الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فلا زلنا نتدارس التوريث عن طريق التقدير والاحتياط، وقلت: يدخل معنا في هذا المبحث من نشك في ذكورته وأنوثته، وفي حياته وموته، أما الأمر الأول فتقدم معنا أنه يدخل فيه الخنثى كما يدخل فيه الحمل، وأما الأمر الثاني هل هو حي أو ميت؟ موجود أو معدوم؟ فيدخل فيه الحمل أيضاً فهو مشترك بين الأمرين، ويدخل أيضاً فيه صنفان آخران: المفقود، والذين يموتون في موت جماعي من غرق أو حرق أو غير ذلك، أخذنا الحمل وانتهينا منه، ووصلنا إلى المفقود، وهذا ما سنتدارسه في هذه الموعظة إن شاء الله.
أولاً تعريف المفقود، المفقود: اسم مفعول من فقد الشيء يفقده إذا أضاعه، إذا أضاع الشيء فقد فقده، ولذلك يقول الله جل وعلا في سورة نبي الله يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام حكاية عن إخوته: قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ [يوسف:71-72]، والمراد من المفقود عندنا في مبحث الفرائض من انقطع خبره وجهل حاله، فلا يدرى أحي هو أم ميت، إما لأنه ذهب في سفر فلم يأت منه خبر، وإما أنه حضر قتالاً وما علمنا حاله، لا علمنا موته، ولا أنه على قيد الحياة، قطع خبره بعد القتال، إما أنه أسر، أو قتله الكفار، أو أنه دخل سجناً من السجود المظلمة في هذه الأيام التي تسمى بالسجون السياسية، فلم نعرف حاله، لا يسمحون لنا بزيارته، والأخبار منقطعة عنه، وأعرف من صار له ما يزيد عن عشر سنين في سجون بلدان المسلمين لا يعلم عنهم خبر، ولا في أي مكان هم، ولذلك فحكم المفقود باقٍ في زماننا كما هو موجود في الأيام الماضية، بل إن المفقود يتصور وقوعه حتى في بلادنا.
خرج مرةً بعض الناس في بعض الأماكن التي جعل الله فيها الحرم آمناً من بيته إلى عمله، فقبض عليه في طريقه إلى العمل، فجاء الظهر ولم يأت إلى البيت، فالأهل يقولون: لعله دعي إلى غداء، العشاء ما جاء إلى البيت، قالوا لعله خرج إلى نزهة وسياحة مع بعض إخوانه وسيأتي في منتصف الليل، فلما انقطع الخبر إلى هذا الحد وإلى اليوم الثاني اتصلوا بمركز عمله أين فلان؟ قالوا: نحن أنكرنا عدم حضوره أين فلان، لم ما جاء، خرج من البيت الصباح إلى العمل، فالجهات الظاهرة سألوا عنها فقالوا: ما عندنا خبر عنه، أين هو الرجل هل خطفته الجن؟ ممكن، لكن هناك جن من بني الإنس، وجن من الجن، وبعد الاتصال بأكبر سلطة تبين أنه عند جهة خفية للتحقيق معه، فكان ينبغي أن يكون أهله على علم.
فيا إخوتي الكرام هذا يقع بكثرة في هذه الأيام، ولذلك ما قاله بعض الناس ممن كتب في الفرائض في هذه الأيام الشيخ صالح الفوزان له كتاب التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية في صفحة ثلاثين ومائتين، يقول: في زماننا توفرت وسائل الإعلام والمواصلات، حتى صار العالم كله بمثابة البلد الواحد، فيمكن البحث عن المفقود في أسرع وقت وفي أي مكان، يقول: وهذا يختلف كثيراً عن الزمان السابق، ثم قال: والاجتهاد يكون في كل وقت بحسبه، يعني كأنه يريد أن يقول: المدة التي قدرها أئمتنا الآن ممكن أن نختصرها؛ لأن العالم كله كالبلدة الواحدة، وأنا أقول: نعم، هذا في حق أعداء الله لا في حق أولياء الله، في حق أولياء الله البلدة الواحدة عندنا في هذه الأيام أشد ضياعاً من العالم بأسره في الأيام السابقة وقبل وجود المواصلات؛ لأن الإنسان يؤخذ كما قلت في الطريق إلى المسجد، ولا يعلم أهله أين هو، هل هو حي أو ميت، تحت الأرض أو فوق الأرض، ما أحد يدري، ونحن في هذه الأيام لا نعيش حياةً آمنة، فالأمة الإسلامية تعيش نكبات وكربات لا نشعر بها.
أخبرني مرة بعض إخواننا يقول: كنت أمشي في طريق وإذا بإنسان يضرب على كتفي، قال: أين البطاقة؟ التي يسمونها التابعية؛ جواز سفر أو نحوه، قال: فأخرجتها قال: تفضل معنا، قلت: أتفضل معك لم؟ فأولئك أبرزوا له بطاقة على أنه من رجال الأمن، يقول: ركبت وأخذوني إلى مكان، ويعلم الله ما أحد من خلق الرحمن يعرف عني شيئاً، وبقي سنة كاملة ما أحد يعلم عنه شيئاً، في مدينة يزيد عدد أفرادها على مليون نسمة، يؤخذ من وسط الشارع، يقول: أخذوني وكان هذا في بداية فصل الشتاء، أوقفوني بعد ذلك في زنزانة ينزلون إليها بدرج، يسمى عندنا قبو أو بدروم أو حجرة داخلية، يقول: وضع رجله في ظهري وضربني، فبدأت أنزل على الدرج كأنني كرة يعني من رأسي لرجلي حتى هويت لخمسين درجة، ثلاثين درجة، مائة درجة، كم تحت الأرض؟ ما أعرف، إنما بدأت أهوي، وأغلق علي الباب، فبدأت أصيح هل يوجد أحد هنا في هذا السجن؟ فما سمعت صوتاً، فتلمست هذه الجدران حتى اهتديت بعد ذلك إلى وعاء فيه ماء موضوع، وإلى مكان فقط لقضاء الحاجة في هذا المكان، وبقيت يأتي إلي كل يوم يسب من على الباب ويلقي لي رغيفاً من الخبز فقط، وما يعلم بحالي إلا الله، لا تحتي فراش، ولا فوقي لحاف، وأنا الآن أعرفه بعد أن أفرج عنه، يلف على رجليه في أيام الصيف الصوف ويشعر بالبرد؛ لأن الروماتيزم سكن عظامه لا يمكن أن يشفى حتى يلقى ربه، يقول: يا شيخ! والله أشعر كأن عظامي تتكسر من البرد؛ لأنه كان يمضي فصل الشتاء بكامله والثلوج تتساقط في هذا المكان الذي ليس فيه فراش ولا لحاف.
وهذا حصل في بلد يقام فيها الصلاة، ويشعر أهلها أنهم حماة الإسلام، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، وأي بلد تخلو من ذلك يا عبد الله؟! نسأل الله اللطف وحسن الخاتمة، ولذلك قلت العالم كله الآن كالبلدة الواحدة هذا في حق من؟ في حق أعداء الله، يعني لو أنه الآن يختطف يهودي أو نصراني لوجدت إذاعات العالم كلها تتكلم، أما أولياء الله فلا أحد يدري أين هم، ويؤخذون من قبل من يدعي أنه مسلم أيضاً، ولعلكم يخفى عليكم الآن المؤتمرات التي تعقد من أجل محاربة الإرهاب في كل مكان، وآخرها الآن مؤتمر منعقد في تونس للبحث عن الإرهاب والإرهابيين، والقضاء عليهم بلا رحمة، من هم؟ باختصار هم الذين يصلون الفجر في جماعة وفي وجوههم اللحى.
هذه -إخوتي الكرام- حياتنا التي نعيشها، وأنا أعجب من هذه الظلمات التي نتخبط فيها وتخفى على الناس، يقولون: بلدان العالم كلها كبلدة واحدة، ولذلك الوقوف على حال المفقود الآن وهذه الفتيا يا إخوتي الكرام تشابه فتيا أخرى أفتى بها بعض الناس قال: لا يجوز للنساء أن يوكلن بالرمي في الرجم؛ لأنه ينبغي أن ترمي بنفسها، قلت: هذا ما يعرف واقع الحج، لأنه يذهب في سيارات فاخرة وتقطع له الطرقات وهو لا يمشي وجالس بعد ذلك في منى، عنده لحم وفاكهة وخيم مكيفة وغيرها، أما الناس فما تجد مكاناً تقف فيه على أرجلها، هذا ما يعرفه هو، ولو عرف واقع الحج لقال: الذي يأخذ زوجته لترجم قد يرتكب محظورات، عورات تكشف، والإنسان يمشي على مزابل أحياناً تزيد على ذراع، وطرق ضيقة، ولو أردت أن تأخذها في آخر الليل أيضاً فهو أشد وأشد، قال: لأنه لا يجوز أن توكل من غير ضرورة، وهل يوجد ضرورة أكثر من الأيام التي نعيش فيها؟ يعني ما سنة خلا فيها الحج من أناس يموتون عند الرجم، فإذا كان رجال يموتون فكيف نقول: لا يجوز للمرأة أن توكل في الرجم! نحن إخوتي الكرام لا نعيش أحوال المسلمين التي يعيشونها، وهنا كذلك يقول: المفقود الآن يمكن التعرف عليه بيسر وسهولة، أنت على أريكتك تفتح سماعة التلفون عندكم فلان؟ خلاص عرفت حاله.
والسؤال اليوم عن المفقود يجري الآن بواسطات تقدر أحياناً بألوف الريالات من أجل يسأل هل هو حي أو ميت؟ لا ليوصل إليه خبر أو يؤخذ منه خبر، نحن في البلدة الواحدة عندنا كما قلت ضياع أكثر من العالم بأسره كأننا من المحيط الهادي، نسأل الله أن يلطف بالمسلمين، وأن يفرج عنهم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إذاً الأصل أنه حي، وعليه ينبغي أن يرث ممن مات من مورثيه، نقدره حياً ونورثه، لكن سيأتينا هل يأخذه بعد ذلك ورثته إذا لم يأت منه خبر بعد أن حكمنا بموته، أو نعيد هذا المال للورثة الذين ورثوا معه ونعتبره غير وارث، إذاً الأصل أنه حي يرث من مورثيه فنترك له نصيباً، نوقفه كما تقدم معنا في الحمل، ونحتاط له، إذاً هذا من ناحية إرثه.
أما من ناحية الإرث منه فالأصل ألا نرثه، وألا نوزع تركته، وأن نحافظ عليها، وأن يوضع عليها رقيب وحافظ ينميها ويثمرها من قبل ولي الأمر، ولا يجوز أن يخرج عنه ماله دون يقين بموته، فإذاً هو وارث، ولا نمنعه من إرثه من غيره، وهكذا حقوقه التي لا تنتزع منه كزوجته فلا بد من أن يأتينا خبر نتحقق به خلاف ما هو ثابت له بيقين.
وقد اتفق أئمتنا الكرام على أن المفقود حي، والحياة لا تزول عنه إلا بمضي مدة، نعم اختلفوا في تقدير تلك المدة على حسب اختلاف حال المفقود، هذا موضوع آخر، لكن لا بد من مدة يتحقق بها موت المفقود وهلاكه من أجل أن نقول بعد ذلك: إنه مات فلا يرث من مات من مورثيه بعد الحكم عليه بالموت، والذي ورثناه قبل ذلك يأتينا الكلام عليه، وعندما نحكم بموته تعتد زوجته وتتزوج غيره بعد انتهاء العدة إن شاءت.
وقد تقدم معنا إخوتي الكرام ذكر هذا الكتاب في المحاضرة السابقة، وذكرت أنه من تأليف الإمام الخطيب الشربيني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقد أخطأت في ذلك، وقد نبهني بعض الإخوة الكرام على ذلك، فأرجو تصحيح ما سبق، والكتاب عندي وأنقل منه مباشرة، ولكنني وهمت فيما قلت، وهذا من ضعفي، فللأخ المنبه الشكر، وله ولكم جميعاً عظيم الأجر.
إذاً لا بد من أن يأتينا خبر بموته، وإذا لم يأت خبر فلا بد من التيقن بموته عن طريق موت أقرانه أو انتهاء أعمار أهل زمانه، الناس في هذه الأيام كم يعمرون ويعيشون؟ أقصى حد مائة سنة، لا بد من أن تحتاط حتى لا يبقى أحد من أقرانه، إذا بلغ مائة سنة من ولادته نحكم بموته، وهذا يقين على حسب ما عندنا من أمارات ودلالات ما بقي معنا أكثر من هذا، أعمار الناس لا تزيد على مائة، ولا نأخذ بالنادر والقليل إنما نأخذ بالأغلب والكثير نحتاط له، هل يوجد أحد في هذا الزمن يجاوز مائة؟ إذا كان يوجد فنحتاط له، فعلى هذا القول ما حددوه بعمر محدد، الأقران من ولدوا معه ودرجوا معه في هذا المكان، إذا لم يبق منهم أحد فحكمه كحكمهم، فإذا بقي واحد منهم فنقول: يمكن أن يكون حياً، كما أن هذا حي.
ثم اختلف الحنفية والشافعية رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين: هل تقدر هذه المدة بمدة محددة نضبطها؟ نحن قلنا: لا بد من التيقن بخبر أو موت الأقران، وهل نضبط موت الأقران بمدة؟ على قولين أيضاً، والقولان أيضاً من مذهبين:
القول الأول: هذه المدة تقدر، لكن من قبل ولي الأمر والحاكم، وهو يقدرها على حسب حال المفقود في كل وقت، وعلى حسب أقرانه، فلا يضع ولي الأمر ضابطاً واحداً لكل مفقود، إنما هو يقدر، فيقول: هذا ثمانين سنة وهذا تسعين لاعتبارات يراها، فلولي الأمر أن يضبط هذه المدة، وهذا قال عنه الإمام النووي في روضة الطالبين: إنه أصح القولين.
وقال في السراجية: هذا هو المختار والأشبه بقواعد الإمام أبا حنيفة عليه رحمة الله، فهذا الذي صححه النووي من الشافعية، وصاحب السراجية يقول: هذا المختار والأشبه بقواعد الإمام. أي: أبي حنيفة.
وقيل وهو قول ثانٍ له: إن المدة تحدد بحيث إذا جاوزها المفقود حكم بموته، وقيل: هي سبعون سنة، وقيل: خمس وسبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: تسعون، وقيل: مائة، وقيل: مائة وعشرون، وهذا أقصى ما قيل. والعمدة في قول الحنفية والشافعية أمران حسب القولين المنقولين:
الأمر الأول: المفقود حي وحياته متيقنة، فلا يترك ذلك اليقين إلا بها، ونقل هذا عن جم غفير من السلف المتقدمين، منهم: سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، ثبت في مصنف عبد الرزاق في الجزء السابع صفحة تسعين، ومصنف ابن أبي شيبة في الجزء الرابع صفحة ست وثلاثين ومائتين، والحديث رواه سعيد بن منصور في سننه في الجزء الأول صفحة اثنتين وأربعمائة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء السابع صفحة ست وأربعين وأربعمائة، ونسبه الإمام ابن حجر في الفتح في الجزء التاسع صفحة واحدة وثلاثين وأربعمائة إلى أبي عبيد في كتاب النكاح لـأبي عبيد ، ورواه الإمام الشافعي في الأم كما في التلخيص الحبير في الجزء الثالث صفحة خمس وستين ومائتين، وإسناد الأثر كما سيأتينا حسن معتبر عن علي رضي الله عنه وأرضاه: أنه سئل عن امرأة المفقود كم تنتظر وتتربص لتعتد وتتزوج؟ قال: هذه امرأة ابتليت، فلتصبر، لا تنكح حتى يأتيها يقين. يعني: يقين بموته وخبر جازم قطعي بذلك.
قال الإمام الشافعي بعد رواية أثر علي رضي الله عنه وأرضاه: وبهذا نقول، وقال الإمام البيهقي في السنن الكبرى: هذا هو المشهور عن علي ، وقد وافقه على ذلك عبد الله بن مسعود من الصحابة الكرام أيضاً، كما في مصنف عبد الرزاق في المكان المتقدم الذي ذكرته، والأثر في المحلى لـابن حزم في الجزء العاشر صفحة ثمان وثلاثين ومائة عن ابن جريج قال: بلغني أن ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وافق علياً رضي الله عنه وأرضاه على أنها تنتظره أبداً، أي: امرأة المفقود تنتظر المفقود أبداً حتى يأتي يقين بموته، وقد نقل هذه الموافقة أيضاً الحافظ ابن حجر في الفتح وفي التلخيص الحبير كما تقدم معنا.
إذاً: هذان صحابيان علي وابن مسعود قالا بهذا، وقال بهذا القول جم غفير من السلف من التابعين أيضاً، نقل هذا عن إبراهيم النخعي كما في مصنف عبد الرزاق في المكان المتقدم تزيد صفحة أو تنقص صفحة ما يضر هناك صفحة تسعين وهنا واحدة وتسعين، لا أريد أن أعيد الصفحات، وفي سنن سعيد بن منصور ، وفي مصنف ابن أبي شيبة ، وفي المحلى لـابن حزم عن إبراهيم النخعي ، قال: في المرأة تفقد زوجها، أو يأخذه العدو تصبر، فإنما هي امرأته- امرأة المفقود- يصيبها ما أصاب النساء حتى يجيء زوجها، أو يبلغها أنه مات.
ونقله ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي قلابة ، وجابر بن زيد ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان ، ونقله البيهقي في السنن الكبرى، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في امرأة المفقود: تلوم وتصبر، تلوم، أي: تتلوم بمعنى تنتظر وتتأنى وتتريث، قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء التاسع صفحة واحدة وثلاثين وأربعمائة: وهذا هو قول الفقهاء أهل الكوفة، وهو قول الشافعي ، وقال به بعض أصحاب أهل الحديث، وإذا أطلق أهل الكوفة فالمراد بهم الحنفية ومن معهم فيطلق على قول سفيان الثوري ، وعلى قول أبي ثور وابن شبرمة هؤلاء كلهم كانوا في الكوفة رضي الله عنهم وأرضاهم، لكن تنفرد أصالةً بفقهاء الحنفية، ولذلك قلت: وقول أبي حنيفة ، وما خرج عن المذاهب الأربعة دائماً لا نعرج عليه، فلا داعي لذكرهم، ولو قدر أن بعض أهل الكوفة خالف أبا حنيفة أو قول مالك أو الشافعي ، فأقوالهم داخلة ضمن المذاهب الأربعة، فلا داعي لكثرة التفريعات، يعني عندنا الآن قول أبي حنيفة والشافعي على هذا القول، وهو أنه لا بد من موت الأقران، وأن يأتيها خبر يقين بأنه مات، هذا المنقول عن علي وابن مسعود ، ونقل عن النخعي وعن حماد بن أبي سليمان ، وعن جم غفير رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال به بعض أهل الحديث أيضاً كما يقول الحافظ ابن حجر في الفتح.
وهذا القول الذي نقل عن الصحابيين وعن عدد من التابعين روي مرفوعاً إلى نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام لكن بإسناد لا يثبت كما قال الإمام البيهقي في السنن الكبرى، وعبارته روي فيه حديث في إسناده من لا يحتج بحديثه، والحديث رواه البيهقي ورواه الدارقطني في سننه في الجزء الثالث صفحة اثنتي عشرة وثلاثمائة، ولفظ الحديث عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان)، امرأة المفقود امرأته، يعني: لا تخرج من عصمته، ولا تعتد حتى يأتيها البيان.
وفي رواية الدارقطني : (امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها الخبر)، يعني: بموته.
قال الإمام البيهقي : فيه سوار بن مصعب ، وهو ضعيف، وقد حكم عليه الإمام أحمد والدارقطني بالترك فقالا: متروك كما في المغني في الضعفاء في الجزء الأول صفحة تسعين ومائتين، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، وفي كتاب العلل لـابن أبي حاتم في الجزء الأول صفحة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، قال: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر، لكن علل أبو حاتم رد الحديث وتضعيفه بغير العلة التي تقدمت معنا وهي سوار ففيه راو آخر وهو محمد بن شرحبيل ، فقال: هذا حديث منكر، محمد بن شرحبيل متروك الحديث، يروي عن المغيرة بن شعبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث مناكير أباطيل، هذا كلام أبي حاتم في محمد بن شرحبيل .
قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية في الجزء الثالث صفحة ثلاث وسبعين وأربعمائة: وقد ذكر عبد الحق الحديث في أحكامه، يعني: حديث المغيرة بن شعبة (امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان) حتى يأتيها الخبر، ذكر الحديث في أحكامه، وأعله بـمحمد بن شرحبيل ، فقال: إنه متروك، وقال ابن القطان : لا زال الكلام بواسطة نقل الإمام الزيلعي ، وسوار بن مصعب أشهر في المتروكين منه، يعني: من محمد بن شرحبيل ، ودونه صالح بن مالك ، وهذه علة ثالثة، لا يعرف، وهو الراوي عن سوار ، وسوار هو الراوي عن محمد بن شرحبيل ، ومحمد بن شرحبيل هو راوي عن المغيرة ، ودونه محمد بن الفضل ولا يعرف حاله، فعندنا مجهولان ومتروكان.
وقال الحافظ ابن حجر في الدراية في تلخيص نصب الراية في الجزء الثاني صفحة ثلاث وأربعين ومائة: إسناده ضعيف، فيه سوار بن مصعب ، ومحمد بن شرحبيل وهما متروكان، وقال الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء التاسع صفحة أربع وثلاثين ومائة: لم يثبت هذا الحديث، ولم يذكره أحد من أصحاب السنن، وقال الحافظ في التلخيص أيضاً في الجزء الثالث صفحة واحدة وستين ومائتين: إسناده ضعيف ضعفه أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان وغيرهم كما تقدم معنا، فإذاً روي أيضاً مرفوعاً وهو أن (امرأة المفقود امرأة للمفقود لا تخرج عن عصمته، حتى يأتيها الخبر اليقين بموته).
إذاً العمدة والدليل الأول آثار منقولة عن السلف، وروي الأثر مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لكن بإسناد ضعيف، أنه لا بد من يقين بذلك.
إذاً: لا نترك يقين الحياة إلا بيقين الموت، فإذا ما علمنا فنأتي إلى ما ينزل منزلة علمنا بموته ألا وهو موت أقرانه، واعتبار أعمار أهل زمانه، وهذا هو القول الثاني لهم، قلنا: الأول: قالوا: لا نترك اليقين إلا بيقين وهو وصول الخبر بموته، وهل ذلك الخبر يحدد أم لا؟ قالوا: إما يحدده ولي الأمر، وإما نضع مدة لذلك معتبرة في الشرع تنزل منزلة اليقين على أنه ميت إذا انتهت تلك المدة؛ لأنه لا يمكن أن يعيش بعدها، والعلم عند الله جل وعلا.
إذاً تيقن خبر موته إذا لم يبلغنا نلجأ إلى ما ينزل منزلته ألا وهو قولهم الثاني: موت الأقران وأعمار أهل الزمان، وما قالوه في القول الثاني من أن المدة تحدد لموته إما من قبل ولي الأمر، أو من قبل مدة معتبرة في الشرع، القولان معتبران، يعني لو قدر ولي الأمر هذا فله ذلك، هو المسئول عن أمور المسلمين العامة، ولو وضع لذلك ضابطاً محدداً من قبل العلماء بالنظر إلى الأقران أيضاً فذلك معتبر، فلو حدد ولي الأمر لم يخرج تحديده عما هو معتبر في الحقيقة، وهو النظر إلى الأقران وأعمار هذه الأمة الإسلامية، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أن أعمار هذه الأمة قل أن تزيد على السبعين، ولذلك كان فقهاؤنا يسمون السبعين دقاقة الأعناق، يعني أن من وصل إليها ففي الغالب سينتهي أجله.
وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا، ففي سنن الترمذي وابن ماجه والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد، ورواه الإمام القضاعي في مسنده، والحديث قد حسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الجزء الحادي عشر صفحة أربعين ومائتين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)، من يقطعه ويتجاوزه ويزيد على السبعين، والحديث رواه أبو يعلى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
وانظروا الروايات المتعددة لهذا الحديث عن عدة من الصحابة كـابن عمر وغيره رضي الله عنهم أجمعين في المقاصد الحسنة للإمام السخاوي صفحة ست وستين، وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر : (أقل أمتي من يبلغوا السبعين سنة)، هذا القليل في الأمة من يصل إلى السبعين، والأكثر يموتون دون ذلك.
فإذاً التحديد بسبعين سنة لأن هذا هو غالب أعمار هذه الأمة، وما جاوزه قليل قليل، وهذا هو المعتمد عند المالكية في حد التعميم سبعون سنة، وسيأتينا عند قول المالكية إن شاء الله، إذا ضربت مدة للإنسان إذا فقد فهو قسم المفقود إلى أربعة أصناف وسيأتينا حال أصناف المفقود عندهم.
وهذا الحديث إخوتي الكرام ورد أيضاً ما يماثله عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وفيه أيضاً بيان مقدار عمر هذه الأمة، الحديث روي أيضاً في المسند وصحيح البخاري ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد من رواية أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة)، يعني: قطع عذره وما بقي له متمسك في أنه ما عمر ليراجع عقله.
وفي بعض روايات الحديث كما في المسند وتاريخ بغداد، انظروا تاريخ بغداد في الجزء الأول صفحة تسعين ومائتين بعد روايات الحديث: (من أتت عليه ستون سنةً من أمتي فقد أعذر الله إليه في العمر)، وفي رواية في المسند والمستدرك، انظروها في الجزء الثاني صفحة ثمان وأربعين وأربعمائة من مستدرك الحاكم : (لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه)، مرتين من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث رواه الحاكم في المستدرك في المكان المتقدم بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبي من رواية سهل بن سعد ، الرواية الأولى من رواية أبي هريرة ، وهنا من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمر من أمتي سبعين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر).
وفي المقاصد الحسنة ينقل عن العسكري أنه قيل لـعبد الملك بن مروان : كم تعد يا أمير المؤمنين؟ يعني من السنين، فبكى وقال: أنا في معترك المنايا، بلغت ثلاثاً وستين سنة، قالوا: فما أكملها حتى مات، فالمالكية وكما قلنا هنا الآن نحن في قول الحنفية والشافعية قالوا: سبعون معتبر؛ لأن هذا هو غالب عمر هذه الأمة، والقليل من يجاوز، هذا على القول بالتحديد في فترة معينة، وقيل خمس وسبعون وقيل ثمانون وقيل تسعون، وهي التي اختارها الإمام الزيلعي في تبيين الحقائق من فقه الحنفية، قال: وعليها الفتوى، يقول: لأن هذا نادر من يصل إليه، أما من يجاوزه فأندر من الكبريت الأحمر، ثم وجد من زاد من أجل الاحتياط مائة إلى مائة وعشرين سنة، وحقيقةً لو ضربت المدة الأخيرة فما أظن يتجاوزها الإنسان، نسأل الله حسن الخاتمة.
إذاً هذا قول الحنفية والشافعية.
القسم الأول: قالوا: مفقود يغلب على فقده الهلاك والتلف، والموت والعطب، كمن فقد في المعركة، حصلت موقعة بين المؤمنين والكفار وفقد، أو من فقد أيام انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة كالطاعون وغيره وليس عندنا خبر عنه، أو كمن خرج -انظر إلى قول الحنابلة وفقههم وبعد نظرهم- إلى الصلاة فلم يعد، يقول: هذا في الغالب غيبته الآن خطرة، إما اغتيل أو قتل وما عدنا نقف على القاتل.
الأصل إذا خرج أنه يعود، ومن سافر لطلب العلم أو تجارة وتأخر فالغالب عليه السلامة، أما، هنا فذهب ليصلي ولم يعد، حقيقةً انقطاعه فيه ريبة، الغالب أنه اغتيل وقتل لكن ما وقفنا على قاتله، وما أكثر من يحصل له هذا.
على كل حال إذا كان انقطاعه يغلب عليه أن يهلك وأن يتلف فيه، فقدروا للمفقود أربع سنوات، فإذا ما عاد يحكم بموته، فإذا حكم بموته يقسم ماله، وتعتد زوجته وتتزوج بعد انتهاء العدة إن شاءت، هذا عند الحنابلة أربع سنوات فقط، وعمدة هذا القول قبل أن نذهب إلى الحالة الثانية من أحوال المفقود عدة أمور معتبرة:
أولها على حسب قول الحنابلة: اتفاق الصحابة على تزويج امرأته إذا مضت أربع سنين بعد أن تعتد بعد مضي أربع سنين. قال ابن قدامة : وإذا ثبت ذلك في النكاح مع الاحتياط في الأبضاع ففي المال من باب أولى، يعني إذا قلنا: زوجة المفقود تمكث أربع سنين بعد فقده ثم تعتد وتتزوج، فمن باب أولى من أن نقتسم ماله.
القول الثاني عندهم في تعليل هذا وتدعيمه، قالوا: الظاهر هلاكه، فأشبه ما لو مضت مدة لا يعيش في مثلها، يعني كما أنكم قدرتم معشر الحنفية والشافعية هناك موت الأقران سبعين إلى مائة وعشرين، هذه الحالة تشبه تلك، هنا الظاهر أنه لا يعيش بعد هذه الفترة التي هي أربع سنوات؛ لأن هذا انقطاع يغلب عليه الهلاك، أما إذا كان لا يغلب عليه الهلاك فسيأتينا تقدير الحنابلة أيضاً وهو تسعون سنة، قالوا: تقدر له تسعون سنة إذا كان لا يغلب عليه الهلاك، لكن هنا قالوا: إذا كان يغلب على سفره الهلاك فالظاهر أنه لا يعيش بعد أربع سنوات، فصار حاله كما قدرتم في المفقود مطلقاً، لكن أنتم ما نوعتم أحوال المفقود إلى حالة يغلب عليه فيها الهلاك وإلى حالة يغلب عليه فيها السلامة، فنحن نقول: هذه الحالة تشبه تلك الحالة.
القول الثالث والحجة الثالثة عندهم أشار إليها الإمام الباجي في المنتقى في الجزء الرابع صفحة واحدة وتسعين، فقال: هذا القول يترجح ويتقوى من جهة المعنى، وهو أن المرأة لها حق في الزوج، ولو كان الزوج حاضراً لفرق بينهما بسبب العنة وهو حاضر، ولا يستطيع أن يقترب من زوجته لأنه عنين يفرق بينهما بعد أن يؤجل سنة، ومغيب عينه أشد من عنته، فتثبت لها الفرقة من باب أولى بعد مضي أربع سنوات.
وسيأتينا أن المالكية أخذوا بهذا، لكن في حق الزوج لا في حق توزيع المال، قالوا: بعد أربع سنين الزوجة تعتد وتتزوج، أما المال فلا بد من مضي مدة التعمير وهي سبعون سنة على حسب أحوال المفقود التي ستأتي عندهم، منهم من يقسم ماله وتعتد زوجته بعد فقده مباشرةً دون أن تنتظر ولا سنةً واحدة، وقيل تنتظر سنة، وقيل أربع سنوات.
منها: المصنف لـعبد الرزاق وكنت ذكرته سابقاً، والمصنف لـابن أبي شيبة ، والأثر رواه الدارقطني في السنن، وسعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن أبي الدنيا كما في كتاب آكام المرجان للإمام الشربيني وفي لقط المرجان، وانظروا تخريج الأثر والكلام عليه في نصب الراية في الجزء الثالث صفحة واحدة وسبعين وأربعمائة، وفي مختصر الدراية للحافظ ابن حجر ، وفي التلخيص الحبير في الجزء الثالث صفحة أربع وستين ومائتين إلى ست وستين ومائتين، وانظروه في المغني لـابن قدامة في الجزء التاسع صفحة أربع وثلاثين ومائة، ونقل عن الإمام أحمد أن هذا الأثر يروى عن عمر من ثلاثة وجوه، ولم يعرف الصحابة له مخالف، وانظروه في المحلى فقد ساقه بإسناده في الجزء العاشر صفحة أربع وثلاثين ومائة.
هذا القضاء فيمن استهوته الجن خطفته الجن كما تقدم معنا، وقضى قضاءً مطلقاً في امرأة المفقود دون تلك الواقعة، وقضاؤه ثابت عنه من ثمانية أوجه كما قال الإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، رواه سعيد بن منصور في سننه، وعبد الرزاق في مصنفه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والإمام مالك في الموطأ في الجزء الثاني صفحة خمس وسبعين وخمسمائة، وانظروا شرح الإمام الزرقاني على الموطأ في الجزء الثالث صفحة تسع وتسعين ومائة، وهو في السنن الكبرى للإمام البيهقي ، ورواه ابن حزم في المحلى، والأثر صحيح ثابت عن ثاني الخلفاء الراشدين عليهم جميعاً رضوان الله رب العالمين.
ولفظ الأثر: [أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو، فإنها تنتظر أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشراً -يعني عدة الوفاة- ثم تحل إن أرادت أن تتزوج فلا حرج عليها].
قال الإمام أحمد كما في المغني لـابن قدامة عليهم جميعاً رحمة الله: روي من ثمانية أوجه عن عمر رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً، قال: وهو أحسنها، أي: هذا القضاء، وهو في المغني صفحة اثنتين وثلاثين ومائة، قال الأثرم : قيل لـأبي عبد الله : تذهب إلى حديث عمر ؟ قال له: وأحسنها يروى عن عمر من ثمانية وجوه، ثم قال: زعموا أن عمر رجع عن هذا، قلت: فروي من وجه ضعيف أن عمر قال بخلاف هذا؟ قال: لا، إلا أن يكون إنسان يكذب، وقلت له مرةً: إن إنساناً قال لي: إن أبا عبد الله قد ترك قوله في المفقود بعدك، يعني بعد أن كلمه الإمام الأثرم ، فضحك ثم قال: من ترك هذا القول؟! أي شيء يقول؟ ثم قال: وهذا قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير ، قال أحمد : خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وقتادة والليث وعلي بن المديني وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وبه يقول مالك والشافعي في القديم، والمفتى به عند الشافعي في الجديد ما تقدم معنا، ولو حكم الإنسان بالمذهب القديم ينقض عندهم كما نصوا عليه، إلا أن مالكاً قال: ليس في انتظار من يفقد في القتال وقت سيأتينا هذا، وقال سعيد بن المسيب في امرأة المفقود بين الصفين تتربص سنةً؛ لأن غلبة هلاكها هنا أكثر من غلبة غيره لوجود سببه.
والإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في نهاية الأمر توقف في هذا القضاء، في نهاية الأمر لما قيل له: الآثار مختلفة، كأنه أمسك عن الكلام في ذلك، وربما كان هذا من باب التورع والاحتياط، أو أنه رجع عن قوله وتوقف عنه كما في المغني.
إذاً هذا قضاء عمر في قصة خاصة، وقضى به قضاءً عاماً مطلقاً، أن امرأة المفقود تمكث أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة، ثم تحل، ونقل هذا القضاء عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه في مصنف ابن أبي شيبة ، والسنن الكبرى للبيهقي ، ورواه ابن حزم في المحلى، وثبت هذا القضاء عن ابن مسعود ، وهو غير الخمسة الذين تقدموا معنا، يقول الإمام ابن حجر في الفتح : ثبت عن ابن مسعود أيضاً في الجزء التاسع صفحة واحدة وثلاثين وأربعمائة، وقد بحثت عن هذا الأثر في الكتب فما رأيت أحداً نسب إليه ذلك، لكن ذكروا الأثر المتقدم ألا وهو أن ابن مسعود تابع علياً فيما تقدم معنا عن ابن جريج في مصنف عبد الرزاق ، أن ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين تابع علي في أن امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها الخبر ويأتيها اليقين، يعني خلاف ما قاله في المفقود هنا، فلعله كان يقول: ثم رجع عن قوله إلى قول علي ، والعلم عند الله جل وعلا.
إذاً ونقل هذا القضاء عن ابن عباس ، وابن عمر هنا معنا يصبح زيادة على ابن الزبير ، طبعاً من الصحابة على التفصيل، والقضاء عنهما ثابت في سنن سعيد بن منصور ، ومصنف ابن أبي شيبة ، والسنن الكبرى للبيهقي ، قال ابن حزم في المحلى: هذا صحيح عن ابن عباس وابن عمر ، وقال الحافظ في الفتح: روي هذا عن ابن عباس وابن عمر بسند صحيح.
وعليه خلاصة الكلام تقول: عمر وعثمان وعلي ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وعلي النقل عنه مختلف كما تقدم معنا، قال بهذا وقال بما تقدم معنا: أن امرأة المفقود امرأته لا تنتظره أربع سنين، إنما تنتظر حتى يأتيها اليقين. عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير ، وابن مسعود.
هؤلاء الصحابة بينت النقول عنهم، أثر ابن مسعود قلت لكم: لم أقف عليه إلا أنه رجع إلى قول علي ، وأما قضاء علي في هذه المسألة فرواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى في الجزء السابع صفحة خمس وأربعين وأربعمائة، وسبع وأربعين وأربعمائة، ورواه ابن حزم في المحلى في الجزء العاشر صفحة سبع وثلاثين ومائة، وقال ابن حزم : هذا صحيح عن علي رضي الله عنه وأرضاه: أنها تمكث أربع سنين ثم تعتد عدة الوفاة ثم تحل، لكن البيهقي خالف وضعف الأثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه، فقال البيهقي في السنن الكبرى: يرويه خناس بن عمرو عن علي ، وأبو المليح عنه، أي: عن علي أيضاً، ورواية خناس عن علي ضعيفة، ورواية أبي المليح عن علي مرسلة فهو لم يسمع من علي ، والمشهور عن علي خلاف هذا كما تقدم، وهو أن امرأة المفقود امرأة له حتى يأتيها الخبر والبيان.
والإمام ابن قدامة خالف البيهقي وقال بعكس كلامه، ففي الجزء التاسع من المغني صفحة خمس وثلاثين ومائة قال: وما رووه عن علي من أن امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان، فيرويه الحكم وحماد عن علي مرسلاً، الأثر الذي تقدم معنا، وتقدم معنا أن ذاك الأثر صحيح، وهو المشهور وصححه الحافظ ابن حجر ، يقول: والمسند عن علي ، أي: الذي روي عنه بسند متصل يقول: إنها تمكث أربع سنين ثم تعتد، والذي يظهر والعلم عند الله أن كلام البيهقي أدق وأقوى من كلام ابن حزم وابن قدامة فاسمعوا كلام أئمتنا في هذين الراويين للأثر عن علي .
أولهما: خناس بن عمرو الهجري البصري ثقة، وكان يرسل كثيراً، وكان على شرطة علي ، وقد أخرج حديثه أهل الكتب الستة رضي الله عنهم أجمعين، وحديثه في البخاري مقرون بغيره، قال الإمام أحمد وأبو حاتم كما في تهذيب التهذيب في الجزء الثالث صفحة سبع وسبعين ومائة: يروي عن علي بواسطة كتاب، يعني: ما شافهه وأخذ عنه، يروي بواسطة كتاب، والكتاب لو كان مضبوطاً لا بأس لكن سيأتينا أن هذا الكتاب كتاب الحارث الأعور الذي هو ضعيف، فكان يروي من كتاب الحارث ويضيفه إلى علي ، وقال يحيى بن سعيد القطان : لم يسمع خناس بن عمرو من عمر ولا من علي .
وقال أحمد كما في تهذيب التهذيب رضي الله عنهم أجمعين: كانوا يخشون أن يحدث من صحيفة الحارث الأعور ، عن علي ، والحارث الأعور اتهم بالكذب على سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً عندنا الآن هنا رواية خناس عن علي التي مال أئمتنا إلى أنها منقطعة كما قال الحافظ البيهقي ، هو ثقة، لكن روايته عن علي فيها ضعف، سبب الضعف أنه يروي بواسطة الحارث الأعور من صحيفته.
وأما أبو المليح فتقدم معنا ذكر أبي المليح في أول حديث من سنن الترمذي ، وفي الباب عن أبي المليح عن أبيه، توفي سنة ثمان وتسعين، وقيل: سنة ثمانية ومائة، وقيل: بعدها، وهو ثقة، واسمه زيد أو زياد ، وعليه زيد بن أسامة بن عمير الهذلي أبو المليح ، أو زياد كما تقدم معنا، هذا لم يسمع من علي ، فروايته عنه منقطعة، وهنا مرسل، وهناك روى بواسطة صحيفة الحارث ، فروايته عن علي بواسطة كتاب وصحيفة، وتلك الصحيفة كما قلت فيها ما فيها.
وعليه الأثر على حسب الصناعة الحديثية والعلم عند الله فيه ضعف من ناحية ثبوته، وثبت عن علي خلافه كما تقدم معنا: أن امرأة المفقود امرأة له حتى يأتيها البيان والخبر، وأنها ابتليت فيجب عليها أن تصبر.
إذاً قولهم هنا: هذا القول يتقوى لثلاثة أمور:
الأول: قضاء الصحابة لا شك، لكن الإجماع هذا فيه نزاع.
الثاني: هذه المدة يغلب عليه فيها الهلاك والعطب فلا يمكن أن يعيش بعدها.
الثالث: من حيث المعنى، يفرق بينهما مع حضوره من أجل عنته، فمن أجل غيبته من باب أولى.
على العين والرأس من ناحية التفريق هذا شيء، لكن من ناحية الحكم عليه بموته لنرث عنه ماله هذا شيء آخر، فلو فرقنا أيضاً بين الأمرين فقلنا: الزوجة من أجل دفع الضر عنها تعتد وتحل، وأما المال فنحتفظ به إلى أن يموت أقرانه؛ لئلا نوزع تركته بعد أربع سنين فيأتي بعد ذلك، والعلم عند الله، هذا القول قبل أن ننتقل إلى حال المفقود الثاني عند الحنابلة، وهذا القول: انفرد به الإمام أحمد من المذاهب الأربعة، وبعد أن قاله نقل عنه ما يشبه أنه توقف فيه.
وإليكم ما قاله الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء التاسع صفحة ثلاث وثلاثين ومائة، قال: وقد نقل عن أحمد أنه قال: كنت أقول: إذا تربصت أربع سنين، ثم اعتدت أربعة أشهر وعشراً تزوجت، وقد ارتبت فيها، تشككت فيها، وهبت الجواب فيها لما اختلف الناس فيها، فكأني أحب السلامة، قال الإمام ابن قدامة : وهذا توقف يحتمل الرجوع عما قاله، وتتربص أبداً، يعني كما قال الحنفية والشافعية وسيأتينا أيضاً قول للمالكية في بعض أنواع المفقود، ويحتمل هذا القول التورع، ويكون المذهب ما قاله أولاً.
قال القاضي : أكثر أصحابنا على أن المذهب رواية واحدة، وهي في حال غلبة الهلاك عليه تمكث أربع سنين ثم تعتد وتتزوج إن شاءت، وعندي أن المسألة على روايتين، وقال أبو بكر : الذي أقول به إن صح الاختلاف في المسألة: ألا يحكم بحكم ثان إلا بدليل على الانتقاد، وإن ثبت الإجماع فالحكم فيه على ما نص عليه، وظاهر المذهب على ما حكيناه أولاً، نقله عن أحمد الجماعة، وقد أنكر أحمد رواية من روى عنه الرجوع، كما تقدم معنا على ما حكيناه من رواية الأثر، يعني أيضاً هل هذا يعتبر رواية ثانية، أو أن الإمام أحمد توقف، أو أنه قال هذا تورعاً.
لكن المعتمد عند الحنابلة وعليه مشت كتبهم: أن المفقود ينقسم إلى قسمين: مفقود يغلب على فقده الهلاك والموت والتلف فيقدر له أربعة سنوات، ثم تعتد الزوجة وتتزوج إن شاءت، والمال يقسم بعد أربع سنوات حتى قبل انتهاء عدة الزوجة، متى ما مضت أربع سنوات حكمت بموته وقسمت تركته.
الحالة الثانية: للمفقود عند الحنابلة مفقود يغلب عليه السلامة، فللحنابلة للإمام أحمد وأتباعه قولان في شأنه:
القول الأول: كالقول الأول عند الحنفية والشافعية، نؤجله إلى مدة لا يعيش فيها غالباً، وقد مات فيها أمثاله وأقرانه، ولا تقدر تلك المدة بمقدار معين، إنما هي موكولة لولي الأمر وللحاكم؛ لأن التقدير لا يصار إليه إلا بتوقيف، ولا يوجد نص في تقدير مدة المفقود، هذا القول الأول للحالة الثانية.
القول الثاني عندهم: أننا نقدر على حسب الغالب في الناس، ومدة التقدير عندهم تسعون سنة فقط.
قالوا هم: الغالب بعد التسعين لا يعيش الإنسان، فنأخذ بالغالب وانتهى الأمر، أما مجاوزة السبعين فلا تخلو بلدة ولا قرية ممن يزيد على السبعين، لكن من يزيد على التسعين قليل جداً، يعني لو قلت: من الألف واحد لما بالغت أما من يزيد على السبعين فممكن تقول: من الألف خمسة عشرة، وهي نسبة كثيرة، فقالوا: نحتاط في المدة إذا قدرنا، فلهم قولان في هذه الحالة: قول: لا نقدر، وولي الأمر هو الذي يحدد، وقول: نضع مدة مضروبة وهي تسعون سنة، والعلم عند الله.
المفقود الأول: قالوا: هو الذي ينقطع خبره ولا يعلم حاله من بلاد المسلمين، فمن حيث الصلة الزوجية تمكث الزوجة أربع سنوات ثم تعتد عدة الوفاة، وتملك نفسها بعد ذلك فلها أن تتزوج إن شاءت، هذا من ناحية الصلة الزوجية.
ومن ناحية قسم المال ننتظر مدة التعمير المضروبة، وهي عندهم سبعون سنة على المعتمد عندهم.
وقيل: خمس وسبعون، وهو قول ضعيف عند المالكية، ثم قالوا: واختار الشيخان ثمانين سنة، وضعفه المالكية وقالوا: العمدة هو الأول، ويريدون بالشيخين دائماً الشيخ الأول: أبا محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني الذي يقال له: مالك الصغير ، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا الكبير سبحانه وتعالى، برز في العلم والعمل، وكان على طريقة السلف كما قال أئمتنا في الأصول لا يدري الكلام ولا يتأول صفات الرحمن، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء السابع عشر صفحة عشر فما بعدها، وتوفي سنة ست وثمانين وثلاثمائة للهجرة، والشيخ الثاني القادسي ، وهو أبو الحسن علي بن محمد عالم المغرب، توفي سنة ثلاث وأربعمائة للهجرة، في السنة التي مات فيها أبو بكر بن الباقلاني عليهم جميعاً رحمة الله، وكان ضريراً، انظروا ترجمته أيضاً في السير في الجزء الثاني عشر صفحة ثمان وخمسين ومائة، وانظروا شجرة النور الزكية في تراجم المالكية في صفحة ست وتسعين ترجم الأول، وفي صفحة سبع وتسعين ترجم الثاني.
يقول هنا في حاشية الدسوقي: اختار الشيخان في الجزء الثاني صفحة ثمان وعشرين وأربعمائة: أنها ثمانون سنة.
إذاً هذا المفقود الأول فقد في بلاد المسلمين، وله حكمان: من ناحية الصلة الزوجية تمكث أربع سنين ثم تعتد وتحل، بل إذا انتهت العدة ملكت نفسها كما سيأتينا فلو جاء زوجها فلا صلة له بها إلا إن رضيت، كما لو طلقها وانتهت عدتها، وأما المال فلا يقسم نحتاط من حيث المال حتى تنتهي مدة التعمير، وهي عندهم سبعون سنة.
المفقود الثاني: فقد في بلاد الشرك، وهكذا الأسير أسره المشركون، أو ذهب إلى بلاد الشرك وفقد وليس في معركة بيننا وبينهم، بل ذهب إلى بلاد الشرك والكفر وفقد وانقطع خبره، يقول: ففي هذه الحالة ننتظر مدة التعمير في الأمرين: في الزوجة وفي المال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر