الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
انتهينا من مدارسة الباب الثالث من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى جميع المسلمين رحمات رب العالمين، وندخل الآن في الباب الرابع إن شاء الله: [باب ما يقول إذا دخل الخلاء].
قال الإمام أبو عيسى الترمذي عليه رحمة الله: [ حدثنا قتيبة وهناد قالا: حدثنا وكيع عن شعبة ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك -قال
قال أبو عيسى : وفي الباب عن علي وزيد بن أرقم وجابر وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو عيسى : حديث أنس أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وحديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب، روى هشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، فقال سعيد : عن القاسم بن عوف الشيباني ، عن زيد بن أرقم ، وقال هشام الدستوائي : عن قتادة ، عن زيد بن أرقم ، ورواه شعبة ومعمر عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، فقال شعبة : عن زيد بن أرقم ، وقال معمر : عن النضر بن أنس عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى : سألت محمداً عن هذا؟ فقال: يحتمل أن يكون قتادة روى عنهما جميعاً ].
الحديث التالي في هذا الباب وهو الحديث السادس من أحاديث سنن الإمام الترمذي ، قال أبو عيسى عليه رحمة الله: [ أخبرنا أحمد بن عبدة الضبي البصري ، قال: حدثنا حماد بن زيد ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ صحيح ].
إخوتي الكرام! قوله: (ما يقول إذا دخل الخلاء)، الخلاء: هو الموضع الخالي الذي ليس فيه أحد، قال أئمتنا: وفي هذا اللفظ دلالة على البعد أيضاً؛ لأن المكان الخالي الذي ليس فيه أحد يكون بعيداً في الغالب، والمراد من الخلاء هنا: مكان التغوط، وسمي خلاءً لوجود هذين الأمرين فيه: ليس في مكان قضاء الحاجة أحد، والمكان في الغالب يكون بعيداً، لا سيما في العصر الأول عندما لم تكن الكنف والحمامات في البيوت، فكان من أراد قضاء الحاجة في الخلاء والفضاء يبتعد ميلاً أو ميلين، فإذاً بعد مع خلو، يقال لمكان قضاء الحاجة.
والحمام في البيت يكون في طرف البيت، وما اعتاده الناس في هذه الأيام من أن يجعلوا الحمام في داخل الغرفة عادة غربية خبيثة، وكان العرب يتأففون من وجود الحمام داخل السكن غاية التأفف، فكيف إذا كان بابها على الحجرة، يعني عندما جعلوا في بيوتهم المراحيض والكنف، والأولى أن تكون في آخر شيء في البيت، أو في مكان متطرف من البيت مستور ومعزول، وهذا ما أدركت عليه آباءنا الكرام عليهم جميعاً رحمات ذي الجلال والإكرام وخال، وأما ما هو الآن فهذه الحياة الغربية الإفرنجية ما كان يعرفها سلفنا.
وقال أئمتنا: الخلاء هو موضع التغوط عند قضاء حاجة الغائط، ويقال له: المذهب، يعني الذي يذهب بعيداً ليصل إلى هذا المكان، ويقال له: المرفق كما في كتب اللغة، كل ما يرتفق به من مطبخ وكنوف ومصاب المياه يقال لها: مرفق. ويقال له: مرحاض، من رحض بمعنى غسل؛ لحصول الاستنجاء فيه، وأكمل أحوال الاستنجاء أن يغسل الإنسان مكان قضاء الحاجة.
ويقال له: غائط، والغائط في الأصل: المكان المنخفض المطمئن في الأرض؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجةً لا يصعد على جبل، إنما ينزل إلى منخفض، فيبحث عن مكان منخفض يكون فيه من أجل أن يتوارى، وأما إذا ارتفع فيبدو منه ما يكرهه الإنسان.
ويقال أيضاً لذلك المكان: حُشٌ وحَشٌ بفتح الحاء وضمها، والحُش والحَش في الأصل: البستان، وأطلق على الكنيف وعلى الخلاء حَشٌ وحُش؛ لأنه كانت عادة كثير من الناس إذا أرادوا قضاء الحاجة أن يذهبوا إلى البستان لحصول الستر فيه والتواري، ولذلك يتوارى الإنسان بشجرةٍ أو أكمة، ويقال له: الكنيف أيضاً مكان قضاء الحاجة من الستر، والكنيف هو الشيء الساتر، ويقال له في تعبير الناس في هذه الأيام: دورة المياه وحمام على حسب اصطلاح بني الإنسان في هذا الزمان، وكل هذه ألفاظٌ لمسمى واحد، وهو المكان الذي يحصل فيه قضاء الحاجة.
أولاً: ينبغي أن نعي هذا، وأن نتدبره، وأن نقف عنده وقفةً، فهذه الدنيا بلذائذها وشهواتها ومغرياتها تستحيل إلى شيء يتأفف منه الإنسان، ويستحي من رؤيته وذكره، وهذا الشيء موجود في بطن الإنسان على الدوام، فينبغي أن نأخذ من ذلك العبر.
والأمر الثاني: أن هذا الدين الواسع الشامل لجميع شئون الحياة من أعظم نعم الله علينا، فقد من علينا ربنا ببعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهدانا للتي هي أقوم في جميع شئون الحياة كما سيأتينا، فشرع الإله شاملٌ لجميع أمور الحياة، كيف نتعامل مع ربنا، كيف نتعامل مع أنفسنا، كيف نتعامل مع بعضنا، وهذا لا يوجد في نظامٍ من أنظمة البشر على الإطلاق، فليس في النظام الأمريكي ولا البريطاني ولا الفرنسي أحكام قضاء الحاجة، فلو أراد أن يمسك ذكره بيمينه أو بشماله، أو أن يبول على فخذه أو ثيابه أو أن يشرب بوله، أو أن يدهن نفسه بغائطه أو أن يدخل إلى مكان قضاء الحاجة بيمينه أو بشماله أو أن يمد رأسه قبل أن يدخل بيمينه أو بشماله، كل هذا كله لا علاقة لهم به على الإطلاق، إنما هو نظام عام فقط يضبط شئون الناس ببعضهم، أما صلتك بربك أو بنفسك فلك أن تفعل ما شئت، إنما فقط أنظمتهم تضبط الأمور العامة؛ لئلا يحصل اعتداء ورفض وإكراه.
فهذا الدين الذي ننتمي إليه من أعظم نعم الله علينا كما سيأتينا، ولا يوجد تشريعٌ على وجه الأرض يحتوي هذه الأخلاق والآداب إلا هذا التشريع الذي من الله به علينا، وهو دين الإسلام، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
إخوتي الكرام! لذات الدنيا -وهذا هو التنبيه الأول- خسيسة، وشهواتها رخيصة، من حيث التمتع بها، ومن حيث تغيرها واستحالتها؛ فعندما تتمتع بها وتأكلها صورتها خسيسة، وعندما تستحيل بعد ذلك إلى شيء معلوم خسيسة، هذه هي شهوات الدنيا، نعم.. هذه الشهوات الخسيسة الرخيصة تناسب هذه الدار التي ليس لها عند الله أي اعتبار، أما في الجنة -كما سيأتينا- لا يوجد معك لا مخاط ولا بصاق، ولا بول ولا غائط، والفضلات تتحول إلى ريح أطيب من ريح المسك، وهذا يناسب دار الكمال، أما هنا دار الذل والنقص والعار والافتقار تناسب هذه الدار، والله جعل فيها هذا لئلا تعبد من دونه ولئلا يركن الناس إليها، ومع ذلك غروا بها وعبدوها من دون الله وركنوا إليها، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198].
أئمتنا الأبرار يقولون في قول العزيز الغفار: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]، في حق المؤمنين في جنات النعيم، يقول المفسرون عند هذه الآية: ما عند نساء الدنيا بمثل هذه الآية، وأرى هذا من باب الإجحاف بحق النساء، ما عند أهل الدنيا نساءً ورجالاً بمثل هذه الآية، في هذه الحياة الدنيا عندك امرأة لكن ليست مطهرة، لا حساً ولا معنى؛ حيض، ونفاس، ومخاط، وبصاق، وصداع، وبول، وغائط، ولو دهنت نفسها بغائطها لهربت من البيت الذي تسكنه، هذا حال الدنيا، لكن هذه تناسبك، يعني أنت ليس فيك هذه الصفات؟ هذه الصفات أنت تحملها من رأسك إلى رجليك، فالذم للاثنين وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25]، أما هناك ليس كذلك، وهكذا الطهارة المعنوية هناك؛ لا غيبة، ولا حسد، ولا خصومة، ولا مشاجرة، وما أكثر الخصومات التي تجري بين الأحداث في هذه الحياة فضلاً عن غيرهم! ما أكثر الخصومات والخلافات! فمثلاً: زوجته يحبها أحياناً أكثر من نفسه لكن يرى منها ما لا يليق له، وهي ترى منه ما لا يليق لها، وهذا في حال المتحابين، فكيف في حال المتعادين؟!
إذاً: هنا في هذه الحياة لا يوجد طهارة كاملة لا حساً ولا معنى، أما هناك حساً ومعنى؛ فالنعيم الذي أنت فيه لا يحسدك عليه أحد من خلق الله، ولا يطلع عليه إلا زوجتك، ولا إلى ما من الله به عليك في دار كرامته، حقيقةً هناك حياة كاملة، وأما هنا كما قلت -إخوتي الكرام-: شهوات خسيسة رخيصة من حيث التمتع بها، ومن حيث استحالتها وتغيرها، تناسب هذه الدار دار الذل، دار الاحتقار، دار النقص، فهذه الحياة الدنيا، ولذلك ليس لهذه الحياة عند الله أي قدر ولا اعتبار.
ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الحاكم في مستدركه والإمام أبو نعيم في حلية الأولياء والحافظ الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة، والحديث صحيح من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى منها كافراً شربة ماء)، وفي رواية (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)، وهذا من هوان الكافر على ربه؛ فلو كانت الدنيا من أولها لآخرها بقضها وقضيضها وجميع شهواتها ومغرياتها ودسائسها وخيراتها تعدل جناح بعوضة لما أمكن الله الكافر في هذه الحياة من أن يشرب قطرة ماء، من هوانه على ربه، وجحوده لخالقه، واستكباره عليه؛ إذاً لا وزن لها ولا اعتبار، يعطيها للذي يحب والذي لا يحب، أما دار كرامته لا يعطيها إلا لمن رضي عليه وأحبه.
هذه الدنيا -إخوتي الكرام- شهواتها -كما قلت- خسيسة رخيصة، والحياة فيها بجميع جهاتها تعيسة إلا من زكى قلبه بشرع الله، ولا يوجد شيء في الحياة تزكو به وتستريح إلا معرفتك لربك وعبادتك له أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]. وعبادة الإنسان لخالقه ضروريٌ له في هذه الحياة، كما هو الحال في الماء للسمك تماماً، فإذا خرج السمك من الماء هلك وعطب، وإذا ابتعد الإنسان عن شرع ربه في هذه الحياة هلك وشقي.
إذاً هذه الحياة وهذه منغصاتها، شهواتها خسيسة رخيصة، سبحان الله! إذا افتقر الإنسان فيها حزن، سبحان الله! إذا اغتنى الإنسان فيها فتن، سبحان الله! إذا صح الإنسان فيها سقم، سبحان الله! حلالها حساب، وحرامها عداوة، ومتشابهها عتاب، هذا حال الدنيا، فهذه الشهوات التي فيها رخيصة خسيسة، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. ومن أراد أن يعرف قدر الدنيا فلينظر إلى ما يخرج منه في اليوم مرة أو مرتين، فهذه هي الدنيا كما سيأتينا.
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
شهوات لكن محفوفة بالأخطار، فالذي يجمع المال عندما يفكر في كيفية حفظه وحراسته أحياناً يستيقظ في الليل عدة مرات خشية أن يأتي السراق وقطاع الطريق مع أنه في الأصل سبب السعادة، وإذا المال ما وضعه في البيت وخشي عليه أخذه إلى البنك، ثم يقول: حيل البنوك ما أكثرها في هذه الأيام، ولعله في نهاية الشهر يعلن البنك عن إفلاسه فتذهب الفلوس من أولها لآخرها، تراه يجلس مهموماً، شهوات لكن فيها منغصات، هذه الشوائب والأكدار، لا يوجد شهوة خالصة في الدنيا أبداً، إنما توجد هذه في الجنة.
وحتى الطعام عندما تأكله يوجد شيء من التعب، والطعام عندما يكون في فمك لو نظر الإنسان إليك وأنت تأكل لترك الطعام، ولو تقيأت وأنت تأكل لقام كل من على المائدة، هذه شهوات، لكن فيها -كما قلت- منغصات، فيها شوائب، فيها مكدرات، هذه شهوات الدنيا من أولها لآخرها، لا يوجد شهوة فيها سالمة.
تجد من يتزوج زوجة يخشى أن تخونه، ويخشى أن تقتله، ويخشى أن تسرق فلوسه، أعرف عدداً يعلم الله وليس واحداً -ولعلكم تعرفون أكثر مني- يقول لي: يا شيخ! فلوسي أضعها في البيت وأخشى أن تسرقها زوجتي، أخاف أن تأخذها وتهرب، أعوذ بالله من هذه الزوجة! هذا وضع الحياة الذي نعيش فيه، وإن وضعتها في البنك ابتليت بتعاملهم بالربا، وإذا وضعتها بدون فائدة ساعدتهم على الربا، وقد يعلن في يوم من الأيام عن إفلاسه، وكم من بعض إخواننا أعرفهم وضعوا فلوساً في بعض المؤسسات وما حصلوا منها ريالاً واحداً، قد أعلنوا الإفلاس وانتهت، فهذه هي الدنيا وشهواتها، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198].
انظر لهذه الإشارة في سورة الطور في قول العزيز الغفور: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الطور:17-18]، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [الطور:18]، قال أئمتنا: لأن جميع أكلهم من باب التفكه والتلذذ لا أن أبدانهم بحاجة إلى الطعام، يأكلون ترفاً، ولا يعقب هذا آفةً كما هي في الدنيا، تذهب إلى الحمام وتضع يدك على أنفك من شدة ما يخرج منك، بل تأكل للتلذذ، ويتصبب جبينك وجسمك عرقاً أطيب من المسك للتلذذ.
وأما هنا كما قلت: أصبحت في دار البليات أدفع آفاتٍ بآفات، هذا حال الدنيا وهذا وضعها، والله جل وعلا يقول في كتابه: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. قال أئمتنا: شهوات الدنيا هي كلذة الحك عندما يصاب في الدنيا بداء الجرب، يفرح بالحك ويتلذذ عندما يحك لكن هذه لذة؟ ليست لذة.
وأحياناً قد يخدش جلده ويسيل دمه ويتلذذ به، هذه حال شهوات الدنيا من أولها لآخرها.
وشهوة الطعام صورتها: إفرازات من اللعاب والبصاق على الطعام ومضغ، فلو خرجت لقمة منك ونزلت يعني في القصعة لتأفف الحاضرون وقاموا، ولذلك تعلمون أولادكم في الأكل: يا ولدي! لا تخرج شيئاً من فمك عندما تأكل؛ لأن هذا الأمر الناس يتأففون منه، أما أنه يخرج شيئاً ويلقيه في نفس القصعة هذا لا ثم لا، إذاً صورتها بهذه الحالة ليست جميلة بل مستقبحة.
ينقل عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: أفضل مطعومات بني آدم العسل، وهو مذقة ذباب، يعني: هو فضلات النحل، وألذ شهوات بني آدم النساء، وهو مبال في مبال، وحقيقةً لولا ما يترتب عليه من طيب المعاشرة وإخراج الرجال الذين يعبدون ذا العزة والجلال لتأفف العاقل عن هذا وابتعد عنه، وكما قلت: هذه دار افتقار وظلمٍ وانكسار، فيها آفات لنعلم أنها ليست بدار بقاء، ليست بدار تمتع، نفعلها بحكم ضعفنا، فإذا رجعنا إلى ربنا أعطانا: (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، ومن ركن إلى هذه الشهوات وعبدها من دون رب الأرض والسموات أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].
وهذه اللذة اعتبارية؛ فأنت جعل الله لك لذة بهذا الأمر، أي لو أكلت الروث لا تتلذذ، ويأتي الجعل يأكل منه ويطير فرحاً، يضربها برأسه ويرقص حولها ويأكل منها وكأنه حصل على نعمةً ليس بعدها نعمة، هكذا شهواتنا بالنسبة لشهوة الجعل، لكن هو لا يشتهي ما نأكل، ونحن لا نشتهي ما يأكله وهكذا.
إذاً: شهوات -كما قلنا- حاصلٌ منها لذة وهذه اللذة اعتبارية على حسب المخلوقات، لكن الكل يتلذذون، فالدود الذي يتسول في المزابل ويتغذى منها يتلذذ غاية التلذذ بهذا الزبل الذي يعيش فيه، فإذاً اللذة اختلفت من واحدٍ لآخر؛ فليست إذاً لذة حقيقية يتمتع بها الإنسان.
وقد اغتصب مرةً أحد المكاس امرأةً وأراد أن يفجر بها، فمن خوفها تغوطت في ملابسها، فلما فاحت منها تلك الروائح الخبيثة تركها وهرب عنها، فمن لطف الله بها أنها قضت الحاجة في ملابسها، فما بقي عنده نفس إلى رؤيتها والتمتع بها، فهذه هي شهوات الدنيا ومغرياتها.
والحديث إسناده صحيحٌ كالشمس، من رواية أبي بن كعب ، ورواه الإمام أحمد في المسند أيضاً من رواية الضحاك بن سفيان العامري ، وهو من الصحابة الكرام الفرسان الشجعان كان يعد بمائة فارس، وفي الإسناد علي بن زيد بن جدعان وهو مختلفٌ في توثيقه، وحديثه يشهد لمعناه ما تقدم معنا من حديث أبي رضي الله عنهم وأرضاهم، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال للضحاك ، وكان يسكن كثيراً في البادية، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ما طعامك يا
إذاً إخوتي الكرام! موضوع دخول الخلاء الذي سنتدارس آدابه ينبغي أن نعتبر لما يجري ويقع ويخرج منا كل يوم، هذه الدنيا من أولها لآخرها تخرج، والدنيا كلها هذا وزنها، فوزنها غائط لا ترتفع عنه، وليس لها عند الله أي اعتبارٍ ولا مقدار، ولو زاد وزنها على هذا لما تمتع الكفار في هذه الدار، وما سقاهم الله قطرة ماء؛ إنما حالها كحال الغائط، فهل لو جاء أحد يأخذه تمنعه وتنافسه عليه؟ أبداً، ما أحد يحرص على غائطه، وهذا حال الدنيا غائط يأخذها كافر، يأخذها فاجر، يأخذها بار ويأخذها شقي، لا وزن لها ولا اعتبار، ليس لها عند الله قدرٌ ولا مقدار.
بعد أن منّ الله علينا بنعمة الخلق وأنه خلقنا وأخرجنا من ظلماتٍ ثلاث بين لنا أنه جعل لهذا الخلق شيئاً يحفظه ويغذيه وينتفع به في هذه الحياة، فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24]، وحال الطعام كحال الإنسان تماماً من هذه الوجوه الأربع فانتبهوا لها:
أولها: خروجك قبل أن تخرج تكوينك في بطن أمك تم عن طريق الدفق من ذلك الماء، مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6]، وهكذا الطعام لم يخرج من الأرض إلا بعد صب الله الماء صباً، لكن هنا صب في الأرض، وهناك صب في الرحم، وهذا لا بد منه، فانظر لهذه المقارنة بين الطعام وبين الإنسان، فطعامك الذي سيحفظ وجودك وخلقك كخلقك تماماً فاعتبر بهذه الأمور، فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا [عبس:24-25]، وهناك فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:5-6]، فالصب والدفق موجودان في الأمرين: في الماء عندما نزل، وفي المني عندما دخل في الرحم.
الأمر الثاني: قول الله جل وعلا: ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس:26]، بعد أن صب الماء شقها الله جل وعلا اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج، كانت ملتحمة فخرج منها الخيرات والبركات والنعم من زروعٍ وثمار، إذاً هذا الأمر الثاني ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس:26].
والأمر الثالث للإنسان: خروجك من بطن أمك كما يخرج النبات تماماً؛ لذلك كثيراً ما يستدل الله جل وعلا بإحياء الأرض بالنبات على بعث الأموات تماماً، فمن أحيا الأرض بعد موتها وأخرج منها من كل زوج بهيج، يحيي هذا الإنسان، وهو على كل شيءٍ قدير، فخروج الزرع منها يشبه الولادة، يشبه البعث، بعثٌ وبعثٌ ثانٍ، ولذلك يقول الله جل وعلا: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:9-10] في سورة ق رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11]، ويقول تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً [فصلت:39] كأنها ميتة، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39]، وهنا كذلك: شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس:26] للنبات، وفرج الله لك عن بطن الأم عندما خرجت بكيفيةٍ يعلمها الله ولا تعلمها، فموضوع خروج الجنين من بطن أمه فيما يتعلق بالإنسان والحيوان حقيقةً من أعظم الآيات الدالة على وحدانية ذي الجلال والإكرام؛ إن المولود يخرج ووزنه ثلاثة كيلو أحياناً إلى أربعة ونصف أو خمسة، ورأسه كرأس الشمامة الكبيرة، يزيد على الرمان الكبير، فيخرج من مكانٍ ضيق.
ودعك من الإنسان واذهب إلى الناقة؛ فثقب الناقة أصغر من ثقب المرأة، وفلوها عندما يخرج منها لا ينقص عن ثلاثين كيلو، كيف خرج؟! ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس:20] ، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس:26] ، وهنا ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس:20]، ولذلك يقول أئمتنا الكرام: الولادة كقضاء الحاجة، لا تحتاج لا لجهد ولا لتعب، فيا أمة الله إذا كنت في الحمام ستلدين، ما يحتاج لا لقابلة ولا لطبيبة ولا لشيءٍ على الإطلاق، هذا عند الحاجة للغائط، إن أخرجتها وإلا ستخرج رغم أنفها، ما تشعر بألم وتعب تماماً، وهنا كذلك هذه ستخرج ما تحتاج إلى كلفة، فالولادة كقضاء الحاجة، والنساء القديمات كانت المرأة تولد نفسها، ومع أنه الآن صارت الولادة في هذه الأيام أكثر من معالجة السرطان، فإذا أرادت أن تلد تذهب إلى المستشفى، وأحياناً يشق البطن ممن لا يتقون الله، ويقولون: الولادة متعسرة وكله كذب لا حقيقة له، إنما هو تلاعب بأبدان المسلمين والمسلمات، أسأل الله أن يحفظ المسلمين أجمعين، يقول: تأخذ القابلة إلى البيت، وأحياناً تأتي والولادة حصلت والمولود على الأرض ونستدعي القابلة من النساء القديمات من أجل أن تقطع فقط الحبل السري وانتهى، قلت: تعلموا منها من أين يقطع، وإذا حصلت ولادة لا داعي لا لقابلة ولا لغيرها، الولد سيخرج لكن المشكلة فقط من أين سيقطع الحبل.
فالله يسر لنا الأمور لكن هؤلاء عسروها، فأعطاهم الله ما يناسب هلعهم وجزعهم، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وأقول لكم حقيقة: أكثر الولادات عندي في البيت تمت دون قابلة، يعني: أذهب لآخذ القابلة فأعود والولد قد خرج، من أخرجه؟ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس:20]، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس:26]، عندما يخرج النبات من الأرض أنت ستأتي عليه من أوله لآخره، فهل عندما تلقي الحب تذهب لتحفر له ويخرج؟ لا تحفر شيئاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس:26] ، وهنا ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس:20] ، يسر عليه الخروج بعد ذلك ومنّ عليه بالهداية.
إذاً هذه مقابلة ثانية، هناك صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا [عبس:25] وصب الماء في الرحم.
الثاني: أخرجناه أيضاً عن طريق الدفع يركضه الرحم ركضة ويقذفه قذفة كما أن الأرض تنشق ويخرج من فيها بإذن ربها سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث: قال الله: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا [عبس:27-29]، يعني باختصار: زروع وثمار مختلفة، وهكذا الإنسان يشبه هذا من وجهين: أما خلقه في بطن أمه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم كسيت لحماً ثم خلقاً آخر، ثم خرج فتبارك الله أحسن الخالقين، في حال خروجه.. هل يستوي الناس أيضاً في الشكل والطول والعرض والعمر؟ لا كما لا يستوي الشجر، نعم هذا مر وهذا حلو، وهذا فيه شوك وهذا لا شوك فيه، وهكذا بنو الإنسان، إذاً: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا [عبس:27-28]، يشير إلى التفاوت الذي يحصل في حال بني آدم في تكوينهم، ثم في اختلافهم في أشكالهم وألوانهم بعد خروجهم.
الأمر الرابع: ماذا يقول الله في الزروع؟ حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:27-32].
تتمتعون بها أنتم والأنعام، ثم في النهاية استهانة وزوال، أوليس كذلك؟ وأنتم كذلك ستموتون وتفارقون هذه الحياة وستغيبون عنها، نعم هذه الزروع والثمار غير مكلفة لا تبعث، أما أنتم خلقتم فستبعثون، وهذا أمرٌ آخر لكن المصير واحد، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45] ، فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24]، فأما حال الطعام منذ أن صب الماء إلى أن خرج منك، تأمل هذه الأحوال الأربعة التي ذكرنا، وهنا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:32]، والله يكني عن الأمور بما يدل عليها، عندما قال في حق نبيه عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وأمه عليها وعلى سائر الصديقين والصديقات رحمات رب الأرض والسموات: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:75]، (كانا يأكلان الطعام) ما ذكر الأمر الثاني الذي هو معلوم للأذهان، ولماذا لم يذكره؟ الله كريم لا يذكر الأمور المستهجنة بحقيقة ألفاظها، وإنما يكني عليها، والمعنى: يأكلان الطعام ويذهبان لإخراج الفضلات في الحمام، وهذا معلوم؛ فإن من أكل سيخرج لا بد، فإذا احتبس الطعام في بطنه وما خرج منه أيصلح أن يكون إلهاً؟ هذا فقير، والله غني سبحانه وتعالى بذاته عن جميع مخلوقاته، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] ، ولذلك أخف وصفٍ يفرق ويميز الخالق عن المخلوق هو الغنى، فلا يوجد غني بذاته إلا الله، وكل من عداه فقير، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، لا تملك يا عبد الله لنفسك ضراً ولا نفعاً فضلاً لغيرك، ولا يستحق أحدٌ أن يعبد من دون الله هو فقير يأكل الطعام؟! فكيف يعبد من يأكل الطعام قلنا: يدل على شيءٍ آخر، وهنا كذلك مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:32]، وعليه فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] ، أي: إلى تقلباته بجميع أحواله، منذ تكوينه إلى خروجه بشيءٍ -كما قلنا- يستهجن يستحى من ذكره ويتأفف الإنسان من النظر إليه، فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24]، وهذا المعنى ذكره كثيرٌ من المفسرين، واستبعاد الإمام الألوسي له استبعادٌ في غير محله، فهو منقولٌ عن الإمام القرطبي ومنقولٌ عن الخطيب الشربيني، أي: ذكروه وذكره جمٌ غفيرٌ من المفسرين، وهو منقولٌ عن السلف، فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24].
روى ابن المنذر في تفسيره عن عبد الله بن الزبير ، والأثر رواه عبد بن حميد عن مجاهد، فهذان صحابي وتابعي رضي الله عنهم أجمعين، قال: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] إلى مدخله ومخرجه، كيف دخل وكيف خرج؟ هذا حال الدنيا، والأثر رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التواضع عن ابن عباس رضي الله عنهما، والأثر ضعيف بل شديد الضعف من ناحية الإسناد؛ لأنه من رواية الكلبي والكلبي متروك، لكن معناه صحيح، وكاد أئمتنا يترخصون في حكاية أخبار الكلبي ورواياته حين يرويه عن ابن عباس، وهذا من ترخصهم إذا كان المعنى المذكور يوضح معنى الآية سواءً ثبت عن ابن عباس أو لم يثبت رضي الله عنهم أجمعين، هو إيضاح للآية، وهنا كذلك، وليس هذا من باب إثبات حكم شرعي من باب تفسير الآية، ولم ينقل هذا عن صحابي أو غيره، أي حرجٍ في هذا؟
يقول ابن عباس رضي الله عنه في هذه الرواية -كما قلت- من طريق الكلبي في كتاب التواضع لـابن أبي الدنيا : فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] قال: إلى رجيعه، وفي رواية: إلى خرئه، والخر معروف: الغائط وهو: الرجيع، أي: إلى شيءٍ يرتجع إليه الطعام ليتأمل هذا.
وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن الحسن البصري عليه رحمة الله، وهذا الأمر الذي سيكتبه الحسن لو تأمله الإنسان من نفسه حقيقة: إن الله وكل لابن آدم ملكاً، فإذا قضى حاجته ثنى رقبته، وقال له: انظر إلى ما بخلت به إلى أي شيءٍ صار، فهذا ملك موكل بك عندما تقضي الحاجة، فهل يتأمل الإنسان نفسه وينظر إلى غائطه؟!
قال رجلٌ لـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: علام ينظر أحدنا إلى غائطه إذا قضى حاجته؟ فقال: يأتيه ملكٌ فيقول: انظر ما بخلت به، انظر إلى أي شيءٍ صار، انظر إلى ما صار.
وروى عبد بن حميد وابن المنذر في تفسيره عن أبي قلابة رضي الله عنهم أجمعين قال: مكتوبٌ في التوراة: يا ابن آدم! انظر ما بخلت به إلى أي شيءٍ يصير. من رواية الحسن وابن عمر وهذا موجود في التوراة: انظر إلى ما بخلت به إلى أي شيءٍ يصير.
وفي تفسير ابن المنذر عن بشير بن كعب رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان يقول لأصحابه بعد أن ينتهي من وعظه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا، تعالوا معي حتى نرى الدنيا من أولها لآخرها، فما يعلمون أين سيذهبون، أي دنيا سيأخذنا إليها بشير بن كعب هذا العالم الزاهد العابد؟ فيأخذهم إلى مزبلة، يقول: هذه هي الدنيا، انظروا إلى عسلهم وسمنهم وبطهم ودجاجهم، انظروا إلى هذه المزبلة التي خرجت من بطون الناس، خالفنا إلهنا من أجلها.
ولذلك -إخوتي الكرام- لا بد من أن نعرف قيمة هذه الشهوات لئلا يخدع بها قليل العقل في هذه الحياة، شهوات خسيسة نهايتها ألقيت في الحمام، وألقيت في المزابل، ولذلك لما ذكر الله نعيم أهل الجنة قال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، أما الدنيا فأنت لا تتنافس إلا على روث، على رجيع، على خر، على غائط، حقيقةً هذه حماقة، ولذلك الإنسان في هذه الحياة يتعرض لنفحات رب الأرض والسموات، وما قدر له يأتيه، ولا يتلذذ به كما يتلذذ الكفار، ولا ينفع كما ينفع الكفار، يعتذر بهذه الأمور وأنها شهوات رخيصة خسيسة، أما نعيمه هي الآخرة، والدنيا دار من لا دار له، (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)، ونسأل الله أن يجعل دارنا جنات النعيم بفضله ورحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ثانيهما: التواضع في هذه الحياة وعدم التكبر، تتكبر لم يا عبد الله؟ تتكبر لتستحضر هذه الخسائس وهذه القاذورات التي في جوفك وفي جميع جسمك، ولو مت وتركت أياماً لهرب من نتنك وجيفتك أقرب الناس إليك، علام تتكبر بعد ذلك؟ مخلوق ضعيف من بدايتك إلى نهايتك تتكبر وتنفخ نفسك على أي شيء؟ ولذلك من اتصف بشيءٍ من صفات الكبر فهو حقيقةً عدوٌ لله والجنة عليه حرام؛ لأنه ما عرف قدره، وتطاول بعد ذلك على ربه جل وعلا.
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن النسائي من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر)، وفي روايةٍ: (لا يدخل الجنة أحدٌ في قلبه مثقال حبة خردلٍ من كبر)، وفي الرواية الأولى قال بعض الصحابة الكرام لنبينا عليه الصلاة والسلام: ( إن الرجل يعجبه أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، هل هذا من الكبر؟ قال: لا، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس)، وبطر الحق: رده وجحده وعدم الاعتراف به، وعدم قبوله والإذعان له، وغمط الناس: احتقارهم بحيث تتعالى عليهم، من أنت؟ هل يليق بهذا المخلوق الحقير الذي خلق من ماءٍ مهين، ويحمل بعد ذلك في جوفه الشيء المهين، وسيصير إلى شيءٍ مهين أن يتكبر؟ الكبر لا يليق إلا برب العالمين سبحانه وتعالى.
ومثل هذا -إخوتي الكرام- جرى لوالده وهو المهلب بن يزيد وهذا يزيد بن المهلب لكن مع ابن دينار وهو من أئمتنا الأبرار، وانظروا القصة في الجزء الخامس صفحة اثنتين وستين وثلاثمائة، وابن دينار حديثه في صحيح البخاري معلقاً، وهو من أهل رجال السنن الأربعة، وكان يقول: والله لقد استحييت من ربي من كثرة دخول الخلاء، وكنت أتمنى أن يجعل الله رزقي في حصاةٍ حتى لا أدخل الخلاء، يقول: أستحي كل يوم أذهب وأتوقف عن الذكر وعن التسبيح وعن العلم، وأكشف العورة وأجلس في هذا المكان، هذه دار الدنيا -كما قلت- جعلها الله كذلك لئلا تعبد ومع ذلك عبدت، فكيف لو كانت كالآخرة؟! وثانياً: حقيقةً قد يترك المؤمنون دينهم، فكيف بغيرهم؟! فما فيها من ناقص، مر به أيضاً المهلب بن يزيد وهو يختال، والمهلب مولده سنة اثنتين وثمانين، فقال لوالده أيضاً: هذه مشيةٌ يبغضها الله، فقال له نفس مقولة ابنه، تشابهت القلوب فتشابهت الأجوبة، والرد عليها من قبل قلوبٍ متشابهة طاهرة، فأجابوا بنفس الجواب، يعني: كلامه ككلام مالك بن دينار تماماً، قال: ويحك، أما تعرفني من أنا؟ قال: عرفتك، أولك نطفةٍ مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بينهما تحمل في بطنك العذرة، فقال: الآن عرفتني.
إخوتي الكرام! هذا حال الإنسان، تحمل في بطنك الخراءة، علام تتكبر؟ رضي الله عن الأحنف بن قيس الذي كان يضرب به المثل في سؤدده ورجاحة عقله، توفي سنة سبعٍ وستين وقيل: واحدة وسبعين، وحديثه مخرجٌ في الكتب الستة، إمامٌ ثقةٌ عدلٌ رضا، وانظروا آثاره في سير أعلام النبلاء في الجزء الرابع صفحة اثنتين وتسعين، كان يقول: عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟ خرجت من ظهر أبيك من المكان المعروف من آلة البول، ثم خرجت من بطن أمك من المكان المعروف من آلة البول، أما تعرف قدرك؟ وقال الحسن البصري : عجبت من ابن آدم يغسل الخراءة بيده في اليوم مرةً أو مرتين ثم يعارض جبار السموات والأرض.
يقول الله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [الزخرف:33]، الأمة هنا بمعنى الملة، أي: لولا أن يكون الناس على ملةٍ واحدة لأعطينا للكافر هذا النعيم في الدنيا؛ لهوان الدنيا على الله جل وعلا، ماذا يعطي؟ لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33] مصاعد كلها من فضة يعرجون ويمشون عليها، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:34-35]. وَزُخْرُفًا [الزخرف:35] وهو اللعب، لولا أن يكون الناس على ملةٍ واحدة لأعطينا للكافر هذا الحطام في هذه الحياة، ما هي الملة؟ الإيمان أو الكفر؟ هذا خلاف ما تريده الآية، لولا أن يكون الناس أمةً على الكفر، أي: لولا أن يكفر كل الناس لأعطينا للكفار هذا النعيم في الدنيا، يعني نحن لا نعطي للكافر هذا النعيم ومع ذلك كفر أكثر الناس، فكيف لو أعطينا لكل كافرٍ هذا؟! والله يقول: أنا من هوان الدنيا علي، أعطيها للكفار، وينبغي أن أجعل لكل كافرٍ هذه المتعة في الدنيا، لكن ما فعلت، لم؟ رفقاً بضعاف العقول، حتى لا يكفروا كما كفر أولئك، فيكون لكل كافر بيوت شبيهة بالجنة لكن بصور مصغرة، السقف من فضة، درج من فضة، وأبواب مزركشة، وسرر وآرائك من ذهب مبثوث هنا وهناك، كل من يطلب يعطيه الله هذا، فكل من يكفر يعطيه الله هذا، ويتتابع الناس على الكفر.
إذاً الدنيا في هذه الحالة الناقصة ممتهنة خسيسة رخيصة كفر الناس من أجلها، فكيف لو كانت في صورةٍ أخرى؟! الأمر سيكون أشنع وأفظع؛ ولذلك كان أئمتنا يقولون: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا، وشهوات الدنيا ومغرياتها كما يقول أئمتنا: مثل حبة في مصيدة، لما يأتي العصفور من الذي صاده؟ شهوته أوليس كذلك؟ يعني جاء ليتمتع فهلك، وهكذا يأتي الإنسان في هذه الحياة يتمتع طعام وشراب وزنا وفجور والتلفزيون وعربدة وتكبر وخروج عن طاعة الله ويظن أنه يعمل في سعادة ما بعدها سعادة، ما تراه إلا جاءه ملك الموت لفظه لفظتين قال: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ، انصرف هذه الحياة انتهيت منها، يقول: ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] يقال: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، والله لو علم العصفور أنه إذا جاء للمصيدة سيقبض عليه لبقي جائعاً ولمات جوعاً؛ إذ هذه الآن موت محقق، وهكذا حال الإنسان مغريات لكن -كما قلت- مصائد يصيده بها الشيطان.
إخوتي الكرام! هذه الأمور العشرة التي ذكرتها حول شهوات الدنيا نقول ولا نبالغ: لو وضعها الإنسان في ورقة ونظر إليها في الصباح وقرأها واعتبر بها ونظر إليها في المساء لعلها ترد بعض غيه من تعلقه في هذه الحياة الدنيا، ولا أقول لكم هذا وأبرئ نفسي، فأنا ينبغي أن أفعل هذا قبلكم وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يحسن ختامنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام! أما ما يتعلق بما يقابل هذا وهو الأمر الثاني مما يتعلق بعد ذلك بما في الآخرة التي رغبنا فيها، والدنيا التي زهدنا فيها، سأذكر لكم بعض الأحاديث لعلها أحاديث خمسة في وصف الدار الآخرة، ووصف الجنة وما فيها من نعيم تطرب لها عقول وقلوب المؤمنين، أترك هذا للدرس الآتي إن شاء الله مع بيان الأمر الثاني نحو ما يتعلق بما يقول إذا دخل الإنسان الخلاء. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر