أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:139-148].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا الذي سمعناه من القارئ هو كلام الله والله، رب السماوات والأرض وما بينهما، ورب كل شيء ومليكه، الذي له تسعة وتسعون اسماً، ومن بينها الله، وهو الذي أنزل هذا الكتاب على مصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك حجرته، وفيها جسده الطاهر، وهذا مسجده، وهؤلاء المؤمنون المتبعون له، وهو الذي أنزل عليه هذا الكتاب.
وما كان لنا أن نعرف هذا القصص لولا أن الله تعالى أوحاه إلى رسوله ضمن كتابه القرآن العظيم؟
وهو تعالى يقول في هذه القصص هنا: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:139]. ويونس عبد الله ورسوله، ويلقب بذي النون، أي: صاحب الحوت؛ إذ ابتلعه حوت وبقي في بطنه العديد من الأيام. وهو يونس بن متى، ودياره في نينوى شرق العراق أو غربه.
وقد كان يونس من المصلين الذاكرين الداعين، وبهذا أخبر رسول رب العالمين، فقد كان من مكثري الصلاة، ومكثري الدعاء، ومكثري الذكر، ولهذا لجأ إلى ذكر الله فقال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. وما من مؤمن يكثر من الصلاة ويعثر فقط عثرة إلا وينقذه الله كما أنقذ يونس بن متى، فأكثروا من ذكر الله، وأكثروا من دعاء الله، وأكثروا من صلاة النوافل..
لولا هذا ما نجاه الله، فهو نادى قائلاً: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]. وقال في آية سورة الأنبياء: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88]. فإذا بالحوت العنبرية السمكة تتقيأه على ساحل البحر، وليس هناك شجر ولا نخل ولا جدار ولا غير ذلك، وهو كالفرخ إذا أخذت ريشه وبقي لحمه، وقد نضج لحمه في ثلاث ظلمات، ظلمة البحر، وظلمة الحوت، وظلمة الليل، فكان من رحمة الله به أن أنبت الدباء عليه، ويسمى بالقرع، والدباء معروف، وورقه ناعم كالحرير.
وفيها لطيفة أخرى: وهي أنها لا يقع الذباب عليها أبداً. وإن شككت في هذا فاخرج إلى الفلاحين واسألهم، وستعرف أن الذباب ما يقع على ورق الدباء؛ لأن الذباب لو كان يقع عليها لأكل لحمه وهو ناضج، ولكنه ما يستطيع أن يجتمع الذباب ولا البعوض على الدباء.
وكانت مجموعة من الغزلان تأتيه في الصباح وتدنو منه، وتنزل هكذا حتى يرضع ويمتص من ثديها ويتغذى، وتروح وتأتي في المساء، فتدنو منه تدنو حتى تدني ضرعها منه، ويمتص ويرضع، حتى شفاه الله في هذا المستشفى الرباني. والذي أقام هذا المستشفى هو الله. فقد أنبت عليه شجرة اليقطين، وهي الدباء والقرع، وكانت الغزالة تأتي إليه فيرضع لبنها صباح مساء، ثم بعد ذلك لما تماثل للشفاء عاد إلى قومه وإلى بلده، فوجدهم مؤمنين ربانيين صالحين، ليس بينهم فاسق ولا فاجر، ولا مشرك ولا كافر أبداً، فازداد فرحه، وارتفع صوته: الله أكبر، هذا فعل الله. وقد كان السبب في هروبه: أنه لما دعاهم ما استجابوا، فدعا عليهم، ما استجاب الله بأن ينزل عليهم بلاء أو نقمة؛ لعلم الله تعالى الأزلي أنهم سيؤمنون، فلما خرج ذو النون عنهم، وإذا بمظاهر العذاب فوق رءوسهم سحاب أسود، فآمنوا كلهم نساءً ورجالاً وأطفالاً وأسلموا، فعاد يونس وإذا بهم مؤمنون ربانيون. هذه هي القصة بكاملها. وهذا تدبير الله العزيز الحكيم، اللطيف الخبير، الرحمن الرحيم.
وقوله: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141] المغلوبين إذاً.
ومن هنا عباد الله! وإماء الله! وأكثروا من الصلاة، وصلي على الأقل خمسين ركعة في اليوم والليلة، وإن صليت سبعين فذلك خير، وإن زدت فأكثر، وليكن الذكر لا يفارق ألسنتنا أبداً إلا في حالات خاصة عند التحدث عن كذا وكذا، وما عدا ذلك ما نسكت، بل نبقى دائماً نذكر الله بألسنتنا، وليكن الدعاء دائماً وأبداً، ولنكون من المسبحين، فإذا أصابتنا مصيبة ينجينا الله عز وجل وينقذنا. واسمعوا قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات:143] لله بالصلاة والذكر والدعاء كما بين رسولنا صلى الله عليه وسلم لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ [الصافات:144]، أي: بطن الحوت إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:144]، أي: إلى يوم القيامة. وإن شاء الله تكثرون من الصلاة والذكر والدعاء من الليلة إن شاء الله.
قال تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]. فأهل نينوى كانوا مائة وخمسة آلاف أو مائة وعشرة آلاف، ولذلك قال تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ [الصافات:147] إنسان، أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]، أي: بل يزيدون.
[ معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر من أنعم الله تعالى عليهم بما شاء من وجوه الإنعام، فقال عز وجل عطفاً عما سبق: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:139]، أي: وإن عبدنا يونس بن متى ذا النون لمن جملة من مننا عليهم بالنبوة والرسالة ] أي: أعطيناهم النبوة والرسالة من فضلنا وإحساننا [ إِذْ أَبَقَ [الصافات:140]، أي: في الوقت الذي هرب من قومه لما لم يؤمنوا به، وواعدهم العذاب، وتأخر عنهم ] العذاب [ فاستعجل، فهرب من المدينة، وهي نينوى من أرض الموصل بالعراق، فوصل الميناء، فوجد سفينة مبحرة، فركب، وكانت حمولتها أكبر من طاقتها، فوقفت في عرض البحر لا تتقدم ولا تتأخر، فرأى ربان السفينة أنه لابد من تقليل الشحنة، وإلا غرق الجميع، وشح كل راكب بنفسه، فاقترعوا، فكان يونس من المدحضين، أي: المغلوبين في القرعة، فرموه في البحر، فالتقمه حوته ] أي: حوت البحر [ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:142]، أي: فاعل ما يلام عليه من فراره من دعوة قومه إلى الله لما ضاق صدره، ولم يطق البقاء معهم.
وهذا معنى قوله تعالى: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:140-142].
وقوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ [الصافات:143-144]، أي: بطن الحوت إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:144]، أي: يوم القيامة، بأن يصير بطن الحوت قبراً له، أي: فلولا أن يونس كان من المسبحين، أي: المكثرين من الصلاة والذكر، والدعاء والتسبيح قبل البلاء لما كان يُلهم قوله: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] ] فهذه ألهمه الله إياها؛ لينجيه [ ولما كان يستجاب له، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) ] وهيا نحفظ هذا الحديث، فهو والله خير من ألف ريال، بل والله خير من مليون ريال، وهو ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ). وأنت في الرخاء أنت تتعرف إلى الشهوات والأباطيل والشياطين، وتريد في الشدة أن يعرفك. فـ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ). وهذا والله لهو الحق، كما أخبر صلى الله عليه وسلم. فما من عبد يتعرف إلى الله ولا ينساه ويذكره ويصلي ويسبح ليلاً نهاراً فإذا جاءت شدة فإن الله ينقذه، ومن لم يتعرف إلى الله ولم يسأل عنه ولم يذكره أيام الرخاء والشدة والسلطان والدولة فإذا جاءت المحنة والله ما ينجو، وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة ). فما دمت قوي البدن فأكثر من العبادة، وإذا مرضت أو عجزت فلا تخف، فإن الله معك.
قال: [ فإن صوت يونس سُمع تحت العرش، فعرفه بعض الملائكة، فذكروا ذلك لربهم تعالى، فأخبرهم أنه عبده يونس، وأنه كان من المكثرين الصلاة والذكر والدعاء قبل البلاء، فلذا استجاب الله تعالى، ونجاه من الغم، وهو معنى قوله تعالى: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ [الصافات:145]، أي: بوجه الأرض العارية من الشجر وكل ظل، وهو كالفرخ المنتوف الريش، نضج لحمه من حرارة جوف الحوت، وأنبت تعالى عليه شجرة من يقطين، أي: قرع تظلله بأوراقها الحريرية الناعمة، والتي لا ينزل بساحتها الذباب، وسخر له أروية ] وهي [ غزالة، فكانت تأتيه صباح مساء، فتفشح عليه، أي: تفتح رجليها، وتدني ضرعها منه، فيرضع حتى يشبع، إلى أن تماثل للشفاء، وعاد إلى قومه، فوجدهم مؤمنين؛ لتوبة أحدثوها عند ظهور أمارات العذاب، فتاب الله عليهم.
وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]، أي: أرسلناه إلى قومه، وهم أهل نينوى، وكان تعدادهم مائة ألف وزيادة كذا ألفاً، فآمنوا أي: بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبيونس نبياً ] ورسولاً [ وتابوا بترك الشرك والكفر، فجزيناهم على إيمانهم وتوبتهم بأن كشفنا عنهم العذاب الذي أظلهم، فَمَتَّعْنَاهُمْ [الصافات:148]، أي: أبقينا عليهم يتمتعون بالحياة إلى نهاية آجالهم المحدودة لهم في كتاب المقادير].
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير نبوة يونس ] عليه السلام [ ورسالته، وضمن ذلك تقرير رسالة ] نبينا [ محمد صلى الله عليه وسلم ] ولولا أنه رسول لما أوحيت إليه هذا القصص. فهي تقرر نبوة رسولنا كما تقرر نبوة يونس.
[ ثانياً: مشروعية الركوب في السفن البحرية ] فقد يقول خرافي أو هابط يقول: ما يجوز أن تركب السفينة، فقد تغرق، فلا تعرض نفسك للهلاك. فهذا كلام باطل. وهذا فيه مشروعية الركوب في السفن إلى يوم القيامة، وهذا يونس ركبها.
[ ثالثاً: مشروعية الاقتراع لفض النزاع في قسمة الأشياء ونحوها ] فإذا اختلفوا في شيء فالقرعة هي التي تخلصهم من الفتنة دائماً وأبداً.
[ رابعاً: فضل الصلاة والذكر، والدعاء والتسبيح، وعظيم نفعها عند الوقوع في البلاء ] وفوائدها عظيمة، وخاصة عند الشدة، فينجيه الله وينقذه بها.
قال الشيخ في النهر غفر الله لنا وله ولوالدينا أجمعين: [ روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( دعاء ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع به مسلم في شيء قط إلا استجيب له ) ] فأيما مؤمن منا أو مؤمنة يصاب بكرب أو غم أو هم يفزع إلى الله بهذا الدعاء ليلاً أو نهاراً والله ليفرج الله كربه وهمه. وهذه أوحاها الله إلى يونس وهو في بطن الحوت؛ من أجل أن ينقذه ويخرج منها. فإذا سجنت يا عبد الله! وظلمت في السجن فافزع إلى الله عز وجل، ووالله لتخرجن سالماً معافى.
[ خامساً ] من هداية هذه الآيات: [ تقرير مبدأ ( تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) ] فإذا كنت ذا مال فتصدق وأنفق ولا تشرك، وإذا كنت ذا علم علّم فبين، وإذا كنت ذا صحة بدنية فاعمل وساعد وأعن، فتعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ولا يهملك.
[ سادساً: بركة أكل اليقطين، أي: الدباء القرع؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكلها ويلتقطها من حافة القصعة ] أي: يلتقط حبه لها. وهو في الحقيقة ناعم عجباً، وما فيه فاكهة أنعم منه كالحرير، كما أن ورقها كالحرير، وهي تباع في الأسواق، وقل من يقبلها ويأكلها، ولكنها مع الطهي تكون حسنة الطهي، وهي من ألذ ما تكون، ومن اقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم وأكلها له الأجر.
[ سابعاً ] وأخيراً: [ فضل قوم يونس ] من أهل نينوى [ إذ آمنوا كلهم، ولم تؤمن أمة بكاملها إلا هم ] فقد نجوا بإيمانهم وإسلامهم، وما حصل هذا لأمة من الأمم بأن يسلموا عن آخرهم، وينجوا عن آخرهم إلا أهل نينوى.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر