فصل في الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة:
ويعذر بترك جمعة وجماعة مريض، ومدافع أحد الأخبثين، ومن بحضرة طعام محتاج إليه، وخائف من ضياع ماله، أو فواته أو ضرر فيه، أو موت قريبه، أو على نفسه من ضرر، أو سلطان، أو ملازمة غريم ولا شيء معه، أو من فوات رفقته، أو غلبة نعاس، أو أذى بمطر ووحل وريح باردة شديدة في ليلة مظلمة.
باب صلاة أهل الأعذار:
تلزم المريض الصلاة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن عجز فعلى جنبه، فإن صلى مستلقياً ورجلاه إلى القبلة صح، ويومئ راكعاً وساجداً، ويخفضه عن الركوع، فإن عجز أومأ بعينه، فإن قدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر, فإن قدر على قيام وقعود دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً، وبسجود قاعداً.
ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم, ولا تصح صلاته قاعداً في السفينة وهو قادر على القيام، ويصح الفرض على الراحلة؛ خشية التأذي بوحل لا لمرض.
فصل في قصر المسافر الصلاة: من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته ].
تقدم لنا ما يتعلق بالاقتداء بالإمام، وذكرنا أن المأموم لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون داخل المسجد، وذكرنا كيفية الاقتداء في هذه الحال.
والحالة الثانية: أن يكون خارج المسجد، وذكرنا خلاف أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة.
ثم بعد ذلك تكلم المؤلف رحمه الله عن حكم تطوع الإمام في موضع المكتوبة، وكذلك تطوع المأمومين موضع المكتوبة، وأيضاً ما يتعلق بصلاته داخل الطاق - المحراب-، وكذلك أيضاً ما يتعلق بعلو الإمام عن المأمومين، وأن المؤلف رحمه الله تعالى يرى الكراهة إلا في حالات:
الحالة الأولى: أن يكون العلو أقل من ذراع.
الحالة الثانية: أن يكون مع الإمام من يساويه من المأمومين.
الحالة الثالثة: أن يكون ذلك بغرض التعليم، هذه الحالات تزول فيها الكراهة.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة).
يقول المؤلف رحمه الله: يكره للإمام أن يطيل قعوده بعد نهاية الصلاة وهو مستقبل القبلة.
إذا انتهى الإمام من الصلاة فإن له حالتين:
الحالة الأولى: ألا يكون هناك نساء يصلين معه، فالسنة أن يمكث الإمام مستقبل القبلة بقدر أن يستغفر الله ثلاثاً، ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام, تباركت يا ذا الجلال والإكرام! ثم بعد ذلك ينصرف إلى المأمومين.
ودليل ذلك: ما جاء في حديث ثوبان وعائشة في صحيح مسلم .
الحالة الثانية: أن يكوم معه نساء، فإذا كان الإمام معه نساء يصلين فإنه يزيد على هذا الذكر بقدر ما يطمع أن النساء قد تفرقن؛ لكيلا يحصل الاختلاط بين الرجال وبين النساء، فإذا كان معه نساء قال: أستغفر الله ثلاثاً، ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام! ويمكث قليلاً؛ حتى تتفرق النساء؛ لئلا يحصل الاختلاط بين الرجال وبين النساء. وإنما يمكث قليلاً كما ذكرنا لكي تنصرف النساء؛ لأن المأموم منهي أن ينصرف قبل الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تسبقوني بالانصراف )، فما دام أنه مستقبل القبلة فإن المأموم يظل في مكانه حتى ينحرف الإمام، ولا يسابقه في الانصراف.
قال المؤلف: (فإن كان ثم نساء لبث قليلاً لينصرفن). وذكرنا ذلك.
يعني: يكره وقوف المأمومين بين السواري، -والسواري هي الأعمدة- إذا قطعن الصفوف، ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أن السواري إذا لم يقطعن الصفوف فإنه لا بأس، فهذه حالة.
الحالة الثانية: إذا كان هناك حاجة فلا بأس.
إذاً: وقوف المأمومين بين السواري مكروه، ويدل لذلك ما جاء في سنن أبي داود والترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث أنس قال: ( كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
ولكن تزول الكراهة في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان هناك حاجة، كما لو كان المسجد ضيقاً ولا يتسع للمصلين فإنه لا بأس أن يصلوا بين السواري.
الحالة الثانية: إذا لم تقطع السواري الصفوف.
وما هو ضابط قطع السواري للصفوف؟
للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:
الرأي الأول: أن هذا راجع للعرف، فما عده العرف أنه قاطع فإنه يكره الوقوف بين هذه السواري، وما لم يعده العرف أنه قاطع فلا يكره.
والرأي الثاني: أن ذلك يقدر بثلاثة أذرع، يعني: إذا كان عرض السارية ثلاثة أذرع فإن هذه السارية تقطع الصف، وإذا كان عرضها أقل من ثلاثة أذرع فإن ذلك لا يقطع الصف.
تقدم أن مذهب أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى: أن صلاة الجماعة واجبة، وأما صلاة الجمعة فهي واجبة بالإجماع كما سيأتينا إن شاء الله.
وهذا الوجوب متى يسقط؟
المؤلف رحمه الله تعالى عدد كثيراً من الأمثلة التي تسقط بها حضور صلاة الجماعة، ويرخص للإنسان أن يصلي في بيته، وهذه الأمثلة كلها ترجع إلى إحدى القواعد الخمس الكلية، وهي قاعدة: المشقة تجلب التيسير، فهذه القاعدة الكلية الكبيرة دل عليها القرآن والسنة وإجماع العلماء.
أما القرآن قول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
ومن السنة: ما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ).
وأما الإجماع: فالعلماء رحمهم الله تعالى مجمعون على هذه القاعدة.
وعلى هذا نقول: إذا لحق المسلم حرج ومشقة في مجيئه للجماعة أو للجمعة فإنه يرخص له أن يصلي في بيته، ولكن لا بد أن نفهم أن هناك فرقاً بين جماعة الفرائض وبين الجمعة؛ لأن الجمعة آكد، فالمسلم يحتاط للجمعة ما لا يحتاط لغيرها، ولهذا العلماء رحمهم الله تعالى يجمعون على وجوب جماعة الجمعة.
والخلاصة: متى لحق حرج ومشقة ظاهرة بالإنسان إذا جاء إلى الجماعة، فنقول: يرخص لك أن تصلي في بيتك.
هذا المثال الأول, فالمريض يرخص له.
والمرض في اللغة: السقم واعتلال الصحة، وأما في الاصطلاح: هو أن يلحق بالمريض حرج ومشقة إذا جاء إلى الجماعة، ويدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن صلاة الجماعة، وقال: ( مروا
ومثله أيضاً إذا كان يخاف حدوث المرض، أو كان يخاف زيادة المرض، أو العدوى ونحو ذلك, هذه كلها مما يرخص له.
إذا كان يدافع أحد الأخبثين نقول: أنت معذور، والمدافعة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون مدافعة سهلة، فهنا يحضر للجماعة.
القسم الثاني: أن تكون مدافعة كبيرة أو شديدة، فنقول: يتخفف، ويدل لذلك: ما ثبت من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان ).
يعني: إذا كان بحضرة طعام وهو يحتاج إلى هذا الطعام، كما تقدم في الحديث السابق: ( لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان ).
وقال المؤلف رحمه الله: (محتاج إليه) يعني: لا بد أن يكون محتاجاً إليه، أما إذا كان غير محتاج إليه فإنه يجب عليه أنه يحضر الجماعة، فلو أنه حضره الطعام وهو محتاج إليه؛ لكونه جائعاً فنقول: يأكل حتى لو فاتته الجماعة، ثم بعد ذلك يصلي، أما إذا كان غير محتاج ومثله -أيضاً- إذا كان غير قادر عليه؛ إما شرعاً، وإما حساً فإنه يجب عليه أن يصلي مع الناس، إذا كان غير قادر عليه شرعاً؛ لكونه صائماً -ولو كان محتاجاً إليه- أو كان غير قادر عليه حساً؛ لكونه يحتاج إلى طبخ، أو لكونه حاراً أو نحو ذلك فإنه لا تسقط عنه الجماعة.
يعني: يخشى أن يسرق ماله، أو أن يؤخذ، فلو أنه ترك هذا المال تسلط عليه لص ونحو ذلك، فنقول: يعذر؛ لما في ذلك من المشقة.
قوله رحمه الله: (أو فواته).
مثال ذلك: شردت له ناقة, فقيل: هذه الناقة في المكان الفلاني، أو مثلاً سرقت له سيارة فقيل له: هذه السيارة في المكان الفلاني، ولو ذهب يصلي مع جماعة الناس ربما أن هذه الناقة أيضاً شردت، وربما أن السارق أتى وأخذ السيارة مرة أخرى، فإذا كان يخشى فوات ماله فإنه يسقط عنه حضور الجماعة، ويذهب إلى ماله.
قوله رحمه الله: (أو ضرراً فيه).
يعني: يخشى ضرراً على ماله, فنقول: تسقط عنه الجماعة.
مثال ذلك: فتح النار على الطعام، ولو أنه ذهب لكي يصلي فسد طعامه، أو مثلاً العامل عمل الخلطة من الأسمنت أو من الجبس، ولو أنه ذهب ليصلي فسد هذا العمل، فنقول: هنا تسقط عنه صلاة الجماعة، ولكن يتحرز، وهذا إذا طرأت عليه مثل هذه الأشياء، ولكن بالنسبة لهؤلاء الذين لديهم مثل هذه الأعمال يتحرون وقت الصلاة بحيث يكون نضوج الطعام بالنسبة للطباخ أو الفراغ من العمل مع حضور الصلاة.
يعني: عنده مريض يخشى أن يموت إذا ذهب إلى صلاة الجماعة، وهو يريد أن يحضره عند موته؛ لكي يلقنه الشهادة أو نحو ذلك، فنقول بأن الجماعة حينئذ تسقط.
قال: (أو على نفسه من ضرر).
إذا كان يخشى على نفسه من ضرر، كأن يخشى من سبع، أو عدو ونحو ذلك فإن الجماعة تسقط.
قال: (أو سلطان).
أن يخشى من سلطان أن يأخذه ظلماً، أو يحبسه ظلماً ونحو ذلك، فإنه تسقط عنه صلاة الجماعة.
قال: (أو ملازمة غريم ولا شيء معه).
ملازمة المعسر محرمة، والله عز وجل يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]. فإذا كان معسراً فإنه يجب أن ينظر، ولا يجب طلبه ولا مطالبته كما سيأتينا في باب الحجر، وعلى هذا إذا كان الغريم يطلبه ويلازمه فهذا فيه مشقة, وحرج عليه، فتسقط عنه الجماعة، أما لو كان معه شيء فإنه لا تسقط عنه الجماعة، بل يجب عليه أن يصلي مع الناس، وأن يوفي الناس حقوقهم.
قال رحمه الله: (أو من فوات رفقته).
يعني: ومثله الآن فوات رحلة الطائرة، أو رحلة القطار، فتسقط؛ لأنه لو ذهب لكي يصلي مع الجماعة فاتت رحلة الطائرة, أو القطار أو السيارة ونحو ذلك, أو رفقته فاتوا وتركوه فإنه في هذه الحالة تسقط عنه الجماعة؛ للحرج.
قال رحمه الله: (أو غلبة نعاس).
إذا كان يخشى من النعاس، يعني: لو أنه انتظر لكي يصلي مع الإمام جماعة غلبه النعاس ونام عن الصلاة فنقول إذا أدرك الصلاة في أول الوقت: صل الآن، ولنفرض أنه دخل وقد بقي على صلاة العشاء ما يقرب من نصف ساعة، وهو يخشى أنه بعد خمس دقائق -مثلاً- أنه سيأتيه النوم لكونه مرهقاً، وإذا نام لن يدرك الصلاة في وقتها، فيقول لك المؤلف: يسقط عنه حضور الجماعة.
إذا كان هناك مطر، وضابط التأذي بالمطر كما ذكر ابن قدامة رحمه الله: بحيث يبل الثياب، فإذا كان يبل الثياب فإنه مما يرخص له في ترك الجماعة، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر : ( أن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينادي في الليلة الباردة أو المطيرة: صلوا في رحالكم )، فإذا كان فيه مشقة فإنه يستحب في حال المطر أن يقال: صلوا في رحالكم.
وقوله: صلوا في رحالكم، متى تقال؟ فيه وجهان:
الوجه الأول: أنها تقال بدلاً من حي على الصلاة، يعني: بدلاً من أن يقول المؤذن: حي على الصلاة، يقول: صلوا في رحالكم، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين.
الوجه الثاني: أنه يقول ذلك بعد نهاية الأذان، يعني: بعد نهاية الأذان يقول: صلوا في رحالكم، كما جاء ذلك في حديث ابن عمر في صحيح البخاري .
وكلاهما صحيح، يعني: لو أن المؤذن في الليلة التي يشق على الناس الخروج فيها إلى الجماعة قال: صلوا في رحالكم إما في نهاية الأذان، أو بدل قول: حي على الصلاة فهذا كله جائز.
قوله رحمه الله: (أو وحل).
الوحل هو: الطين الرقيق الذي يحصل معه شيء من الزلق، فإذا كانت الأرض فيها هذا الوحل ويشق على الناس الخروج إلى الجماعة فيرخص لهم عدم الخروج.
وقوله رحمه الله: (وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة).
وهذا كما سلف قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : ( كان منادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي في الليلة الباردة والمطيرة: صلوا في رحالكم ). والحديث ليس فيه التقييد بمظلمة.
وهذه الأعذار كلها على سبيل المثال، وكلها ترجع إلى القاعدة الكبيرة المشقة تجلب التيسير، وقد يكون هناك أمثلة أخرى كثيرة غير ما ذكر المؤلف رحمه الله، المهم أنه متى حصل حرج ومشقة في حضور الجماعة فإنه يرخص عن حضور الجماعة، وضابط ذلك كما أسلفنا: أن يرغب أنه ما حضر, أو يرغب بأن يرجع، ونحو ذلك، وأيضاً نبهنا إلى أن الجمعة آكد من جماعة الفرائض.
الأعذار: جمع عذر، وهو في اللغة: ما يرفع اللوم عما حقه أن يلام عليه، وأما في الاصطلاح فالمراد بأهل الأعذار هنا هم: المريض والمسافر والخائف.
فالمؤلف رحمه الله في هذا الباب سيبين لنا كيفية صلاة المريض، وكيفية أحكام صلاة المسافر، وكيفية صلاة الخائف.
بدأ المؤلف رحمه الله بالمريض، فقال: (يصلي المريض الصلاة قائماً).
والمرض سبق أن عرفناه، وضابط المرض الذي تكلم عليه المؤلف رحمه الله هو: ما يلحق صاحبه الحرج والمشقة بحيث إنه لو صلى قائماً يتمنى أن يجلس، فنقول: اجلس.
الحالة الأولى: أن يصلي قائماً، وهذا هو الأفضل، ويدل لذلك: حديث عمران بن حصين في صحيح البخاري لما شكى للنبي صلى الله عليه وسلم أن به بواسير، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( صل قائماً )، فهذا هو الأصل، أن يصلي قائماً ولو كراكع، ولو كان معتمداً على عصا، أو كان مستنداً على شيء؛ لأن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
هذه الحالة الثانية، إذا كان لا يستطيع القيام ولو كان معتمداً على عصا، أو مستنداً على جدار ونحو ذلك فإنه ينتقل إلى المرتبة الثانية، وهي مرتبة الجلوس، وسبق أن بينا مرتبة الجلوس - القعود- في صلاة التطوع، وذكرنا أن القعود له حالتان:
الحالة الأولى: أن يقعد متربعاً في حال القيام.
وأما ما عدا ذلك فإنه يفترش في مواضع الافتراش، ويتورك في مواضع التورك، وهذه الحالة هي الأفضل كما يراها الفقهاء رحمهم الله، يعني: في حال القيام يقعد متربعاً، أي: يفضي بمقعدته على الأرض، ويرد ساقه الأيمن إلى فخده الأيمن، وساقه الأيسر إلى فخده الأيسر، ويقعد متربعاً, ويضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره، كحال القيام تماماً، وفي حال الافتراش، وفي الجلسة بين السجدتين يفترش، وفي التشهد الأخير يتورك.
الحالة الثانية: كيفما جلس أجزأ.
والحالة الأولى هي الأفضل، والحالة الثانية المجزئة كيفما جلس، جلس متوركاً أو مفترشاً, المهم أن يصلي قاعداً.
إذا عجز عن الصلاة قائماً وقاعداً فإنه يصلي على جنبه.
وهل الأفضل أن يكون على جنبه الأيمن أو الأيسر أو أنه يفعل الأرفق به؟
نقول: الصواب أنه يفعل الأرفق به، فإن كان الأرفق به أن يكون على جنبه الأيسر كان على جنبه الأيسر، وإن كان الأرفق به أن يكون على جنبه الأيمن فإنه يكون على جنبه الأيمن، وإن تساوى الأمران فإنه يكون على جنبه الأيمن ووجه تجاه القبلة، ويومئ بالركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، ويكون الإيماء إلى جهة صدره, ولا يكون إلى الأرض؛ فوجهه سيكون مستقبل القبلة، والإيماء يكون إلى جهة صدره.
يعني: صلى على ظهره ورجلاه باتجاه القبلة، يقول المؤلف رحمه الله: يصح ذلك.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هذه ليست مرتبة مستقلة، بمعنى: أنه يجوز له إذا كان قادراً على جنبه أن يصلي على ظهره، وتكون رجلاه إلى جهة القبلة.
وقال بعض العلماء: لا يفعل هذه المرتبة إلا إذا لم يستطع أن يصلي على جنبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمران قال: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ).
وعلى هذا تأتي مرتبة الاستلقاء على ظهره، ورجلاه إلى جهة القبلة، فتكون هذه هي الحالة الرابعة، لكن على ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هذا يكون مع الحالة الثالثة.
قال رحمه الله: (ويومئ راكعاً وساجداً، ويخفضه عن الركوع). كما سلف.
هذه الحالة الخامسة، إذا عجز فإنه يومئ بعينه، بمعنى: أنه يفتح عينيه فإذا أراد الركوع أغمض عينيه شيئاً يسيراً، وإذا أراد السجود أغمض عينيه أكثر من ذلك، ولا يغمض عينيه كلهما؛ لأنه كما تقدم لنا أن إغماض العينين في الصلاة مكروه، لكن يغمض عينيه شيئاً، ثم يغمض عينيه أكثر من ذلك.
ويستدلون على هذا بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( فإن لم يستطع أومأ بطرفه )، وهذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا قول أكثر أهل العلم -الإماء بالعين- من الحنابلة والشافعية والمالكية، والحديث ضعيف غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا الحنفية رحمهم الله لا ينصون على هذه المرتبة، وكذلك أيضاً شيخ الإسلام يقول: إن هذه المرتبة غير مشروعة؛ لأنه ليس عليها دليل، والدليل الوارد في هذا ضعيف، وعلى هذا نقول: بأن هذه الحالة - الحالة الخامسة- حالة ضعيفة, لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك الحالة عند العامة: وهي الإيماء بالأصبع، وهذه لا أصل لها في كلام العلماء، مع أنها منتشرة عند العامة، فهذه المرتبة لا أصل لها، يعني: كون المريض إذا أراد أن يصلى أومأ بأصبعه هذه لا أصل لها.
والصواب في هذه المسألة: أن الصلاة لا تسقط, مادام أن العقل باق، فنقول: إن الصلاة باقية، وعلى هذا يصلي بقلبه إذا كان لا يستطيع أن يومئ، ويستحضر الأقوال والأفعال؛ يستحضر التكبير والقراءة والركوع، و لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
يعني: إذا كان يصلي جالساً ثم بعد ذلك وجد نشاطاً فإنه ينتقل إلى القيام، ولو أنه يصلي قائماً ثم وجد ضعفاً وعجزاً فإنه ينتقل إلى القعود، وهكذا في بقية المراتب إذا وجد ضعفاً انتقل إلى ما دونه، وإن وجد القوة والنشاط انتقل إلى ما فوقه، ويدل لهذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن صلاة الجماعة، فلما وجد نشاطاً ذات يوم خرج وأكمل بالناس صلاة الجماعة، وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه قد أحرم بها.
يعني: إذا كان يقدر على القيام والقعود فقط، وما يستطيع أن يركع، أو أن يسجد، فنقول: قم وأومئ بالركوع وأنت قائم، ثم اجلس وأومئ بالسجود وأنت جالس.
(لمداواة) يعني: لأجل المداواة، ولو قال طبيب العين، لا تسجد؛ لأن السجود يضر بالعين، أو قال طبيب في تخصص كذا وكذا: لا تقم، صل جالساً، فنرجع إلى قوله إذا كان مختصاً.
إذاً: الشرط الأول هو القوة, وقوة كل شيء بحسبه، فالقوة في الطب العلم بالطب، أن يكون ذا علم وخبرة بمهنته، واكتسبها إما بالعلم النظري أو بالعلم التجريبي، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فركن العمل القوة والأمانة، فإذا كان ذا علم بمهنته، وقال هذا الطبيب في مجال العين أو في مجال الأنف أو نحو ذلك: لا تسجد، أو قال طبيب الكلى: لا تصم بل اشرب الماء أخذنا بقوله.
الشرط الثاني: أن يكون مسلماً، وعلى هذا لا نرجع إلى قول الكافر، فلو قال الطبيب الكافر: بأن السجود يضر العين فلا يرجع إلى قوله.
ودليلهم على ذلك: أن الكافر غير مؤتمن.
والرأي الثاني: أنه يرجع إلى قول الكافر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]. والقوة والأمانة كما تكونان في المسلم تكونان في الكافر.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر عبد الله بن أريقط في الدلالة من مكة إلى المدينة، وكان هادياً خريتاً, يعني: ماهراً في الدلالة.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه لا يشترط التعدد، فيكفي قول طبيب واحد.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله - وهو الصواب- أنه لا تشترط الحرية، يعني: سواء كان الطبيب حراً أو رقيقاً صح ذلك.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أيضاً أنه لا تشترط الذكورة، فلو كان هذا الخبر من امرأة فإنه يؤخذ بقول المرأة في هذه الحال؛ لأنه من قبيل الخبر الديني.
إذا كان في السفينة أو نحو ذلك من المراكب التي توجد الآن هل يصلي عليها الفرض، أو لا يصلي عليها الفرض؟
أما النفل فيصح التطوع جالساً على النافلة، وبالنسبة للفريضة على هذه المراكب كالسفينة والطائرات والسيارات ونحو ذلك، نقول: هذه المراكب لا تخلو من حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان يتمكن من أداء الشروط والأركان كاملة فإن له أن يصلي مطلقاً حتى ولو كان سينزل في الوقت.
الحالة الثانية: ألا يتمكن من أداء جميع الأركان وجميع الشروط، قد لا يتمكن من السجود لوجود الزحام في الطائرة، أو لا يتمكن من الركوع، وقد لا يتمكن من القيام إلى آخره، فهذا إن كان سينزل في الوقت فإنه ينتظر حتى ينزل، وإن كان لن ينزل في الوقت نقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. يجب عليه أن يأتي بما يستطيعه من الشروط والأركان، وما لا يستطيعه فإنه يسقط عنه، فإذا كان في استطاعته القيام قام، أو الركوع يركع, أو السجود، ولا يستطيع أن يجلس فإنه يومئ، وهكذا الاستقبال إن كان لا يتمكن منه يسقط عنه.
وبعض أهل العلم يقول: إذا دخل عليه الوقت فعليه أن يصلي؛ لأنه مخاطب بالصلاة، وهو لا يستطيع أن ينزل الآن، ولو كان سينزل في آخر الوقت، وهذا القول له وجهة.
فالخلاصة في ذلك فيما يتعلق بأداء الفريضة: إن كان يستطيع أن يأتي بالشروط والأركان كاملة فالأمر في ذلك واضح ولو كان سينزل في الوقت.
وإذا كان لا يتمكن من بعض الشروط أو الأركان فإن كان سينزل في الوقت فعليه أن ينتظر، وإن كان لن ينزل في الوقت فيعمل ما يقدر عليه، وبعض أهل العلم يرى: أنه لا بأس أن تصلي ولو كنت ستنزل في الوقت؛ لأنك الآن مخاطب, والإنسان محتاج إلى أن يبرئ ذمته.
يعني: إذا كان الإنسان على الراحلة أو على السيارة وإذا نزل يصلي فسينزل في وحل وزلق فيقول لك المؤلف رحمه الله: لا بأس أن يصلي على الراحة من أجل الوحل.
قال رحمه الله: (لا لمرض).
يعني: إذا كان مريضاً نقول له: انزل من الراحلة وصل، مع أنه يجوز أن يصلي على الراحلة إذا كان هناك وحل، أو خشي أن ينقطع عن رفقته، أو يخاف على نفسه إذا نزل، أو لا يتمكن من الركوب مرة أخرى إذا نزل، فهذه أربعة أعذار.
يعني: يصلي على الراحلة إذا كان هناك وحل، وإذا كان هناك انقطاع عن الرفقة، وإذا كان يخاف على نفسه لو نزل من سبع أو عدو، وإذا كان لو نزل لا يتمكن من الركوب مرة أخرى فيقولون: في هذه الأحوال له أن يصلي على راحلته.
والصواب أن نقول: القاعدة في ذلك أن الشريعة لا تفرق بين المتفقات، فنقول: إذا تمكن من النزول يجب عليه أن ينزل وأن يصلي إلا إذا كان سيلحقه ضرر فيصلي على سيارته، أو كان يخاف سبعاً أو اللص أو نحو ذلك فنقول: صل في السيارة، ثم واصل سيرك.
فالخلاصة في ذلك: الصلاة في السيارة إذا كانت واقفة فالأصل أنه يجب أن ينزل، ويؤدي الفريضة تامة بشروطها وأركانها, إلا إذا كان سيلحقه ضرر.
لما تكلم المؤلف رحمه الله على العذر الأول وهو المرض شرع في العذر الثاني وهو السفر، فهو الآن يريد أن يبين أحكام صلاة المسافرين من قصر وجمع وشرط ذلك ونحوه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر رباعية ركعتين).
السفر: مفارقة محل الإقامة، والمسافر تتعلق بصلاته أحكام.
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بالحكم الأول، وهو قصر الصلاة، وإنما بدأ بالقصر لأن القصر آكد من الجمع، إذ إن من العلماء -كما سيأتينا رأي أبي حنيفة رحمه الله- من يرى أن القصر واجب، بخلاف الجمع، فإن العلماء كلهم يقولون: هو مباح.
والسفر الذي تقصر فيه الصلاة لا بد له من شروط:
وعلى هذا إذا كان السفر محرماً فإنه ليس له أن يترخص، وكذلك إذا كان مكروهاً، فلو سافر ليشرب خمراً أو دخاناً فليس له أن يترخص، وكذلك إذا سافر لكي يأكل ثوماً -مثلاً- أو نحو ذلك فليس له أن يترخص، إذ لا بد في السفر أن يكون مباحاً.
وهذا قول جمهور العلماء؛ أنه لا يترخص في سفر معصية.
والرأي الثاني رأي أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يترخص في أي سفر؛ لأن الشارع شرع الرخصة في جنس السفر، ولم ينظر إلى أنواع السفر وأفراد السفر، وإنما شرعها في جنس السفر، ويدل لذلك العمومات، وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101].
وأما الجمهور فإنهم يستدلون بقول الله عز وجل: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173]. قالوا: الباغي هو الذي يبغي على الإمام، والعادي: هو الذي يقطع الطريق، وهذا ليس له أن يأكل من الميتة وهو في سفر، فلم يرخص له حتى ولو اضطر.
والصواب أن تفسير الآية كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الباغي هو الذي يبغي الحرام مع قدرته على الحلال، يبغي الحرام في الأكل من الميتة مع قدرته على الطعام المباح, والعادي: الذي يأكل فوق حاجته، فالآية ليست في السفر.
فالأقرب أن الشرع علق الرخصة بجنس السفر، لا بأفراده، لكن بعد ذلك نقول له: تب إلى الله عز وجل وترخص.
وعلى كل حال هي ثمانية وأربعون ميلاً على كلام المؤلف رحمه الله، فإذا أراد السفر لأربعة برد وهو ما يساوي ثمانية وأربعين ميلاً فإنه يترخص من حين خروجه من البلد، أما إذا كان يريد أقل من هذه المسافة فإنه ليس له الحق في أن يترخص.
وهذا التحديد بأربعة برد هو ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا أهل مكة! لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد )، وهذا الحديث ضعيف, رواه الدارقطني , وهو ثابت عن عمر وابن عباس أنهما كانا يقصران الصلاة في أربعة برد.
لكن آثار الصحابة متعارضة جداً، فكما ورد عن ابن عباس وابن عمر في القصر في أربعة برد ورد عنهم أيضاً أقل من ذلك، وورد عنهم أكثر من ذلك.
الرأي الثاني رأي داود الظاهري واختاره شيخ الإسلام : أنه لا يحد بمسافة، وإنما المرجع في ذلك إلى العرف, فما تعارف الناس عليه أنه سفر فهو سفر، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن المسافة القصيرة في المدة الطويلة سفر.
وعلى هذا فالمسألة تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن تكون المسافة طويلة والمدة طويلة فنقول بأنه سفر, مثال ذلك: ذهب إلى مكة لمدة يومين هذا لا إشكال أنه سفر، حتى العرف يقول بأنه سفر.
القسم الثاني: أن تكون المسافة قصيرة والمدة قصيرة، كما لو ذهب إلى عنيزة ورجع في نفس اليوم, فنقول: هذا ليس سفراً.
القسم الثالث: أن تكون المسافة طويلة والمدة قصيرة، كما لو سافر إلى الرياض ورجع في نفس اليوم، فهذا سفر، وعرف الناس أنه سفر.
القسم الرابع والأخير: عكس هذه المسألة، وهي أن تكون المدة طويلة والمسافة قصيرة، كما لو سافر إلى عنيزة والبخيرية لمدة ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فعلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يأخذ حكم السفر، ويستدل على هذا بفعل أهل مكة، فأهل مكة خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات وقصروا الصلاة وجمعوا، وخرجوا إلى منى مع النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن منى قريبة منهم بكيلوات، وقصروا وجمعوا.
الشرط الرابع: أن يفارق عامر قريته، أي: العمران، يعني: لا يبدأ بالترخص حتى يفارق العمران، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى.
وذهب بعض العلماء كـالأسود بن يزيد وعطاء وسليمان بن موسى وغيرهم إلى أنه يترخص ولو كان في بلده، واستدلوا على ذلك بما ورد عن أنس وأبي بصرة الغفاري رضي الله تعالى عنهما.
والصواب في ذلك: ما عليه جمهور أهل العلم؛ لأن الله عز وجل قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]. والذي لا يزال داخل البلد فليس على سفر، وإنما هو على نية السفر، فليس له أن يترخص.
وأيضاً قال الله عز وجل: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، ومن هو داخل البلد لا يقال بأنه ضرب في الأرض حتى الآن، وأما الآثار الواردة في ذلك فهي محمولة على الخروج، وليست صريحة في الترخص قبل الخروج.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر