ها نحن مع فاتحة سورة النور، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات، ثم نتدارسها إن شاء الله، والله نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:1-5].
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي: أعطاك منزلة شريفة. والسور منازل شريفة والله العظيم، فسورة الفرقان وسورة النور وسورة البينة تراها في منزلة عالية وشريفة.
وقوله: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] أي: فرضنا الأحكام التي احتوت عليها؛ إذ فيها أحكام عديدة على كل مؤمن ومؤمنة أن يعلمها.
كتب عمر رضي الله عنه أيام خلافته إلى عامله بالكوفة: أن ألزم نساء المدينة أو البلاد بحفظ سورة النور؛ لما فيها من أحكام، وهي تتعلق بالنساء أكثر.
وأما الصديقة عائشة رضي الله عنها فكانت تقول: لا تنزلوا النساء الغرف -أي: لا تسكنوهن في الغرف العالية، ودعوهن أسفل- وعلموهن سورة النور، ولا تعلموهن الكتابة، بل علموهن سورة النور والغزل. فقد كان هذا المبدأ للصديقة عائشة رضي الله تعالى عنها، فهي تقول: لا تسكنوا النساء الغرف؛ لما يترتب على ذلك من مفاسد، وعلموهن سورة النور -أي: هذه السورة- ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل؛ حتى يغزلن ويصنعن الثياب وينسجنها.
كلمة الصديقة والله إنها لحق. فقد قالت: لا تعلموا النساء الكتابة، فليس هناك فائدة في تعلمها الكتابة، فهي لن تراسل الرجال، ولن تقوم بالجيوش، فهي لا تحتاج إلى الكتابة، بل علمها دينها؛ حتى تعرف كيف تعبد الله عز وجل، وتؤدي واجباتها في الحياة، وها نحن نشاهد ماذا حدث عندما تعلمت النساء الكتابة.
فاطمة وعائشة لم تتعلم إحداهن، لم تكن نساء المؤمنين يتعلمن الكتابة أبداً، ولم يحصل لإحداهن شيئاً، وقد سعدن، فقد كانت تجري عليهن الأيام كما هي. فلو تركنا تعليم البنات الكتابة لم يحدث شيء، فلن تتعطل المزارع، ولن تقف المصانع، ولن يموت الجيش، ولن يحدث شيء، بل فقط يستريح الزوج وأولاده، وتخدمهم البنات وتخدمهم أم البنات، والبنات كذلك يخدمن أمهن، وهكذا نستريح.
ولما بعدنا بالبنات وعلمناهن تكبرن وطغين، وأصبحت الأم كالخادمة، وأصبحنا نأتي بالخادمات من كل مكان. وهذه نتيجة تعليم البنت الكتابة، ولو علمناها كيف تعبد الله، وكيف تركع وكيف تسجد، وكيف تغتسل وكيف تصوم، وكيف تبر أمها وأباها، وكيف تربي أولادها، وهذا لا يحتاج إلى الكتابة أبداً. والواقع شاهد على صدق كلام أم المؤمنين، رضي الله عنك يا أم المؤمنين! فقد قالت: لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن سورة النور والغزل، أي: لا تنزلوهن في الغرف العالية؛ حتى تطل إحداهن من الشرفات، فتقع الفتنة، بل دعوهن في الطبقات السفلى.
فلا تظنوا أن هذه العمارات العالية محمودة، والرسول صلى الله عليه وسلم رأى طبقة واحدة وغضب، ولم يحبها، ومن قال: نعم محمودة، قلنا: أرنا النتائج الطيبة المباركة التي حصلت.
قال تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، أي: فرضنا ما تحمله من أحكام شرعية. وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور:1]، أي: عظات وعبر، وحقائق وحجج، وبراهين تقرر التوحيد والنبوة المحمدية والبعث الآخر، وتدعو إلى الفضائل والكمالات في هذه السورة العجيبة، حتى كان عمر يقول: علموها النساء، وتقول عائشة : علموها النساء.
ثم قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]. فتتعظون فتعملون بما شرع الله لكم، فتكملون وتسعدون.
وهذه الآية في من زنى من الرجال والنساء قبل الزواج، فقال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]. فيؤخذ خارج المسجد ويجلد، ويشهد الجلد اثنان .. ثلاثة .. أربعة من المؤمنين، فلا بد من حضورهم، وأقل ما يكون واحداً، وأعدل ما يكون أن يشهد جلده أربعة شهود؛ لأن الزنا لا يثبت بأقل من أربعة شهود، فالذين يحضرون ضرب هذا الزاني وجلده أعدل ما يكون أربعة رجال.
والجالد له يجب أن يكون تابعاً للإمام والحاكم، ثم لا يرفع يده حتى يظهر إبطه؛ لأن الشارع نهى عن هذا، وإنما هكذا مائة جلدة؛ لتقريعه وتصفية روحه.
والمرأة كذلك كالرجل في هذا، فإذا كانت بكراً غير محصنة تجلد مائة جلدة.
وإن كنت تقيمه وأنت تبكي وتتألم فلا يضرنا ذلك، ولكن لا توقف الحد وتبطله لكون المرأة مؤمنة أو الرجل مؤمناً، أو كذا، أو لكون المرأة تبكي، أو تقول: تبت، فهذا كله لا يمنع، بل لا بد من إنفاذ الحكم، وهو فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] فتعطلوا هذا الحكم.
قال تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2]. فإذا كنتم حقاً مؤمنون بالله وبلقائه فلا تأخذكم رأفة، فتعطلوا حكم الله، وتنقضوه برأفتكم أو برحمتكم.
وقوله: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2] هذا يعود إلى السور المكية أيضاً. فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فهو مستعد لأن يطيع الله في كل ما يأمره، ومن فرغ من هذا النور بأن لم يؤمن بالله، أو آمن بالله وكذب بالبعث والدار الآخرة فوالله لا خير فيه، ولا يُصَدَق في شيء؛ لأنه ميت، بل هو شر الخلق، ولذلك قال تعالى: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2].
والحد يقيمه الملك أو الحاكم أو وليه ومن يسند الأمر إليه، وليس لكل أحد أن يقيم الحد، بل لا بد من إذن الإمام، وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] أيضاً. وأما غير المؤمنين فلا فائدة في حضورهم، وسواء يشاهدونه أو لا يشاهدونه، بل لا بد وأن يكون الشهود الحاضرون من المؤمنين بهذا القيد.
فقوله: الزَّانِي لا يَنكِحُ [النور:3]، أي: لا يطأ، وليس معناها: لا يتزوج، بل لا يطأ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]. والزانية لا يطأها أي: لا يجامعها إلا مشرك أو زانٍ. ففي الآية تنفير، فـ الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا [النور:3] لا يطأها أيضاً إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].
ومن هنا فرض الله الحجاب كما سيأتي، وفرض غير ذلك من أجل ألا تقع هذه الأباطيل والمناكير.
وبعضهم يروي أن هذه الآية نزلت في بعض الصحابة، فقد سألوا أن يتزوجوا زوانٍ وعواهر أيام الجاهلية، فنزلت الآية تمنعهم. ولكن ما قلت لكم أولى، من أنها تبشيع وتنفير من أن يطأ الرجل المرأة الزانية، أو تمكن المرأة الرجل الزاني أو المشرك أن يطأها؛ لأن الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]. فالزنا حرام على المؤمن والمؤمنة.
إذاً: قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور:4]، أي: يرمونهن بالزنا وبالفاحشة، كأن يقولوا: فلانة تزني، أو فلان يزني، والذكر والأنثى سواء، فالذي يرمي رجلاً ويقول: فلاناً زاني، أو فلاناً يزني، أو رأيته يزني إما أن يأتي بأربعة شهود على ما قال، وإما أن يكشف ظهره؛ ليجلد ثمانين جلدة، كما قال تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4].
قال: [ معنى الآيات:
[ قوله تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا [النور:1] أي: هذه سورة من كتاب الله، أَنزَلْنَاهَا [النور:1]، أي: على عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، أي: وفرضنا ما اشتملت عليه من أحكام على أمة الإسلام.
وقوله ] تعالى: [ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]، أي: تتعظون، فتعملون بما حوته هذه السورة من أوامر ونواه، وآداب وأخلاق.
وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، أي: من زنت برجل منكم أيها المسلمون! وهما بكران حُرَّان، غير محصنين ولا مملوكين ] لأن العبد والعبدة -أي: الأمة- إن زنى أحدهما وهو محصن لا يقتل، ولكن فقط يجلد خمسين جلدة، لقوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]. والموت لا ينصف، وإنما الذي ينصف هو الجلد. إذاً: فالأمة المملوكة إذا زنت أو العبد المملوك إذا زنى سواء كان بكراً أو محصناً عليه الجلد خمسين جلدة بدل المائة، فنصف المائة خمسون، وأما التغريب فلا يغربان؛ لأنهما يعملان، وعليهما الخدمة عند مالكهما.
قال: [ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] بعصا لا تشين جارحة، ولا تكسر عضواً ] ولا تقبح الوجه ولا اليد ولا الجسم، ولا تكسر عضواً من الأعضاء بهذا الشرط، وكما قلنا: يكون السوط ليس غليظاً ولا رقيقاً، والجالد لا يرفع يده حتى يبدو إبطه؛ لأن هذه عملية تطهير لهم من الذنوب، وردع للآخرين أيضاً [ أي: جلداً غير مبرح، وزادت السنة ] النبوية [ تغريب سنة ] العبد والأمة لا يغربان، والأنثى من المؤمنات لا تغرب، والذي يغرب ويبعد عن بلاده سنة كاملة الرجل.
[ وقوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، أي: لا تشفقوا عليهما فتعطلوا حَدَّ الله تعالى، وتحرموهما من التطهير بهذا الحد؛ لأن الحدود كفارة لأصحابها ] فإذا نحن لم نجلدهم فمعنى هذا أننا تركنا الذنب عليهم، وحرمناهم من التطهير، فلهذا لا تأخذنا رحمة أبداً ولا شفقة، بل لا بد من إنجاز هذا الحكم؛ لأن الحدود كفارة لأصحابها، تكفر الذنب الذي ارتكبوه.
[ وقوله: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2]، أي: فأقيموا عليهما الحد ] أي: الزاني والزانية [ وقوله: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا [النور:2]، أي: إقامة الحد ] يشهده [ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، أي: ثلاثة أنفار فأكثر، وأربعة أولى؛ لأن شهادة الزنا تثبت بأربعة شهداء ] فشهادة الزنا تحتاج إلى أربعة شهداء، وأما لو قال ثلاثة: رأينا فلاناً يزني أو فلانة تزني لم يقبل منهم، بل لا بد من أربعة، فمن هنا الأفضل أن يكون الشهود للحد الذي يقام أربعة رجال أو أكثر [ وكلما كثر العدد كان أولى وأفضل ] لأنه يثير الرعب والخوف في قلوب الناس.
[ وقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، أي: لا يطأ إلا مثله من الزواني أو مشركة لا دين لها، والزانية أيضاً لا يطؤها إلا زانٍ مثلها أو مشرك ] والعياذ بالله. وهذا تبشيع وتنفير لقلوب المؤمنين من الزنا [ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، أي: حرم الله الزنا على المؤمنين والمؤمنات، ولازم هذا أن لا نزوج زانياً من عفيفة إلا بعد توبته، ولا نزوج زانية من عفيف إلا بعد توبتها ] فهذه هي ثمرة معرفة أن الزاني لا ينكح إلا زانية، والزانية لا ينكحها إلا زان، فمعنى هذا: أنه إذا عرف فلان بالزنا فلا يجوز أن نزوجه أبداً، أو إذا عرفت فلانة بالزنا فلا نتزوجها، اللهم إلا بعد التوبة النصوح، والعفة الدائمة كذا سنة.
فإذا عرفت امرأة بالزنا فلا تخطبها ولا تتزوجها، ولا تزوج ابنك عاهرة، فإن تابت ومضت عليها الأيام وهي تائبة تبكي فلا بأس، وكذلك إذا جاء فلان يخطب ابنتك وقالوا: إنه زانٍ، ومعروف بالزنا فلا يجوز أن تزوجه ابنتك أبداً، إلا إذا تاب وظهرت توبته، وعرفها الناس، فحينئذ لا بأس. وهذا لقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4] [ بعد بيان حكم الزناة بيّن تعالى حكم القذف ] فالأول حكم الزناة، وهو جلد مائة جلدة إذا كانوا غير محصنين أبكاراً، وإن كانوا محصنين فالرجم ثابت بالكتاب والسنة.
قال: [ فقال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور:4]، أي: والذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة وهي الزنا واللواط بأن يقول: فلان زان أو لائط فيقذفه بهذه الكلمة الخبيثة فإن عليه ] وجوباً [ أن يحضر شهوداً أربعة يشهدون أمام الحاكم على صحة ما رمى به أخاه المؤمن، فإن لم يأت بالأربعة شهود أقيم عليه الحد المذكور في الآية، وهو جلد ثمانين جلدة على ظهره، وتسقط عدالته حتى يتوب، وهو معنى قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، أي: عن طاعة الله ورسوله ] صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: [ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [النور:5] بأن كذبوا أنفسهم بأنهم ما رأوا الفاحشة ] فمن توبتهم أن يكذبوا أنفسهم، ويقولون: إننا كذبنا على فلان أو فلانة، ولم نر أبداً، فمن توبة الشخص أن يكذب نفسه.
قال: [ وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [النور:5]، فيغفر لهم بعد التوبة. رَحِيمٌ [النور:5] بهم، يرحمهم ولا يعذبهم بهذا الذنب العظيم بعدما تابوا منه ].
فلابد في التوبة أن يعترف بأنه كان كاذباً، وأنه لم ير فلاناً زانياً ولا فلانة، وبهذا تصح توبته، فلا بد من الاعتراف بأنه كان كاذباً، وإن كان مصراً فما زال على فسقه؛ لأنه رمى مؤمناً أو مؤمنة بالفجور.
من هداية هذه الآيات:
أولاً: بيان حكم الزانية والزاني البكرين الحرين، وهو جلد مائة وتغريب عام، وأما الثيبان فالرجم إن كانا حرين، أو جلد خمسين جلدة لكل واحد منهما إن كانا غير حرين ] فلا ننسى أنه يشترط في الزانيين من المؤمنين أن يكون الزاني بالغاً لا طفلاً صغيراً ما بلغ، وأن يكون عاقلاً غير مجنون، وأن يكون حراً غير مكره، ثم إن هو زنى ننظر هل هو محصن أو بكر، فإن كان بكراً فحكمه أن يجلد مائة جلدة، ويغرب سنة إن كان حراً، فإن كان عبداً فخمسين جلدة ولا تغريب.
قال في النهر: [ الجمهور على أن من زنى بامرأة يجوز له أن يتزوجها بعد استبرائها بحيضة، وإذا زنت امرأة الرجل أو زنى هو لا يفسد نكاحهما ] وهذه مسألة أخرى ما تعرضنا لها، وهي: إذا زنت امرأة المؤمن وعرف الزنا أو بلغه لم يجب عليه أن يطلقها، ولا تحرم عليه بهذا، بل إن أراد أن يبقيها بعد التوبة فتتوب، وكذلك المرأة إذا رأت زوجها زنى فإنها لا تحرم عليه؛ لأنه زنى، بل تبقى حلالاً له، وإن رأته يتعاطى الزنا وطالبت بالطلاق فشأنها إذا لم تسعد معه.
فالرجل المؤمن إذا ثبت عنده أن امرأته زنت لم يحرم عليه إبقاؤها، ولا يجب عليه أن يطلقها، بل هو حر، وكذلك هي إذا بلغها أن الزوج زنى، فلا تقول له: لا تحل لي بعد اليوم، بل تحل له، ولا يفسد النكاح إلا بالطلاق الشرعي.
من زنى بامرأة يجوز له أن يتزوجها بعد استبرائها بحيضة. وهذه مسألة ثانية، وهي: لو أن رجلاً زنى بامرأة ثم أراد أن يتزوجها إذا لم تكن متزوجة فيجوز له ذلك، بشرط واحد: أن يستبرئها بحيضة واحدة، فلا يقربها ولا يطؤها إلا بعد أن تحيض وتطهر؛ حتى يتبين هل الولد منه أو من غيره. فلو أراد الرجل أن يتزوج امرأة زنى بها أولاً ورغبت هي، ورغب أهلها في هذا فيجوز، ولكن يجب عليه ألا يجامعها حتى تحيض وتطهر؛ لأنها قد تكون حملت من قبل، فإذا حاضت لم تكن حاملاً.
[ ثانياً: وجوب إقامة هذا الحد أمام طائفة من المؤمنين ] أربعة أنفار فما فوق، وحتى ثلاثة أو اثنان، ولكن الأفضل أربعة؛ لأن شهادة الزنا تثبت بأربعة شهود. فنجلد الرجل إذا زنى مائة جلدة، والمرأة نجلدها في المحكمة، ويحضر أربعة شهود أيضاً.
[ ثالثاً: لا يحل تزويج الزاني إلا بعد توبته، ولا الزانية إلا بعد توبتها ] وهذه قاعدة عامة إلى يوم القيامة، فإذا عرف فلان بالزنا فلا تزوجه ابنتك ولا أختك، ولا تحضر زواجه حتى يتوب، وتظهر توبته علناً، وكذلك لو أن امرأة اتهمت بالزنا وعرفت به فلا تتزوجها حتى تتوب، وتظهر توبتها، وقد أخذنا هذا من قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]. والعياذ بالله.
[ رابعاً: بيان حد القذف، وهو جلد ثمانين جلدة لمن قذف مؤمناً أو مؤمنة بالفاحشة، وكان المقذوف بالغاً عاقلاً مسلماً عفيفاً، أي: لم يعرف بالفاحشة قبل رميه بها ].
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر