الشرح:
تقدم لنا حديث ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه، وأنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وهذه منقبة لـثابت رضي الله تعالى عنه؛ لقول الله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، ولهذا وصف بهذه المنقبة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال).
تقدم الكلام على هذه المسألة، وذكرنا حكم اليمين بالكفر، كما لو حلف باليهودية أو النصرانية أو بالردة أو غير ذلك.
(ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة)، تكلمنا على هذه المسألة، وذكرنا أن من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، فمن قتل نفسه بسم فهو بسمه يتحساه في نار جهنم، ومن قتل نفسه بحديدة فهو بحديدته يجأ بها نفسه في نار جهنم، وذكرنا أن مذهب أهل السنة والجماعة أن من قتل نفسه فإنه فعل كبيرةً من كبائر الذنوب، وهو تحت المشيئة: إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، لكن مآله إلى الجنة ما دام أنه مات على التوحيد، ويغسل ويكفن ويصلى عليه.
وتقدم أيضاً أن ذكرنا أن من له هيئة دينية أو دنيوية أنهم لا يصلون على هؤلاء الذين لهم جرائم كبيرة، وإحداثات في الدين.
وأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إن ترك الصلاة في الظاهر ودعا في الباطن فهذا حسن؛ لأنه جمع بين المصلحتين: مصلحة الأحياء ومصلحة الأموات، مصلحة الأحياء: الردع والزجر في الصلاة عليهم، ومصلحة الأموات: أن الصلاة على الميت شفاعة، وهو الآن شفع له ودعا له.
قال: (وليس على رجل نذر فيما لا يملك).
النذر في اللغة: الإيجاب. وفي الاصطلاح: إيجاب مكلف على نفسه عبادةً غير واجبة.
وقوله: (فيما لا يملك)، فيما لا يملك كوناً وقدراً، وفيما لا يملك شرعاً وديناً، ليس على رجل نذر فيما لا يملك، فلو قال: لله علي نذر أن أطير، هل يملكه كوناً وقدراً؟ ما يملكه كوناً وقدراً، أو أن أقلب الحجرة ذهباً، نقول: هذا لا يملكه كوناً وقدراً.
وكذلك أيضاً ما لا يملكه شرعاً وديناً، لو قال: لله علي نذر أن أتصدق من مال فلان، نقول بأن هذا لا يملكه شرعاً وديناً.
قال: [ وفي رواية: (ولعن المؤمن كقتله) ].
هذا يعني: الدعاء عليه باللعن، وأنه بمنزلة قتله، نسأل الله السلامة، مما يدل على أن لعن المؤمن محرم ولا يجوز، بل ظاهر الحديث أنه من كبائر الذنوب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس المؤمن باللعان، ولا بالطعان، ولا بالفاحش البذيء)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فيجب على المسلم أن يحفظ لسانه، وأن يتقي الله عز وجل فيما يخرج من فمه، وألا يلعن، وأن يمسك نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغضب).
قال: [وفي رواية: (من ادعى دعوى كاذبةً ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة)].
هذا تقدم الكلام عليه، وأنه يحرم أكل أموال الناس بالدعاوى الباطلة، والحجج الواهية، والأيمان الفاجرة، و(أن من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، والله سبحانه وتعالى يتلف ماله؛ ولهذا فإن الذين يأخذون أموال الناس تتلف عليهم أموالهم، إما أن تتلف تلفاً حسياً ظاهراً مباشراً وتصيبه الآفات والجوارح، أو تتلف تلفاً معنوياً ولا يبارك الله عز وجل فيها، وقد يكون التلف في دينه، وقد يكون التلف في صحته، فأنواع التلف كثيرة، فالذين يتجرءون على أموال الناس ويأكلون أموال الناس ولا يعطونهم حقوقهم، بل يمطلونهم حقوقهم.. إلى آخره، لم يزده الله إلا قلة.. قلة في دينه، قلة في بدنه، قلة في ماله، قلة في صحته، في بركة المال.. إلى آخره، نسأل الله السلامة، وفي هذا تحذير للمسلم من أكل أموال الناس بالباطل.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فهو كما قال)، ظاهر الحديث أنه لو حلف باليهودية أو بالنصرانية، أنه كما قال، لكن هذه المسألة تقدم الكلام عليها، وأن بعض العلماء قال: إن هذا يقصد به الزجر والردع والتغليظ.
والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك، يقول بأن هذا سبب من الأسباب، وأنه إذا حلف باليهودية والنصرانية فهذا سبب من الأسباب التي قد توقعه في اليهودية والنصرانية، فالإنسان عليه أنه يحذر من الحلف بالكفر.
وأما في الاصطلاح: فهو إيجاب مكلف على نفسه عبادةً غير واجبة. والنذر ينقسم من حيث الحكم التكليفي إلى قسمين:
القسم الأول: النذر المطلق، كأن يقول: لله علي أن أصلي ركعتين، لله علي أن أصوم يوماً، أو يوم الإثنين ونحو ذلك، فهذا النذر المطلق.
القسم الثاني: النذر المعلق، وهو أن يعلق نذره على حصول منحة، أو النجاة من محنة، كأن يقول: إن شفى الله مريضي صمت كذا وكذا، أو إن سلم مالي، أو إن نجحت في الامتحان، أو إن أخذت درجة كذا وكذا، فلله علي أن أتصدق بكذا وكذا، فحكم النذر في هذين القسمين، قال بعض العلماء: إنه مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كما سيأتينا، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)، ومال بعض أهل العلم إلى أنه محرم ولا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، والأصل في النهي التحريم، والرأي الثالث التفصيل.
أما النذر المطلق فإنه مستحب؛ لأن الله عز وجل أثنى على الذين يوفون بالنذر: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7].
وأما النذر المعلق فهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: يحملون النهي في الحديث: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) على النذر المعلق، وهذا التفصيل قريب لوجهين:
الوجه الأول: أنك إذا تأملت نذور الناس تجد أنها في النذر المعلق، فكثير من الناس يقع في محنة، أو يرغب في منحة ثم يعلق، إن نجحت فلله علي كذا وكذا، إن شفيت من هذا المرض فلله علي كذا وكذا، أو تقول المرأة: إن سلم ولدي أو إن رجع ولدي فلله.. إلى آخره، هذا هو النذر المعلق، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، هذا وجه.
الوجه الثاني: أن هذا النذر فيه نوع سوء ظن بالله عز وجل، كأن الإنسان يظن بالله عز وجل سوءاً، وأن الله سبحانه وتعالى لا يحقق له مطلوبه، ولا يزيل مكروهه، إلا أن يشرط على الله عز وجل شرطاً، فهذا فيه نوع سوء ظن بجود الله وكرمه ورحمته سبحانه وتعالى، والله سبحانه غني عنه، فلهذا على المسلم أن يحذر النذر بقسميه، أما النذر المعلق فهذا لا إشكال في أنه ينهى عنه وأنه مكروه إن لم نقل بأنه محرم، وهذا هو الذي يقع فيه كثير من الناس.
الشرح:
هذا الحديث تقدم لنا في باب الاعتكاف، وتكلمنا عن مسائله، وأن من أهم مسائله: أن الاعتكاف لا يشترط له الصيام، وأن الاعتكاف يصح بلا صيام؛ لأن عمر نذر أن يعتكف ليلةً، والليل ليس محلاً للصيام.
ومن مسائله: أن النذر يصح من الكافر.
ومن مسائله: قوله: (إني كنت نذرت)، فيه أن الاعتكاف الأصل فيه أنه مستحب، لكن إذا نذره المسلم وجب عليه بالنذر.
وفيه أيضاً: وجوب الوفاء بالنذر إذا كان نذر عبادة من العبادات، والنذر كما سيأتينا ستة أقسام لا يجب الوفاء بأي قسم منها إلا بقسم واحد فقط، وهو ما إذا نذر عبادةً من العبادات، سواء كان نذراً مطلقاً أو نذراً معلقاً، أما بقية الأقسام فإنه لا يجب الوفاء بها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر