قال المؤلف رحمه الله: [وأركانه ستة].
تقدم لنا أن قوله فيما سبق: [الإيمان هو بضع وسبعون شعبة] هذا بالنسبة للإيمان العام، وقوله: [وأركانه] هذا بالنسبة للإيمان الخاص الذي هو العقيدة، فإن أركان الإيمان ستة أشياء.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى: [أركانه]: جمع ركن، والركن: هو جانب الشيء الأقوى، وهو جزء الشيء وماهيته.
قال: [ستة] ودليل هذا -ما ذكره المؤلف رحمه الله من الأدلة- من القرآن: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... [البقرة:177] ، وأيضاً قول الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].
الأمر الأول: الإيمان بوجوده.
والثاني: بألوهيته.
والثالث: بربوبيته.
والرابع: بأسمائه وصفاته.
والإيمان بوجود الله عز وجل دل على ذلك الفطرة، والعقل، والشرع، والحس.
أما الفطرة فكل مخلوق قد فطر على الإيمان بوجود الله عز وجل من الإنسان، والطير، والحيوان... إلى آخره، وهذا أمر مستقر في الفطر، ولا ينكر إلا مكابر، كما قال الله عز وجل عن فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].
العقل أيضاً يدل على وجود الله عز وجل، وكل مخلوق لا بد له من خالق، فلو قلت: هذه السيارة لم يوجدها صانع وإنما وجدت بنفسها لما صدقك الناس لا أحد يقرك على ذلك، فإذا كان هذا بالنسبة لهذا المخلوق البسيط، فكيف بالسموات والأرض وما فيها من الأفلاك، وما في الأراضي من الجبال والأنهار؟! إلى آخره، وما يحصل في هذا الكون من التقلبات والتغيرات التي تكون بدقة وانتظام؟! إلى آخره، مما يدل على وجود موجد لهذا الكون العظيم المخلوق الكبير.
وقد ذكروا أن أبا حنيفة رحمه الله جاءه ناس من الملحدين الذين ينكرون وجود الله عز وجل، فسألوه عن الدليل على ذلك، فسكت، وظنوا أنه قد انقطع، فسألوه عن سكوته قالوا: أفكر في سفينة أتت من جانب النهر بنفسها، ثم حملت البضائع من الجانب الآخر، ثم ذهبت بنفسها، فقالوا: هذا لا يمكن، قال: إذا كان هذا لا يمكن بالنسبة لهذه السفينة فكيف بهذا الكون وما فيه من الأفلاك التي تخرج؟! الشمس تشرق في الصباح وتغرب في المساء، والقمر أولاً يكون هلالاً، ثم يكون بعد ذلك قمراً، ثم بدراً، وهكذا يتناقص، والنجوم... إلى آخره.
وأيضاً الله عز وجل ضرب في القرآن عدة أدلة عقلية، لكن نحن نذكر دليلاً عقلياً واحداً.
فمن ذلك: ما ذكره الله عز وجل في آخر سورة يس وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79] هذا دليل، الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79].
الذي خلق هذه العظام أول مرة، هذا قادر على خلقها مرة ثانية، وهذا يدل على وجود الله عز وجل، فالذي خلقها المرة الأولى ثم قدر على إعادتها المرة الثانية هذا يدل على وجوده... إلى آخره.
الدليل الثالث: دلالة الشرع، فالكتب السماوية التي نزلت من عند الله عز وجل ورسل الله عز وجل كلها تنطق بذلك، وما نزلت هذه الكتب ولا أرسلت هذه الرسل إلا لعبادة الله عز وجل، ونفي أن لا يكون هناك رب معبود لا يعبد.
الدليل الرابع: الحس، والحس يشتمل على أمرين:
الأمر الأول: إجابة الداعين، وهذا من ذوات الحس، فعندما الإنسان يكون في كربة ومشقة ويرفع يديه إلى الله عز وجل، ثم بعد ذلك يأتيه الغوث ويستجاب له هذا مما يدل على وجود الله عز وجل.
ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:76]، وقال سبحانه وتعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:9] ... إلى آخره.
والأدلة في هذا كثيرة، ومن ذلك ما ثبت في حديث أنس : (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب، فدخل رجل وهو على المنبر فقال: يا رسول الله! انقطعت السبل، وهلكت الأموال، وجاع العيال، فادع الله أن يغيثنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، فما نزل عليه الصلاة والسلام إلا والمطر يتحادر من لحيته. ولما كانت الجمعة الثانية سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله أن يمسكها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر... إلى آخره، فانفرجت
الثاني: آيات الأنبياء، فالأنبياء جاءت معهم الآيات التي تدل على نبوتهم، وهذه دلالة ظاهرة على وجود الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل أيدهم بهذه الآيات، ونصرهم بها.
فموسى جاء قومه بعدة آيات منها: العصا الذي انقلبت حية تسعى، ومنها: أنه ضرب البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، ومنها: إذ استسقاه قومه فضرب الحجر فانفجرت منه مياه... إلى آخره.
وعيسى عليه الصلاة والسلام يبرئ الأكمه، ويحيي الموتى... إلى آخره.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له آيات كثيرة، من ذلك: تكثير الطعام، وتسبيح الحصى بين يديه، ونبع الماء من بين أصابعه، وانشقاق القمر، كون تلك الآيات في هذا كثيرة جداً، هذا ما يتعلق بالإيمان بوجود الله عز وجل.
الثاني: الإيمان بربوبيته، وذلك بأن تؤمن بأن الله عز وجل هو الخالق خلقاً مطلقاً، والمالك ملكاً مطلقاً، والمدبر تدبيراً مطلقاً، المالك الخالق المدبر، المخلوق يخلق لكن خلقه مقيد ومحصور، مقيد بالشرع، ليس له أن يخلق شيئاً لم يأذن به الشرع، ومحصور، قد يخلق هذا الكتاب لكن لا يخلق هذا القلم.
كذلك المخلوق قد يملك، لكن ملكه أيضاً مقيد ومحصور، مقيد بالشرع، ومحصور، قد يملك هذا الشيء ولا يملك غيره.
كما أنه أيضاً مقيد في التدبير، المخلوق يدبر، لكن التدبير هذا مقيد ومحصور، مقيد بالشرع بما أذن الشرع به، وأيضاً محصور، قد يدبر هذا الشيء لكن لا يدبر غيره، فالخلق المطلق والملك المطلق والتدبير المطلق إنما هو لله عز وجل.
الثالث: الإيمان بألوهيته سبحانه وتعالى، والإيمان بألوهيته يعني: إفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، وأن لا يصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] .
وقال سبحانه وتعالى: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39] .
وأيضاً قول الله عز وجل: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] ... إلى آخره.
الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته، بأن تثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات بلا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فكل ما أثبته الله عز وجل لنفسه من الأسماء، ما أثبته لنفسه من الصفات، سواء كانت هذه الصفات صفات خبرية، أو كانت صفات فعلية، أو كانت صفات معنوية، هذه كلها يجب إثباتها لله عز وجل.
هذا الركن الثاني من أركان الإيمان، أن تؤمن بملائكة الله عز وجل، والملائكة خلق غيبي خلقوا من نور، وهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يبولون، ولا يتغوطون... إلى آخره، وإنما خلقهم الله عز وجل لحكمة عظيمة، وليس لهم شيء من خصائص الألوهية، ولا من خصائص الربوبية، وإنما خلق الله عز وجل الملائكة لحكمة عظيمة، وهذه الحكمة غاية سامية، وهي عبادته سبحانه وتعالى وتنفيذ أوامره، فالله عز وجل منحهم الانقياد التام لأمره، والقوة على تنفيذه.
وعددهم كثير لا يحصى، ولهذا ثبت أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون، يعني: لا يتمكنون من الرجوع مرة ثانية من كثرة الملائكة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يصلون فيه ثم يخرجون ولا يعودون مرةً أخرى.
والإيمان بالملائكة يتضمن عدة أمور:
الأمر الأول: الإيمان بوجودهم.
والأمر الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه منهم، فنعلم أن هناك ملكاً اسمه جبريل ونؤمن بذلك، وملكاً اسمه ميكائيل وإسرافيل ... إلى آخره وأما من لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به على سبيل الإجمال.
مثلاً: هناك ملائكة كما قال الله عز وجل: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، هؤلاء الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات ما أسماؤهم؟ ما ندري، نؤمن بذلك إجمالاً، الملائكة الذين يحفظون الأعمال ما ندري ما أسماؤهم، نؤمن بهم إجمالاً، الملائكة الذين يسألون الميت في قبره ما ندري ما أسماؤهم، نؤمن بذلك إجمالاً.
الأمر الثالث: الإيمان بما علمنا صفته منهم، ومن ذلك جبريل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: (أنه رأى جبريل على صفته التي خلقه الله عليها، وأن له ستمائة جناح قد سد الأفق)، وأن جبريل عليه السلام تحول لهيئة رجل، كما أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم... إلى آخره، فقد يتحول إلى هيئة رجل.
الأمر الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم، فجبريل عليه الصلاة والسلام هذا عمله الوحي، يرسله الله عز وجل بما يوحيه إلى أنبيائه ورسله.
ميكائيل هذا موكل بالمطر والنبات.
إسرافيل موكل بالنفخ في الصور.
ملك الموت موكل بقبض الأرواح.
خازن الجنة موكل بخزانتها.. إلى آخره. المهم هنا إذا علمنا شيئاً من أعمالهم فإنه يجب علينا أن نؤمن بذلك.
هذا الركن الثالث من أركان الإيمان، الإيمان بكتب الله عز وجل.
والكتب: جمع كتاب، بمعنى: مكتوب، والمراد بها: كتب الله التي أنزلها على رسله.
والإيمان بالكتب يتضمن عدة أمور:
الأمر الأول: الإيمان بوجودها، وأنها منزلة من عند الله عز وجل حقاً.
الأمر الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه من هذه الكتب، فهناك كتاب اسمه القرآن، والتوراة، والزبور، والإنجيل... إلى آخره، نؤمن بهذه الكتب.
وأيضاً الإيمان بمن أنزلت عليه من الرسل، القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود... إلى آخره.
وأما من لم يعلم اسمه فنؤمن به على سبيل الإجمال، ونؤمن أن كل رسول أنزل معه كتاب، لكن ما علمنا اسمه، علمنا بعض أسماء الكتب فنؤمن بها، والتي ما علمنا اسمها نؤمن به على سبيل الإجمال. الله عز وجل يقول: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد:25] ، فدل ذلك على أن كل رسول أنزل عليه كتاب.
كذلك من الإيمان بالكتب: الأمر الخامس: تصديق الأخبار الموجودة فيها ما لم يدخل التحريف، أما القرآن لم يدخله التحريف، أما التوراة والإنجيل... إلى آخره فهذه دخلها التحريف.
والعمل بما جاء في القرآن، وهذا الأمر السادس، يعني: ما فيه من أحكام، فيعمل بما في القرآن، والقرآن ناسخ لما قبله من الأحكام، ونصدق كل الأخبار الواردة ما لم يدخل في ذلك التحريف، وقد ذكرنا أن التحريف دخل الكتب السابقة ما عدا القرآن.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر