الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
[وإن وجد متن يشبهه فهو الشاهد، وتتبع الطرق لذلك هو الاعتبار، ثم المقبول إن سلم من المعارضة وإن عوض بمثله، فإن أمكن الجمع فمختلف الحديث، أو ثبت المتأخر فهو الناسخ، والآخر المنسوخ، وإلا فالترجيح ثم التوقف ].
توقفنا على ما يتعلق بالمتابعات والشواهد، وكذلك ما يسمى بالاعتبار، وذكرنا بأن المتابع هو الحديث الذي يشارك رواته رواة الحديث الفرد لفظاً ومعنى أو معنى مع الاتحاد في الصحابي، وذكرنا أن المتابعة تنقسم إلى قسمين:
متابعة تامة، ومتابعة قاصرة، والمتابعة التامة تكون من أول الإسناد، وأما المتابعة القاصرة فإنها تكون في أثناء الإسناد.
ومثال المتابعة التامة كما تقدم لنا: ما رواه الشافعي عن مالك عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه )، هذا الحديث رواه البخاري ، عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، هنا المتابعة حصلت للشافعي ، فـعبد الله بن مسلمة تابع الشافعي في رواية هذا الحديث، وهذه المتابعة تامة؛ لأن المتابعة جاءت من أول الإسناد.
والمتابعة القاصرة هي التي تكون في أثناء الإسناد، ومثالها: هذا الحديث الذي رواه ابن خزيمة من طريق عاصم بن محمد عن أبيه عن جده عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشهر... ) إلى آخره.
يعني: النظر. عندنا الآن الغرابة هذه: الغرابة النسبية.. الفرد النسبي، أثناء السند، والبحث في الطرق لكي ننظر: هل أحد تابع هذا الراوي على رواية هذا الحديث أو ليس هناك متابع؟ هل هناك شاهد أو ليس هناك شاهد لهذا الحديث؟ هذا يسمى بالاعتبار. فإذا كان عندنا حديث انفرد بروايته راو واحد، فتتبع الطرق هل شاركه في هذه الرواية أحد غيره أو لا؛ يسمى بالاعتبار.
كما تقدم لنا المحكم: هو الذي سلم من معارضة مثله.
مختلف الحديث: هو الذي عورض بمثله وأمكن الجمع، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى: أن مختلف الحديث هو الذي عورض بمثله وأمكن الجمع.
والرأي الثاني: أن مختلف الحديث هو الذي عورض بمثله سواء أمكن الجمع، أو لم يمكن الجمع، فالمحكم: هو المقبول الذي لم يعارض بمثله، وعلى كلام الحافظ رحمه الله تعالى أن مختلف الحديث: هو الذي عورض بمثله وأمكن الجمع.
والرأي الثالث: أن مختلف الحديث هو الذي عورض بمثله سواء أمكن الجمع أو لم يمكن الجمع.
ومن أمثلة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا عدوى ولا طيرة ) النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العدوى، وقال عليه الصلاة والسلام: ( لا يورد ممرض على مصح ) ففي الحديث الأول النبي صلى الله عليه وسلم نفى العدوى، وأثبتها بقوله: ( لا يورد ممرض على مصح ) فكيف الجمع بين هذين الحديثين؟
نقول: الجمع بين الحديثين أن نفي العدوى المقصود بذلك: ما كان يعتقده أهل الجاهلية في أنها تعدي بذاتها، وهذا لا شك أنه باطل، فكل شيء بمشيئة الله وقدره.
وقوله: ( لا يورد ممرض على مصح ) فيه إثبات العدوى، يقول: العدوى ثابتة؛ لكن الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم هي ما يعتقده أهل الجاهلية من وجود العدوى بذاتها ، وإلا لا شك أن إيراد المريض على الصحيح سبب للإصابة بهذا المرض. هذا الطريق الأول وهو: طريق الجمع.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أوجهاً كثيرة للترجيح، فذكروا ما يقرب من مائة وخمسين وجهاً من أوجه الترجيح، وقد ذكرنا في تعريف الحديث الصحيح بأنه: ما رواه عدل تام الضبط بسند متصل وخلا من الشذوذ والعلة، فقد نرجح هذا الحديث لعدم وجود العلة فيه على ذلك الحديث، وقد نرجح هذا الحديث لكون رواته أكثر ضبطاً، أو أكثر عدداً، لكون الراوي أكثر ضبطاً، أو لأن الرواة أكثر عدداً من الحديث الآخر... إلى آخره.
ومن أمثلة الترجيح: يمثل العلماء رحمهم الله بحديث طلق بن علي مع حديث بسرة ، حديث طلق بن علي عدم وجوب الوضوء بمس الذكر، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما هو بضعة منك ) وفي حديث بسرة : ( من مس ذكره فليتوضأ ) بعض العلماء رحمهم الله يرجح حديث بسرة على حديث طلق بن علي ، وبعض العلماء لا يصير إلى الترجيح، وإنما يصير إلى الجمع، فيقول بأن حديث بسرة يدل على الاستحباب، وحديث طلق بن علي يدل على عدم الوجوب؛ لأنه سأل: هل عليه وضوء يا رسول الله؟! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما هو بضعة منك ).
ومن أمثلة ذلك: حديث ميمونة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال ). كذلك حديث أبي رافع : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي حلال )، وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج
وهذه المسائل التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى. ألفت فيها مؤلفات مستقلة مثل: (مختلف الحديث) للشافعي ، و(مشكل الآثار) للطحاوي ، و(تهذيب الآثار) للطبري رحمهم الله.
إذاً: عندما يوجد ما ظاهره التعارض بين الأدلة لدى المجتهد فلدرء هذا الظاهر أربع طرق:
الطريق الأول: الجمع.
والطريق الثاني: إن عرف المتأخر من المتقدم فالنسخ.
والطريق الثالث: الترجيح.
والطريق الرابع: التوقف. يعني: يتوقف المجتهد حتى يظهر له شيء من الأمور السابقة.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر