك الفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد.
فالكلب نفعه مباح، ويُنتفع به في الصيد وفي الحراسة لكن الشارع منع من بيعه، وكما في حديث ابن مسعود في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ) وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى خلافاً للحنفية.
والصحيح: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، وما ورد من استثناء الكلب في بعض الأحاديث ككلب الصيد أنه يجوز بيعه فهذا لا يثبت، فنقول: الكلب لا يجوز لك أن تنتفع به، وهذا يسميه العلماء رحمهم الله بالمختصات كما ذكر ابن رجب ، والمختص كما قلنا سلفاً: ما أباح الشارع لك أن تنتفع به، لكن لم يجوز لك أن تعقد عليه.
يقول المؤلف: لا يصح بيع الحشرات، والعلة عندهم أنه لا يُنتفع بها، ولهذا يجوزون بيع الحشرات التي يُنتفع بها؛ ولهذا قال في الشرح: (إلا علقاً لمص الدم، وديدانا لصيد السمك) فلا بأس أن تبيع حشرات الديدان لصيد السمك، أو العلق لتمص الدماء؛ لأنه يُنتفع بها.
واليوم بعد ترقي العلم والطب، أصبحت هذه الحشرات يُنتفع بها، كالعقارب وكثير من الحشرات فنقول: عندنا قاعدة: ما أُبيح نفعه أُبيح بيعه إلا ما استثناه الشارع ولم يرد أن الشارع منع من بيع الحشرات.
يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح بيع المصحف، لما في ذلك من ابتذال, وقد ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بإسناد صحيح أنه قال: وددت أن الأيدي تُقطع في بيعه، أي: في بيع المصحف، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى, وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: أن بيع المصاحف جائز ولا بأس به, وهو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، لكن الشافعية يقولون بالكراهة، وقد ورد ذلك عن ابن عباس ومروان بن الحكم رضي الله تعالى عنهما، والأصل في ذلك الحِل، وأما القول بأن في ذلك امتهاناً أو ابتذالاً له فهذا غير مسلم به، فكونه ينتقل بعوض هذا لا بأس به, لأنه يحتاج إلى المداد ويحتاج إلى خط الكتابة، ففيه تكلفة المداد وتكلفة الكتابة والجلد ونحو ذلك، فالصواب في ذلك: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح بيع الميتة؛ ودليل ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله حرم بيع الميتة، والخمر، والأصنام) رواه في الصحيحين، لكن الميتة يتوجه لها استثناءان:
الاستثناء الأول: يتوجه إلى أعيان الميتات، فيستثنى من ذلك ميتة البحر، فميتة البحر يجوز لك أن تبيعها؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]. صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة:96] ما أُخذ حياً، وَطَعَامُهُ [المائدة:96] ما أُخذ ميتاً.
ويستثنى أيضاً: ما لا نفس له سائلة، يعني: إذا قُتل فليس له دم يسيل فهذا طاهر، فلك أن تعاوض عليه، وهذا ما يتعلق بالاستثناء المتوجه إلى أعيان الميتات.
الاستثناء الثاني: يتوجه إلى أجزاء الميتات، فنقول يستثنى من ذلك:
أولاً: كل ما لا تحله الحياة؛ لأن هذه الأشياء طاهرة ليست نجسة، كالشعر والصوف والوبر والريش والقرون والأظلاف... إلى آخره، فهذه كلها طاهرة ويصح أن تعاوض عليها.
ثانياً: جلد الميتة إذا دُبغ، فالصحيح أنه يطهر بالدبغ كما سلف, وعلى هذا يصح لك أن تعاوض عليه.
وأضاف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى ذلك ما يتعلق بعظام الميتة، حيث قال بأن عظام الميتة يجوز المعاوضة عليها، وألحقها بالقرون والأظلاف... إلى آخره، وكذلك أيضاً أضاف لبن الميتة، يعني لو أن شاة ماتت ثم حُلبت مباشرة، القاعدة عند شيخ الإسلام: أن المائعات لا تنجس إلا بالتغير، فيرى أن لبن الميتة مادام أنه لم يتغير فهو طاهر ولك أن تعاوض عليه، لكن والله أعلم أن لبن الميتة النجاسة محيطة به من كل جانب، فالقول بأنه طاهر أو أنه لم يتغير قد يكون فيه بُعد.
السرجين: الروث الخارج من الآدمي أو الحيوان، ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أن هذا السرجين إن كان طاهراً فلا بأس أن تعاوض عليه، كالخارج من الحيوان مأكول اللحم فهذا يجوز لك أن تعاوض عليه؛ لأنه طاهر.
لكن بقينا في الروث الخارج من الآدمي أو من الحيوان المحرم الأكل، كروث الحمار ونحو ذلك، فهل يجوز بيعه أو لا يجوز بيعه؟ فالمؤلف رحمه الله يرى أنه لا يجوز بيعه، وعند الحنفية أنه يجوز بيعه، لكن إذا أخذنا بالقاعدة التي ذكرناها سابقاً وهي: ما أُبيح نفعه أُبيح بيعه والعقد عليه إلا ما استثناه الشارع، والشارع لم يستثنِ السرجين النجس، فنقول: مادام أنه يُنتفع به الآن في التسميد ونحو ذلك، فنقول: بأنه يصح بيعه.
أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح بيع الأدهان النجسة ولا المتنجسة، والفرق بين الدهن النجس والدهن المتنجس أن الدهن النجس ذاته وأصله نجس, والدهن المتنجس كان طاهراً فطرأت عليه النجاسة.
والمؤلف لم يُفرق بينهما؛ لأن عندنا قاعدة على المذهب، وهي: أنهم يُفرقون بين الماء وبين سائر المائعات، فسائر المائعات لا تطهر إذا تنجست, فاللبن إذا تنجس فلا يمكن أن يطهر، والدهن إذا تنجس فلا يمكن أن يطهر، والعسل إذا تنجس فلا يمكن أن يطهر, لكن الماء عندهم إذا تنجس الماء فيمكن أن تطهره، إذا كان قليلاً أو إذا كان كثيراً، أما المائعات الأخرى عدا الماء يعتبرونها نجسة ولا يمكن أن تطهر, ولهذا لا يصح أن تبيعها.
الجواب: الذهب أو حُلي المرأة المعد للاستعمال إذا كان يُستعمل، فهذا ليس فيه زكاة إن شاء الله، وهو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ ولأن الأحاديث الواردة في وجوب زكاة الحُلي لا تخلو من ضعف، والأصل براءة الذمة مادام أنه يُستعمل، لكن إذا كان مرصوداً، أي: لا يُستخدم فهذا لابد أن تُخرج فيه الزكاة، لكن إذا كان يستعمل في أثناء الحول فيظهر والله أعلم أنه ليس فيه زكاة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر