أما بعد:
فإن هذا الموضوع خطير؛ لأنه يتعلق بمصير العبد عند الله سبحانه وتعالى، يتعلق بدخول الجنة أو دخول النار، وهي هذه التي حولها ندندن، ونرجو من الله سبحانه وتعالى دخول الجنة والنجاة من النار.
جاء في الحديث الصحيح: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة) ولما سئل: عن أكثر ما يدخل الناس النار قال: (الفم والفرج) ولما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يُعلّم معاذ بن جبل أركان الإسلام وشرائع الدين، وعمَّا يحبه الله عزَّ وجلَّ وعمَّا يبغضه، قال: (أولا أدلك على ملاك ذلك كله؟ -ما يحفظ لك دينك- قال: بلى يا رسول الله! قال: أمسك عليك هذا، وأمسَك بلسانه).
إن أخطر ما يواجه دين الإنسان وعقيدته لسانه، بل إن اللسان به يدخل الإنسان الإسلام، وبه يخرج من الدين، واللسان كما قيل:
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان |
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان |
فاللسان خطير، ومن خطورته أن أعضاء الجسم في كل صباح تحذر اللسان، وتقول: (اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا) ويقول الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] كل كلمة وكل لفظة تُسجَّل. وكم يجلس الإنسان في المجالس! ويأخذ في الكلام، فإذا بهم قد جاءوا بفلان من عباد الله، ووضعوه بينهم وهو ميت، فأخذوا ينهشون في لحمه! بل كم نرى من الأمثلة من عباد صالحين مصلين! يذهبون إلى العمرة وإلى الحج، ويتصدقون ويصومون النوافل...، ولكن كما قال ابن القيم: كم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم.. ما شاء الله عليه! تجده حتى السواك لا يتركه، وبعض المكروهات عنده كالمحرمات، وبعض المباحات يتركها خوفاً من الوقوع في المحرمات، والشبهات يجتنبها.. كم من رجل تجده متورعاً عن الفواحش والظلم، يقول ابن القيم: ولسانه يسري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول!
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج لمَّا عٌرِج به -وأرجو أيها الأخ العزيز، أن تتخيل المشهد- (رأى رجالاً لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم، وصدورهم -تخيل الدم ينزل، ولو رأيته لقلت إنه مجنون، من يفعل بنفسه هذا الفعل؟ هذا الإنسان يخمش وجه وصدره- فقال: سبحان الله ما هذا؟! فقال: هؤلاء الذين يقعون في أعراض الناس، ويتكلمون في أعراض المسلمين).. (ونظر إلى الكعبة وقال: ما أعظم حرمتك! لكنَّ حرمة المسلم أعظم منك).
إذاً: فالمؤمن الذي يشهد الشهادتين له حرمة عند الله سبحانه وتعالى، فإياك إياك! فإن الكلمة عندما تخرج لا تعود مرة أخرى، وسوف تجدها عند الله سبحانه وتعالى في المحشر.. وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا [الكهف:49] يدعون على أنفسهم بالويل والثبور! لماذا؟ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]. أي لفظة صغيرة كانت أو كبيرة.
قال أهل العلم: الغيبة -غيبة المسلم- من الكبائر. ولاشك أنكم سمعتم بحديث المفلس، ولكن هل تفكرتم فيه؟ نعم. فنحن نحفظ حديث المفلس، بل بعضنا يحفظ روايات لهذا الحديث، وبعضنا يحفظه من صغره، بل إن البعض منا يعرف أقوال العلماء في ضوء هذا الحديث، لكنَّ المصيبة أين نحن من واقع هذا الحديث؟ هل تفكرنا فيه؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار).
فكر وأنت الآن جالس تستمع إليّ، كم من إنسان تكلمت عليه بسوء؟!
من الناس من يقول: هم ألوف لا أستطيع أن أحصيهم، فكلهم سيكونون خصماءك عند الله يوم القيامة، فيخاصمونك إلى الله وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].
أتظن أن الأمر هين؟! تجلس في مجلس فتغتاب أخاك، وتتكلم فيه وتطعن، وتتكلم بما يسوءه ويكرهه، ويتركك الرب جل وعلا؟! لا. إن الأمر فيه عدل، وميزان عند الله سبحانه يوم القيامة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8].. وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] يقول أنس رضي الله عنه: [خدمت رسول الله تسع سنين، فوالله ما نهرني، ولا قهرني، ولم يقل لشيء لم أفعله: لِمَ لم تفعله] أسمعت هذا الأدب الرباني، أدب النبي عليه الصلاة والسلام مع خادمه، تسع سنوات ما قال له يوماً من الأيام: لماذا فعلت هذا الشيء؟ أو لِمَ لَمْ تفعل هذا الشيء؟
ويقول أنس: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) أرأيتم إلى الأدب؟ فإياك إياك أن يتكلم اللسان إلا بعد أن تفكر، يقول أحدهم: جاهدت نفسي عشر سنوات وما زلت أجاهدها على أمر وسوف أدركه قالوا: وما هو؟ قال: أن أصمت عما لا يعنيني. يا أخي ما الذي يعنيك؟ ما شأنك وشأنه؟ ما الذي ألزمك أن تتكلم في عرضه؟ من الذي أجبرك على أن تلوِّث لسانك بعرض فلان، وتلوكه بحرمة فلان، وتتكلم في عورة فلان؟ من الذي ألزمك بهذا؟ قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وقال عليه الصلاة والسلام: (من صمت نجا) والحديث في صحيح الجامع.
وأعظم السب الذي يخرج من اللسان على وجه الدنيا هو سبُّ الرَبّ جل وعلا، وسبُّ الرَبِّ بنسبة النقص له سبحانه وتعالى، أو بنسبة الولد له، هذا كله سب وشتم لله، ويأتي تحته درجة أقل منه: وهي سب الأنبياء والرسل، وسب الملائكة، وسب الصالحين، وعلى رأسهم الصحابة، في الحديث الصحيح: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فكم من الناس من لا يبالي فيسب أصحاب رسول الله! أسمعت أولئك الذين يتكلمون في عرض أصحاب رسول الله؟! فقد قال بعضهم: ما رأينا أكبر منهم بطوناً ولا أجبن عند اللقاء. ألسنة تكلمت بهذا الكلام، فأنزل الله عز وجل آيات من فوق سبع سماوات: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة:65] كنا نقضي الأوقات حتى تمر الساعات.. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] كلمات أُطلقت أَوبقت دنياهم وآخرتهم، ومن الناس من يطلق لسانه بأشد من هذا، أو بمثله من اللعن؛ واللعن من أخطر الأمور، فإياك أن تلعن أحداً يوماً من الأيام! قال عليه الصلاة والسلام: (لعن المؤمن كقتله) أرأيت إنساناً يمسك بالسلاح فيقتل؟ ستقول: أعوذ بالله من القتل، ولن تصل إلى هذه الدرجة بإذن الله، لكن (لعن المؤمن كقتله).
واللعن هو الطرد من رحمة الله.. ويقول صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) تخرج اللعنة إلى السماء فإن استحقها صاحبها وإلا رجعت على قائلها، قال بعض أهل العلم: حتى الكافر الحي في حال حياته لا يعيَّن باللعن، وما يدريك؟ فلربما يسلم ويؤمن ويتوب قبل أن يموت، هذا في الكافر، فما بالك بمن يلعن المسلمين؟! ما بالك بمن يصفهم بلسانه بالكفر، فيضلل فلاناً ويفسق فلاناً، ويبدع فلاناً؟ وقد جاء رجل يوماً من الأيام إلى صاحبه، وكان ينكر عليه كل يوم، فقال له ذات يوم: (والله لا يغفر الله لك -من غضبه وحماسه وشدة إنكاره للمنكر، قال: أنت على هذه الحال، فلا يغفر الله لك- فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليَّ؟ قد غفرت له وأحبطت عملك) أحبط الله عمل الصالح وغفر لصاحب المنكر، قال الإمام الشافعي: قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته.
يقول الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] لا تتكلم في شيء لا تعلمه، لا تتكلم في شيء من حقوق الألوهية أو الربوبية، فإن سلب الإيمان من الإنسان، أو لعنه، أو إخراجه من دين الله، هذا يحتاج إلى شروط، فاحذر من خطر اللسان.. وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].اجلس في مجالس الناس اليوم وانظر: من منهم يجلسون على ذكر الله؟! أغلب المجالس اليوم إما غيبة للناس، أو لغو بالباطل، والله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3] إن لم تكن مجالس فحش وبذاءة. والله جل وعلا وصف مجالس الناس فقال: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:11] أكثر نجوى الناس لا خير فيها إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:11].
يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] انظر الآن إلى الخطوات الربانية! انظر إلى القرآن وتسلسله! أول خطوة يبدأ الإنسان بها: إساءة الظن، فيبدأ يراقب، ويتتبع العثرات، ويتجسس، ويبحث عن العورات، ولعله يسجل عليك، لم كل ذلك؟ لأنه أساء الظن بداية.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] ما الذي يحصل بعد الظن؟ وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12] ثم بعدها بدأ يتجسس، ويجلس في المجالس، ويقول: لقد رأيت فلاناً يفعل كذا وكذا، وفلان الذي يدعي أنه داعية إلى الله، وأنه صالح، وأنه مصلح أتعرفون ماذا يصنع في بيته؟ وماذا عنده؟ وماذا فَعَل في العام الماضي؟ ثم يبدأ يغتابه.. وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12] وقالوا عن ميمون -وهذه قاعدة فاعمل بها، ويكفي من هذه الكلمة هذه القاعدة، وميمون هو أحد القراء، يقولون-: كان لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً عنده يغتاب، بل كان ينهاه وإلا قام وتركه. وأنت جرب هذا من هذه اللحظة، أمسك لسانك عن غيبة المسلمين، فإن اغتاب رجل فانصحه بالتي هي أحسن، وقل له: جزاك الله خيراً، بارك الله فيك، دعنا من الناس، فإن عاد فعد وقل: يا أخي! بارك الله فيك، لنتكلم بما ينفعنا وما يفيدنا، ولا نأتي بأسماء الناس في مجلسنا، ونغتاب الناس. فإن انتهى وإلا فقم واتركه.
إني أدعوك إلى هذا الصنيع، وقد تقول: لا أستطيع. أقول لك: بل إنك تستطيع، ووالله الذي لا إله غيره، لو طبقنا هذه القاعدة لانتفعنا خيراً الكثير، ولعلمنا حقاً أن أكثر مجالسنا لا تنفع، إلا ما ذكر فيها الله عز وجل: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:11] أتظن أن الكلمة عندما تخرج تذهب! لا. بل أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6] هذه هي المصيبة؛ أننا نسينا في الجد كم تكلمنا؟ لكنَّ الله جلَّ وعلا قد أحصى ذلك كله، يقول الحسن: [ الغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في الجسد ].
وأرجو أن تتأمل معي في هذه اللحظات كم من رجل كان يدعو إلى الله، وكان من رواد المساجد، بل كان لا يترك الصف الأول في صلاة الفجر، وربما يجلس إلى الشروق، وكان يقرأ القرآن، وكان يدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أين هو الآن؟ ما الذي جرى له؟ وما الذي حصل؟ لو رأيت إلى أكثرِهم لوجدت أن السبب هو الغيبة، كان لا يتورع عن غيبة الناس، بل إن بعضهم كان يغتاب الدعاة إلى الله، والعلماء، والمصلحين، فأصابه ذلك السم، قال الحسن: [ الغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في الجسد ] أرأيت الآكلة؟ هي الآن مثل السرطان، الرجل سليم -ما شاء الله- ليس فيه شيء، ولكن لحظة من اللحظات وقع، يُفحص جسمه فإذا السرطان قد انتشر فيه، ويقول الطبيب: سيبقى أياماً ثم يموت، انتهى أمره!
إذاً: الغيبة أسرع في الدين من الآكلة في الجسد، ويقول أحد السلف: إذا رأيت الرجل منشغلاً بعيوب غيره عن عيب نفسه فاعلم أنه قد مُكِر به.
جعل يتكلم على الناس ونسي نفسه، فيا من تتكلم على غيرك بالسوء هل نسيت نفسك؟! سبحان الله! يرى أحدكم القذا في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه! يحاسب أخاه لأنه قد أخطأ في شيء قد اجتهد فيه، أو زلَّ في أمر لم يقصده، وينسى جرائمه وفضائحه! تجده لا يصلي الفجر ولا يهتم بها، وتجده عاقاً لوالديه ويستهين بهذا الأمر، وتجده قاطعاً للرحم؛ وهذه كلها كبائر ملعون صاحبها، فلا يبالي بهذا كله، ولكنه يشتغل بأعراض الناس ويتكلم عن سوآتهم.
قال: إذا رأيتم الرجل ينشغل بعيب غيره عن عيب نفسه فاعلموا أنه قد مكر به. هذا الرجل مستدرج، وقد مكر به، فانتظر عليه أياماً وشهوراً وسنوات، فسوف يأتي يوم وتسمع خبره، لأن أولئك العلماء وأولئك الصالحون لما تكلموا بهذه الكلمات رأوها بأعينهم قبل أن يتكلموا بها بألسنتهم، سنة الله في خلقه، بل (من تتبع عورة أخيه -تكلم في عورته- تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في عقر داره) والله يقول: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] فكل شيء يُكتب وسوف تحاسب عليه عند الله جلَّ وعلا.
قال ابن مسعود: [والله الذي لا إله غيره ما من شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان] ويأتي عمر إلى أبي بكر فينظر إليه جاذباً لسانه، فيقول: [مه يا أبا بكر غفر الله لك؟ فيقول: هذا الذي أوردني الموارد] من يقول هذا الكلام؟ إنه أبو بكر الذاكر، العابد، الصالح، التقي، الورع، يقول: هذا الذي أوردني الموارد، فماذا سنقول نحن؟! وفكر في لسانك اليوم فقط، هل وقعت في غيبة مسلم؟ بل قد يكون المسلم في ناحية من نواحي الأرض، في أقصى الشرق أو الغرب ونحن جالسون في هذا المجلس قد نقع في عرضه! فهل فكرت يوماً من الأيام أن تحاسب هذا اللسان؟
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما جادل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وهو كان يريد الحق، ويريد الرفعة لهذا الدين، قال: [ أنعطي الدنية في ديننا؟ ] وأخذ يخاطب أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقاتل الكفار حماية لهذا الدين. انظر إلى هذه الكلمات التي قالها عمر، ظل يتذكرها إلى أن مات، وقال لمن عنده: [ ما زلت أعمل لذلك أعمالاً ]. يقول: أخاف أن أحاسب على تلك الكلمات، فعملت لها أعمالاً، لعل الله أن يعفو عني (واتبع السيئة الحسنة تمحها) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11].
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة يُضحِكُ بها جلساءه -كلمة في مجلس أضحك بها الجالسين- يهوي بها أبعد من الثريا) والحديث صحيح.
هذه كلمة فما بالكم بكلمتين! ما بالكم بالمجلس كله من أوله إلى آخره! يُضحك، ويكذب، ويقع في أعراض المسلمين، يتكلم بكلمات وهدفه أن يضحك بها الناس، من طلب منك أن تُضحِك الناس بما حرَّم الله؟ وهل أنت ملزم بهذا؟ وماذا ينفعك هذا المجلس عند الله سبحانه يوم القيامة؟ إذا رأيت في الصحيفة: فلان تكلمت عليه، وفلان وقعت في عرضه، وفلان سببته، وفلان اغتبته... ما الذي سينفعك عند الله إن جئت بهذه الأعمال؟ فكر، فالمسألة خطيرة! ولهذا لما قال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: (وهل نحن مؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟) أي: الخمر نؤاخذ عليه، والزنا نؤاخذ عليه، والقتل نؤاخذ عليه، هذه الأعمال علمنا أنها فواحش ومنكرات وكبائر، لكن اللسان، الذي يستهين به أكثر الناس، حتى اللسان؟ بعض المرات نمزح، نقضي المجلس، نُضحِك الناس، ولا نقصد شيئاً: ( أوَنحن مؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا
إن من أخطر الكلمات التي يطلقها الإنسان شهادة الزور. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فلما جاء إلى شهادة الزور قال الراوي: (وكان متكئاً فجلس -وقد تغير وجهه- فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة والزور) يقول الحسن رحمه الله: [ من كثر كلامه كثر كذبه ] فالذي يكثر من الكلام في كل مجلس لغير فائدة، يكثر كذبه.
والشافعي عليه رحمة الله كان لا يتكلم إلا فيما ينفع، حتى إنه إذا تكلم لم يكن يرفع صوته، يقول ابن بنت الشافعي: ما سمعت أبي ناظر أحداً يوماً فرفع صوته. حتى رفع الصوت! يقول: ما رأيته يوماً يرفع صوته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) كل واحد منا يحفظ الحديث، لكن من يريد منا هذا البيت في الجنة؟ وكم من الناس من يكذب ليضحك به الناس، وهو لا يشعر أنها كذبة وقد سجلت عليه.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكم بما ذكرت، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وجزاكم الله خيراً على حسن استماعكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر