أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأنفال المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الخمس، فهيا بنا نصغي إليها مستمعين لتلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله تعالى، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ [الأنفال:55-59].
لكن ما وجه ذلك؟ ما بيان ذلك؟ بيانه يا معشر العقلاء! أن الله عز وجل خلق عوالم الجنة والنار، وعوالم السماء والأرض، وخلق هذه الموجودات التي تتوقف عليها حياة الإنسان، وذلك من الشمس إلى القمر، من الرياح إلى السحب والأمطار، من النباتات إلى الحيوانات، كل هذا الخلق مخلوق لأجلك يا عبد الله! حتى عالم الجنة وعالم النار الكل مخلوق من أجل هذا المخلوق الضعيف، ومع ذلك يكفر بالله ويعرض عنه ويحارب أولياءه، بل ويقف في وجه دعوته حتى لا يعبد الله تعالى، فبم تحكمون على هذا المخلوق؟ والله إنه لشر الخليقة، ولذلك لو أن شخصاً ما نسف مدينة من المدن لاعتبرته البشرية شر الخلق، فكيف بالذي ينسف العوالم كلها ويبطلها؟! إن الله ما خلق هذه العوالم كلها إلا من أجل هذا المخلوق، وأجله فيه أن يذكره ويشكره ولا يكفره، أما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]؟ وقال كما جاء في الحديث القدسي: ( خلقت كل شيء من أجلك يا ابن آدم، وخلقتك من أجلي )، فالله يخلق كل شيء من أجلنا ونحن نعرض عنه وندبر ونحارب أولياءه ورسوله! فكيف تكون منزلتنا عنده؟! والله لشر الخلق.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة:6]، أي: من العالم كلها، ما هم إلا مشركون وأهل كتاب، فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ [البينة:6]، أي: البعداء، هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، والبرية من برأ النسمة إذا خلقها، فالبارئ هو الخالق، وهما قراءتان سبعيتان: (البريئة) بالمد، و(البرية) بإدغام الياء في الياء بعد تحويل الهمزة إلى ياء، فهل عرفتم هذا؟ إذاً لم لا نفرح بإسلامنا وإيماننا؟ إننا نعيش ونحن نشعر بالذل والهون والدون، وأن الكفار خير منا، ونحاول أن نكون مثلهم، بل ونعشق حتى لباسهم، والكل ذلك أن الأمة قد أبعدت عن كتاب الله منذ قرون، فكيف تعرف هذا إذاً؟ وهل اجتمعوا على دراسة آية كهذه؟ ما اجتمعوا، إذاً كيف تعرف؟! إن هذه هي حال أمة الإسلام، وللأسف نحن نعشق حياة الكفار ونحاول أن نكون مثلهم، بل وننظر إليهم باحترام وإجلال، وأنهم وأنهم، مع أنهم شر الخلق، ولو كنت المؤمن الصادق الحق ما تفتح عينيك في كافر أبداً، بل ولا تنظر إليه إلا نظرة لابد منها.
وعلى كل لما حاصرهم عدوهم فروا إلى ديار العرب لما فيها من الهدوء والاستقرار، فنزلوا بعدة بلاد فوقنا وانتهوا إلى المدينة النبوية باعتبار أن نبي آخر الزمان هذه داره، وقد جاءت صفاتها في التوراة والإنجيل، وأنها سبخة ذات نخيل، فهم ينتظرون خروجه ليؤمنوا به ويقفوا وراءه، وينتقمون من أعدائهم، ويستردون مملكتهم مملكة بني إسرائيل، وقد تطلعوا لليوم السعيد الذي تظهر فيه النبوة الخاتمة ورسول البشرية من جبال فاران بمكة، ويهاجر إلى المدينة أو يثرب دار هجرته، وما إن ظهرت النبوة وهم يترقبون وقد جاء المهاجرون يتسللون من مكة فيسمعون منهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ثلاث عشرة سنة وهو في مكة نبي الله ورسوله، فسمعوا دعوته فعرفوا أن الريح ليست لهم، فكشروا عن أنيابهم، ومع هذا عقد صلى الله عليه وسلم معهم عهوداً كتبت بالقلم، وكان أول من نقض عهده هم بنو قينقاع في جنوب المدينة، فلما نقضوا عهدهم أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتلهم، فشفع فيهم بعض الأصحاب من أهل المدينة من الأنصار، إذ كانت بينهم صلات ومودات، فأعطاهم إياهم وأجلاهم من المدينة، ولم يبق واحد منهم، والتحقوا بأرض الشام.
وقد طوقهم رسول الله برجاله، وكان الرجل الواحد منهم يعدل أهل الدنيا بكاملها، وطالبهم بالخروج فقط دون قتال، فانقادوا ورضوا بالحكم أن يخرجوا من المدينة فيلتحقون بالشام، ولكن بعد حصار، وإلا فقد قالوا: لن نغلب بعد اليوم أبداً، ورفعوا أصواتهم وقالوا: حصوننا تحمينا، ولكن الله ألقى في قلوبهم الرعب فأخذوا يأخذون الأبواب والأخشاب الجيدة، ويحملون أموالهم وذريتهم ونساءهم وهم سائحون في الأرض، وقبل إخراجهم لما أعلنت الحرب على رسول الله في بدر ساهموا بإرسال السلاح للمشركين، ونقضوا عهدهم كبني قريظة أيضاً عندما ساهموا بإرسال السلاح إلى المشركين في مكة، وزادت قبيلة بني قريظة أنها وقفت إلى جنب الأحزاب الذين تحزبوا وتجمعوا من شتى البلاد من أجل تطويق المدينة وإنهاء الإسلام، لكن الله سبحانه وتعالى شتت هذه الأحزاب كلها، واقرءوا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:9-10]، فمن فعل هذا؟ إنه الله ولي المؤمنين ومتولي الصالحين، فاذكروا هذه النعمة أيها المؤمنون! لكن للأسف نحن لا نذكرها.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ [الأنفال:55]، أي: في حكمه وعلمه، الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55]، فوالله ما آمن منهم واحد، ورضوا بالموت مع علمهم بأن هذا دين الله الذي جاء به الأنبياء من قبل، وآثروا الموت على الحياة وهم مسلمون مؤمنون، فأي خسران أعظم من هذا الخسران؟! والشاهد في علم الله تعالى بالغيب: قال تعالى: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55]، ما آمن واحد منهم.
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ [الأنفال:56]، يا رسول الله! ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ [الأنفال:56]، أي: العواقب التي تنتج عن نقض العهود، فبنو النضير نقضوا عهدهم، وبنو قينقاع نقضوا عهدهم، وبنو قريظة نقضوا عهدهم.
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ [الأنفال:56]، معاهدة سلم وعدم اعتداء وحرية، فأنتم لكم دينكم ونحن لنا ديننا، ونتعاون على البر والتقوى، لكن ما رضوا فخانوا هذا العهد ونكثوه، وهذا إخبار الله تعالى: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ [الأنفال:56]، العواقب التي تنتج على نقض العهد ونكثه.
ثم قال تعالى لرسوله وقائده الأعظم صلى الله عليه وسلم: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الأنفال:57]، أي: إذا تمكنتم منهم في المعركة فصفي حسابك معهم ليكونوا عبرة لمن وراءهم، وهذا تعليم الله رب العباد ومالك أمرهم، فقد أذن لرسوله أن يضرب الضربة القاسية حتى يخاف الكفار والمشركون والمتآمرون من بعيد، ويعرفون أن سيف رسول الله قاطع، فليسلموا أو ليستسلموا، إذاً يوجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه التعاليم، فلم لا نقبل توجيهات الله لرسوله؟ ألسنا أتباعه يلزمنا ما يلزمه؟ وهل الرسول وحده كان يقاتل؟ كان يقاتل بالمؤمنين عليه الصلاة والسلام.
فَإِمَّا [الأنفال:57]، والأصل: فإن تثقفهم، أي: تتمكن منهم، وزيدت الميم لتوحيد الكلام، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الأنفال:57]، وقد اشتعل نارها، فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ [الأنفال:57]، كيف يشرد بهم من خلفهم؟ لما يضرب هؤلاء وينهي وجودهم فالآخرون يخافون ويشردون، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأنفال:57]، ويعرفون أنك منصور من قبل الله، وأنك رسول الله، وأن دعوتك دعوة الحق، وأن الخير كله في هذه الدعوة المباركة، فيقبلوا عليها ويدخلون فيها ويسلموا لله قلوبهم ووجوههم.
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً [الأنفال:58]، فيا رجال الحكم في العالم الإسلامي! تعالوا فادرسوا هذا الكتاب الكريم حتى تتمكنوا من قيادتكم للبشر، واسمعوا إلى الله وهو يقول: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً [الأنفال:58]، فإذا عاهدت قبيلة أو أمة أو إقليم من الناس معاهدة سلم وعدم حرب وعدم اعتداء، إذ الإسلام جاء بالسلم والسلام لا بالحرب والفتنة، فعاهدتهم على عام أو عامين أو ثلاثة عشر سنة، فيجب عليك أن توفي لهم ولا تنقض عهدك أبداً، وإذا شعرت أو علمت بأنهم قد تكتلوا وعزموا على حربك، وأنهم قد نقضوا عهدهم في السرية، فحينئذ أعلن الحرب عليهم.
وَإِمَّا تَخَافَنَّ [الأنفال:58]، وإن تخافن، والميم زائدة، مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً [الأنفال:58]، خيانة لأي شيء؟ للعهد والميثاق، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ [الأنفال:58]، أي: اطرح إليهم على سواء، وفي هذا أيضاً يعلن أن العهد قد انتهى، وأن العقدة قد انحلت حتى لا يكون خائناً، إذ كيف ينهزم المؤمنون والله هو الذي يوجههم؟! إن القيادة من الله عز وجل بهذا، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، أي: فانبذ إليهم على السوية بينك وبينهم، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، فلا تكن يا رسولنا! من الخائنين تغدر بهم وتغشهم، إذ لا يصح هذا أبداً، ولن يكون منك ولا من غيرك من أهل الإيمان، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58].
وهنا لطيفة: فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أحد أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو أنصاري مدني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لكل غادر لواء يوم القيامة )، أتعرفون الغدر؟ هو أن يعهد لك بشيء ثم يخونك، أو يعدك ويخلف الوعد وخاصة في أمور الحياة والموت، وذلك كهذه العقود، أي: عقود السلم والحرب، ( لكل غادر لواء يوم القيامة )، وليس هذا خاص أيضاً بالحرب، بل إن كل مؤمن يغدر بأخيه فإنه يرفع له هذا اللواء يوم القيامة، ويفضح على رءوس البشرية كلها، ( لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته )، والغدرة بحسب ما يترتب عليها من خير كثير أو شر كثير، ( ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة )، أي: من سلطان أو ملك أو حاكم أو جنرال تحته أمة يقودها ثم يغدر بها.
وروى أبو داود والترمذي أن معاوية رضي الله عنه أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بينه وبين الروم عهد، أي: عقدة وميثاق سلم وعدم اعتداء، فلما قارب تاريخ العهد الانقضاء، كأن كانت المدة سنتين أو ثلاث أو أربع أو عشر سنوات، جمع معاوية رجاله وخرج بهم إلى هذا العدو قبل انقضاء المدة، فجاءه عمرو بن عبسة أو ابن عنبسة فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء )، فرجع معاوية بجيشه.
إنها والله لطيفة عجيبة، يجهز جيشه ويزحف وفي الطريق قبل الوصول يأتي مؤمن فيذكره بكلمة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم فيرجع بجيشه إلى بلاده! إنه والله الإيمان بالله تعالى، ومعنى هذا: إذا كان بيننا وبين العدو -يهود أو نصارى أو مشركين- عهد فيجب أن نفي، وإن كانوا هم الذين نقضوا فلنضرب على رءوسهم، ولهذا كررت هذا القول بفضل الله قبل خمسة وأربعين سنة، وقد قلت للعرب في بداية الأمر: عاهدوا اليهود، والآن قد مضى أربعون سنة وأخذوا يعاهدونهم! مع أننا قد قلنا لهم: ارحموا إخوانكم المشردين في الحجاز وفي نجد وفي الشام وفي العراق وفي المغرب، اجمعوهم على هذه الأرض التي أعطيت لهم، وانصروهم وأيدوهم وعلموهم، إذ لا يجوز أبداً هذه التفرقة، قد أهنتم إخوانكم وأهنتم دينكم، عاهدوا اليهود عهداً وافياً إلى الأبد، فلا تظلمونهم ولا يظلمونكم، وأسكنوهم في الديار التي أعطيت لهم في القسم الدولي التي قسمت فلسطين، لكن تكبر العرب وانتفخوا وقالوا: كيف نعاهد اليهود؟! والآن وهم منذ أربعين سنة وهم في الذل والهون والدون والمرارة، وقد رضوا أيضاً بالقسمة الأولى، وقد كنت أقول لهم: عاهدوهم وتقووا فإنهم ينقضون العهد، إذ هذا طبيعتهم، فلا تخافوا أبداً، وإنما خذوا هذه الفرصة فقط لتتقووا ولتتجمعوا، وبعد ذلك اليهود سينقضون عهدهم، إذ هم مطبوعون على هذا، قال تعالى: أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، فهذا كلام الله تعالى، فمن يرد على الله الخالق المدبر؟ ما استجابوا أبداً.
فهذا هو معنى قوله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، بينك وبينهم، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، فتعاهد امرأتك: أتزوجك على كذا وكذا ثم تغدر بها، وتصبح أنت وإياها في فتنة، أو تعاهد عاملك على أن تعمل كذا وكذا ثم تغدر، والمهم أن الغدر والعياذ بالله من شر الصفات، إذ لا شر من غادر يغدر، وحسبه أن تنصب له يوم القيامة راية على أسته أمام العالم بأسره، ويقال: هذه راية الغادر، ولا أعظم غدر من أمير عامة؛ لأن المسئول إذا غدر فقد غدرت الأمة معه كلها.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا [الأنفال:59]، أي: ولا يحسبن الذين كفروا بك وبكتابك وبما جئت به أنهم سبقوا ونجوا ونجحوا، إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ [الأنفال:59]، الله عز وجل، وهذا وعد الله، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا [الأنفال:59]، وفازوا وتقدموا ونجحوا، إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ [الأنفال:59]، الله تعالى.
معاشر المؤمنين لماذا نبكي؟ لا نؤمن إيماناً حقيقياً، ونسترد مجدنا وسيادتنا، إننا لا نريد مجداً ولا سيادة فقط، وإنما نسترد دعوة الإسلام لكي تصل إلى العالم لتُهدى بها البشرية وتسعد وتنجو.
قال: [ ثانياً: سنة الله فيمن توغل في الظلم والشر والفساد يحرم التوبة فلا يموت إلا كافراً ]، أما قال: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55]؟ وهذه الحقيقة نقررها دائماً فنقول: فيا عبد الله! إذا ابتليت بمعصية فحاول أن تخلص منها، وذلك بأن تعجل التوبة خشية أن تستمر عليها فترة فتصبح من أخلاقك وغرائزك، ولا تستطيع أن تتخلى عنها حتى تموت فتهلك.
ولهذا فإن القاعدة العامة عندنا معاشر المسلمين: أن التوبة تجب على الفور، إذ ليس هناك: غداً سأتوب، أو حتى أعود إلى بلادي، أو حتى أتزوج، وإنما إذا تمت المعصية فارفع رأسك وابك بين يدي الله وقل: أستغفر الله، فإن ذلك يمحي ذلك الأثر ويزول، أما أن تعصي وتزيد وتوالي المعاصي كذا سنة، فإنك لا تدري فترة من الزمن تصبح إذا قيل لك: اتق الله، تضحك، أو قيل لك: إن هذه معصية، إن هذا ذنب، بل ترفع كتفيك وتستهزئ، واقرءوا قول الله تعالى من سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، أي: فرضها على نفسه لعباده، لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، من قريب لا من بعيد.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ [النساء:17]، حق على الله يعطيها من وعده من عباده، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17]، والسوء هو كل ما يسيء إلى نفسك ويحولها إلى نتن وعفونة وظلمة من سائر الذنوب والآثام، لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، لا عناداً ومكابرة، فهؤلاء لن يتوبوا ولا يتاب عليهم، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقريب قد يكون عشرين أو خمسين سنة أو أسبوعاً والله أعلم، إذ إن بعض الأفراد إذا ذاق لذة المعصية أسبوعاً لا يستطيع أن يتركها، وعندنا أمثلة على ذلك، ومن ذلك: الدخان، فإذا دخنت ليومين أو ثلاثة وقيل لك: إن هذا حرام، فإنه يسهل عليك أن تتركه، أما بعد عشرين سنة لا تستطيع أن تترك الدخان، إذ يصعب عليك، ولهذا تجب التوبة على الفور فلا تؤخرها.
قال: [ ثالثاً: من السياسة الحربية النافعة أن يضرب القائد عدوه بعنف وشدة ليكون نكالاً لغيره من الأعداء ]، فإذا أُعلنت الحرب فيجب أن تضرب العدو بشدة وعنف وقوة حتى يصبح مثلاً يتحدث به الناس، فمن علمنا هذا؟ الله جل جلاله، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأنفال:57].
قال: [ رابعاً: حرمة الغدر والخيانة ]، وكل المسلمين يعلمون هذا ويغدرون ويخونون! وذلك لأن قلوبهم مظلمة ليس فيها نور الهداية الإلهية، وكل ذلك بسبب بعدهم عن الله عز وجل، والغدر والخيانة شائعة بين الناس إلا من رحم الله من أوليائه.
قال: [ خامساً: جواز إعلان إلغاء المعاهدة وضرب العدو فوراً إن بدرت منه بوادر واضحة بأنه عازم على نقض المعاهدة، وذلك لتفويت عنصر المباغتة عليه ]، والحمد لله أن ربنا هو الذي يقودنا ويعلمنا ويوجهنا ويرشدنا، فكيف نحتاج إلى أهل الكفر والظلم والفسق فنجعلهم قادة يقودونا ويرشدونا؟!
وصلى الله على نبينا محمد وآل وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر