الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فلا زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة وهو الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول، على نبينا وعلى جئئميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت إن العلامات التي يعرف بها صدق أنبياء الله ورسله كثيرات متعددات تجمع في أربع علامات:
أولها: النظر إلى النبي في نفسه في خَلْقه وخُلُقه.
وثانيها: النظر في دعوته التي بعث بها وبلغها.
وثالثها: النظر في خوارق العادات والمعجزات التي أيده الله بها.
ورابعها: النظر في حال أصحابه، فهم صورة لمعلمهم ونبيهم.
وقد بدأنا بالأمر الأول منها ألا وهو النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه في خلقه وخلقه، وقلت مراراً: إن الله أعطى الكمال لأنبيائه ورسله في خلقهم وخلقهم، فمنحهم الجمال والجلال في أمرين الخَلْق والخُلُق، وتقدم معنا النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في خَلْقه، واستعرضت ما يوجد من علامات تدل على أنه رسول الله حقاً وصدقاً.
ثم انتقلنا إلى الأمر الثاني ألا وهو النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في خُلقُه، وقلت: لا يمكن لبشر أن يحيط بخلق النبي عليه الصلاة والسلام على وجه التمام، كما لا يمكن لبشر أن يحيط بمعاني القرآن على وجه الكمال والتمام، فخُلُق نبينا عليه الصلاة والسلام القرآن، لكن إذا أردنا أن نعرف صورة موجزة واضحة لخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن نبحث في خلقه على وجه الاختصار حسب وسعنا مع الخَلْق ومع الحق كما تقدم معنا.
أما خلقه عليه الصلاة والسلام مع الخلق فقلت: يدور حول سبعة أمور: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، وخلقه مع أصحابه الكرام وأمته، وخلقه مع الملائكة الكرام، وخلقه مع أعدائه من شياطين الإنس، وخلقه مع أعدائه من شياطين الجن، وخلقه مع الحيوانات العجماوات، وخلقه مع الجمادات الصامتات.
وأما الأمر الثاني: خلقه مع الحق جل وعلا، فيأتي الكلام عليه بعد الكلام على هذه الأمور السبعة إن شاء الله، وقد أخذنا الأمر الأول منها ألا وهو خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، وبينت ما فيه من علامات واضحات تدل على أنه رسول الله حقاً وصدقاً.
وبعد أن انتهينا من هذا قلت: يحسن بنا بل يجب علينا أن نتدارس لمحة موجزة عن أسرة نبينا عليه الصلاة والسلام، عن أمهاتنا زوجاته، وعن ذريته الطيبة الطاهرة، وقلت: لابد من مقدمة في بيان الحكمة من اقتران نبينا عليه الصلاة والسلام بأكثر من أربع نسوة، وقلنا: لابد له من مقدمة أيضاً في بيان حكمة التعدد في الإسلام، ولابد لهذا من مقدمة أيضاً في بيان الحكمة من مشروعية النكاح، وقلت: إن الحكمة من مشروعية النكاح تدور على خمسة أمور، كما أن الحكمة من التعدد تدور على عشرة أمور، كما أن الحكمة من التعدد في حق نبينا عليه الصلاة والسلام زيادة على ما أبيح للأمة تدور على عشرة أمور، فهذه خمس وعشرون حكمة لابد من شرحها وبيانها.
وبدأنا بالمقاصد العامة، والحكمة من مشروعية النكاح؛ لنعلم منزلة هذا الأمر في شريعة الله عز وجل، وقلت: إن النكاح شرعه الله، وأمر به، ورغب فيه، وندب إليه لأمور كثيرة أبرزها خمسة:
أولها: تحصين النفس البشرية من الآفات الرذيلة، سواء كانت حسية أو معنوية كما تقدم معنا.
ثانيها: إنجاب الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية.
ثالثها: تحصيل الأجر لكل من الزوجين عن طريق حسن عشرته مع صاحبه.
رابعها كما تقدم معنا: تذكر لذة الآخرة.
خامسها: التفاف كل واحد من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجه في هذه الحياة.
والحكمة الأولى قد مر الكلام عليها، وبدأنا في الحكمة الثانية ألا وهي: إنجاب الذرية، وقلت في إنجاب الذرية حكم كثيرة غزيرة يمكن أن نجملها أيضاً في خمس:
الأولى: السعي في إبقاء جنس الإنسان لعبادة ذي الجلال والإكرام، وفي ذلك محافظة على إرادة الرحمن في إبقاء هذا الوجود إلى فترة شاءها سبحانه وتعالى.
والثانية: تكثير أمة النبي عليه الصلاة والسلام عن طريق إنجاب الذرية التي توحد رب البرية.
والثالثة: الانتفاع بالولد إن عاش.
والحكمة الرابعة: الانتفاع بالولد إن مات، سواء مات صغيراً أو كبيراً.
وخامس الحكم: تحصيل الأجر لتربية الولد والنفقة عليه.
وقبل أن أتكلم عن هذه الحكمة الخامسة من إنجاب الذرية، أحب أن أشير إلى شيء يتعلق بالحكمة الرابعة ألا وهي الانتفاع بالولد إن مات.
تقدم معنا أن الولد إذا مات صغيراً يشفع لأبويه، ويكون سبباً في دخولهم الجنة، وقلت: إن الأحاديث في ذلك متواترة ثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا في الحقيقة من مقاصد النكاح الأساسية، أن الإنسان ينجب الذرية ينتفع بهم في جميع أحوالهم، وهنيئاً له إذا ماتوا وهم صغار، هنيئاً له، فيكونون سبباً في دخوله الجنة وفي منعه من النار كما تقدم معنا، ولذلك يذكر أئمتنا كما في كتاب قوت القلوب لـأبي طالب المكي وإحياء علوم الدين في الجزء الثاني صفحة ثمان وعشرين: أن بعض الصالحين كان أهله يريدون منه أن يتزوج فيأبى، فيلحون عليه فيأبى ويقول: أنا مشتغل بأمر الآخرة عن الزواج، قال: فرأى مرة في الرؤيا كأن القيامة قامت، فجمع الله الأولين والآخرين في ذلك اليوم العظيم يقول: والناس في ذلك الاجتماع، وقد ألجمهم العرق، ودنت الشمس من رءوسهم، وهم في شدة لا يعلمها إلا الله، رأيت أولاداً صغاراً كالنور يتخللون أهل الموقف، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، فيتجاوزون بعض الناس ويذهبون إلى بعض الناس فيسقونهم، فمر بجواري واحد من هؤلاء فقلت: اسقني فإنني عطشان، كاد العطش أن يقطع عنقي، فقال: حتى أنظر، فتأمل ونظر في الناس ثم قال: لست ممن أمرنا بسقيه، قلت: ولم؟ قال: ما لك ولد بيننا، قلت: ومن أنت؟ قال: نحن أطفال المسلمين الذين ماتوا صغاراً نسقي آباءنا في عرصات الموقف، فأنت ما قدمت ولداً، فكيف ستسقى في هذا الموقف العظيم، إنما أمرك إلى الله جل وعلا.
يقول: فانتبهت وقلت لأهلي: زوجوني زوجوني، قالوا: ما الخبر كنا نعرض عليك فتأبى؟ فقص عليهم ما رأى.
والأمر كما رأى هذا الإنسان، وقد تقدم معنا تقرير هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وقدمت أخباراً كثيرةً صحيحة وقلت: إنها متواترة، وسأسأل أمام الله عن ذلك، بأن الولد إذا مات صغيراً لا يدخل الجنة حتى يدخل أبواه الجنة.
والحديث قال عنه المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة ثمانين: قال: إسناد أحمد حسن أو قريب من الحسن.
وقال الهيثمي في المجمع في الجزء الثالث صفحة تسع: فيه يحيى بن عبيد الله بن موهب التيمي لم أجد من وثقه ولا من جرحه.
وهذا الرجل هو من رجال الترمذي وابن ماجه ، وكيف خفي حاله على الهيثمي ؟! وهذا حال الإنسان، فهو من رجال الكتب الستة، وهو في الحقيقة جرح، وفيه ضعف وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه متروك، ولعل تحسين المنذري له لوجود الشواهد الكثيرة التي تقدمت معنا، وأنها متواترة، بأن من مات له ولد.. ولدان.. ثلاثة يشفعون له ويدخل بسببهم الجنة.
وورد ما يشير إلى آخر الحديث ويقرره فيما يتعلق بأمر السقط من غير رواية معاذ ، ورد من رواية علي رضي الله عنه في سنن ابن ماجه ، والأثر رواه الحكيم الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان والخطيب في المتفق والمفترق، من رواية علي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن السقط ليراغم ربه إذا أدخل أبويه النار، فيقول الله: أيها السقط المراغم ربه أدخلي الجنة، فيقول: حتى يدخل أبواي، فيقول الله له: ادخل أنت وأبواك الجنة ).
وهنا يراغم بمعنى يغاضب، وتقدم معنا أحاديث صحيحة أن الولد إذا مات وهو صغير، وقيل له: ادخل الجنة ولم يدخل أبواه، يقف على باب الجنة مطئطئاً وهو المغضب المغتاظ ويأبى الدخول، كأنه يقول: لا أدخل حتى تشفعني في أبوي، أنا لا أمتنع عن دخول الجنة زهداً فيها، فهي دار كرامتك ورضوانك، لكن أنت جعلت المكان عندك، وأنا أريد أن يدخل أبوي، وإنما يمتنع امتناع طلب لا امتناع إباء وزهد في الجنة، وهنا يراغم ربه بمعنى: يغاضب ربه، أي: كأنه يجري بينه وبين الحق شيء من المغاضبة، ويعني: يغتاظ لدخول أبويه النار.
والحديث فيه مندل ، واسمه عمرو بن علي العنزي ، ومندل لقب له، ومندل بالتثليث، يقال: مَندل مُندل مِندل، توفي سنة سبع وستين ومائة للهجرة، وحديثه في سنن أبي داود وسنن ابن ماجه ، وقد حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب بأنه ضعيف، وكما قلنا: رواية علي يشهد لها رواية معاذ المتقدمة.
وورد أيضاً ما يتعلق بأمر السقط من رواية سهل بن حنيف في معجم الطبراني الأوسط، وفي إسناده موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف، ورواية سهل بن حنيف في المجمع في الجزء الثالث في صفحة إحدى عشرة، ولفظ الحديث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، وإن السقط ليرى محبنطئاً بباب الجنة -أي: مغتاظاً- وإن السقط ليرى محبنطئاً بباب الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: حتى يدخل أبوي )، فإذاً من قدم مولوداً بين يديه فهنيئاً له عند ربه عندما يلقاه، سواء كان واحداً أو أكثر، بل حتى لو كان سقطاً.
الأخبار في السقط كما تقدم معنا من رواية علي ومعاذ وسهل بن حنيف رضي الله عنهم أجمعين لا يخلو طريق منها من كلام، لكن ببعضها تتقوى، ويشهد للمعنى العام الأحاديث المتواترة التي تقدمت معنا في صحيح مسلم وغيره: بأنه من قدم فرطاً بين يديه يكون شفيعاً له، وصغارهم في الجنة، كما تقدم معنا حديث مسلم : ( يتلقى أحدهم أباه أو قال: أبويه، فيأخذ بصنيفة ثوبه كما آخذ بصنيفة ثوب هذا فلا ينتهي حتى يدخل هو وأبواه الجنة )، والأخبار في ذلك كثيرة.
إذاً: من مقاصد النكاح أن ينجب الإنسان الذرية التي تعبد الله جل وعلا، وبذلك يحافظ على إرادة الله في بقاء هذا الوجود فترة شاءها ربنا المعبود.
ثانيها: يكثر الإنسان من إنجاب الذرية لتكثير أمة نبينا خير البرية عليه صلوات الله وسلامه.
ثالثها: ينتفع بالولد إن عاش، وتقدم معنا أن الولد كسب، وهذا أفضل كسبك، فتأكل من جهده ومن عمله ومن ماله.
ورابعها: تنتفع بالولد وتحصل الأجر إن مات.
وخامس الحكم من إنجاب الذرية: أن يحصل الإنسان أجراً عظيماً من الذرية، عن طريق تربيتهم، وعن طريق النفقة عليهم، وفي كل من الأمرين أجر كبير، الذرية أنت تربيها من أجل عبادة الله جل وعلا، فلك أجرها، وتنفق عليها، فلك أجر النفقة عليها أكثر مما لو أنفقت على الفقراء والمساكين، وعلى عمارة بيوت رب العالمين كما سيأتينا إن شاء الله.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما في مسند عبد بن حميد : أدبوا أهليكم، وقال الثوري : أدبوهم وعلموهم، إذاً: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، أنت مأمور بأن تقي نفسك من غضب ربك ومن نار جهنم، ووقاية النفس من النار بأمرين اثنين: عن طريق فعل المأمورات، وترك المحظورات المحرمات المنهيات، فإذا وقيت نفسك ينبغي أيضاً أن تأمر أهلك بالمعروف، وأن تنهاهم عن المنكر، فأنت فعلت الخير وتركت الشر، ومأمور بأن تسلك هذا المسلك نحو أهلك من زوجك وأولادك، بأن تحثهم على الخير، وأن تحررهم من الشر، وإذا قمت بذلك فلك أجر كبير عند الله الجليل سبحانه وتعالى، وقد أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نؤدب أولادنا، وأن نحسن تربيتهم، فهم أمانة في أعناقنا، وإذا قمت بهذا الأمر أصبت وأجرت، وهذا كما قلت من مقاصد النكاح، نخرج الذرية، ونؤدبهم فننال أجراً عند الله بتربيتهم.
ورد في سنن ابن ماجه ، وعند الخطيب في تاريخ بغداد، انظر في الجزء الثامن صفحة ثمان وثمانين ومائتين، من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم )، فالولد ينبغي أن تكرمه ليكرمك، والجزاء من جنس العمل، وأحسن أدبه ليتأدب معك، وليتق الله في صحبتك إذا كبرت، وإذا نشأته تنشئة خبيثة فإذا عقك فلا تلومن إلا نفسك، وفي إسناده الحارث بن النعمان الليثي الكوفي ، ذكره ابن حبان في الثقات، ثم ترجم له في الضعفاء أيضاً، وهو ابن أخت سعيد بن جبير ، وخلاصة كلام الحافظ عليه في التقريب بأنه ضعيف، وهو من رجال الترمذي وسنن ابن ماجه .
وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام أن أفضل ما يقدمه الوالد إلى ولده أدب حسن يؤدبه به، هذا أحسن عطية تقدمها إلى الذرية، الأدب الحسن والتربية الصالحة، ورد ذلك في مسند أحمد وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم في الجزء الرابع صفحة ثلاث وستين ومائتين، والحديث صححه الحاكم ، وتعقبه الذهبي فقال: قلت: بل مرسل ضعيف، وسيأتينا سبب إرساله إن شاء الله، ورواه البخاري في التاريخ، والقضاعي في مسنده، والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق، ورواه العقيلي وعبد بن حميد والبغوي والعسكري ، والبيهقي وغيرهم، وقال الترمذي بعد روايته له: هذا عندي حديث مرسل، وقال البخاري : هذا حديث مرسل، والمرسل من أنواع الضعيف عند جمهور المحدثين، لكن الحديث له شواهد كثيرة كما ستسمعون لفظه إن شاء الله.
ولفظ الحديث عن عمرو بن سعيد بن العاص وليس من الصحابة، ووهم كما قال الحافظ ابن حجر من قال: إنه له رؤية، أي: للنبي عليه الصلاة والسلام، بل قيل: إن النبي عليه الصلاة والسلام عندما مات كان عمر والده سعيد بن العاص ثمان سنين فمن أين سيرى ولده عمرو النبي عليه الصلاة والسلام؟! نعم والده له رؤية وهو صحابي.
و عمرو بن سعيد بن العاص تابعي كما قلت، وأمره معاوية وابنه يزيد على المدينة المنورة، ثم بعد ذلك قتله عبد الملك بن مروان ، والسبب في قتله له أنه نازعه على الملك، لما ذهب عبد الملك بن مروان لقتال عبد الله بن الزبير انقض هو على الشام وبويع من قبل أهل الشام وحكمهم، ثم جاء عبد الملك بن مروان بخديعة لـعمرو بن سعيد بن العاص فاستسلم له، ويقال: أنه ذبحه بيده سنة سبعين للهجرة، وقد ذهب الكل إلى ما قدموا.
و عمرو بن سعيد بن العاص حديثه مخرج في صحيح مسلم ، وقد أخرج له أبو داود لكن في المراسيل، وأخرج له أهل السنن الثلاثة.
والمرسل ما يرفعه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهناك واسطة، ولو كانت الصحابي فقط لكان الحديث متصلاً صحيحاً، وإسقاط الصحابي لا يضر، لكن لعله نقلها عن تابعي آخر، ولو قال عمرو بن سعيد بن العاص : حدثني من سمع النبي عليه الصلاة والسلام، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال، لو قال هذا لكان الحديث متصلاً، ولو لم يسم الصحابي؛ لأنه رفع الكلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا مرسل كما تقدم معنا في دروس الترمذي .
إذاً: عن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن )، والنحل هو العطية والهدية بلا مقابل، (ما نحل) ما أعطى وما أهدى والد إلى ولده أفضل من أدب حسن يؤدبه عليه، وينشئه على التربية الشرعية.
وله شواهد كثيرة، منها ما رواه الطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع في الجزء الثامن صفحة ست ومائة وصفحة تسع وخمسين ومائة، كرر الحديث في المكانين، من رواية ابن عمر ، والحديث متصل لكن في إسناده ضعف كما قال الحافظ الهيثمي في المجمع: عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ما ورث والد ولده أحسن من أدب حسن )، ورث، وهناك: (ما نحل)، يعني ما خلف وما أعطى وما تفضل والد على الولد بأحسن من الأدب الحسن، وهناك ما أهدى إلي أبي أفضل من الأدب الحسن.
والحديث رواه العقيلي أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وفي الإسناد ضعف أيضاً، لكن الطرق تتقوى، فطريق عمرو بن سعيد مرسل كما تقدم معنا، وطريق ابن عمر ، ورواية أبي هريرة ، رضي الله عنهم أجمعين، ومعاني الحديث متفقة بأن أفضل ما يعطيه الوالد إلى لده الأدب الحسن الذي ينشئه عليه.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن هذا الأدب الذي ينشئ الوالد أولاده عليه له بسببه أجر عظيم عند ربنا الكريم سبحانه وتعالى، ويكتب له أجور مضاعفة كل يوم بسبب تأديب الأولاد، ورد في مسند أحمد وسنن الترمذي ، وعند الحاكم في المستدرك من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والله لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع )، وفي رواية المستدرك: ( خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع )، هذا أجر عظيم يحصله الإنسان عندما يربي أولاده تربية شرعية.
والحديث روي في صحيح ابن حبان أيضاً من رواية أبي هريرة ، وتقدم معنا أنه في السنن الكبرى للبيهقي ، وفي بعض روايات السنن الكبرى وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: ( تصدقوا! فقال رجل: عندي دينار يا رسول الله قال: أنفقه على نفسك )، وفي رواية في صحيح ابن حبان : ( تصدق به على نفسك )، أي: على نفسك لك به أجر الصدقة، فقال: ( يا رسول الله! عندي آخر، قال: تصدق به على زوجتك، فقال: يا رسول الله! عندي آخر ثالث، قال: تصدق به على ولدك، الأقرب فالأقرب، فقال: يا رسول الله! عندي دينار رابع، قال: تصدق به على خادمك، فقال يا رسول الله! عندي آخر، أي: دينار خامس، قال: أنت أفطن به )، وقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( أنت أفطن به )، يعني: إذا كنت عاقلاً قدمه بين يديك ليكون ذخراً لك عند ربك، فما أنفقته على نفسك وعلى زوجتك وعلى أولادك وعلى خادمك.. على نفسك وعلى من يحيط بك كل هذا استثمر، وما زاد أنت أفطن به، إن شئت أن تكنزه فلن يكون لك، وإن شئت أن تقدمه بين يديك فستلقاه عند ربك، فانظر الآن إلى عقلك وإلى رشدك، فإذا كنت عاقلاً قدمه بين يديك؛ لأن المال إذا أنفقته كان لك، وإذا أمسكته فإنك تخدمه ثم تموت وتتركه.
فانظر لهذا التوجيه من نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
أما ما يتعلق بأجر النفقة على الزوجة فسيأتينا في المبحث الثالث، وأشرت إليه في حسن عشرة كل من الزوجين لصاحبه عن طريق حسن معاملته، وعن طريق النفقة عليه، فهو يؤجر إذا أنفق عليها، وهي تؤجر إذا أنفقت عليه، كما أن كلاً منهما يؤجر عندما يسلك عشرة حسنة مع صاحبه، ويعاشر صاحبه عشرة حسنة.
إذاً: أنت تؤجر على النفقة على أولادك، ووردت في ذلك أحاديث كثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن هذه الأحاديث أيضاً ما في المسند وصحيح مسلم ، والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود ، ورواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى، من رواية ثوبان مولى نبينا عليه صلوات الله وسلامه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ثم دينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ثم دينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله )، إذاً: عندنا هنا ثلاثة دنانير، ( أفضل هذه الدنانير دينار تنفقه على أهلك )، أليس كذلك؟ على عياله، ثم بعد ذلك تنفق على دابتك من أجل أن تقاتل عليها، وتنفق على أصحابك في الغزو عندما تقاتلون لإعلاء كلمة الله، هذه أفضل الدنانير، على العيال.. على الدابة من أجل أن تقاتل عليها، وهي وسيلة الجهاد، سواء الدابة المتقدمة أو الأسلحة المتطورة في أيامنا التي تركبها، فلو قدر أنك أنفقت من أجل صنع طائرة أو صنع كذا أو كذا لتركبه ولتقاتل عليه في سبيل الله، فكل هذا تثاب عليه، وهو من النفقة في سبيل الله، وتضاعف أضعافاً مضاعفة.
ثم تنفق على أصحابك في الغزو، هذا من أفضل الدنانير التي تنفقها في هذه الحياة، ويمكن أن يكون معنى (في سبيل الله)، أي: أن تنفقه على أصحابك ابتغاء وجه الله، سواء كان في الجهاد والغزو لإعلاء الكلمة في سبيل الله، وإذا أطلقت تنصرف انصرافاً أولياً إلى الجهاد في سبيل الله، لكن لا مانع أن يعمم المعنى، فيقال: في سبيل الله كل ما أريد به وجه الله، وعليه ( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً )، يعني: لا داعي لقصر هذا على أنه إذا صام في حال القتال، كما قال عدد من أئمتنا، فالأمر أوسع من ذلك، لكن أول ما يدخل في هذا هو صنع الإنسان ذلك في حال الغزو، فهو في حال غزو وفرض، فيضاعف الله له الأجور، وهكذا لو صام ابتغاء وجه الله في غير الغزو له، إن شاء الله يحصل هذا الأجر بفضل الله ورحمته.
قال أبو قلابة راوي هذا الحديث عن ثوبان رضي الله عنه: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعيال، وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال له صغار يعفهم الله به، أو ينفعهم الله به ويهديهم، يقول: يغنيهم الله به، ويسد حاجتهم به، لا يوجد أعظم أجراً من هذا، ولذلك بدأ النبي عليه الصلاة والسلام بالنفقة على العيال.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر