الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً, سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين, سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
نتابع ذكر الأمور التي تقرر شرف علم التوحيد فأقول: خامس الأمور التي تقرر أن علم التوحيد أشرف العلوم منزلة وأرفعها رتبة: شدة الاحتياج إلى علم التوحيد.
كل علم انظر إلى شدة الحاجة إليه، هل الحاجة إليه ضرورية ماسة بحيث لا يستغني عنه مكلف، أو إذا قام به البعض سقط عن الباقين؟ لا بد من بيان هذا الأمر.
فعلم التوحيد الحاجة إليه ضرورية ماسة لا يستغني عنه مكلف، ولذلك له في هذا الأمر نصيب لا يدانيه علم من العلوم، فقد طُولب به جميع المكلفين ولا يسقط عنهم في حين، وأما غيره من العلوم فلم يطالب بها كل مكلف، يعني: علم الزكاة إذا كنت فقيراً لا يجب عليك أن تتعلم أحكام الزكاة، وهكذا أحكام الحج من أولها لآخرها إذا لم تكن مستطيعاً لا يجب عليك أن تتعلم الحج، وهكذا وهكذا.
بينما علم التوحيد لا بد من أن تعرف بما يتعلق: بربك وبأنبيائه، وبما يكون في الآخرة، وأنت تكون على بينة من ذلك، وألا تشرك بالله شيئاً، فطولب بهذا الجميع وما سقط عنهم في وقت من الأوقات، فالحاجة إليه ضرورية ماسة لا يستغني عنه مكلف، وإنما اشتدت الحاجة إلى علم التوحيد؛ لعظم غايته، وعدم الاستغناء عن فائدته.
ووجه ذلك: أن السعادة في الآخرة معنا متوقفة على توحيد الله جل وعلا، فإذا أشرك الإنسان بالله حرم الله عليه الجنة، كما قال جل وعلا في سورة المائدة: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
وتحريم الجنة جاء نتيجة غضب الله على الإنسان في هذه الحياة؛ لكونه حرف دين الله عن مواضعه، أو لكونه عبد الله على حسب رأيه وعقله، فهو ضال أو مغضوب عليه، فإذاً: هذا التحريم لأجل أنه لم يوحد الله توحيداً حقيقياً في هذه الحياة، أشرك به فصار مغضوباً عليه أو ضالاً.
ولذلك -إخوتي الكرام- يخبرنا الله عن الكفار، وعن تلاعنهم في النار، وعن مقتهم لأنفسهم في تلك الدار، فيقول الله لهم: إن مقتي لكم في الدنيا عندما تكفرون بي أعظم من مقتكم لأنفسكم في نار جهنم، يقول الله جل وعلا في سورة الزمر: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10] .
الكافر في النار، بعد أن يلعن صاحبه ورئيسه، ويلعنه صاحبه ورئيسه، يرجع إلى نفسه فيمقتها ويكرهها، لأنها سارت على الكفر ورضيت بالشرك، فيكره حتى نفسه وهو في النار، فالله يقول لهم: إن كراهيتي لكم عندما كنتم تكفرون بي وتشركون بي عندما تدعوكم رسلي لتوحيدي وأنتم تأبَون، أعظم من كراهيتكم لأنفسكم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ [غافر:10] أي: لكم، والمقت هو أشد أنواع الغضب والكراهية والسخط، لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر:10]، أنتم تمقتون أنفسكم وتكرهونها في النار، مقت الله لكم أشد من مقتكم لأنفسكم، متى يمقتكم الله مقتاً عظيماً؟ حين تدعَون إلى الإيمان فتكفرون، فغضب الله على الكفار في الآخرة هو أثر غضب الله عليهم في الدنيا، فنالوا الغضب في الدارين، وحصلوا الشقاء في الدارين، في الدنيا وفي الآخرة.
إذاً: هذه نتيجة الشرك، فلا يسقط علم التوحيد عنا في وقت من الأوقات فالحاجة إليه ضرورية، فالسعادة في الآخرة متوقفة عليه.
نقول: أعظم إشكال في هذه الحياة، وأكبر عقدة يقابلها الإنسان في حياته، وأصعب مسألة تحتاج إلى حل في حياة الإنسان هي: إذا بلغ وجرى عليه القلم، من خلقني؟ لمَ خلقت؟ إلى أي شيء سأصير؟ من خلق هذا الكون الذي أعيش فيه؟ وماذا كان قبله؟ وما صلتي بهذا الكون؟ وإلى أي شيء سينتهي إليه هذا الوجود بأسره؟
هذه الأسئلة لا بد من إجابة عليها، وهناك إجابتان، إجابة مقنعة وإجابة مغلوطة، إجابة من عدا الموحدين وتختلف أجوبتهم، وسأذكر لكم نموذجاً من هذه الأجوبة الحديثة الخبيثة الخسيسة، يقول الشاعر النصراني إيليا أبو ماضي:
أتيت لا أدري من حيث أتيت ووجدت قدامي طريقاً فمشيت
من أين جئت وأين أمضي لست أدري ولماذا لست أدري لست أدري!
وأنا أقول لك: إنك لست تدري لأنك أحط درجة من الحمار الأهلي، أما لو كنت في درجة الحمار لعرفت أن الله خالق كل شيء، لكن صدق الله عندما يقول عن الكفار: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44] .
حقيقة: الحمار يعرف ربه، ويعرف خالقه، وهذا يقول: من أين جئت؟ وأين أمضي؟ لست أدري! ولماذا لست أدري؟ لست أدري! هذه الإجابة إن أردت أن تقنع بها الحمار فضلاً عن غيره هل يقتنع بها؟! يقول: أنت حيرتني في هذا، يعني: لا أدري ولا أدري، طيب لمَ خُلقت؟ من خلقني؟ إلى أي شيء سأصير، ما وظيفتي في هذه الحياة؟ ما صلتي بهذه المخلوقات؟ هذا الكون ما بدايته وما نهايته؟
أسئلة لا بد من الجواب عليها، وهذا ما يسميه أئمتنا بالعقدة الكبرى، والعقدة تعرفونها، الحبل عندما يعقد عقدة محكمة، هذه أكبر مُشكلة في حياة الإنسان، عليها يتوقف سعادته أو شقاؤه، لكن إزالة هذه العقدة بما يتوافق مع العقل، وبما يتمشى مع الفطرة، يسير الفهم بلا تكلف ولا عناء، ولذلك أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] أمر واضح، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:2-5].
هذه العلقة التي كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم بشراً في أحسن تقويم، ثم يقول الآن الملحدون: طبيعي، يعني: تركيب فسيولوجي فيها، قل: هذا التركيب الفسيولوجي في هذه القطرات (المني)، من الذي جعل هذا التركيب؟ أنت تقول: تركيب من ركبه؟ من أوجده؟ حيوانات منوية من جعلها في هذه القذفة عندما يقذفها الذكر أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] .
خلقت نفسك؟ لا، خُلقت فلتة في الطبيعة؟ لا، إذاً تعين أن يكون لك خالق، لا رابع لهذه الأجوبة، تعين أن يكون لك خالق وهو الله جل وعلا.
ولذلك قال جبير بن مطعم : كاد قلبي أن يطير عندما سمعت هذه الآية، وكان جبير بن مطعم مشركاً في ذلك الوقت عندما سمع النبي عليه الصلاة والسلام يتلو هذه الآية من سورة الطور، ويقول: وذلك أول ما وقع الإسلام في صدري: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] .
فكِّر في هذه القضية: من خلقك؟ هذه نعمة الخلق والإيجاد، نعمة الهداية والإرشاد: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:4-5]، فهو أكرم كما منَّ بالخلق والإيجاد، منَّ بالهداية والإرشاد: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53] ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً[لقمان:20].
ما أسهل هذا، ولا يحتاج إلى تعقيد، خمس آيات موجزة جمعت العقيدة من أولها لآخرها إذا وعيت وفكرت فيها، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] هو الذي خلق كل مخلوق، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] حذف المفعول للعموم، أي كل شيء مخلوق كل شيء خلقه الله، والوجود ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما: خالق ومخلوق، والمخلوق لا يمكن أن يخلق نفسه، لا بد له من خالق وهو الله جل وعلا، يعني: هذه القضية لا تحتاج إلى تعقيد! وسيأتينا عند توحيد الربوبية وأقسام التوحيد إن شاء الله، ما أيسر هذا وأسهله على العقل والفطرة! بلا تعقيد ولا غموض ولا إشكال، ولا حرارة اضطراب وعدم اقتناع.
إذاً: هذه العقدة الكبرى أُزيلت عند الموحد بما ينير عقله، ويشرح صدره، وبما يطمئن قلبه كما تقدم معنا في ثمار التوحيد، وبما يبهج نفسه، فهو في سعادة وفي نعمة وفي جنة عالية.
وأما ذاك فيقول: من أين جئت وأين أمضي؟ لست أدري! ولمَ لست أدري! لست أدري، يعني: من خلقني؟ لا أعلم، وإلى أي شيء أصير؟ لا أعلم، يا عبد الله البهائم تعلم من خلقها، وكل شيء أطوع لله من ابن آدم: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، إلا هذا الإنسان العاتي الظلوم الكفار، وهكذا: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].
ولذلك عندما يكون في نعيم، يقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، وليس هو النعيم الذي أخلد إليه، وعندما يكون في شدائد يقول: مراحل تُطوى، نحن مسافرون وسائرون إلى ربنا، وليس نعيمنا في هذه الحياة، هذه كلها مسلمات عند المؤمن، فأُزيلت عنه هذه العقدة، ولذلك سعد في الحياة قبل الممات.
وإلى هذا أشار رب الأرض والسموات في سورة النعم وهي سورة النحل، وأسماء السور توقيفية، ورد هذا عن قتادة في تفسير ابن أبي حاتم ؛ لأن الله ذكر في سورة النحل أصول النعم ومسلماتها، جميع النعم الأصول والفروع ذُكرت في سورة النحل، ولذلك يقال لها سورة النعم: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:4-8]، يعدد نعمه إلى أن يصل وسط السورة، يقول: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:18-19]، آيات كثيرة كلها يتحدث فيها عن نعم الله علينا.
يقول الله جل وعلا مشيراً إلى هذه النعمة التي يحصلها المؤمن عندما يوحد ربه في هذه الحياة: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، انتبهوا لدلالة الآية -إخوتي الكرام- لفظة لفظة:
فإن قيل هنا: لمَ أتى بالتفصيل؟ ما دامت هي تستغرق الصنفين مَنْ عَمِلَ صالحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى، فكان الأصل أن يقول: (من عمل صالحاً وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)؟
والجواب: التفصيل جاء لدفع توهم إرادة الذكور من لفظ مَن؛ لأنه عندنا في الآية أمران قد يشكلان على الإنسان، لفظ (مَن) مذكر، وعاد عليها ضمير التذكير، أما قال الله: (من عمل صالحاً وهو مؤمن فلنحيينه) ضمير ذكور، حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ضمير الذكور، أجرهُم بِأحسن مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، ما قال: فليحيينهن، ثم: ولنجزيهن أجرهن بأحسن ما كن يعملن، إلى غير ذلك، فأتى بضمير الذكور، ولفظ (مَن) مذكر، فاللفظ مذكر، وعاد ضمير التذكير، فقد يقول بعض الأغبياء من الذكور: هذه الآية خاصة بنا ولا يدخل فيها النساء، كما قال بعض الأغبياء في هذه الأيام في أمريكا: أصل المخلوقات حواء لا آدم؛ لأن الله يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] (واحدة) مؤنث أو مذكر؟ مؤنث، قال: أصل المخلوقات حواء، آدم خُلق من حواء، وليست حواء خُلقت من آدم، لمَ؟ لأن الله يقول: مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ يعني لا لغة ولا شرع، خالفت النصوص الشرعية وما أتقنت اللغة العربية، ظلمات بعضها فوق بعض.
التأنيث هنا -أيها الغبي الذي في أمريكا- ليس للمعنى إنما هو للفظ، عندنا طلاب المعهد في السنة الثانية يعرفون هذا.
إذاً: النفس مؤنث لفظي، فإذا أردت أن تصفه وأن تخبر عنه تأتي بضمير المؤنث، فعندما تقول: من نفس واحد، هذه رطانة الأعاجم، ولا يمكن في لغة العرب، بل مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ هي آدم، فالتأنيث هنا مراعاة للفظ لا أن المراد به مؤنث، تقول: هذه نفسي، ولا تقول: هذا نفسي، وهذه نفس حمزة، وهذه نفس فاطمة، هذه وهذه واحدة؛ لأن النفس لفظ مؤنث يُخبر عنه بمؤنث.
فيقول هذا: من نفس واحدة هي حواء، فـحواء هي الأصل للمخلوقات، وآدم خُلق منها، وهنا كذلك لئلا يأتي بعض الذكور الأغبياء يقول: هذه الآية خاصة بنا ولا يدخل فيها النساء؛ لأن الله يقول: (مَن) لفظ مذكر، ثم قال: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، الأربع ضمائر كلها للذكور، كيف ستدخلون الإناث فيها؟ دفعاً لتوهم إرادة الذكور أتى الله بالتفصيل فقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى [النحل:97]، والذي يقرر أن (من) موضوعة للجنسين والصنفين، لو لم تكن كذلك لما صح تفسيرها بالصنفين، لما قال: (من ذكر أو أنثى) هذا تفصيل لـ(من)، فلو لم تكن شاملة للصنفين لما فُصلت من ذكر أو أنثى.
ثبت في سنن أبي داود والترمذي والحديث مروي عن ابن عمر بإسناد صحيح، وقال الترمذي عنه: حسن صحيح، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة).
(من) تشمل الذكور، الآن وقعنا في مشكلة، قالت أمنا أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يفعل النساء بجيوبهن يا رسول الله؟ أنت تقول: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، و(مَن) شاملة للصنفين، فلا يجوز للمرأة أن تجر ذيلها، والمرأة تجعل ثيابها تستر قدميها لئلا يبدو قدماها وشيء من رجليها، الرجل ثوبه فوق الكعبين، والمرأة أنزل من الكعبين.
فلما كانت صيغة (من) تحتمل الصنفين حصل إشكال في ذهن هذه المرأة الصالحة القانتة الفقيهة الواعية، فقالت: (فكيف يصنع النساء بذيولهن؟)، فاستثنى النبي صلى الله عليه وسلم النساء وقال: (يرخينه شبراً)، يعني: تجعل ثيابها أسفل من الكعبين بمقدار شبر، والشبر (25سم أو 20سم على حسب طول شبر الإنسان.
قال: (يرخينه شبراً) أي: على الأرض، لكن الشبر لا يكفي، والعفيفة لا سيما إذا لم تلبس جورباً، لو أرخت جلبابها شبراً عندما تمشى يبدو قدمها، ولا يجوز أن يبدو من المرأة شيء، فانظر للحيية المسلمة الطاهرة العفيفة.
قالت: (إذاً ينكشف أقدامهن يا رسول الله)؟ أي: نحن لا ندخل الآن في (من) واستُثنينا، ويجوز أن نجر شبراً لكن الشبر لا يكفي، فلو جرت المرأة ثيابها شبراً على الأرض عندما تمشي يبدو القدم، فقال عليه الصلاة والسلام: (فيرخينه ذراعاً ولا يزدن)، أي: فإذا زاد على الذراع فهذا خيلاء في المرأة، وإذا زاد على الكعبين هذا خيلاء في الرجل.
لننتبه إلى هذا المعنى الذي صار كأنه حُلم في حياتنا، ليت المرأة الآن لبست ثوباً يستر الكعبين أو يستر الركبتين، ماذا أقول؟ لا أدري حقيقة! هذا الشيء يحير، وأنا لا أعجب من فساد العامة إنما أعجب من فساد طلبة العلم، طالب علم يتزوج، ثم بعد ذلك يأتيك بهذه الرخص الشيطانية الإبليسية، من أن الحجاب خاص بالعرب، أن الحجاب كان في العصر الأول، الحجاب عندما كانت في الناس شهوة وشبق، وأما عصرنا فليس كذلك، تبدلت الأحكام لتبدل الأزمان!
كل من يقول شيئاً من ذلك فهو مرتد كافر وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فإذا خرجت زوجتك سافرة -وأعيذ نفسي وأعيذكم بالله من ذلك- لكن إذا قُدر، فقل عن نفسك: إنك فويسق لا فاسق فقط، وقل عن نفسك أمام الناس إنك ديوث، والجنة عليك حرام، ولعل الله يغفر لك، وإياك أن تأتي بشيء من التعليلات الإبليسية، فأول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
انظر لهذه المرأة وللوعي الإسلامي في العصر الأول، في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، والله نحن نوقن ضرورة أن العصر الأول لو وجدوا المرأة عارية لغضوا أبصارهم للطهارة التي في قلوبهم، ونحن نوقن ضرورة أن المرأة لو خرجت في هذه الأيام ضمن سيارة وتلبس جلباباً يجر على الأرض ذراعاً لنظرنا إليها، لفساد القلوب في هذه الأيام، فإذا كانت طهارة القلوب في العصر الأول وتقول أم سلمة: يا رسول الله، إذا لم نرخِ ذيولنا ستنكشف أقدامنا، فكيف نعمل؟ فرخص لهن في شبر، وقالت: الشبر لا يكفي، لا بد من أكثر؛ لأنك رخصت هذا المقدار، وصار الثوب يجر على الأرض شبراً، عندما تمد المرأة رجلها هذا الشبر لا يكفي لستر القدم، يعني: لا تبقى القدم مستورة ضمن الشبر، يكون الشبر قد انحسر عنها بفتحة الرجل، فلا بد من زيادة حتى إذا مدت رجلها تمد رجلها ضمن ثوبها. فقال: يرخينه ذراعاً.
كُتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
هي تجر ذيلها وثوبها وتحتشم وتستر نفسها، ونحن نحمي الحمى وندفع العدى ونجاهد في سبيل المولى جل وعلا، علينا القتل والقتال وما فُرض على النساء، وفُرض عليهن الحجاب.
انتبه: (مَن) تشمل الصنفين: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) ولذلك قالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن، لأننا سندخل في (مَن)؟ قال: (يرخينه شبراً)، أنتن مستثنيات ومرخصات لأدلة خاصة، قالت: شبر لا يكفي، إذاً تنكشف أقدامهن، قال: (يرخينه ذراعاً ولا يزدن)، والذراع معروف: من أول الأصبع إلى المرفق، هذا يقال له الذراع العربي، يعني: الذراع قرابة 50سم، أي: نصف متر، حقيقة هي عندما تمشي فتحة الرجل ليست أكثر من نصف متر، ليست أكثر من ذراع بين القدمين، إذاً: يبقى القدمان ضمن الثوب، ولا ينكشف الثوب عن القدمين، وهذا عندما لم يكن النساء يلبسن الجوارب.
ولذلك إذا لبست المرأة في هذه الأيام جوارب ثخينة غليظة، وجرت الثوب بحيث يصل إلى الأرض، وما أرادت أن تجره أكثر، يرخص لها؛ لكن الأكمل والأفضل أن تجر ذراعاً أو شبراً، على حسب ما تراه يحقق الستر التام، لكن إذا لم تلبس جوارب ثخينة وسميكة سوداء، يجب عليها أن تجر الثوب حتى لا يبدو شيء من القدمين، وإذا لبست فإذا جعلت الثوب ينزل إلى مستوى الأرض، وعندما تتحرك يوجد ما يستر القدم من جوارب سميكة غليظة ثخينة، فلا حرج.
وهذا -إخوتي الكرام- حكم الإسلام، ألا نتكلف في الحياة، وإن كنا حقيقة في هذه الأيام صرنا غرباء ونسأل الله أن يجعلنا من الغرباء حقاً، فطوبى للغرباء الذين يحيون من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ما أفسده الناس، حقيقة المرأة التي تتحجب هذا الحجاب في هذه الأيام غريبة، والأسرة التي فيها امرأة بهذه الشاكلة يُنظر إليها فيقال: في أي عصر تعيش؟!
ولكن نحن نقول: الفضيلة فضيلة، والرذيلة رذيلة في كل عصر، نعم أساليب الحياة تتغير، كان الناس يمشون فصاروا يركبون على ذوات أربع، ثم صاروا يركبون على دراجة، ثم صاروا يركبون على سيارة، صاروا يركبون على طائرة، على صاروخ، هذه وسيلة، أما القيم الثابتة فلا تتغير، يعني: الصدق صدق، وهو حسن، والكذب كذب، وهو قبيح، سواء الناس كانوا يمشون على أرجلهم أو يركبون في الطائرة، والزنا منكر في كل عصر، والحجاب فرض في كل عصر، فالقيم الثابتة ثابتة، أشكال الحياة لا مانع أن تتغير، يعني: كان الناس يركبون في سيارة، يقول: لا أريد أن أركب في سيارة، لا أركب إلا على الحمار في هذا الوقت، والركوب في السيارة بدعة، أقول: كلامك بدعة من أوله لآخره، وأنت لا تعرف الشرع ولا مقصود الشرع، لا بد من التمييز بين ما هو وسيلة وشكل للحياة يتغير، وبين ما هو قيمة ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والأمكنة.
فريضة الله في حق المرأة أن تتحجب في أي مكان وفي كل زمان، هذه لا تكون تصبح في وقت رذيلة وفي وقت فضيلة، بل فضيلة على الإطلاق أن تتحجب، والسفور رذيلة، فانتبهوا لهذا إخوتي الكرام.
وأنتم سفينة الأنام، إذا تحجبت نساؤكم ستتحجب نساء العوام تبعاً لكم، لكن البلية عندما فسد طالب العلم فسد الناس، ولذلك طالب العلم سفينة الحياة، إذا غرقت أغرقت -ما اقتصر الغرق عليها- إنما هلكت وأهلكت، (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، قالت: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخينه شبراً، قالت: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعاً ولا يزدن).
لا يجوز للرجل أن يسدل ثيابه عن الكعبين، سواء كان ثوباً، أو إزاراً، أو بنطلوناً أو أو، إذا نزل عن الكعبين فهو في النار، أي ثوب نزل عن الكعبين فهو في النار، وإذا قصدت به الخيلاء لا ينظر إليك الجبار، تجمع بين عقوبتي النار وعدم نظر الجبار.
ولذلك ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)، لخيلاء أو لغيره، وثبت في سنن أبي داود بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أُزرة المؤمن إلى نصف ساقه) -ويضبط بالكسرة إِزرة أُزرة يعني: إزاره ثوبه- هذا السنة والمستحب، أن تلبس الثوب يكون بين الركبة والكعبين إلى نصف الساقين، هذا لو لبسه الرجل الآن يعير أوليس كذلك؟ المرأة تلبس إلى منتصف فخذيها فلا يتكلم عليها أحد، انظر كيف تختل الموازين في هذا العصر الوخيم حقيقة!
وقال مرة بعض الشيوخ لم أعلم بأي شيء أعبر عنه- هل هو من الشيوخ الضالين، أو ماذا أقول عن مدرس في كلية شريعة، قال لبعض طلبة العلم، وقد رأى ثوبه إلى منتصف ساقيه: أنتم شوهتم الإسلام بهذا المنظر! يدرس في كلية الشريعة، يعني: شيطان يدرس في كلية الشريعة؟! ما تستحي من الله، سنة النبي عليه الصلاة والسلام صارت تشويهاً للإسلام، هذا الحديث في سنن أبي داود بإسناد صحيح: (أزرة المسلم إلى نصف ساقيه، ولا حرج عليه فيما بينه وبين الكعبين) يعني: لا حرج أن يزيد على منتصف الساقين إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ففي النار، (ومن جر ثوبه بطراً لم ينظر الله إليه).
إذاً: هذه أربعة أحوال: السنة إلى منتصف الساقين، مرخص لك ولا حرج عليك من منتصف الساقين إلى الكعبين فإذا نزل عن الكعبين بدون خيلاء وبطراً في النار، وإذا قصدت الخيلاء في النار ولا ينظر الله إليك، فتجمع بين عقوبتين.
وإنما توسعت في هذا مع أنه ليس من مباحثنا؛ لأنني أرى هذا الأدب الشرعي أخل به طلبة العلم في كل وقت، فثيابهم وأزرهم تجر على الأرض، وثياب نسائهم مرفوعة إلى شيء يُستحى من ذكره، فكأن النساء صرن رجالاً، بل غلبن الرجال في التقصير، وكأن الرجال أرادوا أن يتشبهوا بالنساء في التطويل، علام هذا؟! الآن الشعر، رجل يحلق لحيته وامرأة تقص شعر رأسها، كيف هذا؟
الأصل جمال المرأة في شعرها، وأئمتنا كانوا يقولون: الشعر أحد الوجهين، يعني: جمال الشعر كجمال الوجه، وكلما طال شعر المرأة كثر جمالها، والمرأة عندما تقص شعرها تصبح كالفأرة، والرجل عندما يحلق لحيته -أقول للنساء أم نسكت- نسكت لأننا لا داعي الآن لذكر حال الرجل، لكن لابد من التشبيه، الرجل يصبح كالشيطان، وتلك تصبح كالفأرة، والشيطان أخبث من الفأرة حقيقة!
وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب
يعني ليس العجب في ترجل المرأة، إنما العجب في خنوثة الرجل.
رأى مرة بعض الشيوخ رجلاً حلق لحيته، فقال له: من مَحرمُك؟ قال: أنا رجل، كيف تقول له محرم؟! قال: أنت حكمك حكم المرأة الآن، أين لحيتك؟ أنت الآن ينبغي أن تبحث عن محرم لك، من محرمك؟! هذا الأدب فرط به الناس، وقدوتهم في هذا طلبة العلم، فاتقوا الله في أنفسكم إخوتي الطلاب، أنتم قدوة غيركم.
ولذلك فُسرت الحياة الطيبة بطيب الحياة في هذه الدور الثلاثة: فُسرت بالجنة، فالجنة فيها حياة لا يعتريها موت، وغنى لا يعتريه فقر، وصحة لا يعتريها سقم، وأهل الجنة يشبون فلا يهرمون، ويصحون فلا يسقمون، لهم ما يشاءون فيها ولدى ربنا مزيد.
ولذلك قال الحسن : لا تطيب الحياة إلا في الجنة.
وثبت عن مجاهد وقتادة أنهما قالا: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] هي الجنة، وأنا أقول: هذا مما يدخل في قول الله: (حياة طيبة)، وهذه أكمل حياة، نعم أكمل حياة وأتمها ما يكون في الجنة، فهي دار السرور والحبور، ولا كدر فيها ولا شرور، لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]، الدار التي قبلها دار البرزخ روضة من رياض من الجنة.
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] قال السدي وشريك بن عبد الله : في البرزخ، فيكون قبره روضة من رياض الجنة، وينعم في هذا القبر، فله حياة طيبة.
وثبت عن حَبر هذه الأمة وبحرها قال: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] في هذه الحياة، كيف هذا؟ كما تقدم معنا: منشرح الصدر، مطمئن القلب، مبتهج النفس، مستنير العقل، هذه حياة طيبة أم حياة نكدة؟ طيبة، أما النكد: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، نكد وكرب وشدة وعناء وبلاء، وأما هنا فطيب وهناء: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
قال الإمام الرازي عليه رحمات ربنا جل وعلا في تفسيره عند هذه الآية (20/112): حياة المؤمن حياة طيبة، وأكمل من حياة الكافر من خمسة أوجه:
الوجه الأول: المؤمن يعلم أن رزقه في هذه الحياة بتدبير الله، والله محسن فيه، فهذا يدعوه إلى الرضا، عندما أقدم لك هدية من غير استحقاق منك، تسبني أم تمدحني؟ والله يدبر رزقنا، ويحسن إلينا في هذا الرزق، ولا نستحق ذلك، المؤمن يقدر هذا فيرضى بما قدر الله له.
الأمر الثاني: المؤمن يعلم طبيعة الدنيا، وسرعة زوالها وتغيرها، وزوال نعمها، فلا يجزع عند حلول نقمها:
طُبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة ماء
يعني: النار نار، الدنيا دار عناء وبلاء، فإذا أُصبت بها بشدة فأنت الآن في سفر، والعيش عيش الآخرة، فلا تجزع مما يعتريك فيها من شدائد.
الأمر الثالث: المؤمن مع رضاه وعدم جزعه مغمور بالسعادة في حياته؛ لأن غايته إرضاء ربه، وهو يلهج بهذه الجملة: (إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي).
فانتفى عنه الجزع، وحصل له الرضا، وثبتت له السعادة.
الأمر الرابع: لذات الدنيا لذات خسيسة ذاهبة، يعني: أعظم لذاتها لذة الأكل ولذة الوقاع، تفكر في هاتين اللذتين، إذا تفكرت فيهما على وجه التمام تحتقرهما، وقد لا تأكل، وقد لا تتصل بزوجتك، ولا أريد أن أبالغ في وصفهما، إنما أريد أن أقول ما قاله أئمتنا الكرام الفحول: ما جاوز اللسان فهو نتان، يعني: نتن فساد، هذا الأكل له طعمة حلوة وحامضة ومالحة تتلذذ به ما دام في فمك، فمتى جاوز اللسان استحال إلى رجيع، لو قذفته لسكرت أنفك من رائحته، أوليس كذلك؟
إذاً: ما جاوز اللسان فهو نتان وفساد، متى ما تقيأ صار يخرج منه رائحة كما يخرج من الإنسان عندما يذهب إلى الحمام تماماً.
ثم صورة المضغ عندما تمضغ واللعاب يسيل، وتحرك المجرفة وهي المسحاة، وأي مسحاة في الفم، اللسان وتقلب الطعام يميناً وشمالاً وهو طعيم، لكن لو نظر الإنسان إلى فمك وأنت تأكل لأغمض عينيه من بشاعة ذلك المنظر، هذه الآن لذة!
ولذة الوقاع مبال في مبال، وكشف عورة يستحي منها الإنسان، ولذلك لا تُفعل إلا سراً، فإذاً هذه أعظم لذة الدنيا.
إذاً: يعلم أن لذات الدنيا خسيسة زائلة، فلا يفرح بها إن أقبلت، ولا يحزن عليها إن أدبرت: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23].
الأمر الخامس: مع علمه بحال لذات الدنيا، عندما تقبل عليه لا يعانقها معانقة العاشق؛ لأنه يعلم أنها عما قريب زائلة، فيأخذ منها ما يكفيه إلى الدار الآخرة.
وهذا المعنى الذي ذكره الإمام الرازي أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم بأوجز عبارة، فقال كما في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
والحديث -إخوتي الكرام- رواه الإمام أحمد من رواية سعد بن أبي وقاص أيضاً، ورواه الإمام أحمد وأبو يعلى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، وانظروا الروايتين الأخيرتين في مجمع الزوائد (7/29).
فالمؤمن إذا في هذه الحياة في جنة عاجلة، ولذلك من لم يدخل هذه الجنة في هذه الحياة لن يدخل الجنة بعد الممات.
إخوتي الكرام! لهذا شيء من التفصيل القليل أحب أن أتركه لأول المحاضرة الآتية، لأكمل الكلام إن شاء الله على هذا الأمر الرابع الذي هو فضل علم التوحيد ومنزلته، لننتقل بعد ذلك منه إلى الأمر الخامس إن شاء الله، ولترتبط المباحث ببعضها، أتكلم على تقرير هذا الأمر الأخير، وهو:
أن الإنسان حاجته إلى توحيد الله ضرورية ماسة لا يستغني عن ذلك في وقت من الأوقات، وسعادته في الآخرة وفي الدنيا متوقفة على ذلك، حققت هذا ببعض الأمثلة والنماذج والشواهد، أكمله إن شاء الله فيما يأتي بعون الله، ثم ننتقل إلى المبحث الخامس مما سنتدارسه في المقدمة إن شاء الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك وأتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر