باب زكاة العروض.
إذا ملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصابا زكى قيمتها، فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها لم تصر لها، وتقوم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورق، ولا يعتبر ما اشتريت به، وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمان أو عروض بنى على حوله، وإن اشتراه بسائمة لم يبن.
باب زكاة الفطر.
تجب على كل مسلم فضل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية، ولا يمنعها الدين إلا بطلبه، فيخرج عن نفسه وعن مسلم يمونه ولو شهر رمضان، فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه فامرأته فرقيقه فأمه فأبيه فولده فأقرب في ميراث، والعبد بين شركاء عليهم صاع، ويستحب عن الجنين ولا تجب لناشز، ومن لزمت غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأت، وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر، فمن أسلم بعده أو ملك عبداً أو تزوج أو ولد له لم تلزمه فطرته وقبله تلزم، ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط].
تقدم لنا ما يتعلق بزكاة النقدين الذهب والفضة، وأن الإجماع منعقد على وجوب الزكاة فيهما، وذكرنا دليل ذلك من القرآن ومن السنة، ثم بين المؤلف رحمه الله ما يتعلق بنصاب الذهب والفضة، وهل المعتبر فيهما الوزن أو العدد، ثم بعد ذلك تطرق المؤلف رحمه الله لمسألة ضم الذهب إلى الفضة والعكس، وهل يضم الذهب إلى قيمة العروض أو لا، ثم بعد ذلك تكلم عن التحلي بالذهب والفضة، وما يجوز للذكر وما يجوز للأنثى، وهل تجب الزكاة في حليهما المباح أو لا تجب، وذكرنا أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: قول أبي حنيفة رحمه الله أن الزكاة واجبة، وذكرنا دليله والأدلة العامة، وكذلك أيضاً الأدلة الخاصة كحديث أم سلمة وعائشة ، وعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهم.
والقول الثاني: قول الجماهير الذين قالوا: لا تجب الزكاة، واستدلوا بحديث جابر، وكذلك لوروده عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وتوقفنا عند قول المؤلف رحمه الله: (وإن أعد للكراء، أو النفقة).
يعني: الحلي إذا أعد للتأجير، كأن تتخذه المرأة، أو يشتريه الرجل لا لأجل اللبس وإنما من أجل أن يؤجره، فنقول: تجب الزكاة فيه.
وكذلك أيضاً لو أعد للنفقة، يعني: هذا الحلي لم يعد للاستعمال، وإنما لكي يباع منه وينفق على الأهل، فنقول بأن الزكاة تجب فيه؛ لأن الأصل هو وجوب الزكاة في الذهب والفضة؛ لكن سقط الوجوب فيما يتعلق بالحلي المعد للاستعمال لوجود الدليل على ذلك.
أيضاً تجب الزكاة في الذهب إذا كان محرماً، مثلاً: لو كان عندنا تمثال من ذهب، أو من فضة، فهذا محرم ولا يجوز، وتجب فيه الزكاة، أو كان عندنا آنية ذهب، أو فضة -ومعلوم أنه يحرم الأكل في آنية الذهب والفضة- فنقول: تجب الزكاة في هذه الأشياء.
والعروض: جمع عرض، وهو ما أعد للبيع والشراء، والعروض: خلاف النقد، وسمي بذلك؛ لأنه يعرض لكي يباع ويشترى، أو لأنه يعرض فيما يزول.
للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:
الرأي الأول: وهو قول جمهور الأئمة أن الزكاة تجب في عروض التجارة.
والرأي الثاني: رأي الظاهرية أن الزكاة لا تجب في عروض التجارة.
ولكل منهم دليل، وإن كان البحث في المسألة ضعيفاً إلا أن بعض أهل العلم المتأخرين يجنح إلى رأي الظاهرية.
والذين قالوا: إن الزكاة تجب في عروض التجارة، استدلوا بأدلة كثيرة، منها: العمومات، كقول الله عز وجل: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، وأيضاً حديث ابن عباس لما بعث معاذاً إلى اليمن: ( فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم )، وأيضاً حديث سمرة أنه قال: ( كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع ). وهذا الحديث رواه أبو داود ، وفيه ضعف، وأيضاً هو وارد عن عمر رضي الله تعالى عنه، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
وهنا لابد أن نفهم مسألة: وهي أن هذه العروض هل هي مرادة لذاتها أو ليس مرادة لذاتها؟ مثلاً: صاحب البقالة عندما اشترى هذه المواد الغذائية هل أرادها لذاتها أو هو أراد القيمة؟
الجواب: العروض مراد بها قيمتها؛ لكي تزيد القيمة، فلو كان معه -مثلاً- مائة ألف، ولكي تزيد هذه المائة لا بد أن يحولها إلى عروض، ثم بعد ذلك يقلب العروض إلى قيمة، ولهذا لا تجده يقفل محله، ولو كانت مرادة لذاتها لأقفل المحل على هذه الأعيان؛ ولكنه يبدله يومياً بهذه القيم، فهي ليست مرادة لذلك، ( وإنما الأعمال بالنيات ).
والذين قالوا: إن الزكاة لا تجب في العروض، يقولون: الأصل في ذلك براءة الذمة، ولم يرد دليل على وجوب الزكاة في العروض؛ لكن هذا الاستدلال ضعيف، وقد تقدم أن الدليل وارد في هذه المسألة، وكذلك يستدلون بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة )، وهذا يشمل الفرس الذي يباع ويشترى؛ لكن هذا الاستدلال ضعيف، وإنما المقصود بعبده وفرسه: العبد الذي يختص به، والفرس الذي يختص به، فالعروض التي يختص بها ليس فيها صدقة، كالسيارة التي يختص بها للركوب، والبيت الذي يختص به للسكنى، والثوب الذي يختص به للبس، فهذه الأشياء ليس فيها صدقة؛ لأنها مرادة لذاتها، أما عروض التجارة فإنها ليست مرادة لذاتها، وإنما المراد هو القيمة، ففرقٌ بين المسألتين.
وكذلك استدلوا بما في السنن من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق )، وهذا الاستدلال يجاب عنه -كما تقدم- بأن المقصود بذلك الخيل والرقيق الذي يختص به؛ كما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين، وعلى هذا فلا إشكال أن الزكاة تجب في مثل هذا، ولو قلنا بأن الزكاة لا تجب في عروض التجارة لكان أغلب تجارة الناس هي عروض التجارة، فهذه المحلات التجارية الكبيرة كلها لا زكاة فيها، ويكاد يسقط ثلاثة أرباع الزكاة، وحينئذ لا تجب فيها الزكاة.
الشرط الثاني: قال: (بنية التجارة). أي: إذا ملكها بفعله لكي تكون عروض تجارة لا بد أن يكون ناوياً للتجارة، فمثلاً: قبل السيارة هبة فملكها بفعله، وهو ينوي بها أنه سيبيعها، فهذه الآن أصبحت عروض تجارة، وعلى هذا قال المؤلف رحمه الله كما سيأتي: (فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة... ثم نواها لم تصر لها).
الملك بالإرث ملك قهري لا اختيار للإنسان فيه، فإذا مات قريبك الذي ترثه، دخل ماله في ملكك قهراً عنك، فالآن أنت لم تملكها بفعلك؛ لأنه مال دخل في ملكك قهراً عنك.
وقوله: (أو ملكها بفعله بغير نية التجارة) مثلاً: قبل الهبة، أو اشترى السيارة أو الأرض ولم ينو أن يبيعها ويتاجر فيها، فهو ملكها بفعله؛ لكنه لم ينو بها التجارة، ففي هذه الحالة إذا ملكها بفعله ولم ينو التجارة ثم نواها للتجارة فإنها لا تصير عروض تجارة، فلكي تكون عروض تجارة تجب فيها الزكاة لا بد أن يبيعها، ثم يحول الحول على ثمنها فيكون فيه زكاة، أما هذه فلا تكون عروض تجارة إلا بشرطين:
الشرط الأول: على كلام المؤلف أن يملكها بفعله.
الشرط الثاني: أن ينوي بذلك التجارة، وعلى هذا إذا ملكها بغير فعله فإنها لا تصير عروض تجارة ولو نوى، وأيضاً إذا ملكها بفعله ولم ينو التجارة فإنها لا تكون عروض تجارة ولو نوى، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله. وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني في هذه المسألة: أنه متى ما نواها للتجارة فإنها تكون عروض تجارة، وهذا القول هو الصواب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]، وقال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، وهذا مال لم يقصد به القنية، وإنما قصد به القيمة، فإذا نوى التجارة، صارت عروض تجارة تجب فيها زكاة التجارة.
يعني: هذه العروض المقصود منها القيمة، وتقوم بالأحظ للفقراء من ذهب أو فضة، وعلى هذا ننظر إلى قيمة الذهب وإلى قيمة الفضة؛ فإن بلغت قيمة العروض نصاب ذهب ففيها الزكاة، وإن بلغت نصاب الفضة ففيها الزكاة، والأحظ إلى الفقراء هو الفضة من زمن بعيد؛ لأن الفضة الآن رخيصة جداً بخلاف الذهب، فالذهب غال.
مثال ذلك: نصاب الذهب خمسة وثمانون غراماً، الغرام نفرض أنه بمائة ريال، اضرب خمسة وثمانين في مائة، يساوي ثمانية آلاف وخمسمائة، فإذا كان عنده عروض وقلنا: يقوم بالذهب، فلا بد أن تبلغ ثمانية آلاف وخمسمائة، ونصاب الفضة خمسمائة وخمسة وتسعون غراماً، والغرام اليوم رخيص، ولنفرض أنه بريال، فيكون نصاب الفضة بالريالات خمسمائة وخمسة وتسعين، وعلى هذا إذا كان عنده عروض -مبسط صغير، ولنفرض أنه يبيع مساويك- تساوي ألف ريال، إن أخذنا القيمة بالذهب لا تجب الزكاة، وإن أخذنا بالفضة فتجب الزكاة، ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: تقدر بالأحظ للفقراء من عين أو ورق.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يعتبر ما اشتريت به).
أي: لا ننظر إلى ما اشتريت به، بل ننظر إلى قيمة البيع كم تساوي الآن إن كان يبيع بالتجزئة منها، وإن كان يبيع جملة قدرها بالجملة، وننظر كم تساوي.
هاتان صورتان ذكرها المؤلف:
الصورة الأولى: اشترى عرضاً بنصاب من أثمان، كأن اشترى عروض ذهب تسعين غراماً، وهذه العروض عنده لمدة ستة أشهر، وقد قلب هذه العروض إلى ذهب فهل تجب عليه الزكاة، أو لا تجب عليه الزكاة؟ وهل يبني على الحول الأول، أو يستأنف حولاً جديداً؟
نقول: يبني على الحول الأول؛ لأن العروض -كما ذكرنا- ليست مقصودة لذاتها وإنما المقصود هو القيمة، فعندما قلب ذهباً بذهب كان المقصود القيمة وليس المقصود نفس العروض، فإذا أبدل العروض بالذهب أو أبدل الذهب بالعروض فإنه يبني على الحول الأول.
قال المؤلف رحمه الله: (أو عروض بنى على حوله).
مثلاً: عنده سيارات للبيع والشراء، ثم بعد ذلك أبدل هذه السيارات بأراضي أو عروض تجارية للبيع والشراء، فنقول: عليه أن يبني على الحول، فإذا أبدل عروضاً بعروض، أو أبدل عروضاً بذهب أو فضة، فكذلك عليه أن يبني؛ لأن هذه العروض ليست مقصودة لذاتها وإنما المقصود القيمة، فكأنه أبدل ذهباً بذهب، أو فضة بفضة ونحو ذلك.
الحالة الأولى: أن يتفق المالان في الجنس والحكم، فإذا اتفقا في الجنس والحكم فإنه يبني على الحول الأول.
مثال ذلك: أبدل عروضاً بعروض، أبدل سائمة بسائمة، أبدل إبلاً بإبل، بقراً ببقر، سيارات عروض بسيارات عروض، ذهباً بذهب... إلخ.
المهم هنا: أبدل مالا زكوياً بمال آخر يتوافقان في الجنس والحكم، فنقول بأنه يبني على الحول.
الحالة الثانية: عكس الأولى أن يبدل مالاً زكوياً بمال زكوي آخر يخالفه في الجنس والحكم، فنقول: إن الحول ينقطع إلا إذا كان فراراً من الزكاة.
مثال ذلك: أن يبدل إبلاً ببقر أو بغنم، فإنهما يختلفان في الجنس والحكم، فنقول بأن الحول ينقطع.
الحالة الثالثة: أن يبدل مالاً زكوياً بمال آخر زكوي يخالفه في الجنس ويوافقه في الحكم.
مثاله: لو أبدل عروض تجارة بذهب، هنا الجنس مختلف، مثل: سيارات بذهب، لكن الحكم واحد؛ لأن المقصود بهذه العروض هو القيمة، فنقول: يبني على الحول.
نقول: هذه العقارات تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يشتريها للسكن، أو لكي يعمرها ويؤجرها، ولا يقصد البيع والكسب، وإنما قصد أن يشتريها للسكن، أو لكي يعمرها ثم بعد ذلك يؤجرها ونحو ذلك، فهذه لا تجب فيها الزكاة؛ كما تقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ).
القسم الثاني: أن يشتريها للتجارة وللكسب، بمعنى أنه يشتريها وسيبيعها بعد فترة ثم يشتري بدلاً عنها، يقلب ويشتري، ثم قصده أن يقلبها بعد ذلك مرة أخرى بعين أخرى، فهذه عروض تجارة تجب فيها الزكاة.
القسم الثالث: أن يشتري هذه العقارات كما يقول بعض الناس: أنتظر بها الزيادة، وأنا أريد أن تحفظ مالي، وإذا زادت بعد فترة -بعد سنتين.. عشر سنوات... إلخ- قام ببيعها، فهذه موضع خلاف وتفصيل بين العلماء رحمهم الله:
فالمالكية: يفرقون بين التاجر المحتكر والتاجر المدير؛ فالتاجر المدير: هو الذي يقلب السلعة، والمحتكر: هو الذي يحبس السلعة فإذا زادت باعها، فالتاجر المدير يجب عليه أن يزكي كل سنة، وأما التاجر المحتكر إذا باع فإنه يزكي سنة واحدة، وهذا الذي يظهر والله أعلم أنه وسط، فهؤلاء الذين يشترون الأرض ثم يتركونها حتى تزيد، فنقول: هذه إذا باعها يزكيها مرة واحدة.
لما تكلم المؤلف رحمه الله في زكاة المال شرع في زكاة البدن.
والفطر في اللغة: اسم مصدر من أفطر الصائم إفطاراً، وأضيفت إلى الفطر من إضافة الشيء إلى سببه، يعني: الزكاة التي سببها الفطر من رمضان.
وأما في الاصطلاح: فهي تعبد لله عز وجل بإخراج صاع من طعام البلد في وقت خاص بطائفة مخصوصة.
والأصل فيها الكتاب والسنة، والإجماع كما حكاه ابن المنذر رحمه الله.
أما الكتاب: فقول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14]. قال بعض العلماء: المراد إخراج زكاة الفطر.
وأما السنة: فسيأتينا إن شاء الله حديث أبي هريرة ، وحديث ابن عمر ، وحديث أبي سعيد ، والأحاديث كثيرة في ذلك، وحديث ابن عباس.
والإجماع قائم على ذلك.
والحكمة منها كما جاء في حديث ابن عباس : ( طهرة للصائم من اللهو والرفث، وطعمة للمساكين ) فهنا حكمتان: هي طعمة للمساكين لتحصل لهم المواساة، ويوافقوا إخوانهم الأغنياء في فرحة العيد، وطهرة للصائم من اللهو والرفث؛ لأن الإنسان يحصل في صيامه شيء من الخلل والنقص، فهذه الزكاة تطهره.
قال رحمه الله: (تجب على كل مسلم) سواء كان من أهل البادية أو من أهل الحاضرة؛ لحديث ابن عمر قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من بر أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين ).
يعني: اشترطوا لوجوبها شروطاً هي:
الشرط الأول: الغنى، ويختلف باختلاف أبواب الفقه، فالغنى هنا يختلف عن الغنى في دفع الزكاة، فالغني في دفع الزكاة هو الذي يملك النصاب، وكذلك الغنى هنا يختلف عن الغنى في باب الحج، وفي باب كفارة اليمين، وفي دفع الدية على العاقلة.
فضابط الغنى في زكاة الفطر: أن يجد يوم العيد وليلة العيد قوته وقوت عياله، ولنفرض أن عنده صاعين، صاع يكفي له ولعياله يوم العيد وليلته، نقول له: الصاع الأول يكون لك ولأهلك، والصاع الثاني أخرجه زكاة فطرك، ولو كان لا يجد غير هذين الصاعين فإننا نسميه غنياً، نقول: يجب عليك أنك تخرج زكاة الفطر، أو مثلاً: ليس عنده إلا عشرون ريالاً، فنقول: عشرة ريالات تشتري بها صاع طعام لك ولأهلك، والعشرة الأخرى تشتري بها صاعاً تخرجه في زكاة الفطر.
قال رحمه الله: (وحوائجه الأصلية).
هذا الشرط الثاني: لا بد أن يكون مالكاً للحوائج الأصلية التي يحتاج إليه في حياته، مثل: الثلاجة، والغسالة، والفرن، وأواني الطبخ، والفراش، والغطاء، ونحو ذلك، فهذه حوائج أصلية، فإذا كان عنده مال وهو بحاجة إلى أن يشتري ماعوناً بالبيت، نقول بعد أن يجد القوت له ولأهله يوم العيد وليلته: أعندك دراهم؟ ابدأ بالحوائج الأصلية وما فضل تخرجه زكاة الفطر.
قال رحمه الله: (ولا يمنعها الدين إلا بطلبه).
الشرط الثالث: ألا يكون عليه دين يطالب به، فهذا لا بد أن يكون ممن يطالب به، مثلاً: عليه مائة ريال دين وصاحب الدين يطالبه، فنقول: ادفع هذه المائة وفاء للدين، أما إذا كان لا يطالبه فنقول: هذا لا يمنعها، فتخرج زكاة الفطر.
قوله: (يخرج عن نفسه) هذا ظاهر فيما تقدم من حديث ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً من بر أو صاعاً من شعير على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين )، فيبدأ بنفسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ابدأ بنفسك ).
وقوله: (وعن مسلم يمونه) يعني: الذي تنفق عليه يجب عليك أنك تخرج عنه زكاة الفطر.
ويدخل في قوله: (عن مسلم يمونه):
أولاً: الزوجة فيجب عليه أنه ينفق عليها، ويجب عليه أن يخرج عنها زكاة الفطر، وهذا ما ذهب إليه المؤلف وهو الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة أنه لا يجب على الزوج أن يخرج عن زوجته زكاة الفطر، وإنما هي تخرج عن نفسها فهي المخاطبة.
والجمهور يقولون: يجب عليه أن يخرج عن زوجته؛ لأنه ينفق عليها، والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أدوا الفطرة عمن تمونون ) جاء عند الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر، وهو ضعيف لا يكفي.
والذي يظهر -والله أعلم- هو ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله عنه.
ثانياً: أولاده، هو ينفق على أولاده، فهل يجب أن يخرج عليهم زكاة الفطر أو لا؟
أما إن كانوا صغاراً، فالإجماع محكي على ذلك، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يعطي عن نافع وعن أبناء نافع رحمه الله ورضي الله عنه.
وإن كانوا كباراً ففيه الخلاف السابق، الأصل أنه مخاطب بإخراج زكاة الفطر، والصواب: أن الأب لا يجب عليه.
ثالثاً: آباؤه، هل يجب أن يخرج عنهم أو لا يجب أن يخرج عنهم؟
عند الشافعية والحنابلة يجب أن يخرج عن أبيه الذي ينفق عليه، وعند أبي حنيفة لا يجب، وعند مالك لا يجب أن يخرج عن جده ويخرج عن أبيه، والصواب في ذلك أنه لا يجب؛ لأن الحديث الوارد في ذلك: ( أدوا الفطرة عمن تمونون ) ضعيف لا يثبت.
وأيضاً الخادم فيه الخلاف كما تقدم، والمؤلف يرى أنه يجب أن يخرج، والصواب: أنه لا يجب عليه أن يخرج، وذكرنا أن الحديث الوارد في هذا ضعيف.
قال رحمه الله تعالى: (ولو شهر رمضان).
يعني: لو تبرع بالنفقة على شهر رمضان، قال عن العائلة: سأنفق شهر رمضان عليهم، هل يجب عليه أن يخرج عنهم زكاة الفطر، أو لا يجب؟ يقول المؤلف رحمه الله: يجب عليه أن يخرج عنهم زكاة الفطر كما في الحديث السابق: ( أدوا الفطرة عمن تمونون ).
قلنا والله أعلم: لا يجب عليه إذا تبرع مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]، وهذا ما ذهب إليه صاحب ( المغني ) وصاحب الشرح الكبير.
هذا على القول بالوجوب.
تلخص لنا أنه يجب عليه أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه وأولاده الصغار، وماعدا ذلك لا يجب عليه، فإن تبرع فجزاه الله خيراً وإلا فالأصل أن الإنسان يخرج زكاة الفطر عن نفسه كما سلف.
هذا تفريع عن المذهب؛ لأن أهل المذهب يرون أن كل من ينفق عليه فإنه يجب عليه أن يخرج عنه زكاة الفطر، فإذا كان عنده صاع واحد، نقول: الذي زاد عن النفقة يوم العيد وليلته وزاد عن الحوائج الأصلية صاع واحد فابدأ بنفسك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول )، وإذا كان عنده صاعان، نقول: الصاع الثاني اجعله عن زوجتك، وقدم الزوجة على أبيه وأمه وعلى أولاده -وهذه المسألة تأتينا في النفقات- لأن نفقة الأقارب مواساة؛ لكن نفقة الزوجة معاوضة، والعوض الاستمتاع، فهي تبذل له الاستمتاع فيجب أن يعطيها النفقة عوضاً، ويرتبون على هذه المسألة مسائل وفروعاً كثيرة.
والصواب في ذلك: أن نفقتها كما قال ابن القيم مواساة كنفقة الأقارب، وأن العوض حصل ببذل المهر.
قوله: (فرقيق)؛ لأن نفقة الرقيق تجب مطلقاً حتى مع الإعسار، فيجب عليه أن ينفق عليه أو أن يبيعه.
قوله: (فأمه فأبيه)؛ لأن الأم مقدمة في البر على الأب، والنبي صلى الله عليه وسلم قدم في البر الأم: ( من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك ).
قوله: (فولده) يأتي بعد الأصول الفروع.
ثم بعد ذلك يقول المؤلف رحمه الله: (فأقرب في ميراث) على حسب الإخوة وبنوهم، ثم الأعمام وبنوهم.
قال رحمه الله: (والعبد بين شركاء عليهم صاع).
إذا كان هناك عبد مشترك بين اثنين، فكل واحد يخرج عنه نصف صاع، وإذا كان بين ثلاثة فكل منهم يجب عليه ثلث صاع.
يستحب أن تخرج الفطرة عن الجنين، وهذا وارد عن عثمان رضي الله تعالى عنه وهو ضعيف وليس ثابتاً فيحتاج إلى دليل؛ لكن لا تجب وإنما تستحب.
قال رحمه الله: (ولا تجب لناشز).
النشوز: هو معصية المرأة لزوجها فيما يجب عليها، فيقول المؤلف رحمه الله: (لا تجب لناشز)؛ لأن الناشز لا تجب عليه نفقتها فزكاة الفطر أيضاً.
هذا كله تفسير على المذهب، فمثلاً: لو أن الزوجة ذهبت واشترت صاعاً من بر، ودفعته لفقير فإن ذلك يجزئ ولو لم تستأذن الزوج؛ لأنها هي المخاطبة في الأصل.
زكاة الفطر لها خمسة أوقات:
الحنفية يقولون: تجب بطلوع الفجر الثاني من يوم العيد، وكلهم يستدلون بحديث ابن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان ).
ما المقصود بالفطر؟ هل المقصود الفطر من جميع الشهر؟ والفطر من جميع الشهر متى؟ إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام رمضان حصل الفطر من جميع الشهر، أو المقصود الفطر من اليوم ويتحقق من يوم العيد؛ لأنه إذا أفطر يوم العيد حقق الفطر من اليوم؟
حديث ابن عباس يؤيد قول الجمهور: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها طهرة للصائم من اللهو والرفث، وطعمة للمساكين )؛ ولأن الصيام ينتهي عند غروب الشمس، فإذا أخرجها حصل التطهير.
والذي يظهر -والله أعلم- هو ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله، ويترتب على هذا مسائل:
قال المؤلف: (فمن) الفاء تفريع على الكلام السابق، قال: (فمن أسلم بعده).
يعني: إذا أسلم بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر فلا تجب عليه عند الجمهور، وتجب على رأي الحنفية، أما إذا أسلم قبل غروب الشمس فإنها تجب على كلا القولين.
قوله: (أو ملك عبداً) فإذا ملكه بعد غروب الشمس لا تجب، وعند الحنفية تجب، وإن ملكه قبل الغروب وجبت عليه عند كلا القولين.
قوله: (أو تزوج) لو تزوج بعد غروب الشمس على رأي الجمهور لا تجب، وعلى رأي الحنفية يجب عليه.
قوله: (أو ولد له ولد) الولد ولد بعد غروب الشمس لا تجب على رأي الجمهور، وتجب على رأي الحنفية، ولهذا قال: (لم تلزمه فطرته، وقبله تلزم)؛ لكن على رأي الحنفية تلزم.
هذا هو الوقت الثاني، وهو وقت الجواز والإباحة، يعني: أنه يجوز لك أن تخرج زكاة الفطر قبل العيد بيومين، وعند الشافعية: أنه يجوز أن تخرجها من أول الشهر، وعند الحنفية: أنه لا يتقيد، أخرجتها قبل بشهر، أو شهرين، أو ثلاثة أشهر، أو سنة، أو سنتين كل هذا جائز، والإمام مالك كالحنابلة، إلا أن المالكية يتوسعون شيئاً يسيراً، وهذه قاعدة عندهم يعفون كثيراً في اليسيرات، فعندهم: يجوز أن تتقدم بيومين وثلاثة أيام.
والأحوط: ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله، وهو ما دل له حديث عمر أنه كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة، والشافعية يقولون: من أول الشهر؛ لأن السبب وجد وهو الصيام، ويستدلون على ذلك: بحديث أبي هريرة في البخاري ، قال: ( وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ) وذكر قصته مع الشيطان... إلخ.
وعلى كل حال فالأحوط في هذه المسألة هو ما ذهب الحنابلة والمالكية رحمهم الله، والأحوط أن يتقدم بيومين فهذا أحوط وأبرأ للذمة، ولو تقدم بثلاثة أيام فهذا يعفى عنه إن شاء الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر