اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وبعد:
أيها الأحبة! فإن عنوان هذه الدروس: مسائل تتعلق بالأمور المالية والطبية، وبحث هذه المسائل كان الأصل أن يكون لأكثر من أسبوع، لكن بسبب تعارض الدروس في الأسبوع القادم مع دروس أخرى اقتصرنا على هذا الأسبوع فقط، وسننتقي إن شاء الله أهم المسائل الطبية والمالية التي يحتاج إليها الناس اليوم، ويكثر السؤال عنها.
هناك مسائل كثيرة يحتاج الناس إلى تبيينها وإيضاحها، ويكثر سؤال الناس عنها، مثل ما يتعلق بالبطاقات المصرفية، مثل ما يتعلق بالتورق المصرفي الذي يوجد الآن على قدم الوثائق في البنوك، ومثل أيضاً ما يتعلق بالتأمين التجاري.
وأيضاً من الناحية الطبية هناك مسائل يحتاجها الناس مثل ما يتعلق بمسائل الإجهاض، وكثرة سؤال الناس عن الإجهاض وما هي أحواله، ومتى يكون جائزاً ومتى يكون محرماً إلى آخره.
ومثل ما يتعلق بتضمين الطبيب، إذا أخطأ الطبيب كما يوجد اليوم، ومتى يضمن الطبيب ومتى لا يضمن إلى آخره.
ومثل ما يتعلق بالموت الدماغي، وما يتعلق بنزع أجهزة الإنعاش عمن مات دماغياً إلى آخره.
ومثل ما يتعلق أيضاً بعمليات التجميل، ومتى تكون هذه العمليات جائزة، ومتى تكون غير جائزة إلى آخره.
فسنستعد إن شاء الله في طرق هذه المسائل حسب ما يسمح به الوقت.
ستكون المسألة التي ستطرق في هذا الدرس هو ما يتعلق بالإجهاض، إجهاض الحمل، وسنوضح ما يتعلق بتعريف الإجهاض في اللغة والاصطلاح، ثم بعد ذلك نذكر شيئاً من تاريخ الإجهاض وخطورته، ثم بعد ذلك نعرج على أحوال الإجهاض وأقسامه وحكم كل قسم.
إنما اخترنا طرق هذا الموضوع وما يتعلق بالإجهاض لسببين: السبب الأول: كثرة سؤال الناس عن حكم الإجهاض.
والسبب الثاني: ترقي الطب، فإنه بسبب ترقي الطب أصبح أمر الإجهاض سهلاً جداً، فبإمكان الزوج أن يذهب بزوجته أو بإمكان المرأة أن تذهب بنفسها إلى الطبيب أو الطبيبة وخلال دقائق تكون قد أنزلت ما في بطنها.
فلهذين السببين كثر سؤال الناس لسبب وآخر عن الإجهاض، وأيضاً بسبب ترقي الطب واتساعه وتمكن الطب الآن في الوقت الحاضر من إنزال الحمل في خلال دقائق، كان من المناسب طرق هذه المسألة وبيان ما ذكره العلماء رحمهم الله حول حكمها.
الأمر الأول: تعريف الإجهاض في اللغة والاصطلاح.
أما في اللغة: فهو إسقاط الجنين، أو نقول: إسقاط الولد بحيث لا يعيش.
وأما في الاصطلاح: فهو إلقاء المرأة جنينها بفعل منها أو من غيرها.
الأمر الثاني: أن الإجهاض هو من نتائج وثمار الدعوة إلى الحد من تعداد السكان، وزيادة النمو البشري، وهذه الدعوة إلى تعداد السكان والنمو البشري وجدت قديماً في أواخر القرن الثامن عشر، وكان أول من دعا إلى فكرة الحد من تعداد السكان والنمو البشري القسيس النصراني الإنجليزي مالتوس .
وسبب قيام فكرته هذه أنه دعا إلى الحد من تعداد السكان بزعم أن كثرة السكان يؤدي خطراً على الموارد البشرية، وقال: بأن السكان يتزايدون بطريقة هندسية متوالية: اثنان أربعة ثمانية ستة عشر اثنان وثلاثون.. إلى آخره، أما بالنسبة لموارد الأرض فإنها تزيد بطريقة حسابية: اثنين ثلاثة أربعة.. إلى آخره.
فدعا هذا الإنجليزي النصراني إلى الحد من تعداد السكان لزعمه أن زيادة البشر خطر على موارد الأرض، وهذا مما سيسبب مجاعة في سكان الكرة الأرضية إلى آخره.
وقد لاقت هذه الدعوة رواجاً فانتشرت هذه الدعوة في أمريكا، ولاقت في أول انتشارها معارضة قوية من المجتمع ومن الدولة، ثم بعد ذلك في عام 1942 تكون في أمريكا أول اتحاد تنظيم الوالدية، وهو يدعو لاستخدام موانع الحمل، ومن موانع الحمل ما يتعلق بالإجهاض، وذلك حداً للنمو البشري.
ثم بعد ذلك أصبح اتحاد تنظيم الوالدية في أمريكا عضواً في منظمة الأمم المتحدة عام 1964، وصار لهذه المنظمة تنظيم الوالدية في أمريكا فروع في كثير من بلدان العالم، ومن ذلك البلاد الإسلامية.
وكذلك أيضاً في الديانة النصرانية يعتبر الإجهاض محرماً وعقوبته القتل، يعني: أن المرأة أو الزوج إذا أجهض الجنين، أو أن أحدهما أجهض الجنين، أو أن غيرهما تعمد إجهاض هذا الجنين فإن عقوبته القتل، هذا في الديانة النصرانية، ولهذا في بريطانيا كان إلى عام 1524م عقوبة الإجهاض هي الإعدام، فإذا ثبت أن الزوج أو أن الزوجة أو أن أجنبياً غيرهما قام بإجهاض هذا الجنين فإن عقوبته القتل، واستمرت هذه العقوبة كما أسلفت إلى عام 1524م، ثم خففت هذه العقوبة إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، ثم بعد ذلك خففت هذه العقوبة حتى أبيح الإجهاض في كثير من دول العالم، كما سيأتي الإشارة إلى ذلك.
ومثل ذلك أيضاً كان في أمريكا، لقد كان الإجهاض في أول الأمر في أمريكا عقوبته الإعدام، ثم بعد ذلك خفف إلى السجن المؤبد، ثم خفف ذلك إلى أن أصبح مباحاً.
ويعتبر الاتحاد السوفيتي هو أول من أباح الإجهاض، وذلك في عام 1920م ثم بعد ذلك منعه في عام 1935م بسبب كثرة الوفيات للأمهات بسبب الإجهاض، فإن الإجهاض يعود ضرره إلى الأم المجهضة، ويسبب لها ضرراً، وقد يسبب الوفاة، فيعتبر الاتحاد السوفيتي السابق هو أول من أباح الإجهاض كما أسلفنا عام 1920م ثم بعد ذلك منعه عام 1935م، ثم بعد ذلك تبعته اليابان فأباحت الإجهاض عام 1942م وهكذا بقية دول العالم.
وأول الدول الإسلامية أباحت الإجهاض هي دولة تونس، فأباحت الإجهاض لمن كان معه خمسة من الولد، ثم بعد ذلك خفف ذلك فأباحت الإجهاض في الثلاثة الأشهر الأول.
وثانياً أنه يصادم مقصداً مهماً من مقاصد النكاح، فإن من مقاصد النكاح هو تكثير النسل، ولهذا امتن الله عز وجل على بني إسرائيل بأن كثرهم، قال: وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بكثرة النكاح الذي من مقاصده كثرة النسل، فقال عليه الصلاة والسلام: ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).
الأمر الثالث: أن الإجهاض هذا فيه سوء ظن بالله عز وجل؛ لأنك تجد بعض الناس يلجأ إلى الإجهاض، إما خوفاً من تكاليف النفقة، أو تكاليف التربية، أو خوفاً مما يتعلق بالرعاية وملاحظة الطفل إلى آخره، وهذا كله من سوء الظن بالله عز وجل، والله عز وجل يقول: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، فموقف الشريعة الإسلامية من هذا الإجهاض هو التحريم، إلا أنه يستثنى من ذلك مسائل معدودة كما سيأتي إن شاء الله بحثه، فالأصل في الإجهاض أنه محرم، أولاً لأن الشريعة جاءت بالمصالح الضرورية، ومن المصالح الضرورية حفظ النفس، والأدلة على حفظ النفس كثيرة جداً، ونشير إلى شيء منها كما سيأتي في ثنايا البحث.
والمسألة الثانية: أنه مصادم لمقصد مهم من مقاصد النكاح، والأمر الثالث: أن فيه سوء ظن بالله عز وجل.
القسم الأول: الإجهاض الطبيعي، وهو: عبارة عن عملية طبيعية يقوم بها الرحم لإخراج جنين لم تكتمل له عناصر حياته، وهذا الإجهاض الطبيعي يحصل للمرأة بدون إرادة منها، ولا تدخل، ولا يد للمرأة فيه، ولا يد لأجنبي فيه أيضاً، وقد ثبت طبياً أن سبعين بالمائة إلى تسعين بالمائة من الأجنة المجهضة طبيعياً كانت مشوهة، وهذا من رحمة الله عز وجل، يعني: في الطب أن ما بين سبعين بالمائة إلى تسعين بالمائة من الأجنة التي تلقيها الأرحام إلقاءً طبيعياً أنها مشوهة، يعني: أنها مصابة بعيوب خلقية، وهذا من رحمة الله عز وجل، وهذا القسم حكمه ظاهر، وهو أنه لا إثم فيه ولا مؤاخذة، بل ذكرنا أن مثل هذه الإجهاضات التي تقوم بها الأرحام من رحمة الله عز وجل لما ذكره الأطباء وفقهم الله سالفاً.
القسم الثاني: الإجهاض دون ضرورة شرعية، وهذا يقسمه العلماء رحمهم الله إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الإجهاض في مدة الأربعين.
والقسم الثاني: الإجهاض ما بعد الأربعين إلى نفخ الروح.
والقسم الثالث: الإجهاض بعد نفخ الروح.
هذا القسم تجد أن بعض الناس يسلكه كما سلف، خشية التكاليف والنفقات، أو رغبة في التخلص من الأولاد، أو لا يريد ما يتعلق بأعباء الولد.. إلى آخره، فيلجأ إلى الإجهاض.
القسم الأول: الإجهاض في مدة الأربعين، وهذا يسأل عنه كثير من الناس، تجد أن بعض الناس تلد زوجته، وبعد فترة تحمل، ثم بعد ذلك يريد أن ينزل هذا الحمل، أو أنه تزوج، ثم تحمل زوجته قريباً فيريد أن ينزل هذا الحمل في فترة الأربعين، وقد اختلف فيه العلماء رحمهم الله على رأيين رئيسيين:
الرأي الأول وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، واختاره جمع من المحققين، مثل ابن رجب ، والعز بن عبد السلام وابن الجوزي ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو مذهب الظاهرية، أن الإجهاض في مرحلة النطفة في فترة الأربعين يوماً محرم ولا يجوز، وهذا كما أشرنا هو قول المالكية والظاهرية، واستدلوا على أن الإجهاض في فترة النطفة في مدة الأربعين محرم ولا يجوز بأدلة، منها:
قول الله عز وجل: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:9-10]، وقالوا: بأن الإجهاض في مرحلة النطفة يدخل في الوأد، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العزل -وهو أن ينزل الزوج خارج الفرج- وأداً خفياً، مع أن النطفة هذه لم تستقر في الرحم، ومع ذلك سمي وأداً خفياً، فإذا استقرت النطفة في الرحم فهو من باب الوأد، وقد قال الله عز وجل: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:9-10].
فقالوا: بأن إجهاض النطفة في مرحلة الأربعين داخل في الوأد الذي حرمه الشارع بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العزل وأداً خفياً مع أن العزل حتى الآن لم تستقر النطفة في الرحم، ولم يكن لهذه النطفة شيء من الاحترام، ومع ذلك سمي وأداً، فكون النطفة تسمى بعد استقرارها في الرحم وأداً هذا من باب أولى.
وكذلك أيضاً استدلوا بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أحدكم يجمع خلقه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون مثل ذلك علقة، ثم يكون مثل ذلك مضغة ) ووجه الدلالة أن هذا الحديث دل على أن الله عز وجل يجمع الخلق في الأربعين، وأنه يبتدئ التخليق في الأربعين، ويبتدئ التصوير في الأربعين، وهو وإن كان الخلق والتصوير خفياً في هذه الفترة، إلا أنه يبتدئ في ذلك الزمن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون مثل ذلك علقة، ثم يكون مثل ذلك مضغة ) إلى آخره.
والأطباء يجمعون على القول بما ورد في حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهذا من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الخلق والتصوير ولو كان خفياً يكون في مدة الأربعين، فإنه لا يجوز الاعتداء عليه، لا يجوز انتهاك هذا الخلق، ولا يجوز الاعتداء عليه.
كذلك أيضاً من الأدلة على ذلك قالوا: بأن إقامة الحد والقصاص واجب، وإذا ثبت أن هذه المرأة حامل فإنه لا يجوز إقامة الحد والقصاص حتى تضع ما في حملها ولو كان نطفة، فأخر الحد الواجب والقصاص الواجب من أجل هذه النطفة، ولا يؤخر الواجب إلا لشيء محترم لا يجوز انتهاكه.
يعني: العلماء يجمعون على أنه لا يجوز إقامة القصاص على المرأة، ولا إقامة الحد عليها إذا ثبت أنها حامل، وتأخير الحد والقصاص هذا مما يدل على أن هذا الحمل له حرمة، ولا يجوز انتهاكه، وإذا كان كذلك فإنه لا يجوز التعرض لمثل هذا الحمل؛ لأنه لا يؤخر الواجب إلا لأمر واجب، وأن هذا الحمل أصبح له حرمة لا يجوز انتهاك هذه الحرمة.
كذلك أيضاً من أقوى أدلتهم ما ذكره الأطباء في الوقت الحاضر من أن أدق مراحل خلق الإنسان هي مرحلة النطفة، فمرحلة النطفة يبدأ فيها تكوين الجنين، تنتقل في هذه المرحلة الموروثات والطبائع والصفات الخلقية، والحمل يتأثر في هذه المرحلة ما لا يتأثر في المراحل التي تليها، كما سيأتينا إن شاء الله فيما يتعلق بإجهاض الجنين إذا كان الجنين مشوهاً، فيقولون: بأن الحمل يتأثر في هذه المرحلة فيما يتعلق بالإشعاعات والأدوية والمركبات الكيميائية إلى آخره ما لا يتأثر في غيرها، فيقولون: بأن أدق مرحلة هي مرحلة النطفة، ففيها يبدأ خلقه وتصويره وتكوينه، وفيها تنتقل سائر الموروثات والطبائع والصفات الخلقية، فإذا كانت هذه أدق مرحلة، وفيها تتجلى عظمة الله عز وجل وإجلاله فكيف يجوز الاعتداء وانتهاك هذه الحرمة؟ مع أن في انتهاك مثل هذه الحرمة مصادمة لما سلف أن ذكرنا من سوء الظن بالله عز وجل، وكذلك أيضاً المصادمة لما جاءت به الشريعة من حفظ الضروريات، وكذلك أيضاً ما يتعلق بمصادمته لأهم مقاصد النكاح.
الرأي الثاني في هذه المسألة، وهو قول أكثر أهل العلم رحمهم الله من الحنفية والحنابلة والشافعية، يرون أن إجهاض النطفة في مرحلة الأربعين جائز، ولا بأس به، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج:5].
قالوا: وجه الدلالة أن الله عز وجل قال: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، فدل ذلك على أن التخليق لا يكون إلا في مرحلة المضغة، وأن مرحلة النطفة لا تخليق فيها، فإذا لم يكن فيها تخليق فإنه لا حرمة لها، فيجوز انتهاكها.
وهذا الاستدلال يجاب عنه بأن التخليق دلت النصوص أنه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: تخليق خفي، وهذا كما دل له حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وكما شهد له الأطباء.
القسم الثاني: تخليق ظاهر، وهذا هو الذي دلت له الآية، نقول بأن الآية لا يستدل منها على عدم وجود التخليق، بل نقول: إن التخليق موجود، فهذا التخليق ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: تخليق خفي كما دل له حديث ابن مسعود: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ... ) وكما شهد الأطباء في الوقت الحاضر أن التصوير الخفي والخلق الخفي وتكوين الجنين يبدأ في مرحلة النطفة، والقسم الثاني تخليق ظاهر وهذا يكون في مرحلة المضغة.
وكذلك أيضاً استدلوا بحديث جابر : ( كنا نعزل والقرآن ينزل ) فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على العزل، وكذلك أيضاً الله عز وجل أقرهم على العزل، فدل ذلك على أن النطفة لا حرمة لها.
لكن يفرق بين الأمرين، أن النطفة في العزل لم تستقر في الرحم، ولم يحصل لها تكوين أو تخليق بخلاف مرحلة النطفة، فإن النطفة استقرت في الرحم، وكانت في مكان مكين، وإذا كانت كذلك كما قال الله عز وجل: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المرسلات:20-21] يعني: حافظ لما أودع فيه، فإنه لا يجوز انتهاك هذا المكان المكين الذي حفظ فيه هذه النطفة، ففرق بين مسألة العزل، العزل حتى الآن لم تستقر النطفة في الرحم، وبين مسألة استقرار النطفة في الرحم، والقاعدة أن الدفع أهون من الرفع، فدفع النطفة والعزل أهون من إخراجها من مكانها التي أودعت فيه.
كذلك أيضاً استدلوا بأن الجنين الآن لم يتخلق، وإذا كان كذلك فإنه لا يبعث يوم القيامة، وإذا كان لا يبعث فإنه لا حرمة له، فيجوز انتهاكه وإسقاطه.
والجواب عن هذا سهل، فنقول: بأن هذا استدلال بمحل النزاع، ونظر في مواجهة الأثر.
وعلى هذا يكون الأقرب في هذه المسألة أنه لا يجوز إسقاط النطفة بغرض التخلص من الحمل، أو خشية نفقات الولد أو تربيته، أو التخفف من الأولاد أو نحو ذلك.
وفي ندوة الأبحاث التي عقدت في الكويت في عام 1403 للهجرة توصلت إلى أنه لا يجوز إجهاض النطفة لما سبق ما ذكرنا من الأدلة إلا في حال الضرورة القصوى، ومثل ذلك أيضاًفتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في عام 1407 للهجرة أن النطفة لا يجوز إجهاضها إلا إذا خشي على سلامة الأم، يعني: كان هناك خطر على سلامة الأم كما سيأتينا إن شاء الله في بقية الأقسام في الإجهاض إذا كان دافع الإجهاض الضرورة أو دفع الضرر.
الحنابلة يقولون بجواز الإجهاض في مرحلة النطفة لكنهم لا يجوزونه فيما بعد مرحلة النطفة: مرحلة العلقة، الحنفية والشافعية يجوزون الإجهاض في مرحلة العلقة إلى ما قبل نفخ الروح، وإذا كان الراجح أنه لا يجوز الإجهاض في مرحلة النطفة، ففي مرحلة العلقة وفي مرحلة المضغة لا يجوز من باب أولى.
فتلخص لنا في الحالة الثانية من حالات الإجهاض إذا كان لغير ضرورة شرعية أنه لا يجوز في كل مراحله الثلاثة، لا في مرحلة النطفة، ولا في مرحلة ما بعد النطفة كمرحلة العلقة والمضغة، ولا في مرحلة ما بعد نفخ الروح.
هذه الحالة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول ما كان قبل نفخ الروح، والقسم الثاني: ما كان بعد نفخ الروح.
أما إن كان قبل نفخ الروح فأكثر الفقهاء المعاصرين ذهبوا إلى جواز إجهاض الجنين إذا كان في إجهاضه سلامة الأم، وبقاؤه يؤدي خطراً على سلامة الأم، ومن ذلك فتوى اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عام 1416 للهجرة، فقد جاء فيها: ولا يجوز إسقاط الحمل، أي: ما بعد نفخ الروح حتى تقرر لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمه بعد استنفاذ كافة الوسائل لتلافي الأخطار.
نقول: الحالة الأولى ما كان قبل نفخ الروح، فالفقهاء في الوقت الحاضر يقررون، وقد أشار الفقهاء في القديم إلى شيء من ذلك، بعض الشافعية لأن الشافعية يتوسعون في الإجهاض، فبعض الشافعية أشاروا إلى شيء من ذلك، لكن بالنسبة للفقهاء في الوقت الحاضر يقررون أنه إذا كان بقاؤه فيه خطر على الأم، وإجهاضه يؤدي إلى سلامة الأم من هذا الخطر، فإن هذا جائز ولا بأس به، واستدلوا على ذلك بأن الضرر الأشد يزال بالأخف، وقالوا: بأنه يرتكب أهون الشرين، فقالوا: بأن إجهاض الجنين هذا فيه ضرر، وموت الأم هذا فيه ضرر، فيرتكب أخف الضررين، فإجهاض الجنين أهون من هلاك الأم، لكن تقدم أن الأصل في الإجهاض التحريم، وأنه لا يجوز، لكن القاعدة أن الضرر الأشد يزال بالأخف، وأيضاً لقاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات اشترط المعاصرون لهذا الإجهاض شروطاً:
الشرط الأول: أن يوجد مرض حقيقي يعرض حياة الأم للخطر.
الشرط الثاني: أن يتعذر علاج هذا المرض إلا بالإجهاض.
الشرط الثالث: أن يقرر من يوثق بقوله من الأطباء أن الإجهاض هو السبيل الوحيد لاستنقاذ الأم، أن يقرر من يوثق بقوله لأمانته وخبرته أو لتعدده من الأطباء أن السبيل الوحيد لسلامة الأم هو الإجهاض.
فإذا توفرت مثل هذه الشروط توجه الجواز بإجهاض هذا الجنين، ولا بد من تحقق هذه الشروط؛ لأن الأطباء الآن في الوقت الحاضر يقرون بأنه لا يكاد يوجد مرض واحد يوجب الإجهاض، يقولون: بأن أمراض الأم يمكن أن تعالج بغير الإجهاض، فيقولون: لا يكاد يوجد مرض واحد يوجب الإجهاض من أجل إنقاذ حياة الأم وذلك بسبب تقدم الطب؛ ولهذا ذكر الدكتور محمد علي البار بأنه لا يوجد إلا مرض واحد قد يسبب عدم الإجهاض الخطر على حياة الأم وهو تسمم الحمل.
وبهذا نعرف أن قول بعض الأطباء وتهاونهم أن الأم مريضة وأن هذا المرض يكون خطراً عليها وعلى سلامتها فلا بد من إجهاضه هذا القول فيه نظر، وذكرت أنا كلام الأطباء أنه لا يكاد يوجد مرض في الأم يوجب الإجهاض ويؤدي إلى إنقاذ حياتها إلا ما يتعلق بتسمم الحمل كما ذكره الدكتور محمد البار ، وأما ما عدا ذلك من الأمراض فلا حاجة فيها للإجهاض؛ لأنه بسبب تقدم الطب يمكن أن تعالج مثل هذه الأمراض، فنفهم أن الأصل هو تحريم الإجهاض، اللهم إلا إذا توفرت هذه الشروط الشرعية مع الاحتياط والحذر؛ لأنه كما أسلفنا أن الأطباء الآن يقررون أنه لا يكاد يوجد مرض في الأم يوجب إجهاض الجنين لكي يؤدي إلى إنقاذ حياتها.
القسم الثاني: أن يكون ذلك بعد نفخ الروح، يعني: هذا الجنين نفخت فيه الروح، يعني: له أربعة أشهر فما فوق، وبقاء الجنين هذا يسبب خطراً على أمه، إما أن نجهض الجنين ونقتله، وإما أن يبقى الجنين فتموت الأم، فالعلماء رحمهم الله لهم في ذلك قولان، العلماء في السابق يكادون يجمعون على تحريم الإجهاض، حتى لو أدى ذلك إلى وفاة الجنين، الحنابلة والشافعية والمالكية يكادون يتفقون على أنه لا يجوز إجهاض الجنين في مثل هذه الحالة حتى ولو أدى ذلك إلى وفاة الأم، وممن ذهب إليه في الوقت الحاضر الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى، وأنه لا يجوز قتل هذا الجنين.
والقول الثاني: العلماء أو الفقهاء في الوقت الحاضر يقولون: إذا ثبت وفاة الأم ثبوتاً محققاً إن لم نجهض هذا الجنين جاز الإجهاض. فعندنا رأيان: رأي المتقدمين ورأي المتأخرين.
المتقدمون من العلماء يكادون يتفقون على أنه لا يجوز الإجهاض ولو أدى ذلك إلى موت الأم.
الرأي الثاني: أنه يجوز الإجهاض إذا كان عدم إجهاض الجنين يؤدي إلى موت محقق بالنسبة للأم.
ولكل منهم دليل، أما الذين قالوا بالمنع، وهم جماهير أهل العلم من المتقدمين، فاستدلوا على ذلك بأدلة، من ذلك الأدلة الناهية عن قتل النفس المعصومة، كما في قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، وأيضاً قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، وكما تقدم أيضاً حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم ... ).
الدليل الثاني: قالوا: بأنه مما لا خلاف فيه بين العلماء أنه لا يجوز للشخص أن يقتل شخصاً إذا أكره على القتل، حتى ولو أدى ذلك إلى إزهاق نفسه، يعني: لو أن شخصاً أكره شخصاً على أن يقتل زيداً من الناس، إما أن تقتله وإلا قتلتك، قالوا: بأنه لا يجوز له أن يقدم على قتله، ولو أدى ذلك إلى قتل هذا المكره، فقالوا: هذا مثل أيضاً المرأة لا يجوز أن نقتل هذا الجنين لأجل استبقاء نفس الأم.
الدليل الثالث: قالوا: الإجماع منعقد على أن الإنسان إذا كان مضطراً وكان في مخمصة فإنه لا يجوز له أن يقتل نفساً معصومة من أجل أن يأكلها ويستبقي نفسه، فإذا كان كذلك أيضاً لا يجوز أن نقتل هذا الجنين لأجل أن نبقي نفس الأم.
وأيضاً استدلوا بما ذكره ابن نجيم رحمه الله تعالى قالوا: بأن إحياء نفس بنفس هذا لم يرد في الشريعة باستقراء الأدلة، قالوا: إحياء نفس بنفس لم يرد في الشرع.
أكثر المعاصرين قالوا بالجواز إذا كان هلاك الأم محققاً إذا لم نقم بإجهاض الجنين، واستدلوا على ذلك بأدلة، من أهم أدلتهم قالوا بأن الجنين لا يسلم غالباً فإذا هلكت الأم هلك الجنين، فنحن إما أن نجهض الجنين وتسلم الأم، وإلا فإن الجنين الغالب أنه لا يسلم؛ لأننا إذا تركنا الجنين ولم يجهض وهلكت الأم هلك الجنين معها؛ لأنه كجزء من أجزائها، وإن أجهضناه هلك هو، قالوا: الغالب في الحالتين أنه لا يسلم الجنين، إما أن نجهضه فهذا يهلك، هذا أمره ظاهر، وإما أن لا نجهضه ونترك الأم، حتى ولو هلكت الأم، قالوا: بأن هلاك الأم يؤدي إلى هلاك الجنين.
وهذا القول فيه نظر بسبب تقدم الطب، العلماء إذا كانوا في السابق يتكلمون عما إذا ماتت المرأة، وأنه يمكن السطو على نفس المرأة الميتة وشق بطنها، واستنقاذ الجنين، فما بالك اليوم فيما يتعلق بتقدم الطب، فإنه بالإمكان أن يشق بطن الأم حتى وإن لم يكتمل له ستة أشهر، هذا الجنين بالإمكان أن يرعى حتى ينمو.
كذلك أيضاً استدلوا على ذلك قالوا: بأن الجنين تابع لأمه، وجزء من أجزائها، وباتفاق العلماء على أنه يجوز أن يقطع جزء من أجزاء الإنسان لكي يسلم باقيه، فمثلاً لو كان في الإنسان يد متآكلة أو رجل متآكلة، ولا يسلم إلا بقطع هذا الجزء المتآكل فإننا نقطع هذا الجزء لكي يسلم الباقي، ومثله أيضاً الجنين، فهو كالجزء المتآكل يقطع لكي تسلم الأم.
وكذلك أيضاً قالوا: المشقة تجلب التخفيف.
وكذلك أيضاً قالوا: يرتكب أهون الشرين.. إلى آخره، يستدلون بمثل هذه القواعد.
بقي عندنا قسمان، وهي إجهاض الجنين لدوافع أخلاقية كما لو حصل الزنا فهل يجوز إجهاض هذه النطفة المحرمة، أو لا يجوز إجهاضها؟
وكذلك أيضاً القسم الأخير إجهاض الجنين المشوه، يعني: إذا ثبت أن هذا الجنين لحقه عيوب خلقية هل يجوز إجهاضه أو لا يجوز إجهاضه؟
هذه إن شاء الله نتكلم عليها غداً بإذن الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الجواب: تحديد النسل أن يكون هناك حد للأولاد، بأن يتفق الزوجان بأن لا يكون بينهما إلا ولد أو ولدان.. إلى آخره، هذا هو تحديد النسل، وهذا لا يجوز.
وأما بالنسبة لتنظيم النسل فهو أن يتفق الزوجان أن يكون النسل منظماً، أن يكون كل سنتين كل ثلاث سنوات.. إلى آخره، بحيث إن المرأة تأخذ شيئاً من الراحة وتستعيد قوتها ونشاطها، نقول: هذا جائز، ودليله العزل كما تقدم أن الصحابة كانوا يعزلون، وفي هذا تنظيم للنسل، ففرق بين التحديد والتنظيم.
الجواب: يقال بأنه قياس مع الفارق، فكل منهما نفس معصومة مستقلة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر