ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفع شأن العلم وأعلى قدر أهله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أشرف الأنبياء والمرسلين، وأفضل العلماء العاملين، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، الذين كانوا بعلمهم، وعملهم مناراً للسالكين، وقدوة للعاملين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى؛ فتقوى الله سبحانه وتعالى سببٌ موصلٌ للعلم الذي هو سلم النجاة بإذن الله وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ البقرة:282].
عباد الله! إنه مما لا شك فيه؛ أن العلم شرفٌ ونورٌ وفضيلة، وأن الجهل شرٌ وبلاءٌ ورذيلة، وأن العلم النافع مصدر الفضائل وينبوعها، وأن الجهل مكمن الرذائل وموردها، وأنه بالعلم النافع يتحقق للأفراد والمجتمعات بناء الأمجاد وتشييد الحضارات، كما أنه بالجهل تتزعزع الأركان، ويتصدع عامر البنيان، ويحل الدمار ببني الإنسان.
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة } كما كانت القراءة أول صيحة مجلجلة، أطلقها الإسلام تنويهاً بقيمة العلم وسمواً بقدره، وتكويناً لقاعدة البناء المعنوي في الأمة، وتشييداً لصرح حضارتها، وسر ازدهارها، ونمو كيانها، ألا وهو العلم؛ العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم بكل ما تحتاجه الأمة الإسلامية في مسيرتها، لتواكب بحضارتها عصرها الذي تعيشه، مع تمسكها بأصول عقيدتها، وتعاليم دينها.
أمة الإسلام: كم في كتاب الله من الآيات الكريمة في هذا الموضوع المهم؟! ألم تقرءوا قوله سبحانه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد:19]، وقوله جل وعلا: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114]، وقوله سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون [الزمر:9] وقوله جل وعلا: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]
كذلكم كان رسولكم صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الأول، قدوةً حسنة في هذا المجال، فجاء في سنته القوية والعملية ما يبين المقام الأسمى في هذا الأمر العظيم.
وبالجملة؛ فكلُّ شرٍ وبلاءٍ وفسادٍ وداء، في عقيدة الأمة وعباداتها، وتصوراتها وأفكارها وسلوكها وأخلاقها، فالجهل مصدره، والعي مورده، ومن أحب نجاته فطريق العلم سلم الوصول لذلك بإذن الله.
هذا وإن المسلمين اليوم لفي أمس الحاجة إلى أن يتكون منهم أجيال ملمة بالعلوم المهمة التي يحتاجها المسلمون، كعلم الطب والهندسة والاقتصاد ونحوها، ليتسنَّى لهم خدمة دينهم والاستغناء عن غيرهم.
ومما يجدر التنويه بشأنه: ضرورة أن يتعلم طائفةٌ من المسلمين العلوم العسكرية والآلات الحربية، ليتمكنوا من مواكبة العصر الذي يعيشونه، وليتسنى لهم الدفاع عن مقدساتهم وحرماتهم وعقيدتهم، كما أنه ينبغي أن يكون من بين المسلمين من يُعنى بالعلوم المهنية، والأعمال الفنية؛ ليكمل المسلمون أنفسهم من كل علمٍ فيه نفعهم، وصلاح أحوالهم.
إن المهم في كل علمٍ إخلاص العمل فيه لله، وتسخيره لخدمة الدين والعقيدة، والدعوة إلى الإسلام من خلاله، فلعل أبناء المسلمين، الذين يستعدون هذه الأيام لبداية عامٍ دراسيٍ جديد، لعلهم أن يعوا هذه القضايا الهامة في هذه المهمة الجليلة.
وأنتم أيها المدرسون، يا من حملتم أمانة التعليم والتربية لفلاذة أكباد المسلمين! اتقوا الله فيهم، واعلموا أنكم مسئولون عنهم أمام الله، فكونوا خير قدوةٍ لهم، ومثلاً أعلى في الخلق والاستقامة، واعتنوا بتربيتهم تربيةً إسلامية صحيحة، فأنتم مربون قبل أن تكونوا ملقنين.
أما من منَّ الله عليهم بالعلم والمعرفة، من العلماء ورثة الأنبياء، فإن واجبهم عظيم في البلاغ والبيان، وتعليم المسلمين أمور دينهم وإعادة مكانة العلم، وإحياء حلق الذكر في المساجد ودور العلم، كي لا يقعوا تحت طائلة الكتمان المحرم.
ونداءٌ إلى من ائتمنوا على إعداد الخطط، ورسم مناهج التعليم لأبناء المسلمين وبناتهم أن يتقوا الله فيهم، ويشبعون نهمهم من العلوم الشرعية، ويجعلوا مناهجهم مبنية على الكتاب والسنة، ويبعد كل ما يتنافى مع ديننا ومبادئنا، لتتحول المدارس والمعاهد والجامعات إلى صروح خيرٍ وهدى، وميادين توجيهٍ وتربية.
ودعوة إلى أولياء أمور الطلبة والطالبات، أن يعوا دورهم الكبير في متابعة أبنائهم، وتفقد أحوالهم، وإيجاد العلاقة الوطيدة بين الأسرة والمدرسة، ليتم التعاون البنَّاء المثمر علماً وعملاً وتوجيهاً وتربية.
أيها المسلمون! هذه إشارات يسيرة في مهمة عظيمة، أرجو أن يكون طرحها بمناسبة بدأ العام الدراسي الجديد، حافزاً للهمم، في أن يعي كل واحدٍ منا دوره، ليتم لمجتمعاتنا المسلمة ما تصبو إليه من عزة ومنعة، ونصرةٍ ومجدٍ وقوة، والله نسأل أن يرزق الجميع العلم النافع والعمل الصالح، إنه جوادٌ كريم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعرفوا للعلم قدره، واجتهدوا ما استطعتم في التفقه في دينكم، فمن يرد الله به خيراً يفقه في الدين، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، واعمروا أوقاتكم بالعلم النافع، فليس العلم محدوداً بسن، ولا معيناً بمرحلة، ولا منتهياً بنيل شهادة عالية، واعلموا أنكم في زمانٍ لا مخرج لكم من فتنه، إلا بالتسلح بالعلم النافع، وإذا كان العالم -بحمد الله وفضله- يشهد إقبالاً وصحوة، فينبغي أن يتوج هذا التوجه بالعلم النافع، ليرسي قواعده، ويربط مسالكه، ويعصمه من الانحراف بإذن الله.
كذلك يجب على من يقومون بالدعوة إلى الله، وأعمال الحسبة، أن يكونوا على علمٍ بما يدعون إليه، وطريقة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى لا يحصل مجاوزةً للحكمة وحصولٌ للضرر الناتج من قلة البضاعة في العلم، هذا وإن من الظواهر الخطيرة في هذا المجال، ظاهرة التعالم، وادعاء كثير من الناس العلم وهم ليسوا كذلك، بل ليسوا من أنصاف المتعلمين، فيحصل عندهم من الجرأة على الله، وعلى رسوله، وإصدار الفتاوى والنيل من أهل العلم المعتبرين، ما يسبب خطراً كبيراً على المجتمعات، فاتقوا الله -عباد الله- وتعلموا ما ينفعكم، واتبعُوا العلم بالعمل، والدعوة إلى الله، كل ذلك بخطىً متوازنة، لا إفراط فيها ولا تفريط، وبذلك يحصل النفع العظيم، والخير العظيم بإذن الله.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على معلم الناس الخير، النبي المجتبى، والرسول المصطفى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم انصر به دينك، وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، ووفقه وأعوانه وإخوانه إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح للمسلمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين المؤمنات، اللهم أصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر