والباقيات الصالحات هن بعض الأذكار التي يذكر بها الله جل وعلا، وهن غراس الجنة، وهن الكلمات الخفيفات على اللسان الثقيلات في الميزان.
أما بعد:-
فيا أيها الناس: إنه لا أحوج للمرء المسلم ولا أبلغ في أن يذكر به ويوصى من تقوى الله سبحانه، فإنها الزمام، وبها القوام، فتمسكوا -رحمكم الله- بوثائقها، واعتصموا بحقائقها؛ تئول بكم إلى أكنان الدعة وأوطان السعة، ومنازل العز والرفعة، في يوم تشخص فيه الأبصار، وينفخ فيه الصور فتدك الشم الشوامخ والصم الرواسخ، فيصير صلدها سراباً رقرقاً، ومقرها قاعاً صفصفاً، وإلا فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، يوم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً.
عباد الله: أمر مقرر معلوم، لا إخاله خافياً على كل من يحمل مع روحه عقلاً صحيحاً وعلماً صريحاً، وهو أن لكل بداية نهاية، وأن البزوغ يعقبه الأفول، وآحاد العبادات من فرائض وسنن لها أوقات تحد للبداية والنهاية، بل إن طاقات البشر البدنية والنفسية -بلا استثناء- قد تقوى حيناً من الدهر، فتقوى بقوتها العبادة، كما أنها قد تضعف أحياناً، فتضعف بضعها العبادة ما خلا أمراً واحداً لا تعيق عنه العوائق، يستوي فيه الشرخ والشيخ، والصحيح والسقيم، والقادر والعاجز، والقائم والقاعد، بل والمستلقي على ظهره، لا يحتاج إلى استنهاض قوىً، ولا استجماع نشاط، أتدرون ما ذاك عباد الله؟
إنه ذكر الله تعالى، ذكر الله الذي لا يستساغ عذر منقطع عنه، كيف لا وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) رواه الترمذي وابن ماجة .
ذكر الله -أيها المسلمون- أمر الله جل وعلا به الحجاج بعد انقضاء نسكهم، بل وأمرهم أن يلهجوا به مع الإكثار منه فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة:200]، وهذه الآية عباد الله! لا تفيد بمنطوقها ولا بمفهومها، أن يذكر المسلمون آباءهم مع الله، كلا. ولكنها تحمل طابع التوجيه إلى الواجب واللازم: وهو استبدال ذكر الله بذكر الآباء، بل إنها تؤكد على المسلمين أن يكونوا أشد ذكراً لله، ولا غرو في ذلك إذ المؤمنون هم أشد حباً لله، وذكر الله تعالى هو الذي يرفع العبد حقاً وليس هو التفاخر بالآباء، وما سوى ذلك من حطام الدنيا الفانية، وإن في الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنىً جلياً، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، فالمؤمن الصادق يعيش على ذكر الله، ويموت عليه، وعليه يبعث، فما طابت الدنيا إلا بذكره جلَّ وعلا.
يقول ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!
هاتان الآيتان قال عنهما جمهور من المفسرين: إن الباقيات الصالحات هن الكلمات المأثور فضلها، وهن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
روى الحاكم في مستدركه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا جُنتكم، قلنا: يا رسول الله! من عدو قد حضر؟ قال: لا. جُنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة منجيات ومقدمات وهن الباقيات الصالحات )، ومعنى كونها باقيات صالحات أي: أنها من حرث الآخرة، وأن ثوابها باق لها.
تمعن أيها المرء! بكم تشتري الفسائل أو أطايب الشجر، وكم يستهويك غرسه أو جنيه، لله كم تزاود أو تماكس في بيعه وشرائه، ألا تشرئب إلى من يدلك على ما هو خير من ذلك كله، بل وأرخص منه، بل ولربما عدَّك العقلاء من الناس مفرطاً مفلساً إن لم تتعجل بشرائه أو غراسه؛ لأن الوقت محدود، والفرصة سانحة، والعذر ليس ذا بال.
إن شئت -أيها المرء- فاسمع الآتي: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أغرس غراساً فقال: يا
وروى مسلم والترمذي وغيرهما {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد اقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، -أي: مستوية- وأن غراسها، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }.
وفي رواية: {أربع أفضل الكلام لا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }.
تلكم -أيها المسلمون- فضائل هذه الكلمات في الجملة، ناهيكم عن كون الإكثار منها سبباً في غفران الذنوب، ومحو الخطايا، وما أحوجنا إلى مثل ذلك.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عليك بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يحططن الخطايا، كما تحط الشجرة ورقها } رواه ابن ماجة .
أضيف إلى ذلك أيها المسلمون: أن ذكرها قد يكون سبباً في إجابة الدعاء، أو قبول الصلاة، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {من تعارَّ من الليل -أي: استيقظ- فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على لك شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم دعا استجيب له، فإن قام فتوضأ، ثم صلى قبلت صلاته } رواه البخاري وغيره.
وتسبيح الله -أيها المسلمون- ليس مقتصراً على جانب التنزيه فحسب، وإنما هو مرتبط كذلك ارتباطاً وثيقاً بجانب الخشية من الله، كأن المرء يراه، وإنه إن لم يكن يراه فإن ربه يراه، فلا ينبغي أن يصدر من العبد ما لا يرضى به ربه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وأن المرء المسلم إذا نأى بنفسه عن أن يقع في زلة أو هفوة، بسبب تسبيحه لله، فهو ممن أدى حق الخشية والتنزيه والإعلاء.
ألا تسمعون قول البارئ جلَّ وعلا يصف أحاديث الإفك المفترى، على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].إن المرء المسلم ليربأ بنفسه عن أن يكون مقوالاً مهذاراً لكل ما يرد إليه لا تحكمه أناة، ولا يردعه خشية، ولا يكفكفه عقل، ويكفيه كذباً أن يحدث بكل ما سمع، وإن الذين يرمون الأبرياء بما ليس فيهم تحقيقاً لشهوات دنيئة ومآرب غير نقية، ما قدروا الله حق قدره، وما نزهوه وسبحوه كما يليق بجلاله.
وقولوا مثل ذلك -عباد الله- في الظن بالله جلَّ وعلا، إذ على المرء أن يعلم علم اليقين، أن الله خلق كل شيء، فقدره تقديراً، وأن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، وشقية أو سعيدة، وألا يبالي المرء أعطاه الناس أو منعوه، فإنما هم رسل الله في الرزق، يعطون من قدر الله أن يعطوه، ويمنعون من قدر الله أن يمنعوه، وما على المرء المسلم إلا أن يتوكل على الله كما تتوكل الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً، فتوكل على الحي الذي لا يموت، وسبح بحمده.
وليس بخافٍ عليكم -أيها المسلمون- ما حكاه الله عن أصحاب الجنة في سورة نون فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [القلم:23-29].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد } رواه أحمد والترمذي .
وأما شعبة الحمد الثانية: فهي معنى (الشكر) في مقابل السراء والنعم التي تنهمر على العباد صباح مساء دون أن تحصى أو تعد، بيد أن كثيراً من الناس يعمهم قوله سبحانه: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سـبأ:13].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى نعمة الشكر المنسية وفضلها المجحود فيما رواه أبو داود وابن حبان : {من قال حين يُصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم }.
اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك، قابليها وأتمها علينا ياذا الجلال والإكرام، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فثالث الكلمات الأربع -عباد الله- هي كلمة التوحيد والإخلاص: لا إله إلا الله ، والتي هي باب الإسلام، ومدخله مع ضميمتها الأخرى، وهي: (محمد رسول الله) إذ لا يتم إيمان عبدٍ إلا بتحقيق كلمة التوحيد، بمعنى: أن تجمع نفياً وإثباتاً، نفياً لكل ما يعبد من دون الله، وإثباتاً لعبادة الله وحده، ومعنى الكلمة: أنه لا معبود بحق إلا الله.
إذ أن ما سواه من معبودات أو متبوعات، لا تستحق العبادة، بل هي كما قال الله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]، وفي صحيح مسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم دمه وماله وحسابه على الله عزَّ وجلَّ } فالتوحيد والشرك نقيضان لا يجتمعان في قلب امرئ مسلم ألبتة، ومن أشرك بالله شيئاً فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
غير أنه قد يقول قائل: أين نحن من عبادة الأصنام والأوثان، لا نعلم أحداً يعبد حجراً أو يصلي إلى صنم؟
فالجواب: إن من ظن أن الشرك بالله لا يكون إلا بذلك، فقد أخطأ الطريق، لأن الله يقول: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
والإيمان بالله والكفر بالطاغوت هو معنى لا إله إلا الله، والطاغوت قال عنه ابن القيم رحمه الله: إنه ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم، من يتحاكمون إليه من دون الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما ليس طاعة لله ورسوله، ومن هنا أزال النبي صلى الله عليه وسلم الإشكال، الوارد على عدي بن حاتم رضي الله عنه عند قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31].
قال عدي : {يا رسول الله! لسنا نعبدهم، قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم } رواه الترمذي والبيهقي .
وحاصل فضل هذه الكلمة -عباد الله- قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي : {أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: لا إله إلا الله }.
فيا لله! ما أعظم هذه الكلمة وما أبلغها! إنها كلمة ينبغي أن تدوي في سمع كل فاسق مفسد، ليرتجف فؤاده، ويهتز كيانه، وينبغي أن تدوي في سمع كل من يهم بمعصية أو إثم ليقشعر ويرتدع، وينبغي أن تدوي في سمع كل ظالم معتد متكبر ليتذكر إن كان من أهل الذكرى أن هناك إلهاً أقوى منه، وأكبر من حيلته ومكره واستخفافه، فالله أكبر، الله أكبر كبيراً.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك ومنك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وسلِّم الحجاج والمسافرين والمعتمرين في برك وبحرك وجوك يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته ياذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر